ج5 - ف22

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الأول

 

22- (لقاء يهوذا الإسخريوطيّ وتوما)

 

19 / 11 / 1945

 

وادي قيسون بارد رغم سطوع الشمس في سماء صافية، وهواء ثلجيّ يجوبه بعد عبوره روابي الشمال، مُسبّباً الأذيّة للمزروعات الغضّة التي تهتزّ وتنكمش محترقة، صائرة إلى موت في خُضرتها حديثة العهد.

 

«ولكن هل سيدوم هذا البرد طويلاً؟» يَسأَل متّى الذي ما يزال متدثّراً معطفه، الذي لا يُظهِر منه سوى جزء مِن وجهه، أي عينيه وأنفه.

 

فيجيبه برتلماوس بصوته المخنوق بالمعطف الذي يغطّي فمه: «قد يستمرّ حتّى نهاية الشهر.»

 

«ها قد استرحنا إذن! ولكن صبراً! لحسن الحظّ أنّنا سوف نقيم في الناصرة في بيوت مُضيفة... وفي تلك الأثناء ينقضي هذا.»

 

«نعم يا متّى. إنّما بالنسبة لي، فهذا قد انقضى، لرؤيتي يسوع أقلّ غمّاً. ألا يبدو لكَ أكثر مَرَحاً؟» يَسأَل أندراوس.

 

«إنّه كذلك. ولكن بالنسبة إليَّ... هاكَ، يبدو لي مستحيلاً أن يكون بهذا الذبول للأسباب التي نعرف. أحقّاً لا توجد أمور جديدة نجهلها؟» يَسأَل فليبّس.

 

«لا شيء، لا شيء على الإطلاق. أقول لكَ إنّه على الحدود السوريّة الفينيقيّة كان فَرِح كثير بسبب الأرواح المؤمنة، وقد اجترح المعجزات التي حدّثناكَ عنها» يؤكّد يعقوب بن حلفى.

 

«إنّه يبقى كثيراً مع سمعان بن يونا منذ بضعة أيّام. وسمعان قد تغيّر كثيراً! ولكن، كلّكم تغيّرتم. لستُ أدري... إنّكم أكثر... صرامة، هاكَ.» يقول فليبّس.

 

«ولكن، هذا لا يعدو كونه تهيّؤاً!... في الحقيقة نحن ما زلنا كما كنّا. بالتأكيد لم يُرضِنا أن نرى المعلّم حزيناً هكذا بسبب أمور عدّة، وكذلك لرؤيتهم بهذه الضراوة ضدّه... أمّا نحن، فإنّنا ندافع عنه. آه! لن يفعلوا له شيئاً إذا كنّا معه. لقد قلتُ له أمس مساء، بعد الاستماع إلى ما كان يقوله هَرْماس، وهو رجل جادّ ويمكن الوثوق به: "عليكَ ألّا تبقى بمفردكَ. فلقد أصبح لديكَ تلاميذ، وهم، كما ترى، يعملون، ويعملون بشكل جيّد جدّاً، وعددهم يتزايد باستمرار. إذن فسوف نبقى معكَ. أقول إنّكَ لن تقوم بكلّ شيء. لقد آن الأوان لمواساتكَ، يا أخي. أمّا أنتَ فتبقى معنا، في وسطنا، مثل موسى على الجبل، ونحن نُقاتِل مِن أجلكَ، وبالمناسبة نحن مستعدّون للدفاع عنكَ حتّى مادّيّاً. ما جرى ليوحنّا المعمدان يجب ألّا يتكرّر معكَ". ذلك أنّه في النهاية، لو لم يَقلّ عدد تلاميذ يوحنّا لِيُصبحوا اثنين أو ثلاثة، عاجزين عن الدفاع عنه، لم يكن لِيُقبض عليه. في الأساس نحن اثنا عشر، أريد إقناعه بجمع، بالاحتفاظ قريباً منه، ببعض التلاميذ الأكثر وفاء على الأقلّ والأقوى شكيمة. الذين كانوا مع يوحنّا في مكرونة، مثلاً. وهم أناس أوفياء وشجعان: يوحنّا، متّياس وحتّى يوسف. هل تعلمون أنّ هذا الشاب يَعِد بالكثير؟» يقول تدّاوس.

