ج2 - ف53
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الأول
53- (يسوع عند الرَّاعي يونا في مرج ابن عامر)
26 / 01 / 1945
ممرّ صغير عبر حقول مُحتَرِقة، مليئة بالقشّ والجداجد، يسير فيه يسوع، وإلى جانبه لاوي ويوحنّا وخلفه يوسف وسمعان ويهوذا على شكل مجموعة.
الوقت ليل. إنّما لا رطوبة. ما تزال الأرض ناراً تتأجّج حتّى بعد حريق النهار. لا يمكن للندى أن يفعل شيئاً على هذه الأرض الجافّة. أظنّها تتبخّر قبل أن تُلامِس الأرض، فالحرارة المتصاعدة مِن أثلام الأرض وشقوقها شديدة للغاية. يصمت الجميع وهم مُنهَكون ويتصبّب العرق منهم. إلّا أنّني أرى يسوع يبتسم. الليل نَيِّر رغم أنّ القمر الذي يميل إلى الغياب يكاد لا يُرى في كلّ الشرق.
يسوع يسأل لاوي: «هل تظنّه سيكون هناك؟»
«بكلّ تأكيد سوف يكون. ففي هذا الوقت، قد استُؤنف الحصاد، وجني الثمار لم يبدأ بعد. فالقرويّون إذن مُنشَغِلون بحراسة الكروم وحقول التفّاح مِن اللصوص، ولا يفارقونها، خاصّة إذا كان أرباب العمل متشدّدين مثل الذي ليونا. فالسامرة قريبة، وعندما يتمكّن هؤلاء المارقون... آه! يسطون علينا، نحن الإسرائيليّين بكلّ طيب خاطر. أوَلا يَعلَمون أنّ بعد فِعلتهم هذه يُحال الخُدَّام إلى الجَّلد؟ بلى إنّهم يَعلَمون ذلك ولكنّهم يبغضوننا.»
فيقول له يسوع: «لا تكن حَقوداً يا لاوي.»
«لا، ولكنّكَ سوف تَرى كم تَحَمَّل يونا مِن العذاب بسببهم منذ خمس سنوات. ومنذ ذلك الحين يُمضي الليل كلّه في الحراسة. فالجَّلد تعذيب وحشيّ...»
«أما زالت الطريق طويلة للوصول؟»
«لا يا معلّم، انظر، هناك ننتهي مِن هذه الأرض الـمُقفِرة. وحيث توجد بقعة داكنة، تقع حقول التفّاح التابعة لدوراس، الفرّيسي القاسي. وإذا سَمَحتَ، فإنّي أسبقكَ كي ليتعرّف عليَّ يونا.»
«اذهب.»
يسأله يوحنّا: «هل الفرّيسيّون هُم هكذا يا سيّدي؟ آه! لا أودُّ أن أكون في خدمتهم! إنّي أُفَضِّل قاربي.»
ويسأله يسوع وهو شِبه جادّ: «فقاربكَ إذن هو الـمُفَضَّل لديكَ؟»
فيجيب يوحنّا بحماس: «لا، بل أنتَ! أمّا القارب فكان حينما لم أكن أعرف ما هو الحُبّ على الأرض.»
يبتسم يسوع لحماسه: «ألم تكن تَعلَم بوجود الحُبّ على الأرض؟ فكيف وُلِدتَ إذاً، إذا لم يكن أبوكَ قد أَحَبَّ أُمّكَ؟» يَطرَح يسوع هذا السؤال كَمَن يَودّ المزاح.
«ذاك الحُبّ جميل، ولكنّه لا يغويني. فأنتَ حُبّي. أنتَ هو حُبّ يوحنّا المسكين على الأرض.»
