ج10 - ف35
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء العاشر
35- (رقاد مريم)
21 / 11 / 1951
مريم، هي في غرفتها الصغيرة المنعزلة القائمة على الشرفة العلويّة، مرتدية بكلّيتها كتّاناً أبيضاً، سواء الثوب الّذي يغطّي جسدها بالكامل، أو الرداء المثبّت أسفل العنق، والمنسدل خلف كتفيها، أو الحجاب الرقيق جدّاً النازل مِن على رأسها. إنّها ترتّب ثيابها وثياب يسوع، الّتي طالما احتفظت بها. هي تختار الأفضل مِن بينها. وهي قليلة. فَمِن ثيابها، تأخذ الثوب والرداء اللذين كانت ترتديهما على الجلجلة، ومِن ثياب ابنها، تأخذ ثوباً كتّانياً كان يلبسه عادة في أيّام الصيف، والرداء الّذي عُثِر عليه في جَثْسَيْماني، وهو لا يزال ملطّخاً بالدم الّذي سال ممزوجاً بالعرق الدمويّ لتلك الساعة الرهيبة.
وبعد طيّ تلك الثياب بعناية، وتقبيل الرداء الملطّخ بالدم، تتّجه إلى الصندوق، الّذي جُمِعَت وحُفِظَت فيه لأعوام ذخائر العشاء الأخير والآلام. تجمع كلّ تلك الأشياء في قسم واحد، القسم العلوي، وتضع الثياب في القسم السفليّ.
تنشغل في إقفال الصندوق بينما يوحنّا، الّذي صعد بصمت إلى الشرفة واقترب لينظر ما الّذي كانت تفعله مريم، ربّما لأنّه كان قَلِقاً بسبب غياب مريم الطويل عن المطبخ، حيث لا بدّ أنّها قد صعدت لتقضي ساعات الصباح، يجعلها تستدير فجأة وهو يسألها: «ماذا تفعلين يا أُمّي؟»
«لقد رتّبتُ كلّ ما ينبغي الحفاظ عليه. كلّ الذكريات… كلّ ما يشهد على حبّه وألمه اللامحدودَين.»
«لماذا أيا أُمّي تعاودين فتح جروح قلبكِ بالنظر مجدّداً إلى تلك الأشياء المحزنة؟ إنّكِ شاحبة، ويدكِ ترتجف... فأنتِ إذن تتألّمين لرؤيتها.» يقول لها يوحنّا مقترباً منها، كما لو أنّه كان خائفاً مِن أنّها، لما هي عليه مِن شحوب ورجفة، قد تشعر بسوء وتسقط أرضاً.
«آه! لا، ليس لذلك السبب أنا شاحبة وأرتجف. ليس لأنّ جروحي تُفتح مجدّداً... وهي في الحقيقة لم تندمل تماماً أبداً. بل لأنّ السلام والفرح يسكنان فيَّ، ولم يكونا أبداً كامِلَين كما هما الآن.»
«لم يكونا أبداً كما هما الآن؟ لا أفهم… فبالنسبة لي أنا، فإنّ رؤية تلك الأشياء المفعمة بالذكريات القاسية، توقظ فيَّ انقباض تلك الساعة. وأنا لستُ سوى تلميذ. أنتِ، أنتِ الأُمّ...»
«وتريد القول إنّني كوني كذلك ينبغي أن أتألّم أكثر. مِن وجهة نظر بشريّة، أنتَ تُحسِن القول. لكنّ الأمر ليس كذلك. فأنا قد تمرّستُ على احتمال ألم الانفصال عنه. كان ذلك مؤلماً على الدوام، لأنّ حضوره وقُربه كانا جنّتي على الأرض. لكنّني كنتُ دائماً أتحمّل بطواعية وسكينة، لأنّ كلّ عمل مِن أعماله كان بمشيئة أبيه، كانَت طاعة للمشيئة الإلهيّة، ولذلك فقد كنتُ أقبلها، لأنّني أنا أيضاً قد أطعتُ دوماً مشيئة الله وخططه مِن أجلي. عندما كان يسوع يفارقني، كنتُ أتألّم. بالتأكيد. كنتُ أشعر بالوحدة. وألمي عندما، وهو طفل، تركني بالسرّ ليناقش أحبار الهيكل، ووحده الله يعلم مدى شدّة ألمي. إنّما، وباستثناء السؤال الـمُنصِف الّذي أنا، أُمّه، قد سألتُه إيّاه لأنّه تركني هكذا، فأنا لم أقل له أيّ شيء آخر. كما أنّني لم أمنعه أيضاً حين تركني ليصبح المعلّم... وكنتُ وقتها قد فقدتُ زوجي، وبالتالي وحيدة، في مدينة، ما عدا بعض الناس، لم تكن تحبّني. كما أنّني لم أُظهِر اندهاشاً لجوابه في وليمة عرس قانا. هو كان يعمل مشيئة الآب. وأنا كنتُ أترك له حرّية عملها. كان يمكنني إبداء نصيحة أو رجاء: نصيحة مِن أجل التلاميذ، ورجاء مِن أجل بائس ما. إنّما ليس أكثر مِن ذلك. كنتُ أعاني عندما كان يتركني ليمضي عبر العالم، العدائيّ تجاهه والمثقل بالخطايا بحيث أنّ العيش فيه كان عذاباً بالنسبة له. إنّما يا لها مِن بهجة عظيمة في كلّ مرّة كان يعود فيها إليّ! في الحقيقة كانت عميقة بحيث أنّها كانت تعوّضني سبعين مرّة سبع مرات عن ألم الفراق. لقد كان ألم الفراق الّذي تلى موته مُمزِّقاً، إنّما بأيّة كلمات يمكنني أن أصف الفرح الّذي اختبرتُه حين ظهر لي قائماً مِن الموت؟ هائل هو ألم الفراق بصعوده إلى الآب، بحيث لن ينتهي إلّا حين تكون حياتي الأرضيّة قد اكتملت. أنا الآن في الغبطة، غبطة هائلة بقدر ما كان ألمي هائلاً، لأنّني أشعر بأنّ حياتي قد اكتملت. لقد عملتُ ما كان عليّ عمله. لقد أتممتُ رسالتي الأرضيّة. أمّا رسالّتي الأخرى، السماويّة، فلن تكون لها نهاية. إنّ الله تركني على الأرض حتّى أكون قد أتممتُ أنا أيضاً، مثل يسوعي، كلّ ما كان عليّ إتمامه. وفي داخلي تلك البهجة السرّية، قطرة البلسم الوحيدة في خضمّ التمزّقات المليئة بالمرارة الّتي عاناها يسوع، عندما تمكّن مِن أن يقول: "لقد تمّ كلّ شيء."»