 

«نعم. إسحاق ملاك، ولكنّ قوته روحيّة مَحض. ولكنّ يوسف قويّ حتّى بدنيّاً. وهو في مثل سنّنا.»

 

«ويتعلّم بسهولة. هل سمعتَ ما قاله هَرْماس؟ "لو كان قد دَرَسَ لكان سيصبح رابّياً إضافة إلى كونه بارّاً". وهَرْماس على عِلم بما يقول.»

 

«أنا، آنئذ أحتفظ كذلك باستفانوس وهَرْماس والكاهن يوحنّا، لعلمهم بأمور الشريعة والهيكل. هل تَعلَمون ماذا يعني وجودهم للكَتَبَة والفرّيسيّين؟ ضبط للنَّفْس، فرملة... وللناس الذين يرتابون هو كما قول: "أَتَرَون أنّ أفضل أبناء إسرائيل موجودون مع الرابّي كتلاميذ وخُدّام؟"» يقول يعقوب بن حلفى.

 

«أنتَ على حقّ. فلنقل ذلك للمعلّم. سمعتم ما قاله أمس: "عليكم بالطاعة، إنّما كذلك مِن واجبكم أن تفتحوا لي نفسكم وتقولوا لي ما يبدو لكم صحيحاً، لتتعوّدوا معرفة التوجيه في المستقبل. وأنا، إذا ما وجدتُ كلامكم مصيباً، سوف أقبل أفكاركم"» يقول الغيور.

 

«قد يفعل ذلك أيضاً لِيُظهِر لنا أنّه يحبّنا، باعتبار أنّنا جميعنا مُقتَنِعون، قليلاً أو كثيراً، أنّنا سبب ألمه» يقول برتلماوس.

 

«أو إنّه حقّاً تَعِب مِن وجوب التفكير بكلّ شيء، وأن يكون الوحيد الذي يتّخذ القرارات ويتحمّل المسؤوليّات. وقد يكون يَعلَم كذلك أنّ قداسته الكاملة هي... أقول قد تكون خَلَلاً بالنسبة لِمَن هُم في مواجهته: العالم غير القدّيس. نحن لسنا قدّيسين كاملين. بالكاد أقلّ مَكراً وخُبثاً مِن الآخرين... وبالنتيجة أكثر جدارة في الردّ على مَن هُم مثلنا» يقول سمعان الغيور.

 

«ومعرفتهم، تودُّ القول.» يزيد متّى.

 

«آه! مِن جهة هذا، فأنا أكيد أنّه يعرفهم، هو كذلك، بل حتّى يعرفهم أكثر منّا، ذلك أنّه يقرأ ما في القلوب» يقول يعقوب بن زَبْدي.

 

«وإذن، لماذا يتصرّف أحياناً بهذه الطريقة، مُعرِّضاً نفسه للمتاعب والأخطار؟» يَسأَل أندراوس حزيناً.

 

«لكن! لستُ أدري بما أُجيب» يقول تدّاوس رافعاً كتفيه، ويوافقه الآخرون على ذلك.

 

يَصمُت يوحنّا فيمازحه أخوه: «وأنتَ يا مَن تعرف دائماً كلّ شيء عن يسوع -تبدوان أحياناً كعاشِقَين- ألم يقل لكَ أبداً لماذا يتصرّف هكذا؟»

 