يَضمّه يسوع إليه ويقول: «كنتُ أريد سماعكَ تقول هذا. فالحبّ متعطّش للحبّ، والإنسان يُعطي، ولسوف يُعطي على الدوام لتَعَطُّشه للقطرات غير المحسوسة كالتي تسقط مِن السماء، وهي غير ذات أهميّة، لدرجة أنّها تتبخّر في الجوّ، في وَهج الصيف. حتّى قطرات حبّ البشر سوف تُستَنفَذ في الهواء مقتولة بحرارة كثير مِن الأمور. ويعود القلب فيُنتجها ثانية... إنّما الاهتمامات وأنواع الحبّ والأشغال، والشهوات المتأجّجة، أمور إنسانيّة كثيرة، فإنَّها تُبَخِّرها. وما الذي سيَصعد إلى يسوع؟ آه! أشياء قليلة جدّاً! بقايا كلّ خَلَجات القلب البشريّ، ما يمكن أن يتبقّى منها، الخَلَجات المعنيّة بالطلب، الطلب، الطلب، عندما تلحّ الحاجة. أَمّا أن يحبّني فقط مِن أجل الحبّ، فستكون صفة عدد قليل جدّاً: أمثال يوحنّا... انظر إلى سنبلة نَبَتَت في غير موسمها. قد تكون حَبّة سَقَطَت أثناء الحصاد. لقد عَرَفَت كيف تعيش، تُقاوم الشمس والجفاف، تنمو وتُصبِح سنبلة... انظر: فالسنبلة قد أَخَذَت شكلها. لا شيء غيرها حيّ في هذه الحقول الجرداء. بعد قليل سوف تقع الحبّات الناضجة على الأرض، بعد فَلق الغلاف الأملس الذي يربطها بالساق، وسوف يكون هذا ضَرباً مِن المحبّة تجاه الطيور، أو إنّ الواحدة تعطي مائة وتَنبت قبل موسم الشتاء، وتَصِل إلى البلوغ مِن جديد، وتُشبِع بدورها سَربَاً مِن العصافير التي قد يكون الجوع قد أَخَذَ منهم كلّ مَأخَذ في الموسم الأكثر كآبة... أترى يا يوحنّا ماذا يمكن لحَبَّة شُجاعة أن تُحَقِّق؟ هكذا سيكون الناس القليلو العدد الذين سوف يحبّونني مِن أجل الحبّ. واحد فقط يكفي ليُشبِع عدداً كبيراً. واحد فقط يزيّن المنطقة، حيث الفظاعة، حيث لم يكن في البدء إلّا العَدَم. واحد فقط يكفي ليُفَجّر الحياة حيث كان الموت، وإليه سوف يأتي الجِّياع. وسوف يَأكُلون حَبَّة مِن حُبِّه الـمُثابِر، ومِن ثمّ، بأنانيّاتهم وطيشهم يَطيرون إلى مكان آخر. ولكن حتّى في غفلتهم هذه، سوف تضع الحبّة بذرة حياة في دمهم وفي روحهم... وسوف يعودون... فاليوم، وغداً، وكذلك بعد غد، كما كان يقول إسحاق، سوف تنمو معرفة الحُبّ في القلوب. فالساق العارية لم تَعُد ذات نفع، قذى محروقة. إنّما كم مِن الخير سيُولَد مِن تضحيتها، ويا لثوابها!»
يسوع الذي كان قد توقَّف هُنَيهَة أمام سنبلة هزيلة نَبَتَت على قارعة الدرب، في مجرى كان أيّام المطر ساقية، يُكمِل حديثه، ويَستَمِع إليه يوحنّا، بمظهره المعتاد كعاشق يَتَشرَّب، ليس فقط كلمات المحبوب، بل إنّما حركاته كذلك. الآخرون الذين يتحدّثون فيما بينهم لا ينتبهون إلى هذا الحوار العَذب. الآن وقد وَصَلوا إلى حقل التفّاح، يتوقّفون ويجتمعون. إنّهم يتصبّبون عرقاً مِن شدّة الحرارة على الرغم مِن كونهم دون مَعاطف. يَصمتون ويَنتظرون.
مِن الحقل المظلم الذي لا يكاد ينيره سوى شعاع مِن القمر، تَبرز البقعة المضيئة التي شَكَّلَها لاوي، وخلفها ظلّ أكثر قتامة. «يا معلّم، ها هو ذا يونا.»
