ج5 - ف70
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الثاني
70- (بعد الخَلوة على جبل كريت)
09 / 02 / 1946
إنّها مجموعة مِن الجبال التي تبدو وكأنّها تتصاعد باطّراد. وكلّ مرحلة، أقول، بما تُكَبّده من مَشَقّة، تُبَيّنها سلسلة الروابي الصخريّة شديدة الانحدار، ذات السفوح الحادّة، وقد شَجَّتها وديان ضيّقة كشقوق عملاقة، مُكلَّلة بقمم جرداء. مِن هناك يمكن رؤية أجزاء مِن البحر الميت الواقع إلى الجنوب الشرقيّ مِن الموقع الذي يتواجد فيه الرُّسُل مع المعلّم. لا يُرى الأردن وواديه الخصيب والساكن، كذلك أريحا لا تُرى ولا المدن الأخرى. فليس هناك سوى الجبال، وأيضاً جبال تنتصب باتجاه السامرة، والبحر الميت المظلم بين منحدرين جبليّين. في الأسفل سيل باتجاه الشرق-غرب يصل حتماً إلى الأردن. في السماء الزرقاء الصافية صيحات عالية لشواهين ونعيق غربان. زقزقات عصافير صاخبة في إيراقات السفوح غير المأهولة. صفير الرياح في الشِّعاب التي تحمل معها روائح وضوضاء بعيدة، عاصفة بالقريبة منها، بحسب خفّتها أو كثافتها. بعض الجلاجل الآتية مِن الطريق التي تمرّ بالتأكيد في الوادي. ثغاء نِعاج ترعى على الهضاب. أصوات مياه تقطر مِن الصخور أو سيول تزمجر. ولكن الطقس جيّد، جافّ ودافئ، والمنحدرات ليست سوى ميناء مِن الزهور على زمرّد العشب، وأيضاً زهور، عناقيد أو ضفائر، تتدلّى مِن الجذوع ومن الإيراقات، مُضفية على المكان جوّاً مِن البهجة.
وجوه الثلاثة عشر المجتمعين هنا مبتهجة للغاية، بهجة فائقة الطبيعة. لقد سهوا عن العالم. فهو بعيد... لقد استعادت الأرواح توازنها بعد أن هزّتها مصادمات جمّة، لقد استطاعوا الدخول مِن جديد في هالة الله، أي في السلام. والسلام يُقرأ على الوجوه.
ولكنّ الإقامة انتهت، ويسوع يتحدّث عنها. وبطرس يكرّر رجاءه الذي على جبل طابور: «آه! لماذا لا نقيم هنا؟ جميل أن نكون هنا معكَ!»
«لأنّ العمل ينتظرنا، يا سمعان بن يونا. لا يمكننا أن نكون فقط متأمِّلين. العالم ينتظرنا لتثقيفه. لا يمكن لعمّال الربّ التوقّف طالما هناك حقول ينبغي زرعها.»
«ولكن... أنا، الذي لا أتحسّن قليلاً إلاّ حينما أختلي هكذا، لن أتمكّن أبداً... فالعالم كبير جدّاً! كيف يمكننا شغله كلّه والنجاح قبل الموت، في جمعه فيكَ؟»
«لن تَشتَغِلوه كلّه بالتأكيد. فيلزم دهور ودهور، وعندما يُشتَغَل جزء، سوف يتدخّل الشيطان ليخرّب ما تمّ عمله. فإذن سوف يكون العمل مستمرّاً إلى انقضاء الدهور.»
«آه! إذن كيف يمكنني أن أتهيّأ للموت؟» بطرس حزين بحقّ.