«بلى. ولقد سألتُهُ للتوّ. وكان جوابه على الدوام: "لأنّ عليَّ فِعل ذلك. ينبغي لي التصرّف كما لو أنّ العالم بأكمله مؤلَّف مِن أُناس جَهَلة ولكن صالحين. أُعطي الجميع المذهب ذاته، وهكذا يتفرّق أبناء الحقّ عن أبناء الزّور". ولقد قال لي كذلك: "أترى يا يوحنّا؟ إنّه كإدانة مبدئيّة، ليست عامّة، جماعيّة، إنّما خاصّة. فالحِملان تُفرَز عن التيوس على أساس ممارساتهم لأفعال الإيمان والمحبّة والبرّ. وهذا يدوم حتّى بعدما أمضي وتبقى كنيستي عَبْر الدهور إلى انتهاء العالم. فالإدانة الأولى للبشر تتمّ في العالم حيث يتصرّف الناس بحرّيّة، والخير أمامهم وكذلك الشرّ، والحقّ أمامهم وكذلك الباطل. هكذا كان في الفردوس الأرضيّ، حيث تمّ النطق بالحكم الأوّل أمام شجرة الخير والشرّ، وقد تطاوَلَ عليها مَن عَصَيا أمر الله. ثمّ عندما يحين موت الأفراد، ستكون الدينونة التي دَوَّنها الروح الذي لا نقص فيه في كتاب الأفعال البشريّة. وفي النهاية يأتي دور الدينونة العظمى، الرهيبة، وحينذاك يُدان الناس مِن جديد، جماعة. فَمِن آدم وحتّى آخر إنسان سيكون الإنسان مداناً بحسب ما أراده هو لنفسه على الأرض بملء حرّيته. الآن، لو كنتُ وضعتُ الذين يستحقّون كلمة الله والمعجزة والحبّ إلى جانب وإلى الجانب الآخر الذين لا يستحقّون ذلك -ويمكنني فعل ذلك بحسب الحقّ الإلهيّ والسلطان الإلهيّ- فالذين يُستَبعَدون، إذ يُصبِحون شياطين، يَصيحون بقوّة يوم الدينونة الخاصّة: ’الـمُذنِب هو كلمتكَ الذي لم يشأ أن يُعلِّمنا‘. ولكنّهم لن يستطيعوا قول هذا... أو بالحريّ سيقولونه كاذبين مرّة أخرى، فيُصبحون بالنتيجة مُدانين".»

 

«إذن فعدم تقبُّل المذهب محكوم عليه بالهلاك الأبديّ؟» يَسأَل متّى.

 

«هذا ما لستُ أعرفه، إذا ما كان كلّ الذين لا يؤمنون سيُحكَم عليهم بالهلاك. إذا كنتم تذكرون، أثناء الحديث إلى سِنْتيخي، أشار إلى أنّ الذين يتصرّفون بنزاهة في حياتهم لا يُحكَم عليهم بالهلاك الأبديّ، حتّى ولو كانوا يؤمنون بديانات أخرى. إنّما يمكننا سؤاله عن ذلك. بكلّ تأكيد إنّ إسرائيل التي سَمِعَت عن مَسيّا وتؤمن به الآن جزئيّاً أو بشكل سيّئ سوف تُدان بصرامة.»

 

«المعلّم يتحدّث إليكَ كثيراً، وأنتَ تعرف أموراً كثيرة لا نعرفها نحن.» يُعلِّق أخوه يعقوب.

 

«إنّه خطأكم. فأنا أسأله بكلّ بساطة. أسأله أحياناً عن أمور ينبغي لها أن تُظهِر له يوحنّاه كأحمق عظيم. ولكنّه لا يجعلني أبدو كذلك. يكفيني أن أعرف فكرته وتصبح في ذهني حتّى أجعلها فكرتي. أنتم كذلك ينبغي لكم أن تتصرّفوا كذلك. ولكنّكم تشعرون بالخوف دائماً! ومِن أيّ شيء؟ مِن أن تكونوا جاهلين؟ مِن أن تكونوا سطحيّين؟ أو مِن صلابة رؤوسكم؟ ينبغي ألّا تخشوا إلّا أمراً واحداً وهو ألّا تكونوا جاهزين عندما يمضي هو. وهو يقول ذلك على الدوام... وأقوله أنا لنفسي دائماً لأتهيّأ للانفصال... ولكنّني أحسّ أنّ ذلك سيكون سبباً لألم عظيم...»

 

«لا تجعلني أفكر بذلك!» يهتف أندراوس ويُردّد الآخرون ذلك كالصدى متنهّدين.

 

«ولكن متى يحدث ذلك؟ إنه يقول دائماً: "قريباً". ولكن يمكن أن يكون هذا خلال شهر كما خلال سنوات. إنّه ما يزال في ريعان الشباب، والزمن سريع جدّاً... ما بكَ يا أخي؟ إنّكَ تُصبِح شاحبّاً...» هو تدّاوس الذي يَسأَل يعقوب.

 

«لا شيء! لا شيء! كنتُ أُفكِّر...» يُجيب بسرعة يعقوب بن حلفى وهو يخفض رأسه.

 

وينحني تدّاوس ليراه جيّداً... «ولكنّ الدموع تملأ عينيكَ! ما بكَ؟...»

 

«لا شيء أكثر ممّا بكم أنتم... كنتُ أفكّر في الوقت الذي سنُصبح فيه وحدنا.»

