ج9 - ف16

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.

 

الجزء التاسع

 

16- (النزاع والقبض على يسوع في جَثْسَيْماني)

 

16 / 03 / 1945

 

صمت مطبق على الطريق. لا يقطع الصمت العميق سوى تساقط ماء ينبوع في حوض حجريّ. على طول جدران المنازل، مِن الجهة الشرقيّة، ما يزال ظلام، فيما يبيّض القمر، في الجهة الأخرى قمم المنازل، وحيث تتّسع الطريق لتشكّل ساحة صغيرة، ها هو ضياء القمر اللبنيّ والفضيّ يحلّ ليُجمّل الحصى وتراب الطريق. أمّا تحت العقود [الأقواس] الكثيرة الّتي تمتدّ مِن منـزل إلى آخر، والمشابهة لجسور متحرّكة أو دعامات لهذه المنازل القديمة ذات الفتحات غير الكثيرة على الشوارع، والّتي، في مثل هذه الساعة، هي مغلقة جميعها ومظلمة، كما لو كانت منازل مهجورة، إنّه الظلام الدامس، ممّا أكسب الشعلة الحمراء الّتي يحملها سمعان توقّداً فريداً وفائدة عظيمة. وتَظهر الوجوه، في هذا النور الأحمر والمتحرّك، واضحة المعالم جميعها، وهي على حالها، تكشف حالات نفسيّة متعدّدة ومختلفة.

 

الوجه الأبهى والأكثر سكوناً هو وجه يسوع. ومع ذلك فإنّ التعب جعله يشيخ مُظهِراً خطوطاً غير اعتياديّة تجعل صورة وجهه المستقبليّة المعاد تركيبها بعد الموت تظهر.

 

يوحنّا الّذي بجواره، يلتفت بنظرة مندهشة، حزينة مِن أجل كلّ ما يرى. وكأنّه طفل مُرَوّع مِن قصة سمعها أو وعد مخيف ويطلب العون ممّن يعرف أنّه أقدر منه. ولكن مَن يستطيع عونه؟

 

سمعان، الّذي إلى الجانب الآخر مِن يسوع، وجهه غامض، متجهّم، لإنسان يجترّ أفكاراً مريعة، وهو أيضاً الوحيد، بعد يسوع، الّذي يَظهَر بمظهر مُفعَم وقاراً.

 

الآخرون، الّذين هم في مجموعتين لا تكفّان عن التبدل، هم جميعاً في هياج. ومِن وقت إلى آخر يرتفع صوت بطرس الأجشّ أو صوت توما الجهير برنين غريب. ثمّ يخفضان صوتهما كما لو كانا مرتعبين ممّا يقولان. يتناقشان فيما يجب عمله، أحدهما يقترح أمراً والثاني أمراً آخر. ولكنّ كلّ الاقتراحات تسقط لأنّ "ساعة الظلمة" سوف تبدأ بالفعل وتبقى الأحكام البشريّة مظلمة ومُشوَّشة.

 

«كان يجب أن يقال لي ذلك قبل الآن.» يقول بطرس غاضباً.

 

«ولكن لم يتكلّم أحد. ولا المعلّم...» يقول أندراوس.

 

«نعم! هو بالضبط كان ليقول لكَ ذلك. إنّما يا أخي! يبدو أنّكَ لا تعرفه!...» يجيبه بطرس.

 

«أنا كنتُ أشعر ببعض الاضطراب وقلتُ: "فلنذهب ولنمت معه". هل تتذكّرون؟ بحقّ إلهنا الكلّيّ قدسه، لو كنتُ علمتُ أنّه يهوذا بن سمعان!..." ويهدر صوت توما مُهدِّداً.

 

«وما الّذي كنتَ تريد فِعله؟» يَسأَل برتلماوس.

 

«أنا؟ أفعله الآن أيضاً إن كنتم تساعدوني!»

 

«ماذا؟ أتذهب لتقتله؟ وأين؟»

 

«لا. أُبعِد المعلّم. هذا أبسط.»

 

«ما كان ليأتي!»

 

«لم أكن لأطلب منه أن يأتي. أخطفه كما تُخطَف المرأة.»

 

«ليست بفكرة سيّئة!» يقول بطرس. ويتراجع إلى الخلف بنـزق، وينضمّ إلى مجموعة ابنيّ حلفى اللذَين مع متّى ويعقوب يتكلّمون بصوت خافت كالمتآمرين.

 

«اسمعوا: يقول توما بإبعاد يسوع. كلّنا معاً. يمكن ذلك... مِن جتسامني [Get-Samnì] عن طريق بيت فاجي إلى بيت عنيا ومِن هناك... في الطريق إلى مكان ما. هل نفعل؟ وبمجرّد أن يصبح في مكان آمن، نرجع ونُهلِك يهوذا.»