«فليحلّ سلامي عليكَ!» يقولها يسوع وهو يحيّي يونا حتّى قبل أن يَصِل إليه.
ولكن يونا لا يُجيب. بل يَجري ويَرتمي عند قدميه باكياً ويُقَبِّلهُما. وعندما يتمكّن مِن الكلام يقول: «كم انتظرتُكَ! كم! كم أُثبِطَت هِمَّتي وأنا أرى العُمر يمضي والموت يدنو ويتوجّب عليَّ القول: "لم أره!" ومع ذلك فلا، لم يَكُن أملي قد تلاشى بأكمله. حتّى عندما كنتُ على وشك الموت، كنتُ أقول: "قالت لي: أنـتَ سوف تخدمه أيضاً. ولم تقل لي أمراً يوماً لم يكن حقيقيّاً. إنّها أُمّ عمّانوئيل. فلا يكون الله إذن مع أحد أكثر مِن كَونه معها، ومَن يكون الله معه يَعرِف ما يكون مِن الله".»
«انهَض. إنّها تهديكَ السلام. لقد حَصَلتَ عليها، وهي جارتكَ. إنّها تسكن في الناصرة.»
«أنتَ! هي! في الناصرة؟ ليتني كنتُ أَعلَم هذا! ففي ليالي أشهُر الشتاء الجليديّة، عندما تغفو القرية ولا يستطيع الأشرار أذيّة المزارعين، آنذاك كنتُ سآتي مُسرعاً أُقَبِّل قدميكَ وأعود مع كنزي مِن اليقين. لماذا لم تَظهَر يا سيّدي؟»
«لأنّ ساعتي لم تكن قد أتت بعد. أما الآن فقد أتت الساعة، ينبغي معرفة الانتظار. أنتَ قُلتَها: "في أشهر الجليد، عندما تغفو القرية". ومع ذلك فهي الآن مزروعة، أليس كذلك؟ وأنا كذلك مثل الحَبَّة الـمَبذورة. أنتَ رأيتَني في وقت البِذار. ثمّ اختفيتُ أنا، مُغَلّفاً بصمت لا بُدّ منه. لأنمو وأَصِل إلى زمن الحصاد وأَسطَع في عيون الذين رَأوني مَولوداً جديداً، وفي عيون العالم. هذا الوقت قد حان. فالآن، المولود الجديد أضحى مستعدّاً لأن يُصبِح خُبز العالم. وقَبل كلّ الآخرين، أَبحَث عن الأوفياء لي، ولهم أقول: "تعالوا واشبَعوا منّي".»
يَستَمِع إليه الرجل مبتسماً، مغتبطاً ولا يتوقّف عن القول كما لو كان ذلك في داخله: «آه! هو أنتَ إذن! هو أنتَ إذن!»
«أكنتَ على وشك الموت؟ متى؟»
«عندما جُلِدتُ حتّى شارَفتُ على الموت لأنّ كَرْمَين قد سُرِقا. انظُر كَم مِن الجروح!» يُنزِل ثوبه ليَكشف عن كتفيه، وعليهما آثار جراح غير منتظمة. «لقد ضَرَبَني بِسُوط مُزوَّد بقطع حديديّة. أحصى العناقيد المقطوفة، وكان ذلك ظاهراً مِن خلال آثار العُنق المنزوع، وجَلَدَني جَلدة مقابل كلّ عنقود. ومِن ثمّ تَرَكَني في مكاني شِبه ميّت. وأَسعَفَتني مريم، زوجة أحد أصحابي. فهي كانت مُنقِذَتي على الدوام. وأبوها كان وَكيلاً قَبلي، وعندما وَصَلتُ إلى هنا، تَعَلَّقتُ بهذه الصغيرة لأنّ اسمها مريم. لقد اعتَنَت بي إلى أن شُفيتُ منذ شهرين، إذ، بسبب الحرارة، تَسَمَّمت الجِّراح، وتسبَّبَت لي بترفّع حروريّ شديد. قُلتُ لإله إسرائيل: "ماذا يهمّ. اجعَلني أرى مسيحكَ ثانية، وهذا الألم كلّه لا يهمّني. تَقَبَّله مِنّي كأُضحية. لا يمكنني الذهاب لأُقدّم لكَ الأضاحي. فأنا خادم رجل فظيع، وأنتَ تَعلَم ذلك. حتّى في الفصح لا يَدَعني أذهب إلى هيكلكَ. خُذني أنا قرباناً، إنّما هَبني إيّاه هو!»
«وجَعَلَك العليّ في حـالة فـرح يـا يـونا. هل تريد أن تخدمني كما يفعل أصحابكَ الآن؟»
«آه! كيف أفعل؟»
«مثلهم. لاوي يَعرِف وسوف يخبركَ كم هو سهل أن تخدمني. فأنا لا أريد سوى الإرادة الصالحة.»
«لقد قَدَّمتُها لكَ حينما لم تكن سوى طفل مولود للتوّ. وبها انتصرتُ على كلّ شيء. وكذلك على العزيمة الـمُثبَطَة، مثلما على الأَحقاد. ذلك أنّني... هنا لا أستطيع التحدّث إلا قليلاً... ربّ العمل رَكَلَني مرّة لأنّني كنتُ أؤكّد بإصرار أنّكَ موجود. إنّما حينما كان بعيداً، ومع أناس كنتُ أستطيع الوثوق بهم. آه! كنتُ أتحدّث عنها، معجزة الليلة إيّاها!»
«أمّا الآن فَتَحَدَّث عن معجزة اللقاء بي. لقد وَجَدتُكم جميعكم تقريباً. وكلّكم وَفيّ وأَمين. أليست هذه معجزة؟ بسبب تأمّلكم فقط بي بإيمان وحُبّ، أصبَحتُم مستقيمين في نَظَر الله ونَظَر البشر.»
«آه! أصبَحَت لديَّ الآن الشجاعة! الشجاعة! الآن وقد عَلِمتُ أنّكَ هنا، وأنّني أستطيع القول: "إنّه هنا اذهبوا إليه!..." ولكن أين يا سيّدي؟»
«في إسرائيل كلّها. حتّى أيلول (سبتمبر)، أنا في الجليل. وفي أغلب الأحيان سأكون في الناصرة وكفرناحوم، ومِن هنا يمكن المجيء للقاء بي. بعد ذلك... أنا في كلّ مكان. لقد أتيتُ لأَجمَع نِعاج إسرائيل.»
«آه! يا سيّدي، سوف تُلاقي تيوساً كثيرة. فاحتَرِس مِن العُظَماء في إسرائيل!»
«لن يؤذوني طالما لم تأت الساعة بعد. أمّا أنتَ فَقُل للأموات، للنائمين، وللأحياء: "مَسيّا فيما بيننا".»
«للأموات، ربّي؟»
«للنُّفوس الميتة. أمّا الباقون، الذين ماتوا في الربّ، فإنّهم يَهتَزّون فرحاً لِتَخَلُّصهم القريب مِن اليمبس. قُل للأموات إنّي أنا الحياة، وللنيام إنّي أنا الشمس التي تُشرِق لتُوقِظهم مِن سُباتهم. وقل للأحياء إنّي الحقّ الذي يبحثون عنه.»
«أوتشفي المرضى كذلك؟ لقد حَدَّثَني لاوي عن إسحاق. هل المعجزة له فقط لأنّه الرَّاعي التابع لكَ، أم للجميع؟»
«المعجزة هي للصالحين، المكافأة العادلة. أمّا للأقلّ صلاحاً فَلِجَلبهم إلى صلاح حقيقيّ. للأشرار أيضاً أحياناً، لهزّهم، لإقناعهم بأنّني موجود، وأنّ الله معي. فالمعجزة عطيّة، وهي للصالحين. ولكنّ الذي هو رحمة، والذي يَرى كم الإنسان غليظ، وأنَّ حَدَثَاً خارقاً فقط يمكنه أن يهزّه، فهو يَهرَع إلى البشر ليقول لهم: "لقد فَعَلتُ كلّ شيء لأجلكم، وكلّ هذا لم ينفع، فقولوا لي أنتم ماذا ينبغي لي أن أفعل أكثر مِن ذلك".»