«فرح في يسوع؟ في تلك الساعة؟»
«نعم يا يوحنّا. فرح لا يدركه البشر. إنّما تدركه الأرواح الّتي أضحت تحيا في نور الله، والّتي ترى الأمور العميقة، المحجوبة تحت الحُجُب الّتي ينشرها الأزليّ فوق أسراره كمَلِك، وبفضل هذا النور. أنا، القلقة جدّاً، المشوّشة جدّاً بسبب تلك الأحداث، والّتي شاركتُ ابني هجر الآب له، لم أفهم آنذاك. فالنور كان قد انطفأ عن العالم أجمع في تلك الساعة، عن كلّ العالم الّذي لم يشأ استقباله. والّذي انطفأ عنّي أنا أيضاً. ليس كعقاب عادل، ولكن أمام هذه الشركة في الفداء، كان يجب عليّ أنا أيضاً أن أعاني ضيق هجر التعزيات الإلهيّة، الظلمات، الوحدة، تجربة الشيطان لجعلي أكفّ عن تصديق إمكانيّة حصول ما كان يسوع قد قاله، كلّ ما عاناه، بروحه، مِن الخميس إلى الجمعة. لكنّني فهمتُ لاحقاً. عندما ظهر لي النور القائم مِن الموت إلى الأبد، فهمتُ. كلّ شيء. لقد فهمتُ حتّى السرّ، فرح المسيح الفائق حين تمكّن مِن القول: "لقد أتممتُ كلّ شيء كان يريدني الآب أن أتمّه. لقد ملأتُ مقياس المحبّة الإلهيّة بمحبّتي للآب لدرجة التضحية بنفسي، بمحبّتي للبشر إلى درجة الموت مِن أجلهم. لقد أتممتُ كلّ شيء كان عليّ إتمامه. إنّني أموت وأنا سعيد بالروح، رغم أنّني مُمزَّق في جسدي البريء." أنا أيضاً أتممتُ كلّ شيء كان مكتوباً منذ الأزل بأنّ عليّ إتمامه. مِن ولادة الفادي، إلى المساعدة الّتي أحملها لكم أنتم، كَهَنَتَه، حتّى تكونوا مهيّئين تماماً. الكنيسة قد تكوّنت، وهي قويّة. الروح القدس ينيرها، دماء الشهداء الأولين ترسّخها وتضاعفها، مساندتي لها أسهمت في جعلها هيئة مُقدَّسة تغذّيها باطّراد وتقوّيها المحبّة حيال الله والإخوة، وحيث الكراهية، والبغضاء، والغيرة، الافتراءات، ونباتات الشيطان الشرّيرة، لا تنبت. الله مسرور لذلك، وهو يريدكم أن تعلموا هذا الأمر مِن شفتيّ، كما يريدني أن أقول لكم أن تتابعوا النموّ بالمحبّة كي تتمكّنوا مِن النموّ بالكمال، وفي الوقت ذاته في عدد المسيحيّين وفي قوّة العقيدة. ذلك أنّ عقيدة يسوع هي عقيدة محبّة، لأنّ حياة يسوع، وكذلك حياتي، قد قادتهما وحرّكتهما المحبّة على الدوام. لم نرفض أحداً، غفرنا للجميع. فقط لواحد لم نستطع منح الغفران، لأنّه، كونه عبداً للكراهية، لم يرد حبّنا اللامحدود. يسوع، في وداعه الأخير قبل موته، قد أمركم أن تحبّوا بعضكم بعضاً. وأعطاكم أيضاً مقياساً للمحبّة الّتي عليكم أن تكون فيما بينكم، بقوله لكم: "أحبّوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتُكم. مِن ذلك يُعرَف أنّكم تلاميذي". إنّ الكنيسة، كي تحيا وتنمو، فهي بحاجة إلى المحبّة. المحبّة على وجه الخصوص في خدّامها. فإن لم تحبّوا بعضكم بعضاً بكلّ قواكم، وكذلك إن لم تحبّوا إخوتكم في الربّ، فإنّ الكنيسة تغدو عقيمة. وسيكون صعباً وضعيفاً الخلق الجديد والخلق الفائق الطبيعة للبشر كأبناء للعليّ وشركاء في ميراث ملكوت السماء، لأنّ الله عندها سوف يتوقّف عن مساعدتكم في رسالتكم. الله محبّة. وكلّ ما عمله كان بمحبّة. مِن الخلق إلى التجسّد. مِن التجسّد إلى الفداء. ومِن الفداء إلى تأسيس الكنيسة. وأخيراً إلى أورشليم السماويّة، الّتي ستجمع كلّ الأبرار كي يغتبطوا في الربّ. لكَ أنتَ أقول هذه الأمور، لأنّكَ رسول المحبّة ويمكنكَ أن تفهمها أفضل مِن الآخرين...»