 

«ولكن ما به، سمعان بن يونا، لِيَركُض وهو يصيح مثل نورس في يوم عاصف؟» يَسأَل يعقوب بن زَبْدي وهو يشير إلى بطرس الذي تَرَكَ يسوع وهَرَعَ راكضاً وهو يقول كلمات حَجَبَتها الريح عن الأسماع.

 

يَغذّون السير ويَرَون أنّ بطرس قد سَلَكَ سبيلاً يَصِل إلى مدينة سيفوريس، وهي الآن قريبة (هكذا يقول التلاميذ الذين يتساءلون إذا ما كان ماضياً إلى سيفوريس بأمر مِن يسوع سالكاً هذا الطريق المختصر). إنّما بعدئذ، وهم يُمعِنون النَّظَر، يَرَون أنّ المسافرين الوحيدين القادمين مِن المدينة إلى الطريق العامة هما توما ويهوذا.

 

«يا للعجب! هنا؟ أحقّاً هنا؟ آه! ما يَفعلان هنا؟ فعلى الأكثر، كان عليهما أن يَمضيا مِن الناصرة إلى قانا، ثمّ إلى طبريّا...» يتساءل البعض.

 

«قد يكونا آتيين بحثاً عن التلاميذ. تلك كانت مهمّتهما» يقول الغيور بِحَذَر شاعراً أنّ الريبة تستيقظ في قلوب البعض رافِعة رأسها، رأس الأفعى.

 

«فلنستعجل الخطى. يسوع بمفرده ويبدو أنّه ينتظرنا...» ينصَح متّى.

 

يَمضون لِيَصلوا إلى يسوع في الوقت نفسه مع بطرس وتوما ويهوذا. يسوع شاحبّ للغاية، لدرجة أنّ يوحنّا يَسأَله: «هل تشعر بسوء؟» ولكنّ يسوع يبتسم وهو يشير بالنفي بينما يحيّي الاثنين العائدين بعد طول غياب.

 

يُعانِق توما أوّلاً، وهو كالعادة يَظهَر متورّد الوجنتين مَرِحاً. ولكنّه مع ذلك يُصبِح متجهّماً لرؤيته المعلّم وقد تغيَّر بشكل جليّ، ويَسأَله باهتمام: «هل كنتَ مريضاً؟»

 

«لا يا توما، أبداً. وأنتَ، هل كنتَ بصحّة جيّدة، سعيداً؟»

 

«أنا، نعم يا معلّم، في صحّة جيّدة وفي سعادة على الدوام. لم يكن ينقصني سِواكَ ليُصبح قلبي مغبوطاً. أبي وأُمّي يشكرانكَ لأنّكَ أَرسَلتَني إليهما بعض الوقت. كان أبي مريضاً، لذلك فقد عَمِلتُ أنا. ذهبتُ إلى أُختي التوأم وتعرَّفتُ على ابنها. وقد أطلقتُ عليه الاسم الذي أَشَرتَ به عليَّ. ثمّ أَقبَلَ يهوذا، وجَعَلَني أمضي مِثل ترغلّة في موسم الحبّ، إلى الأعلى، إلى الأسفل، حيثما كان يوجد تلاميذ. وهو كان قد فَعَلَ ذلك بمفرده. إنّما الآن فهو مَن سيتحدّث إليكَ، ذلك أنّه قد عَمِل بِقَدر عشرة ويستحقّ أن تستمع إليه.»

 

ويَدعه يسوع يذهب، إذ قد جاء دور يهوذا الذي انتَظَر بصبر، وهو يتقدّم بحزم، طَلِق المحيّا، منتصراً. ويخترقه يسوع بنظره السفيري، ولكنّه يُعانِقه ويتقبَّل قُبلته كما مع توما. والكلمات التي تلي وَدودة: «وأُمّكَ، يا يهوذا، هل كانت سعيدة باستقبالكَ؟ هل صحّة هذه المرأة القدّيسة على ما يرام؟»

 