 

«لا فائدة. إسرائيل ليست سوى مصيدة.» يقول يعقوب بن حلفى.

 

«وهي تكاد تطبق الآن. كنّا ندرك ذلك. الكراهية هائلة!»

 

«ولكن يا متّى! أنتَ تغيظني! كان لديكَ المزيد مِن الشجاعة وأنتَ خاطئ! فيلبّس، تكلّم أنتَ.»

 

فيلبّس، الّذي كان مُقبلاً وحيداً ويبدو كأنّه يكلّم نفسه، يرفع وجهه ويتوقّف. فيلحق به بطرس ويتهامسان فيما بينهما. ثمّ يلحقان بالمجموعة الآنفة الذكر. «أنا أقول إنّ أفضل مكان هو الهيكل.» يقول فيلبّس.

 

«هل أنتَ مجنون؟» يصرخ ابنا العم ومتّى ويعقوب. «ولكن إن كانوا هناك يطلبون موته!»

 

«صه! يا لها مِن ضجّة! أنا أعلم ما أقول. سيبحثون عنه في كلّ مكان، إنّما ليس هناك. أنتَ ويوحنّا لكما صداقات طيّبة بين خدّام حنّان. تُعطى قبضة لا بأس بها مِن الذهب... وكلّ شيء يتمّ. ثقوا! أفضل مكان لإخفاء إنسان يجري البحث عنه، هو بيت السجّان.»

 

«أنا لا أفعل ذلك.» يقول يعقوب بن زَبْدي. «ولكن أَسمَع الآخرين أيضاً، وابدأ بيوحنّا. وإن قبضوا عليه بعد ذلك؟ لا أريد أن يقولوا إنّني أنا الخائن...»

 

«لم أكن أفكّر في هذا. وإذاً؟» بطرس يصيبه الإعياء.

 

«وإذاً أقول يجب القيام بأمر ما بدافع مِن رحمة. الشيء الوحيد الّذي يمكننا عمله: إبعاد الأُمّ.» يقول يوضاس بن حلفى.

 

«حسناً!... ولكن... مَن يذهب إليها؟ ماذا يقال لها؟ اذهب إليها أنتَ، قريبها.»

 

«أنا باقٍ مع يسوع. هذا حقّي. اذهب أنتَ.»

 

«أنا؟! أنا مسلَّح بسيف كي أموت مثل إليعازار بن سواران. سأجتاز الفرق لأدافع عن يسوعي وسأضرب بلا هوادة. وإن قتلتني قوّة الّذين هم أكثر عدداً، لا يهمّ. فسأكون قد دافعتُ عنه.» يُعلن بطرس.«ولكن هل أنتَ متأكّد بحقّ أنّه الاسخريوطيّ؟» فيلبّس يَسأَل تدّاوس.

 

«أنا متأكّد مِن ذلك. لا أحد منّا له قلب ثعبانيّ. لا أحد سواه... اذهب يا متّى إلى مريم وقل لها...»

 

«أنا؟ أغشّها؟ وأراها إلى جانبي لا تعلم شيئاً، ومِن ثمّ؟... آه! لا. أنا مستعدّ للموت ولكن لا أخون هذه الحمامة...»

 

الأصوات تتداخل في همس.

 

«هل تسمع؟ يا معلّم نحن نحبّكَ.» يقول سمعان.

 

«أنا أعلم. ولا حاجة لي بهذه الأقوال لأعلم. فهي إن كانت تمنح السلام لقلب المسيح، إلاّ أنّها تجرح نَفْسه.»

 

«لماذا يا ربّي؟ إنّها كلمات محبّة.»

 

«محبّة بشريّة تماماً. في الحقيقة لم أفعل شيئاً في السنوات الثلاث هذه، ذلك أنّكم مازلتم أكثر بشريّة ممّا كنتم عليه في الساعة الأولى. تختمر فيكم هذا المساء كلّ الخمائر الأكثر حمأة. ولكن هذا ليس خطأكم...»

 

«خلّص نفسكَ يا يسوع!» يئنّ يوحنّا.

 

«إنّني أخلّصها.»

 

«نعم؟ آه! ربي، شكراً!» ويبدو يوحنّا كأنّه زهرة تذبل جفافاً، وتعود إلى نضرتها مِن جديد على ساقها. «أقول ذلكَ للآخرين. إلى أين نحن ذاهبون؟»

 

«أنا إلى الموت. وأنتم إلى الإيمان.»

 

«ولكن ألم تقل للتوّ إنّكَ ستخلّص نفسكَ؟» المفضَّل يصبح منهكاً مِن جديد.