يوحنّا يقاطعها قائلاً: «الآخرون أيضاً يُحِبّون ويتحابّون.»
«نعم. لكنّكَ الـمُحِبّ بامتياز. لكلّ واحد منكم ميزته الخاصّة، كما هي الحال بالنسبة لكلّ مخلوق. أنتَ، مِن بين الاثنيّ عشر، كنتَ دوماً المحبّة، النقاء، المحبّة الفائقة الطبيعة. ربّما، بل حتماً، لأنّكَ طاهر لدرجة أنّكَ مُفعَم بالمحبّة. بطرس، مِن جهته، كان دائماً الرجل، الرجل الصريح والمندفع. أخوه، أندراوس، كان صامتاً وخجولاً بمقدار ما لم يكن بطرس كذلك. يعقوب، أخوكَ، كان الانفعاليّ، لدرجة أنَّ يسوع قد لقّبه بابن الرعد. يعقوب الآخر، أخو يسوع، كان البارّ والبطل. يوضاس بن حلفى، أخوه، كان النبيل والأمين على الدوام. نسل داود كان ظاهِراً فيه. فيلبّس وبرتلماوس كانا التقليديّين. سمعان الغيور كان المحترس. توما، كان المسالم. متّى، كان المتواضع الّذي، متذكّراً ماضيه، كان يجهد كي لا يفطن إليه أحد. ويهوذا الإسخريوطيّ، مع الأسف!، النعجة السوداء مِن قطيع المسيح، الحيّة الّتي كانت تتدفّأ بمحبّة يسوع، كان الكاذب الشيطانيّ، على الدوام. إنّما أنتَ، الكلّي المحبّة، فيمكنكَ أن تفهم أفضل، وأن تغدو صوت المحبّة لكلّ الآخرين، لأولئكَ البعيدين، لتقول لهم نصيحتي الأخيرة هذه. سوف تقول لهم أن يتحابّوا وأن يحبّوا الجميع، حتّى الّذين يضطهدونهم، ليكونوا واحداً مع الله، كما أنا كنتُ، إلى درجة أنّني استحقّيتُ أن يتمّ اختياري كعروس للمحبّة الأبديّة كي أحبل بالمسيح. لقد وهبتُ نفسي لله بلا قياس، مدركة على الفور كم مِن آلام سوف تلحق بي بسبب ذلك. الأنبياء كانوا حاضرين في ذهني، والنور الإلهيّ كان يجعل كلماتهم واضحة جدّاً لي. وهكذا منذ تفوّهي بـ "ليكن" "(fiat)" الأولى للملاك، علمتُ بأنّني كنتُ أكرّس نفسي لأشدّ ألم يمكن لأُمّ أن تتحمّله. إنّما ما مِن شيء وضع حدّاً لمحبّتي، لأنّني أعلم بأنّها، بالنسبة لمن يمارسها، ستكون قوّة، نوراً، مغناطيساً يجذب نحو الأعلى، ناراً تُطهِّر وتُـجَمِّل ما تُلهِبه، مغيّرة وجاعلة الّذين تأخذهم في أحضانها يتجاوزون البشريّ. نعم، المحبّة هي حقّاً شعلة. الشعلة الّتي، وهي تُتلِف ما هو باطل، سواء كان حطاماً، أم ركاماً، أم مِزقة إنسان، فإنّها تجعل منه روحاً مُطَهَّرة وأهلاً للسماء. كم مِن حطام، كم مِن بشر مُلَطَّخين، متهالكين، منتهين، ستعثرون عليهم في طريقكم كمبشّرين! لا تحتقروا أيّاً منهم، بل على العكس أحبّوهم، كي يبلغوا المحبّة ويخلصوا. اسكبوا فيهم المحبّة. غالباً ما يصبح الإنسان شرّيراً لأنّ ما مِن أحد قد أحبّه أبداً، أو لأنّه قد أُسيئت محبّته. أنتم أحبّوههم، كي يعود الروح القدس فيسكنهم بعد تطهّرهم، تلك الهياكل الّتي قد أفرغتها ودنّستها أمور كثيرة. إنّ الله، ليخلق الإنسان، لم يأخذ ملاكاً، ولا مادّة مختارة. لقد أخذ وحلاً، المادّة الأقلّ قيمة. ثمّ، بِبثّ نسمته فيها، أي محبّته أيضاً، فقد رفع تلك المادّة الّتي لا قيمة لها إلى المرتبة الأرفع لأبناء الله بالتبنّي. إنّ ابني، على دربه، قد وجد الكثير مِن حطام البشر الّذين سقطوا في الوحل. إنّه لم يدسهم احتقاراً، بل على العكس، فقد جمعهم واستقبلهم وحَوّلهم إلى مختاري السماء. تذكّروا ذلك على الدوام، وافعلوا كما فعل هو. تذكّروا كلّ شيء، أعمال ابني وأقواله. تذكّروا أمثاله اللطيفة. عيشوها، بالأحرى ضعوها موضع التطبيق. واكتبوها، كي تبقى للآتين حتّى نهاية العصور، وتكون دوماً مُرشِداً لذوي الإرادة الصالحة، لنيل الحياة والمجد الأبديّ. بالتأكيد لن تستطيعوا ترديد كلّ الكلمات المضيئة لكلمة الحياة والحقّ الأزليّ. إنّما اكتبوا منها بقدر ما تستطيعون. إنّ روح الله، الّذي نزل عليّ لأهب المخلّص للعالم، والّذي نزل أيضاً عليكم مرّة أولى وثانية، سيساعدكم على التذكّر والتكلّم إلى الجموع بحيث تهدونهم إلى الله الحقّ. هكذا ستضمنون استمراريّة تلك الأمومة الروحيّة الّتي بدأتُها أنا على جبل الجلجلة، لمنح أبناء كثيرين للربّ. والروح نفسه، وفيما هو يتكلّم في الأبناء الّذين أعاد الربّ خلقهم، سوف يقوّيهم بحيث سيكون لهم أمراً لذيذاً الموت في العذابات، معاناة النفي والاضطّهادات، كي يشهدوا بحبّهم للمسيح وينضمّوا إليه في السماء، مثلما فعل استفانوس ويعقوب، يعقوبي، وآخرون أيضاً… وعندما ستبقّى بمفردكَ، أنقذ هذا الصندوق...»
يوحنّا، الّذي يزداد شحوباً واضطراباً، أكثر ممّا كان عليه حين قالت له مريم إنّها تشعر بأنّ مهمّتها قد تمّت، يقاطعها وهو يصيح ويسألها: «أُمّي! لماذا تتكلّمين هكذا؟ أتشعرين بسوء؟»
«لا.»
«أتريدين أن تتركيني إذاً؟»
«لا. سأكون معكَ طالما أنا على الأرض. إنّما يا عزيزي يوحنّا، استعدّ لأن تكون وحيداً.»
«إذاً أنتِ لستِ على ما يرام، وتريدين إخفاء الأمر عنّي!...»
«لا، ثق بذلك. لم أشعر أبداً بالقوّة، بالسلام، بالفرح، كما الآن. إنّني أشعر بابتهاج، بفيض مِن الحياة الفائقة للطبيعة إلى درجة... نعم، إلى درجة أنّني أشعر بأنّني غير قادرة على احتمالها فيما أواصل الحياة. وعلى كلّ حال أنا لستُ خالدة. عليكَ أن تفهم ذلك. روحي خالد. أمّا جسدي فلا. إنّه عرضة للموت مثل كلّ أجساد البشر.»
«لا! لا! لا تقولي هذا. لا يمكنكِ، لا ينبغي أن تموتي! إنّ جسدكِ الطاهر لا يمكنه أن يموت مثل أجساد الخطأة!»
«أنتَ تخطئ يا يوحنّا. إنّ ابني قد مات! وأنا أيضاً سأموت. لن أعاني مِن المرض، النّزاع، تشنّجات الموت. إنّما فيما يخصّ الموت فسأموت. وعلى كلّ حال، اِعلم يا بنّي، بأنّه إن كانت لديّ رغبة، رغبة خاصّة بي وفقط لي، وهي مستمرّة مذ فارقني، فإنّها ستكون هذه بالتحديد. إنّها الأولى، الرغبة الشديدة الّتي هي رغبتي الخاصّة. حتّى يمكنني القول: إنّها إرادتي الأولى. كلّ شيء آخر في حياتي لم يكن سوى موافقة إرادتي للمشيئة الإلهيّة. مشيئة الله، وضعها هو نفسه في قلبي منذ أن كنتُ فتاة صغيرة، إرادة أن أكون عذراء. مشيئته زواجي مِن يوسف. مشيئته أمومتي العذريّة والإلهيّة. كلّ شيء في حياتي كان بمشيئة الله وطاعتي