ج6 - ف82

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السادس/ القسم الأول

 

82- (في مسعدة)

 

25 / 02 / 1946

 

إنّهم في طور الصعود عبر مَسلَك للماعز باتّجاه مدينة تبدو وكأنّها عشّ نسر على قمّة مِن قمم جبال الألب. يبلغونها بصعوبة بالغة، متوجّهين مِن الغرب إلى الشرق، وظهرهم إلى سلسلة متّصلة مِن الجبال التي تشكّل جزءاً مِن جبال اليهوديّة. بمقدّمة هائلة، شبيهة بعضادة دعم سور عملاق، تبرز صوب البحر الميت في جهته الغربيّة، أنف جبل شاهق بحقّ، منعزل، شديد الانحدار، كالذي يهواه النسور في طقوس حبّها الـمَلَكيّة، مزدرية الشهود وكلّ مجتمع.

 

«يا له مِن درب، يا إلهي!» يئنّ بطرس.

 

«إنّه أكثر سوءاً مِن الذي ليفتائيل.» يؤكّد متّى.

 

«إلاّ أنّ، هنا لا مطر، لا رطوبة، لا انزلاق. وهذا أمر مهمّ...» يبدي يوضاس تدّاوس.

 

«هيه! نعم! إنّه عزاء... ولكن ليس فقط هذا. فهناك لا خطر مِن أعداء ينقضّون عليكَ! وإذا لم تجعلكَ هزّة أرضيّة تسقط، فما مِن إنسان يمكنه أن يجعلكَ تسقط!» يقول بطرس متحدّثاً إلى المدينة القلعة، المتراصّة في طَوق دفاعاتها الضيّق، ببيوتها المتراكمة، المتلاصقة الواحد بالآخر كحبّات الرمّان في علبة القشرة السميكة.

 

«هل أنتَ واثق مِن هذا، يا بطرس؟» يَسأَل يسوع.

 

«هل أنا واثق؟ أنا أراه! وهذا زيادة!»

 

يهزّ يسوع رأسه ولا يُعلّق.

 

«قد يكون مِن الأفضل لو كان المجيء مِن جهة البحر. لو كان سمعان هنا... فهو يعرف هذه النواحي.» يتنهّد برتلماوس الذي لم يعد قادراً.

 

«عندما نصبح في المدينة وترون الدرب الآخر، ستشكرونني لاختياري هذا. مِن هنا يمكن للإنسان أن يصعد بصعوبة. على الـمَسلَك الآخر يتوصّل الماعز إلى ذلك بصعوبة.» يجيب يسوع.

 

«كيف تعرف ذلك؟ هل حدثّكَ أحد عنه، أو...؟»

 

«أعلم ذلك. فضلاً عن ذلك فإنّ كنّة حنانيا موجودة في هذه الناحية. أريد، في البداية، أن أتحدّث إليها.»

 

«يا معلّم... أما مِن أخطار هناك في الأعلى؟.. ذلك أنّ... لا يمكن الخروج مِن هنا بسرعة، وإذا لاحقونا... فلا عودة إلى البيت. أنظر إلى هذه الهاويات والحجارة الجارحة!...» يقول توما.

 

«لا تخافوا. لن نجد عين جدي. فليس هناك الكثير مِن عين جدي في إسرائيل، إنّما لن يحصل لنا سوء.»

 

«ذلك أنّ... أتعلم أنّها قلعة لهيرودس؟...»

 

«وإذاً؟ لا تخف يا توما! طالما لم تحن الساعة، فما مِن أمر جلل حقّاً سيحدث.»

 

يمضون، يمضون ويبلغون الأسوار ذات المظهر الجذّاب قليلاً بينما الشمس في ذروتها الآن، ولكنّ العلوّ يخفّف الحرارة.

 

يَلِجون المدينة مارّين تحت قنطرة باب ضيّق، مُظلم. أسوار المعاقل ضخمة بأبراج سميكة وفتحات رمي.

 

«يا له مِن فخّ للطريدة!» يقول متّى.