يُطَمئِنه يسوع مُعانِقاً إيّاه وقائلاً: «سيكون لكَ الوقت. لايتطلّب ذلك الكثير. يكفي فِعل تخشّع كامل للتهيّؤ للظهور أمام الله. ولكن سيكون لكَ الوقت الكافي لذلك. فيما عدا ذلك، فاعلم أنّ إتمام مشيئة الله هي على الدوام تهيئة للموت بقداسة. إذا ما أرادَكَ الله فاعلاً وإذا أطعتَ، تتهيّأ بشكل أفضل في فِعل الطاعة ممّا لو حَبَستَ نفسكَ في الصخور الأكثر عزلة للصلاة والتأمّل. هل اقتنعتَ؟»
«بالتأكيد، طالما أنتَ تقول ذلك! إذن ما الذي ينبغي لنا فِعله؟»
«انتَشِروا في دروب الوديان. اجمعوا الذين هناك في انتظاري. اكرزوا بالربّ والإيمان حتّى مجيئي.»
«أتبقى بمفردكَ؟»
«نعم. لا تخافوا. تَرَون أنّ الشرّ يفيد أحياناً في الخير. فهنا الغربان قَدَّمَت الطعام لإيليّا. يمكننا القول إنّ النسور الكواسر قدَّمَت لنا الطعام.»
«أتظنّها تكون حركة هِداية؟»
«لا. ولكنّ المحبّة، حتّى ولو أتتهم مِن فكرة أنّ سلوك السَّخاء يضعنا في موضع وجوب عدم خيانتهم...»
«ولكنّنا لن نكون قد خنّاهم!» يهتف أندراوس.
«لا. إنّما هُم، اللصوص البؤساء، لا يعرفون ذلك. لا شيء مِن الروحانيّ يعمل فيهم، وهم مُحمَّلون بالجرائم.»
«يا ربّ، كنتَ تقول إنّ المحبّة... ما الذي كنتَ تبغي قوله؟» يَسأَل يوحنّا.
«كنتُ أقول إنّ المحبّة التي لديهم تجاهنا لن تكون بدون مكافأة، أقلّه لدى الأفضل منهم. الهِداية، التي لم تتمّ الآن، يمكن أن تتفاعل على مهل، إنّما يمكن أن تأتي. لأجل ذلك قلتُ لكم: "لا ترفضوا تقادمهم". وقد قَبِلتُها، رغم أنّني كنتُ أشمّ منها نتانة الخطيئة.»
«ولكن أنتَ أيضاً لم تأكل منها...»
«ولكنّني لم أُذِلّ الخَطَأة بالرفض. كان لديهم حركة صلاح مبدئيّة. فلماذا تدميرها؟ فذاك السيل هناك، ألا يبدأ مِن الينبوع الذي يسيل على هذا المنحدر؟ تذكّروا هذا على الدوام. إنّه درس مِن أجل حياتكم المستقبليّة، عندما لا أعود في وسطكم. فإذا ما التقيتم بمجرمين على طرقات رحلاتكم الرسوليّة، فلا تكونوا كالفرّيسيّن الذين يحتقرون كلّ الناس ولا يعبأون باحتقار أنفسهم أوّلاً لفسادهم. بل تقرّبوا منهم بحبّ كبير. أودُّ القول "حبّ لا نهائيّ". لا بل أقول هذا بالذات. ومِن الممكن أن يحصل هذا، حتّى ولو كان الإنسان "مقيّداً، محدوداً" في أفعاله. هل تعلمون كيف يمكن للإنسان أن يمتلك محبّة لا نهائيّة؟ في كونه متّحداً بالله بشكل لا يكون معه إلاّ واحداً. حينئذ بحقّ، ففي الخليقة المتلاشية في الخالق، إنّ الخالق هو الذي يعمل، وهو لا نهائيّ. وهكذا، متّحدين بالله بقوّة الحبّ الملتصق بأصله لدرجة الانصهار فيه، هو ما ينبغي لِرُسُلي أن يكونوا. فلن تكون هداية القلوب بحسب طريقة كلامكم، إنّما بحسب أسلوب حبّكم. هل ستلتقون بخطأة؟ أَحِبّوهم. هل ستتألّمون بسبب تلاميذ يضلّون؟ حاولوا إنقاذهم بالحبّ. تذكّروا مَثَل النعجة الضالّة. آه! عَبْر دهور ودهور، سوف يكون النداء اللطيف الموجّه إلى الخطأة. ولكنّه سيكون الأمر الأكيد المعطى لكهنتي. بشتّى السبل، بكلّ التضحيات، حتّى ولو اضطرّ الأمر إلى فقدان الحياة في محاولة خلاص نَفْس، بكلّ الصبر الممكن، عليكم المضيّ في البحث عن الضالّين لإعادتهم إلى الحظيرة.