لمشيئته. إنّما، رغبة الانضمام إلى يسوع، فهي إرادتي الخاصّة. أن أغادر الأرض إلى السماء، كي أكون معه إلى الأبد وبشكل متواصل! رغبتي لأعوام كثيرة! وأنا أشعر الآن بأنّها على وشك أن تصبح حقيقة. لا تضطرب هكذا يا يوحنّا! وبدلاً مِن ذلك أَنصِت إلى رغباتي الأخيرة. حين يصبح جسدي مجرّداً مِن الروح الحيويّ، ويتمدّد في سلام، لا تُخضِعني للتحنيط المعتاد لدى العبرانيّين. فأنا لم أعد يهوديّة، بل مسيحيّة، المسيحيّة الأولى، إذا ما أمعنّا التفكير، لأنّني كنتُ أوّل مَن حظي بالمسيح بالجسد والدم، في داخلي، ولأنّني كنتُ تلميذته الأولى، ولأنّني كنتُ شريكته في الفداء واستمراريّته هنا، بينكم، أنتم تلاميذه. ما مِن حيّ، باستثناء أبي وأُمّي، والّذين حضروا ولادتي، رأى جسدي. أنتَ غالباً ما تدعوني: "التابوت الّذي احتوى الكلمة الإلهيّة." الآن أنتَ تعلم أنّ التابوت لا يمكن أن يُرى إلاّ مِن قِبَل الكاهن الأعظم. أنتَ كاهن، وأكثر قداسة وطهارة مِن حَبْر الهيكل. لكنّني أريد أن يرى جسدي الحَبْر الأبديّ فقط، وفي الوقت المراد. لا تلمسني إذاً. وعلى أيّ حال، أترى؟ لقد تطهّرتُ ولبستُ الثوب النظيف، ثوب العرس الأبديّ… لكن لماذا تبكي يا يوحنّا؟»
«لأنّ عاصفة الألم تثور في داخلي. أُدرِك بأنّني على وشك أن أفقدكِ! كيف العمل للعيش مِن دونكِ؟ أشعر بأنّ قلبي يتمزّق لهذه الفكرة! لن أحتمل هذا الألم!»
«سوف تحتمله. الله سيساعدك على العيش، ولمدّة طويلة، كما ساعدني. لأنّه لو لم يساعدني، على الجلجلة وعلى جبل الزيتون، حين مات يسوع وحين صعد، لكنتُ قد متُّ، كما مات إسحاق. سيساعدكَ على العيش وعلى أن تتذكّر ما قلتُه لكَ سابقاً، مِن أجل خير الجميع.»
«آه! سأتذكّر. كلّ شيء. وسوف أفعل ما تريدين، كذلك بالنسبة لجسدكِ. أُدرِك أيضاً أنّ الطقوس العبرانية لم تعد ذات أهميّة بالنسبة إليكِ، أنتِ المسيحيّة، إليكِ أنتِ، الفائقة الطهارة، الّتي، وأنا متأكّد مِن ذلك، لن تعرفي فساد الجسد. إنّ جسدكِ، المؤلّه كما لم يكنه جسد فانٍ آخر، كونكِ معصومة مِن الخطيئة الأصليّة، وفوق ذلك وعدا عن امتلائكِ بالنعمة، لأنّكِ احتويتِ فيكِ النعمة ذاتها، الكلمة، ولذلك فأنتِ الذخيرة منه الأكثر حقيقيّة، لا يمكن أن يختبر التحلّل، ولا فساد الأجساد الفانية. وهذه سوف تكون آخر معجزة مِن الله عليكِ، وفيكِ. سوف تُحفَظين كما أنتِ...»
«فلا تبكِ إذن!» تهتف مريم وهي تنظر إلى وجه الرسول المضطرب، المبلّل تماماً بدموعه. وتُضيف: «إذا حُفِظتُ كما أنا، فلن تفقدني. لذلك، لا تكن قلقاً!»
«سأفقدكِ عل حدّ سواء، حتّى لو لم يصبكِ الفساد. إنّني أشعر بذلك. وأشعر كما لو أُخذتُ في إعصار مِن الحزن. إعصار يحطمني ويصرعني. أنتِ كنتِ كلّ شيء لي، خصوصاً مذ مات أهلي، ومضى إخوتي الآخرون في الدم والرسالة بعيداً، وكذلك المحبوب مارغزيام، الّذي أخذه بطرس معه. الآن سأبقى وحيداً، وفي العاصفة الأعتى!» ويسقط يوحنّا عند قدميها، باكياً بمرارة أكثر.