«سيّدي، ألا تأنف مِن دخول بيتي؟ إذا أَكَّدتَ لي أنّ اللصوص لن يَدخُلوا الأملاك، فإنّي أودُّ لو أُقدّم لكَ واجب الضيافة، وأجمع حولكَ بعض الناس الذين يعرفونكَ مِن خلال حديثي. ربّ العمل قد رَكَلَنا وهَشَّمَنا مثل عُشب مُبتَذَل. ليس لدينا سوى الأمل بمكافأة أبديّة. إنّما لو أَظهَرتَ نفسكَ لقلوب مُنكَسِرة مُحتَقَرة، تصبح لديها قوّة إضافيّة.»
«إنّي آت. لا تخشَ شيئاً بالنسبة للأشجار والكروم. أيمكنكَ أن تؤمن أن الملائكة يقومون عنكَ بحراسة أمينة؟»
«آه! يا ربّ! لقد رأيتُهم، خُدَّامكَ السماويّين، إنّي أؤمن وآتي معكَ بكلّ اطمئنان. مباركة هي هذه الأشجار التي نَسيمها خَفَقات أجنحة الملائكة ونغمات الأصوات الملائكيّة! مباركة هي هذه الأرض التي تُقَدِّسها بأن تطأها بقدميكَ! تعال ربّي يسوع! اسمعي أيّتها الأشجار والكروم، اسمعي أيّتها الأرياف، الآن هذا الاسم الذي كنتُ قد ائتَمَنتُكِ عليه في سكينتي، أبوح به إليه. يسوع هنا. اسمعي، وليختلج النَّسغ في الأغصان والفروع. فإنّ مَسيّا معنا.»
وينتهي كلّ شيء بهذه الكلمات الفَرِحَة.
في مساء اليوم ذاته 26 / 01 / 1945 الساعة العشرون (الثامنة مساءاً)
لو لم تكن فترة منع التّجول، لكنتُ أَرسَلتُ في طلبكَ، لطالما أنا مُرَوَّعة لدرجة كبيرة مِن ظهور الشيطان -الشيطان بشخصه دون تمويه مِن أي نوع، إنّه شخص ضخم القامة، أَملَس، ضبابيّ، ذو جبهة منخفضة وضيّقة، ووجه مُدَبَّب، وعينين غائرتين، إنّه ذو نظرة شرّيرة لدرجة كبيرة، ساخِرة، مُخاتلة لدرجة أنّني كنتُ على وشك أن أطلب النجدة.- كنتُ أصلّي في عتمة غرفتي، بينما كانت مرثا في المطبخ، وكنت أصلّي بالتحديد لقلب مريم المنزّه عن الدَّنَس، عندما ظَهَر لي قرب الباب الـمُوصَد. إنّه هو، سَواد على سَواد، ومع ذلك فقد رأيتُ كلّ تفاصيل جسده العاري والمخيف، ليس بفعل عاهة أو تشويه، إنّما بفعل، لستُ أدري ماذا أسمّيه، شيء وحشيّ، فظيع وثعبانيّ كان ينطلق مِن كلّ أعضائه. لَمْ أَرَ قروناً ولا ذَنَباً ولا أقداماً مُتشعّبة، ولا أيّة تفاصيل أخرى كالتي يُعرَض بها عادة. إنّما كلّ الوحشيّة كانت بادية في سيمائه. للتعبير عن كيفيّته، ينبغي لي أن أقول: مُخاتَلة، سُخرية، وحشيّة وحقد وترصّد. هذا ما كانت تُعبّر عنه ملامحه الـمُخادِعة والشرّيرة. كان يهزأ منّي ويشتمني، ولكنّه لم يكن يجرؤ على الدنوّ أكثر. لقد كان هناك مُسَمَّراً عند المدخل. لقد بقي حوالي العشر دقائق، ثمّ ذَهَبَ. ولكنّه تسبّب لي بتصبُّب عرق حارّ وبارد معاً.