 

«أنا أفكّر بالبائسين الذين نَقَلوا هذه المواد إلى هنا، هذه الكُتَل، وصفائح الحديد هذه...» يقول يعقوب بن حلفى.

 

«إنّ الحبّ المقدّس للوطن والاستقلال جَعَل أحمال يوناثان المكابيّ خفيفة. وحبّ الذات الفاسد والذعر مِن غضب الشعب فَرَضا نيراً ثقيلاً، لا على رعايا، بل على أناس أضحوا أسوأ مِن عبيد، بإرادة هيرودس الكبير. ومَن يتعمّد بالدم والدموع، فسوف يهلك بالدم والدموع عندما تحين ساعة العقاب الإلهيّ.»

 

«ولكن، يا معلّم، هل للسكّان دخل بشيء ما؟»

 

«بلا شيء وبكلّ شيء. عندما يُجاري الرعايا الرؤساء بالأخطاء والأفعال الحميدة، فهم يقاسمونهم المكافآت والعقوبات. إنّما هو ذا البيت الثالث مِن الشارع الثاني والبئر أمامه. هيّا بنا...»

 

يَقرَع يسوع الباب المغلق لبيت عال وضيّق. يَفتَح له وَلَد.

 

«هل أنتَ مِن عائلة حنانيا؟»

 

«أحمل اسمه لأنّه والد أبي.»

 

«نادِ أُمّك. قُل لها إنّي قادم مِن المدينة التي فيها حنانيا وقبر زوجها المرحوم.»

 

يمضي الولد ويعود. «قالت إنّها غير مبالية بأخبار العجوز. بإمكانكَ الذهاب.»

 

وجه يسوع يضحي في غاية الصرامة. «لن أمضي قبل التحدّث معها. يا ولد، اذهب وقل لها إنّ يسوع الناصريّ، الذي كان زوجها يؤمن به، هو هنا، ويريد التحدّث إليها. قل لها ألاّ تخاف. العجوز ليس هنا...»

 

يمضي الولد مِن جديد. يطول الانتظار. يتوقّف أناس للنَّظَر والبعض منهم يَسأَل التلاميذ. ولكنّ الجوّ قاس، أو لا مبال، أو ساخر... يحاول الرُّسُل أن يكونوا مهذّبين، ولكنّهم متأثّرون بشكل واضح. ويزيد تأثّرهم بقدوم أعيان ومسلّحين، هؤلاء وأولئك بوجوه... محكومين بأشغال شاقّة لا يوحون أبداً بالثقة.

 

يسوع على العتبة، مُسنِداً ظهره على إطار الباب، الذراعان متصالبتان، ينتظر بصبر، مستغرقاً بالتفكير.

 

أخيراً تظهر المرأة. ضخمة، سمراء، ذات نظرة قاسية، مظهرها الجانبيّ بارز الملامح، ليست قبيحة ولا كبيرة السنّ، ولكنّ تعابيرها تجعلها دميمة وعجوزاً. «ماذا تريد؟ بسرعة، أنا مشغولة.» تقول باستعلاء.

 

«لا أريد شيئاً، لا شيء. تأكّدي. فقط أحمل لكِ غفران حنانيا، مودّته، وصلاته...»

 

«لستُ ألومه. لا فائدة مِن الصلاة. لا أريد عَجَزة بكّائين. لقد انتهى كلّ شيء بيننا. عدا عن ذلك، فسأتزوّج قريباً ولا يمكنني أن أفرض على بيت ثريّ ذلك الفلاّح الفظّ. كفاني خطأ بقبول الزواج مِن ابنه! ولكنّني حينذاك كنتُ فتاة غبيّة ولم أكن أنظر إلاّ إلى جمال الرجل. تبّاً لي! تبّاً لي! ملعون الدافع الذي وضعه على دربي! ملعونة حتّى ذكرى...» تحسبها آلة…

 

«كفى! احترمي الأحياء والأموات الذين لم تكوني لتستحقّيهم، أيا امرأة أكثر جفافاً مِن حجر صوّان. الويل لكِ! نعم، الويل! إذ ليس فيكِ حبّ للقريب وبالتالي فالشيطان فيكِ. ولكن ارتجفي، أيّتها المرأة! ارتعدي مِن أن تصبح دموع العجوز، دموع زوجك الذي، حتماً عذّبتِه بافتقاركِ إلى الحبّ، مِن أن تصبح هذه الدموع مطراً مِن نار على الذين تحبّينهم! أنتِ لديكِ أولاد، يا امرأة!...»