تنحني مريم فوقه، تضع يدها على رأسه الّذي يهتزّ بفعل النحيب وتقول له: «لا، ليس هكذا. لماذا تسبّب لي الألم؟ لقد كنتَ قويّاً جدّاً تحت الصليب، وقد كان مشهد رُعب لا مثيل له، بسبب قسوة استشهاده وبسبب حقد الشعب الشيطانيّ! وأنتَ وقتها كنتَ قويّاً جدّاً ومعزّياً له ولي! واليوم، على العكس، في عشيّة السبت هذه، الصافية والهادئة جدّاً، وأمامي، أنا الّتي أبتهج بالفرح الوشيك الّذي أستشعر باقترابه، وأنتَ مكدّر هكذا؟! هدّئ مِن روعكَ. اقتدِ، أو بالأحرى، اتّحد بما يحيط بنا وبما يسكنني. كلّ شيء سلام، كن أنتَ أيضاً في سلام. إنّ أشجار الزيتون وحدها تقطع، بحفيفها الخفيف، هدوء هذه اللحظات المطلق. إنّما لطيفة هي هذه الجلبة بحيث يبدو صوتها كتحليقٍ للملائكة حول المنزل. وربّما هم بالفعل هنا. لأنّ الملائكة، منفردين أو مجتمعين، كانوا دوماً قريبين منّي عندما كنتُ في لحظة خاصّة مِن حياتي. كانوا في الناصرة، حين خَصَّبَ روح الله أحشائي العذراء. وكانوا لدى يوسف، حين كان مضطرباً وحائراً بسبب حالتي والطريقة الّتي يجب أن يتصرّف بها حيالي. وفي بيت لحم لمرّتين، حين وُلِد يسوع، وعندما كان علينا الهروب إلى مصر. وكانوا معنا في مصر حين أعلمونا بأمر العودة إلى فلسطين. وإن لم يظهروا لي، لأنّ مَلِك الملائكة بذاته كان قد أتى إليّ حالما قام يسوع مِن الموت، فملائكة ظهروا للنسوة الورعات عند فجر اليوم الّذي تلا السبت، وأعطوهنّ الأمر بأن يقولوا لكَ ولبطرس ما كان يتوجّب عليكما فِعله. الملائكة والنور كانوا دائماً حاضرين في اللحظات الحاسمة مِن حياتي ومِن حياة يسوع. نورٌ واضطرام محبّة، بنزولهما مِن عرش الله عليّ، أنا خادمته، وصعودهما مِن قلبي نحو الله، مَلِكي وربّي، كانا يوحّداني مع الله والله معي، كي يتمّ ما كان مكتوباً أنّه سيتم، وأيضاً مِن أجل جعل حجاب مِن نور مبسوط فوق أسرار الله، لكيلاّ يعلم الشيطان وخدّامه إتمام سرّ التجسّد العظيم قبل أوانه. أيضاً في هذا المساء أنا أشعر بالملائكة مِن حولي، على الرغم مِن أنّني لا أراهم. وأشعر بالنور، نور باهر، يتعاظم في داخلي، مثل النور الّذي لَفَّني حين حبلتُ بالمسيح، حين وهبتُه للعالم. نورٌ يتأتّى مِن اندفاع محبّة أشدّ قوّة مِن الّذي لي في المعتاد. إنّه بقوّة للمحبّة مشابهة للّتي انتُزِعَتْ بها الكلمة مِن السماء قبل الأوان ليصبح الإنسان والفادي. وبقوّة محبّة مماثلة، كالّتي تلجني في هذا المساء، حيث آمل بأن تختطفني السماء وتحملني إلى حيث أتوق إلى الذهاب بروحي، لأُنشِد للأبد مع شعب القدّيسين وأجواق الملائكة "تسبحتي" "تعظّم نفسي" الخالدة لله، مِن أجل العظائم الّتي صنعها مِن أجلي أنا، خادمته.»
«على الأرجح ليس فقط بروحكِ. والأرض ستجيبكِ، الأرض الّتي، بشعوبها وأممها ستمجّدكِ وتكرّمكِ وتحبّكِ طالما دام العالم. هذا ما تنبّأ به طوبيا عنكِ، ولو بشكل محتجب، لأنّكِ أنتِ حقاً الّتي حملتِ الربّ فيكِ، وليس قدس الأقداس. أنتِ الّتي أعطيتِ الله، وحدكِ، مِن الحبّ بقدر ما أعطاه كلّ رؤساء الكَهَنَة وكلّ جماعة الهيكل الآخرين عبر العصور. محبّة متّقدة وطهارة فائقة. ومِن أجلِ ذلك سيجعلكِ الله كلّية الطوبى.»
«وسيحقّق رغبتي الوحيدة، إرادتي الوحيدة. ذلك أنّ المحبّة، عندما تكون كلّية بحيث تكاد تبلغ حدّ الكمال، مثل محبّة ابني ومحبّة الله، فإنّها تنال كلّ شيء، حتّى ما يبدو، وفقاً للمنظور البشريّ، مستحيلاً الحصول عليه. تذكّر هذا يا يوحنا. وبَلِّغه أيضاً لإخوتكَ. ستكونون محارَبين للغاية! عقبات مِن كلّ الأنواع ستجعلكم تخافون مِن الهزيمة، مجازر مِن الـمُضطَّهِدين، وارتداد المسيحيّين، ذوي الأخلاق... الإسخريوطيّة، سوف يُحبِط أرواحكم. لا تخافوا. أَحِبّوا ولا تخافوا. وبما يتناسب مع طريقة محبّتكم، فإنّ الله سيساعدكم ويجعلكم تنتصرون على كلّ شيء، وعلى الكلّ. يمكن الحصول على كلّ شيء إذا ما أصبحنا سيرافيماً. حينئذ النّفْس، تلك الرائعة والأزليّة، الّتي هي نفخة الله ذاتها الّتي بثّها فينا، تندفع نحو السماء، لترتمي مثل شعلة عند أقدام العرش الإلهيّ، تتكلّم والله ينصت لها، وتحصل مِن الكلّيّ القدرة على ما تريد. لو كان البشر قد عرفوا كيف يحبّون كما أمرت بذلك الشريعة القديمة، وكما أحبّ ابني وعَلَّم الناس كيف يحبّون، لكانوا حصلوا على كلّ شيء. هكذا أنا أحبّ. لذلك أنا أشعر بأنّني سوف أتوقّف عن البقاء على الأرض، بسبب فيض الحبّ، كما هو مات بفيض مِن الألم. هو ذا! لقد طفح مكيال مقدرتي على الحبّ. روحي وجسدي لم يعودا قادرَين على احتوائه! الحبّ يفيض منهما، إنّه يغمرني وفي الوقت نفسه يرفعني صوب السماء، صوب الله، ابني. وصوته يقول لي: "تعالي! اخرجي! اصعدي صوب عرشنا وعناقنا الثالويّ!" الأرض، وما يحيط بي، تختفي في النور الباهر الّذي يأتيني مِن السماء! كلّ ضوضائها تتلاشى بفعل ذلك الصوت السماويّ! لقد حانت بالنسبة لي لحظة المعانقة الإلهيّة يا عزيزي يوحنّا!»