 

«أنا أخلّص نفسي بالفعل، أخلّصها. لو لم أكن أطيع أبي لضللتُ. أطيع، إذاً أخلّص نفسي. لكن لا تبكِ هكذا! هل أنتَ أقلّ شجاعة مِن تلاميذ ذلك الفيلسوف اليونانيّ الّذي كلّمتُكَ عنه ذات يوم. هم بقوا بجوار معلّمهم الّذي أماته سمّ الشوكران، ليعزّوه بألمهم الرجوليّ. وأنتَ... تبدو كطفل قد فقد أباه.»

 

«أليس الأمر هو هكذا؟ بل أكثر ممّا لو كنتُ فقدتُ أبي! إنّني أفقدكَ أنتَ...»

 

«لا تفقدني لأنّكَ تستمرّ في حبّي. يَضلّ مَن ينفصل عنّا بالنسيان على الأرض وبدينونة الله في الآخرة. ولكن نحن لن نفترق أبداً. لا بهذا ولا بذاك.»

 

ولكنّ يوحنّا لا يستمع للعقل.

 

يقترب سمعان أكثر مِن يسوع ويهمس له: «يا معلّم... أنا... سمعان بطرس وأنا، كنّا نأمل أن نفعل شيئاً جيّداً... ولكن... أنتَ يا مَن تعلم كلّ شيء، قل لي: خلال كم مِن الوقت تظنّ أنّه سيتم القبض عليكَ؟»

 

«قبل وصول القمر إلى قمّة مداره.»

 

يقوم سمعان بحركة ألم ونفاذ صبر، إن لم يكن غيظ. «إذاً كلّ شيء كان بلا فائدة... يا معلّم، سوف أشرح لكَ. كدتَ تعاتبني أنا وسمعان بطرس على ترككَ وحيداً خلال الأيّام الماضية... ولكنّنا كنّا نبتعد مِن أجلكَ... حبّاً بكَ. بطرس، ليلة الإثنين، متأثّراً بأقوالكَ، جاءني أثناء نومي وقال لي: "أنا أثق بكَ، فأنا وأنتَ يجب أن نفعل شيئاً مِن أجل يسوع. حتّى يهوذا قال إنّه يريد أن يهتمّ بالأمر." آه! لماذا لم نفهم حينذاك؟ لماذا لم تقل لنا شيئاً، أنتَ؟ ولكن قل لي: ألم تقل ذلك لأحد؟ حقّاً لأيّ أحد؟ ربما قد أدركتَ ذلك مِن عدّة ساعات فقط؟»

 

«كنتُ دائم العلم به. حتّى قبل أن ينضمّ إلى زمرة التلاميذ. وكي لا تكتمل جريمته، ومِن الناحية الإلهيّة والناحية البشريّة، حاولت بكلّ الطرق أن أبعده عنّي. الّذين يريدون أن أموت هم جلاّدو الله. وهو، تلميذي وصديقي، هو كذلك الخائن. جلاّد الإنسان. جلاّدي الأول، ذلك أنّه كان أوّل مَن جعلني أموت بتحمّل قربه منّي، على مائدتي، بوجوب حمايته منكم بنفسي.»

 

«ولا أحد يعرف؟»

 

«يوحنّا. أخبرتُه في نهاية العشاء، ولكن ما الّذي فعلتموه؟»

 

«ولعازر؟ ألا يعرف شيئاً حقّاً؟ اليوم ذهبنا إليه. بالفعل لقد حضر مبكّراً، ضحّى ومضى، دون أن يتوقّف حتّى في قصره أو يذهب إلى دار الولاية، ذلك أنّه يذهب إلى هناك دوماً، حسب عادة درج عليها مِن أيّام أبيه. وبيلاطس، كما تعلم، موجود في المدينة هذه الأيّام...»

 

«نعم جميعهم هناك، توجد روما، صهيون الجديدة، مع بيلاطس. إسرائيل مع قيافا وهيرودس. كلّ إسرائيل، ذلك أنّ الفصح جمع أبناء هذا الشعب على عتبة هيكل الله... هل رأيتَ غَمَالائيل؟»

 

«نعم. لماذا تسألني؟ وينبغي لي لقاؤه أيضاً غداً...»

 

«غَمَالائيل هذا المساء في بيت فاجي. أنا أعلم هذا. عندما نصل جَثْسَيْماني ستذهب إلى غَمَالائيل وتقول له: "عمّا قليل ستكون لكَ العلامة الّتي تنتظرها مِن واحد وعشرين عاماً." ولا كلمة أخرى. ثمّ تعود إلى رفاقكَ.»