«نعم، يا معلّم. وهي تبارككَ لأنّكَ أَرسَلتَ لها يهوذاها. كانت تريد إرسال الهدايا لكَ. ولكن كيف كنتُ سأتمكّن مِن حملها بينما كنتُ أذهب هنا وهناك عبر الجبال والوديان؟ يمكنكَ الاطمئنان يا معلّم. فكلّ مجموعات التلاميذ الذين زرتُهم يعملون بقداسة. والفكرة تنتشر كبقعة الزيت. أردتُ أن أختبر شخصيّاً ردود فِعلها على أكثر الناس تسلُّطاً، الكَتَبَة والفرّيسيّين. كنتُ أعرف الكثيرين، وقد تعرَّفتُ على آخرين حبّاً بكَ. ولقد تقرَّبتُ مِن الصدّوقيّين والهيروديّين... آه! أؤكّد لكَ أنّ مقامي قد انتُقِص كثيراً!... ولكن مِن أجل حبّكَ سأفعل هذا وغيره! لقد مَسَحتُ الصدّ المهين والتكفير مرّات. ولكنّني نجحتُ في إيقاظ التعاطف معكَ لدى كثيرين كانوا قد تحامَلوا عليكَ. لا أبغي مديحاً منكَ. يكفيني أنّني قمتُ بواجبي، وأشكر الأزليّ على معونته الدائمة لي. لقد اضطررتُ لاجتراح المعجزة في بعض الحالات، وقد عانيتُ مِن ذلك لأنّهم كانوا يستحقّون الصاعقة أكثر منها البركة. ولكنّكَ تقول الحبّ والصبر... وقد فعلتُ ذلك إكراماً لله وتمجيداً له، ومِن أجل فرحكَ. آمل أن تتحطّم عوائق كثيرة للأبد أكثر ممّا قد ضَمِنتُ بشرفي أنّه لم يَعُد يواجهكَ هذان الاثنان اللذان كانا يُلقيان بظلالهما. بعد ذلك أضحى لديَّ وسواس بسبب جزمي أمراً لم أكن أعرفه بكلّ التأكيد. حينئذ أردت التحقّق لأتمكّن مِن التباهي به، كي لا يأخذني أحد بِجنحة الكَذِب، الأمر الذي كان سيجعل الذين ينبغي أن يهتدوا يرتابون فيَّ للأبد... تصوَّر! لقد تقرّبتُ مِن حنّان وقيافا!... آه! لقد أرادا إغراقي بالتُّهم... ولكنّني كنتُ متواضِعاً جدّاً ومُقنِعاً جدّاً حتّى انتهى بهما الأمر بأن قالا لي: "حسناً، إذا كانت الأمور حقّاً على هذا النحو... فنحن إنّما نعرفها خلاف ذلك. الذين يُديرون السنهدرين، والذين كان بإمكانهم معرفتها، قالوا لنا العكس و..."»

 

«أنتَ لا تريد القول إنّ يوسف ونيقوديموس كانا كاذبين» يُقاطِعه الغيور الذي تمالَك نفسه إلى هذا الحدّ وليس أكثر، والمجهود الذي بَذَلَه لذلك جَعَلَه يمتَقع.

 

«ومَن الذي يقول هذا؟ على العكس! لقد رآني يوسف عندما كنتُ خارجاً مِن عند حنّان وقال لي: "لماذا أنتَ مضطرب هكذا؟" ورويتُ له كلّ شيء، وكيف، تِبعاً لنصيحته ونصيحة نيقوديموس، كنتَ أنتَ، يا معلّم، قد أَبعَدتَ المحكوم بالأشغال واليونانيّة. لأنّكَ قد أبعدتَهما، أليس كذلك؟» يقول يهوذا وهو يُحدِّق بيسوع بعينيه السوداوين، اللامعتين. يبدو وكأنّه يريد اختراق يسوع بنظره ليقرأ ما قد فَعَل يسوع.

 

يسوع الذي ما يزال في مواجهته، قريباً جدّاً، يقول بهدوء: «أرجوكَ أن تُكمل روايتكَ التي تهمّني كثيراً. إنّه تقرير دقيق يُساعِد كثيراً.»