إنّ يوحنّا، الذي كان قد هدأ قليلاً، ولو أنّه لا يزال مضطرباً، والذي كان ينصت لمريم، والذي في الجزء الأخير مِن حديثها كان ينظر إليها منتشياً، وكأنّه كان منخطفاً هو أيضاً، والذي كان وجهه شاحب جدّاً بقدر وجه مريم، إنّما التي كان شحوبها يستحيل شيئاً فشيئاً نوراً ناصع البياض، يهرع إلى قربها ليسندها، وفي الوقت نفسه يصرخ: «إنّكِ تشبهين يسوع حين تجلّى على جبل طابور! إنّ جسدكِ يتألّق مثل القمر، ثوبكِ يلمع مثل صفيحة ماسيّة موضوعة أمام لهب ناصع البياض! لم تعودي بشراً يا أُمّي! ثقل الجسد وكمده اختفيا! إنّكِ نور! لكنّكِ لستِ يسوع! هو، كونه الله إلى جانب كونه إنساناً، كان يمكنه التصرّف مِن تلقائه، هناك فوق على جبل طابور، كما أيضاً هنا، على جبل الزيتون، عند صعوده. أنتِ لا يمكنكِ ذلك. لا يمكنكِ التصرّف بذاتكِ. تعالي. سوف أساعدكِ على تمديد جسدكِ المتعب والـمُطوّب على سريركِ. ارتاحي.» ويقودها بمحبّة صوب السرير المتواضع، الّذي تتمدّد عليه مريم، حتّى مِن دون أن تنزع رداءها.
إنّها تصالب ذراعيها فوق صدرها، وتُغمض جفنيها فوق عينيها الوادعتَين، الملتمعتَين بالمحبّة، وتقول ليوحنّا المنحني فوقها: «أنا في الله. والله فيّ. وفيما أنا أتأمّله وأشعر بعناقه، اُتلُ أنتَ المزامير، واقرأ تلك الصفحات المتعلّقة بي مِن الكتابات المقدّسة، وخصوصاً تلك التي تتحدّث عن هذه اللحظات. إنّ روح الحكمة سيحدّدها لكَ. ثمّ اُتلُ بعدها صلاة ابني، ومِن ثمّ ردّد لي كلمات رئيس الملائكة الـمُبَشِّر، وكلمات أليصابات الّتي وجّهتها لي، ونشيد تسبيحي (تعظّم)... وأنا سوف أتابعكَ بما لا يزال موجوداً منّي على الأرض...»
يوحنّا، الذي يقاوم الدموع الّتي تصعد مِن قلبه، ويجهد للسيطرة على الانفعال الّذي يجعله يضطرب، وبصوته الرائع، الّذي أصبح على مرّ الأعوام، شبيهاً جدّاً بصوت المسيح، الأمر الّذي تلاحظه مريم ويجعلها تقول وهي تبتسم: «يبدو بأنّني أحظى بيسوعي إلى جانِبي!» يُنشِد المزمور 118 (119)، الّذي يتلوه بكامله تقريباً، ثمّ يتلو الآيات الثلاثة الأولى مِن المزمور 41 (42)، ثمّ الآيات الثماني الأولى مِن المزمور 38 (39) والمزمور 22 (23) والمزمور الأوّل، ثمّ يتلو بعد ذلك الأبانا، ثمّ كلمات جبرائيل وكلمات أليصابات، ثمّ نشيد طوبيّا، ثمّ الفصل 24 مِن سفر الجامعة، مِن الآية 11 إلى 46. وأخيراً يُنشِد "تعظّم نفسي الربّ…". ولكن عندما يصل إلى الفقرة التاسعة، يلاحظ أنّ مريم لم تعد تتنفّس، على الرغم مِن أنّها ما تزال طبيعيّة في الوضعيّة والمظهر، مبتسمة، هادئة، كما لو أنّها لم تلاحظ توقّف الحياة.
يوحنّا، وبصرخة تدمي القلب، يرتمي أرضاً، عند حافة السرير، وينادي مريم مرّات عديدة. فهو غير قادر على إقناع نفسه بأنّها لم تعد قادرة على أن تجيبه، وقد أصبح جسدها دون نَفْس حيويّة.
إنّما عليه الرضوخ للواقع! ينحني فوق وجهها، الّذي بقي محافظاً على تعبير الغبطة الفائقة للطبيعة، وتنهمر دموع غزيرة مِن عينيه على ذلك الوجه العذب، على اليدين الطاهرتين، المتشابكتين بلطافة فوق صدرها. إنّه الغسل الوحيد الّذي حظي به جسد مريم: دموع رسول المحبّة والابن بالتبنّي الّذي منحها إيّاه يسوع.