بينما كنتُ أرتَعِد، تساءَلتُ عن هذا المجيء، فقال لي يسوع: «لأنّكِ رَفَضتِه بقسوة بعنصره الرئيسيّ.» (عندما كنتُ أصلّي لمريم، شيء ما كان يدور في خلدي وبإلحاح... لستُ أدري كيف أدعو هذا الشيء، فهو ليس صوتاً، ليس فكرة، هو لا شيء، ومع ذلك فهو شيء ما يقول: "بدونكِ، هنا، كان سـيحدث أمر ما. بسـبب استحقاقاتكِ يَحدث هذا الأمر. لأنّكِ محبوبة جدّاً مِن الله". أنا -لستُ أدري ما إذا كنتُ أعمَل بشكل جيّد أو سيّئ، إنّما يبدو لي أنّني أعمل خيراً- عندما أَسمَع ذلك أقول: "اذهَب عنّي أيّها الشيطان. لا تجرّبني. لأنّه إذا كان يسوع هو الذي يكلّمني، فأنا أتقبّله، ولكن يجب ألّا يقول هذا لي أحد سِواه ليلاطفني". قال لي يسوع والحالة هذه: «هذا لأنّكِ رَفَضتِه بقسوة، بعنصره الرئيسيّ، الكبرياء. آه! لو كان استطاع إيقاعكِ في هذه النقطة! هل رأيتِه جيّداً؟ ألم تلاحظي كيف هو مَظهَره، أقول سيادته أو أُبوّته، وهي تَظهَر وتبدو لدى الذين هُم في خدمته ولو مؤقّتاً؟ لا تتفاجأي إذا ما ظَهَر لكِ في شخص أحدهم مُقتَرِناً بالـمَظهَر المقيت لحيوان قَذِر نَجِس، لوحش وقد انتَفَخَ بالتعفّن، بخميرة الفسق. هذا لأنّ ذلك المخلوق المسكين حاوية رذائل كثيرة وخطايا، ولكنّ خطايا الجسد هي في حدّ ذاتها الرئيسيّة. فكّري بكلّ الذين، بطريقة أخرى، جعلوكِ تنتفضين وتتألّمين، بالذين، خلال ساعة فقط، كانوا أدوات الشيطان لتعذيب نَفْس مؤمنة، لجعلها تُعاني وتتألّم، بغية عزلها. ألم يكن، أثناء جَرحكِ، يبدو بنفس ملامح الشرّ الفظيع التي رأيتِها كاملة فيه؟ آه! إنّه يَظهَر مِن خلال أولئك الذين يخدمونه! إنّما لا تخافي. لا يمكنه إلحاق الأذى بكِ إذا ما بقيتِ معي ومع مريم. إنّه يحقد عليكِ. آه! وبغير حدود. ولكنّه عاجز عن أن يسيء إليكِ. إذا لم تسمحي لنفسكِ بأن تبحث عن ذاتها، وإذا تَرَكتِها تحت حماية قلبي، فكيف تريدين أن يتمكّن مِن إلحاق الأذى بها؟
اكتبي هذه، واكتبي أيضاً الرؤى الأخرى الأقلّ أهمّية التي رأيتِها. ينبغي أن يُعلَم بها الأب كلّها، وهي ليست بغير هدف. واعلَمي أنّ زمن ربيعي الذي أمنَحه للمفضَّلين لديَّ قد حان. فالبنفسج وزهور الربيع تُوشّي الحقول في الربيع. والمشاركة بآلامي تُوشّي أيّام التحضير لأسبوع الآلام لدى أصدقائي. اذهبي بسلام. أبارككِ لأُبدّد ما بقي لكِ مِن الخوف، باسم الآب والابن والروح القدس.»