 

«أولاد آه! ليتني لم أكن قد حصلتُ عليهم! لكان الرابط الأخير قد انقطع! وما عدا ذلك، لا أريد سماع شيء. لا أريد الاستماع إليكَ. هيّا امضِ! أنا في بيتي، في بيت أخي. لا أعرفكَ. لا أريد تذكيري بالعجوز. لا...» تصرخ كعصفور قعقع يُنتَف ريشه وهو حيّ. إنّها امرأة شرّيرة بحقّ…

 

«احذري!» يقول يسوع.

 

«أتهدّدني؟»

 

«أذكّركِ بالله، بشريعته، رحمة بنفسكِ. أيّ أولاد تريدين تربيتهم بهذه المشاعر؟ ألا تخشين حكم الله؟»

 

«آه! كفى! شاول، اذهب ونادِ أخي وقل له أن يأتي مع يوناثان. سأريكَ! أنتَ...»

 

«آه! لا حاجة لذلك. لن يُرغِم الله نفسكِ. وداعاً.»

 

ويمضي يسوع وسط الناس. الشارع ضيّق بين البيوت العالية. ولكنّ البلدة، المبنيّة للدفاع، لها قلب هذا الدفاع ذاته في الجزء الشرقيّ منها، حيث يهوي كلّ شيء لمئات الأمتار، وحيث شريط ضيّق لدرب متعرّج، بانحدار لافت، يصعد مِن السهل، مِن شواطئ البحر، صوب قمّة الجبل.

 

بالضبط هناك يمضي يسوع، حيث فسحة صغيرة لآلات الحرب، ويبدأ الكلام، مُكرِّراً مرّة أخرى دعوته إلى ملكوت السماوات الذي يَرسم له خطوطه الإجماليّة. ويوشك على التوسّع فيها عندما، شاقّين لهم طريقاً وسط الجمع الصغير الفضوليّ أكثر منه مؤمن، يتقدّم بعض الأعيان الذين يتباحثون فيما بينهم. وما أن أصبحوا في مواجهة يسوع، حتّى تكلّموا معاً بشكل مبهم متّفقين فقط في نيّة طرد يسوع، يأمرونه: «اذهب! فهنا ما يكفي منّا لتربية أبناء إسرائيل.»

 

«اذهب! فنساؤنا لسن في حاجة لتلقّي الملامات منكَ أنتَ، أيّها الجليليّ!»

 

«اذهب، أيّها المسيء! كيف تسمح لنفسكَ بالإساءة إلى امرأة أحد الهيروديّين، في إحدى المدن المفضّلة لدى هيرودس الكبير؟ أيّها الـمُغتَصِب، منذ ولادتكِ، لحقوقه السيادية! اخرج مِن هنا!»

 

يَنظر يسوع إليهم، وخاصة أولئك الأخيرين، ويقول لهم كلمة واحدة فقط: «مُراؤون!»

 

«اذهب! اذهب!»

 

صخب حقيقيّ لأصوات نشاز. كلّ منهم يتّهم على كيفه أو يدافع عن طبقته. لم يعد يُفهَم شيء. على الفسحة الضيّقة، نساء تصيح ويُغشى عليهنّ، أولاد يبكون، رجال مسلّحون يحاولون شقّ درب لهم وهم يهبطون مِن القلعة. وفي أثناء ذلك، يَجرَحون أناساً محتشدين في الفسحة، الذين يتفاعلون بإطلاق اللعنات على هيرودس وجنوده، على مَسيّا وتابعيه. ضوضاء جميلة! الرُّسُل، متراصّين حول يسوع، هم الوحيدون الذين يحمونه بشجاعة نوعاً ما، يصيحون بدورهم بشتائم قذرة، وهناك منها للجميع.