الحبّ يمنحكَ الفرح. سيقول لكَ: "لا تخف". سوف يمنحكَ قُدرة على الانتشار في العالم بشكل لم أصل إليه أنا. في المستقبل، ينبغي ألّا يُوضَع حُبّ الأبرار كعلامة خارجيّة على القلب وعلى الذراع، كما يقول نشيد الأناشيد، بل إنّما ينبغي له أن يُوضَع في القلب. ينبغي له أن يكون العَتَلَة التي تَدْفع النَّفْس لكلّ عمل. وعلى كلّ عمل أن يكون مفعماً محبّة، محبّة لا تكتفي بحبّ الله والقريب بأسلوب ذهنيّ فقط، بل تنـزل إلى الميدان للنضال ضدّ أعداء الله، لحبّ الله والقريب بشكل ملموس كذلك، حتّى في الأفعال المادّيّة، التي هي السبيل إلى أعمال أكثر اتّساعاً وكمالاً تُفضِي إلى الفِداء وتقديس الإخوة. بالتأمّل نحبّ الله، أمّا بالعمل فنحبّ القريب، وشكلا الحبّ لا ينفصمان، ذلك أنّه ليس هناك سوى حبّ واحد، وبحبّ القريب نحبّ الله الذي يأمرنا بهذا الحبّ، والذي أعطانا القريب بمثابة الأخ. ولا يمكنكم القول أنتم، ولا كَهَنَة المستقبل يمكنهم القول إنّهم أصدقائي إذا لم تتحوّل محبّتكم ومحبّتهم بالكامل إلى خلاص النُّفوس، التي مِن أجلها تجسَّدتُ، ومِن أجلها سوف أتألّم. أعطيكم الـمَثَل على الأسلوب الذي به نحبّ. ولكن الذي أعمله عليكم أن تعملوه، وكذلك الذين يأتون بعدكم. الزمن الجديد قد حلّ: الذي للحبّ. لقد أتيتُ لأُلقي هذه النار في القلوب، وسوف تتأجّج أكثر بعد آلامي وصعودي، وسوف تحرقكم عندما حبّ الآب والابن ينـزل ليكرّسكم للخدمة.
أيّها الحبّ الإلهيّ! لماذا تتأخّر في إهلاك الضحيّة وفتح العيون والآذان وفكّ رباط ألسن وأعضاء قطيعي ليمضي وسط الذئاب ويُعلِّم أنّ الله محبّة، ومَن لا يملك المحبّة في ذاته ليس سوى بهيمة أو شيطان؟ آه! تعال، أيّها الروح الوديع للغاية والقويّ للغاية، وأَضرِم الأرض، ليس لدمارها، إنّما لتطهيرها. أَضرِم القلوب! اجعل منهم أنا ذاتي آخرين، مُسَحاء، أي نفوساً تلقَّت مَسحة الحبّ، تتصرّف بحبّ، مقدَّسة ومقدِّسة بحبّ.
طوبى للذين يُحِبّون لأنّهم سيُحَبّون، ونفسهم لن تكفّ لحظة واحدة عن الترتيل لله مع الملائكة، حتّى الأوان الذي يرتّلون فيه المجد الأبديّ في نور السماوات. فليكن هكذا فيكم، يا أصدقائي. الآن اذهبوا واعملوا بحبّ ما قُلتُه لكم.»