 

«آه! إذن كنتُ أقول إنّ قيافا وحنّان قد غيّرا رأيهما. وهذا كثير بالنسبة لنا. أليس كذلك؟ ثمّ!... آه! الآن سأجعلكم تضحكون! هل تعلمون أن الرابّيين قد أخذوني في وسطهم وأخضعوني لامتحان آخر، كما لو كنتُ صبيّاً بَلَغَ السن؟ ويا له مِن امتحان! حسناً. لقد أقنعتُهم وتركوني أمضي. حينذاك اعتراني الشكّ والخوف مِن أن أكون قد قلتُ شيئاً لم يكن صحيحاً. وفكّرتُ في أخذ توما والذهاب مجدّداً إلى حيث كان التلاميذ، أو حيث كنتُ أستطيع الزعم بأنّ يوحنّا واليونانيّة كانا قد أصبحا لاجِئَين. مضيتُ إلى لعازر، إلى مَنَاين، إلى قصر خُوزي، إلى إليز التي مِن بيت صور، إلى بِتّير في بساتين يُوَنّا، إلى جَثْسَيْماني في منزل سليمان الصغير في ما وراء الأردن، إلى "المياه الحلوة"، إلى نيقوديموس وإلى يوسف...»

 

«ولكن ألم تكن قد رأيتَه؟»

 

«بلى. ولقد أكَّد لي أنّه ما عاد رأى الاثنين. ولكنّكَ تَعلَم... كنتُ أريد التأكّد... بالاختصار: زرتُ كلّ الأماكن التي يمكنني الارتياب بوجودهما فيها... أنتَ تَغبُنني. وأنا في كلّ مرة أَخرُج مِن مكان دون أن أجده -ويمكن لتوما أن يؤكّد ذلك- أو حتّى دون إيجاد أيّ دليل على وجوده، أقول: "التسبيح للربّ!" وكنتُ أقول: "أيّها الأزليّ، هب ألّا أَجِدهُ مُطلقاً!" حقّاً! زفرة نفسي... آخر مكان كان مرج ابن عامر... آه! بالمناسبة! إسماعيل بن فابي، وهو في قصره في أرياف مجدل يرغب في أن تحلّ ضيفاً عليه... إنّما، لو أنّي مكانكَ لما ذهبتُ إلى هناك...»

 

«لماذا؟ سوف أذهب مِن كلّ بُدّ. أنا كذلك راغب في رؤيته. بل حتّى سنذهب إليه في الحال. بدل الذهاب إلى صفوريا، سوف نمضي إلى مرج ابن عامر ثمّ إلى مجدل بعد غد الذي هو عشيّة السبت، ومِن هناك إلى بيت إسماعيل.»

 

«ولكن لا، يا رب، لماذا؟ هل تعتقد أنّه يحبّكَ؟»

 

«ولكن إذا كنتُ تقرّبتُ إليه وغيّرتُه في صالحي، فلماذا لا تريدني أن أذهب إليه؟»

 

«أنا لم أتقرّب إليه... لقد كان في الحقول وتعرَّفَ عليَّ. أمّا أنا -أليس كذلك يا توما؟- كنتُ أريد الفرار عندما رأيتُه. لم أستطع لأنّه ناداني باسمي. أنا... أنا لا يمكنني إلّا أن أنصحكَ بعدم الذهاب بعد الآن إلى أيّ أحد مِن الفرّيسيّين، أو الكَتَبَة، أو أيّ أحد مِن هذا القبيل. هذا لا يفيدكَ في شيء. فلنبق فيما بيننا، وحدنا، مع الشعب، ويكفي. حتّى لعازر، ونيقوديموس ويوسف... هذه ستكون تضحية... ولكن يُفضَّل أن نفعل ذلك لكي لا يوجد ما يدعو إلى الحسد، إلى الحقد، ولكي لا نتعرّض للانتقادات... على الطاولة يتمّ الكلام... وهم يَشتَغِلون على كلامك بمراءاة. ولكن فلنعد إلى يوحنّا... الآن كنتُ ذاهباً إلى سيكامينون [حيفا]، رغم أنّ إسحاق، الذي التقيتُه في تخوم السامرة، قد أقسم لي أنّه لم يره منذ تشرين الأوّل (أكتوبر).»

 

«وإسحاق أقسم بالحقّ. ولكن ما تنصحني به، بخصوص العلاقات مع الكَتَبَة والفرّيسيّين، يُناقِض ما قلتَه لي سابقاً. لقد دافعتَ عنّي... هذا ما فعلتَه، أليس كذلك؟ لقد قلتَ: "لقد حطّمتُ الكثير مِن التحاملات ضدّكَ". هذا ما قلتَه، أليس كذلك؟»

 

«نعم يا معلّم.»