 

يناديهم يسوع قائلاً: «لنخرج مِن هنا. لنَدُر خلف المدينة وسنمضي...»

 

«وإلى الأبد، أتعلم؟ وإلى الأبد!» يهتف بطرس الأحمر مِن الغضب.

 

«نعم، إلى الأبد...»

 

ينسحبون، الواحد خلف الآخر، وآخرهم، رغم إلحاح أتباعه، هو يسوع. الحرّاس، وهم يتفكّهون على «النبيّ المطرود» كما يقولون، مُطلِقين الفكاهات مِن كلّ نوع، لديهم ما يكفي مِن الحسّ السليم حتّى يَهرَعوا إلى باب الأسوار ليغلقوه، مسندين ظهورهم إليه، وأسلحتهم موجّهة صوب الفسحة.

 

يتقدّم يسوع على مَسلَك ضيّق يحاذي الأسوار، مَسلَك بعرض نخلتين، وتحته خواء، الموت. يتبعه الرُّسُل متحاشين النَّظَر إلى الهوّة المخيفة.

 

ها هم مِن جديد أمام الباب الذي دَخَلوا منه. يبدأ يسوع بالهبوط، دون أن يتوقّف. البلدة قد أغلقت الباب مِن هذه الجهة كذلك…

 

على بُعد بضعة أمتار مِن المدينة، يتوقّف يسوع ويضع يده على كتف بطرس الذي يقول وهو يجفّف عرقه: «لقد نجونا منها بنفسنا! مدينة ملعونة! وامرأة ملعونة! آه! يا لحنانيا المسكين! إنّها أسوأ مِن حماتي!... يا لها مِن أفعى!»

 

«نعم، لها قلب الأفاعي البارد... يا سمعان بن يونا، ما قولكَ؟ هل تبدو لكَ هذه المدينة آمنة رغم كلّ دفاعاتها؟»

 

«لا، يا رب. فالله ليس فيها. أقول إنّها ستلقى مصير صادوم وعامورة نفسه.»

 

«أحسنتَ قولاً، يا سمعان بن يونا! إنّها بصدد تكديس صواعق الغضب الإلهيّ عليها. وليس بسبب طردي، بقدر ما هو بسبب انتهاك الوصايا العشر فيها، كلّ الوصايا. هيّا بنا الآن. ستستقبلنا مغارة بظلّها الرطب في ساعات الشمس هذه. وعند الغسق سنمضي إلى اسخريوط طالما سمح القمر بذلك...»

 

«معلّمي!» يئنّ يوحنّا في نحيب غير متوقَّع.

 

«ولكن ما بكَ؟» يَسأَل الآخرون جميعاً.

 

لا يُفصِح يوحنّا عمّا به. يبكي خافياً وجهه بين يديه، منحنياً قليلاً... إنّه حقّاً يبدو يوحنّا المعذّب كما يوم الآلام…

 

«لا تبكِ! تعال هنا... ما تزال أمامنا ساعات ممتِعة.» يقول يسوع وهو يشدّه إليه. وهذا يواسي قلبه ولكنّه يجعل دموعه تسيل بأكثر غزارة.

 

«آه! يا معلّم! معلّمي! ماذا سأفعل؟! كيف سأتصرّف؟!»

 

«ولكن بأيّ شيء، يا أخي؟»

 

«بأيّ شيء، يا صديقي؟» يَسأَل يعقوب والآخرون.

 

يتردّد يوحنّا في التكلّم، ثمّ، رافعاً وجهه وملقياً ذراعيه على عنق يسوع مُرغِماً إيّاه على الانحناء صوب وجهه المضطرب، يهتف ويُجيب يسوع بدل الإجابة على أسئلة الذين يطرحونها: «برؤيتكَ تموت!»

 

«سيمدّكَ الله بالعون، وأنتَ ابنه المحبوب! لن تنقصكَ معونته. لا تعد تبكي. هيّا بنا! هيّا...» ويسير يسوع ممسكاً بيده الرسول الذي أعمته الدموع...