بعد موجة عنف الألم الأولى، يوحنّا، متذكّراً رغبة مريم، يجمع أطراف رداء مريم الكتّاني الفضفاض، الّتي كانت تتدلّى مِن طرفي السرير، وكذلك أطراف الحجاب، الّتي كانت تتدلّى مِن طرفي الوسادة، ويبسط أطراف الرداء فوق جسدها، ويبسط أطراف الحجاب فوق رأسها.
إنّ مريم تشبه الآن تمثالاً مِن رخام أبيض ممدّداً على ناووس. يوحنّا يتأمّلها مُطَوّلاً، وفيما هو ينظر إليها تنهمر أيضاً مِن عينيه الدموع.
بعد ذلك يقوم بإعادة ترتيب الغرفة، برفع كلّ الأثاث الّذي لا لزوم له. يترك فقط السرير، والطاولة الصغيرة الموضوعة عند الجدار، الّتي يضع عليها الصندوق الّذي يحتوي الذخائر؛ ومقعداً، يضعه بين الباب المؤدّي للشرفة والسرير حيث ترقد مريم؛ والرف حيث يوجد السراج الّذي يضيئه يوحنّا، باعتبار أنّ المساء قد بدأ يحلّ.
ثمّ يُسرِع بالنزول إلى جَثْسَيْماني ليقطف مِن الزهور بمقدار ما يستطيع أن يجد، وبعض أغصان زيتون تشكّل الزيتون عليها. يعاود الصعود إلى الغرفة الصغيرة، وعلى ضوء السراج، يرتّب الزهور والأغصان حول جسد مريم، كما لو كان وسط إكليل عظيم.
وبينما هو يفعل ذلك، فإنّه يتكلّم مع الجسد المسجّى، كما لو أنّ مريم تستطيع سماعه. يقول: «لقد كنتِ دوماً زنبقة الوادي، الوردة العذبة، شجرة الزيتون الرائعة، الكرمة الخصبة، السنبلة المقدّسة. لقد وهبتِنا عطوركِ، وزيت الحياة، وخمر الأقوياء، والخبز الّذي يحفظ مِن الموت روح الّذين يتغذّون به باستحقاق. حسناً وجود هذه الزهور حولكِ، البسيطة والطاهرة مثلكِ، المزيّنة بالأشواكِ مثلكِ، والمسالمة مثلكِ. الآن لنقرّب هذا المصباح. هكذا، قرب سريركِ، ليسهر عليكِ، وليرافقني فيما أسهر عليكِ في انتظاري على الأقلّ واحدة مِن المعجزات الّتي أترقّب حصولها، والّتي أصلّي مِن أجل حدوثها. المعجزة الأولى هي، ووفقاً لرغبة بطرس، أن يتمكّن والآخرون، الّذين سأخطرهم بواسطة خادم نيقوديموس، مِن رؤيتكِ مرّة أخرى. والمعجزة الثانية هي، إذ قد نلتِ في كلّ شيء مصيراً مماثلاً لمصير ابنكِ، ينبغي لكِ مثله، قبل اليوم الثالث، أن تنهضي، لكيلاّ تجعليني يتيماً مرّتين. والمعجزة الثالثة هي أن يمنحني الله السلام، إذا كان ما أرجو حدوثه لكِ، كما حدث للعازر، الّذي لم يكن مشابهاً لكِ، لم يكن ينبغي له أن يحدث. إنّما لماذا لا ينبغي له أن يحدث؟ إنّ ابنة يائير، والشابّ الّذي مِن نائين، وابن ثيوفيلوس [لعازر]، قد عادوا إلى الحياة... صحيح أنّ المعلّم قد تصرّف حينها... إنّما هو معكِ، حتّى ولو لم يكن بشكل ظاهر. وأنتِ لم تموتي بسبب المرض مثل الّذين أقامهم المسيح مِن الموت. إنّما هل أنتِ حقّاً ميّتة؟ ميّتة كما يموت كلّ إنسان؟ لا. أشعر بأنّ الأمر ليس كذلك. روحكِ لم يعد فيكِ، في جسدكِ، وبهذا المعنى يمكن التحدّث عن موت. إنّما، بسبب الطريقة الّتي تمّ فيها، أعتقد بأنّ ذلك ما هو إلاّ انفصال مؤقّت لنفسكِ، البلا خطيئة والممتلئة بالنعمة، عن جسدكِ الكلّيّ الطهارة والبتوليّ. لا بدّ أنّ الأمر هو هكذا! إنّه هكذا! إنّما كيف ومتى سيتّحدان مِن جديد وتعود الحياة فيكِ، لا أدري. لكنّني واثق مِن ذلك لدرجة أنّني سأبقى هنا، بجانبكِ، إلى أن يُظهر الله لي، بقوله أو بفعله، حقيقة مصيركِ.»
يوحنّا، الّذي انتهى مِن ترتيب كلّ شيء، يجلس على المقعد، واضعاً المصباح على الأرض، قرب السرير، ويتأمّل، مصلّياً، الجسد المسجّى.