 

«وإذن لماذا لا يمكنني إكمال الدفاع أنا شخصيّاً؟ سنمضي إذن إلى إسماعيل، وأنتَ، الآن، عُد أدراجكَ وأخبره. وسيذهب معكَ أندراوس وسمعان الغيور وبرتلماوس. نحن سنمضي إلى بعض الفلاحين نأخذ قسطاً مِن الراحة. أمّا بخصوص سيكامينون [حيفا]، فقد كنّا نحن الأحد عشر فيها، ونحن قادمون منها للتوّ. نؤكّد لكَ أنّ يوحنّا ليس هناك. وهو ليس كذلك في كفرناحوم ولا في بيت صيدا ولا في طبريّا أو مجدلا أو الناصرة أو قورازين أو بيت لحم الجليل، وهكذا بالنسبة إلى كلّ المراحل التي يمكن أنّكَ كنتَ مزمعاً القيام بها كي... تتحقّق بنفسكَ مِن وجود يوحنّا مع التلاميذ أو في بيوت الأصدقاء.»

 

يسوع يتكلّم بهدوء وبشكل طبيعيّ... ولكن مع ذلك فإنّ فيه شيئاً يجعل يهوذا يضطَرِب، ذلك أنّ لونه قد تبدَّل خلال لحظة. يُعانِقه يسوع كما لِيُقبِّله... وبينما هو هكذا، الخدّ على الخدّ، يَهمس له بلطف: «أيّها المسكين! ماذا فعلتَ لنفسكَ؟»

 

«يا معلّم... أنا...»

 

«امض! فإنّ رائحة جهنّم تفوح منكَ أكثر ممّا تفوح مِن الشيطان نفسه! اصمت!... واندم إن استطعتَ.»

 

يهوذا... لو كنتُ أنا لهربت مطلقاً ساقيّ للريح. أمّا هو! فهو يقول بكلّ وقاحة وبصوت عال: «شكراً يا معلّم. إنّما أرجوكَ، قبل أن أمضي، أودُّ أن أُفضِي لكَ بكلمتين في السرّ.»

 

يبتعد الجميع بضعة أمتار.

 

«لماذا قلتَ لي هذا الكلام يا ربّ؟ فقد جعلتَني أتألّم...»

 

«لأنّها الحقيقة. فَمَن يُقيم علاقات مع الشيطان يكتسب رائحة الشيطان.»

 

«آه! بسبب استحضار الأرواح؟ آه! كم أفزعتَني! لقد كان لهوٌ هُو! ليس أكثر مِن لَهو طفل فضوليّ. وقد ساعَدَني هذا في التقرّب مِن الصدّوقيّين وفقدان الرغبة برؤيتهم مجدّداً. إذن فأنتَ ترى أنّه يمكنكَ الصفح عنّي بكلّ ارتياح. إنّها أمور لا أهميّة لها عندما يملك المرء سلطانكَ. كنتَ على حقّ. هيّا، يا معلّم! خطيئتي خفيفة جدّاً!... عظيمة هي حكمتكَ، ولكن مَن أخبركَ بذلك؟»

 

يَنظُر إليه يسوع بصرامة ولا يُجيبه.

 

«ولكن هل حقّاً أنّكَ رأيتَ الخطيئة في قلبي؟» يَسأَل يهوذا جَزِعاً.

 

«وخالفتَني. اذهب! ولا تُضِف كلمة واحدة.» ويُدير له ظهره عائداً صوب التلاميذ، ويأمرهم بتغيير الوِجهة. يصرف أوّلاً برتلماوس وسمعان وأندراوس، الذين يَلحَقون بيهوذا، ويَمضون مسرعين، بينما يَمضي الباقون على مهل جاهلين الحقيقة التي لا يعرفها سِوى يسوع.

 

إنّهم جاهلون تماماً، حتّى إنهم يهنّئون يهوذا على نشاطه وحسن تصرّفه. وبطرس النـزيه يَعتَذِر بكلّ صدق عن الحُكم المتهوّر الذي أطلَقَه على رفيقه التلميذ…

 

يبتسم يسوع ابتسامة رقيقة، وهو تَعِب قليلاً، كما لو أنّه يُفكِّر في أمر آخر، وكما لو أنّه بالكاد يَسمع ثرثرة رفاقه الذين لا يعرفون مِن الأمور إلّا بما يسمح لهم كيانهم البشريّ.