 

«ولكن كيف تعلم هذا؟ آه! يا معلّم، معلّمي المسكين الّذي لم تكن لكَ حتّى تعزية عدم العلم بأعمال الآخر!»

 

«تحسن القول! تعزية عدم العلم! المعلّم المسكين! لأنّ الأعمال السيّئة أكثر مِن الحسنة. ولكنّي أرى أيضاً الأعمال الحسنة وأُسَرّ بها.»

 

«إذاً أنتَ تعلم أنّ...»

 

«سمعان، إنّها ساعة ألمي. ولجعلها أكثر اكتمالاً، يسحب الله منّي النور كلّما دنت. عمّا قليل، لن يكون لي سوى الظلمات والتأمّل فيما تكون الظلمات: أي خطايا البشر كلّها. لا يمكنكَ، بل لا يمكنكم إدراك ذلك. ولا أحد، إلاّ مَن يكون مدعوّاً مِن الله لرسالة خاصّة، سيفهم هذا الألم الّذي هو أعظم ألم. لأنّ الإنسان مادّي، حتّى في المحبّة والتأمّل. هناك مَن سوف يبكون ويعانون بسبب الضربات الّتي تلقّيتُها، وعذاباتي كفادي، ولكن لا قياس لهذا العذاب الروحيّ الّذي، ثقوا يا مَن تسمعونني، سيكون الأكثر فظاعة... كلّمني إذن يا سمعان. أرشدني إلى الدروب الّتي سَلَكَتها صداقتكَ مِن أجلي، لأنّي مسكين يفقد الرؤية ويرى أشباحاً، وليس أشياء حقيقيّة...»

 

فيشدّه يوحنّا إليه ويسأله: «ماذا؟ ألم تعد ترى يوحنّاكَ؟»

 

«أراكَ، ولكن الخيالات تنبثق مِن ضباب الشيطان، رؤى كوابيس وأوجاع. كلّنا محاطون هذا المساء ببخار جهنّم العفن. وهو يحاول أن يخلق فيَّ التخاذل والعصيان والألم. وفيكم خيبة الأمل والخوف. وفي آخرين، الّذين هم مع ذلك ليسوا خائفين ولا مجرمين، سيتسبّب في الجريمة والهلع. وفي آخرين، الّذين أضحوا ينتمون للشيطان، فيقدّم فساداً فائق الطبيعة. أتكلّم هكذا لأنّ إتقانهم للشرّ سيكون بشكل يفوق الإمكانات البشريّة ويصل إلى الإتقان الّذي يفوق دائماً قدرة البشر. تكلّم يا سمعان.»

 

«نعم. منذ الثلاثاء، ونحن لم نفعل شيئاً سوى التنقّل كي نعرف، كي نتدارك، كي نبحث عن عون.»

 

«وما الّذي أمكنكم عمله؟»

 

«لا شيء، أو القليل القليل.»

 

«والقليل يصبح "لا شيء" عندما يشلّ الخوف القلوب.»

 

«لقد صُدِمتُ أيضاً بلعازر... يحدث هذا لي لأوّل مرّة... صُدِمتُ لأنّه بدا لي خاملاً... وهو يمكنه أن يتصرّف. فهو صديق للحاكم. وهو ابن ثيوفيلوس! ولكنّ لعازر رفض كلّ مقترحاتي. تركتُه وأنا أصيح: "أظنُّ أنّ الصديق الّذي يتكلّم عنه المعلّم هو أنتَ! إنّكَ ترعبني!" ولم أكن أريد العودة إليه. ولكنّه دعاني هذا الصباح وقال لي: "أما زال بإمكانكَ الاعتقاد أنّني الخائن؟" وكنتُ بالفعل قد رأيتُ هذا الصباح غَمَالائيل ويوسف وخُوزي، ونيقوديموس ومَنَاين، وفي النهاية أخاكَ يوسف... ولم أكن أستطيع بعد تصديق ذلك. قلتُ له: "اغفر لي يا لعازر. ولكنّني أشعر ببلبلة في فكري أكثر ممّا حين كنتُ أنا مُداناً". الأمر هو هكذا يا معلّم... لم أعد أنا نفسي.. ولكن لماذا تبتسم؟»

 

«لأنّ هذا يؤكّد ما قُلتُه لكَ سابقاً. ضباب الشيطان يلفّكَ ويسبّب لكَ الاضطراب. بماذا أجاب لعازر؟»

 

«قال: "أفهمكَ. تعال اليوم مع نيقوديموس. أنا محتاج لرؤيتكَ." وذهبتُ إليه، بينما ذهب سمعان بطرس إلى الجليليّين، لأنّ أخاكَ الآتي مِن بعيد يعلم أخباراً أكثر منّا. يقول إنّه علمها بالصدفة مِن حديثه مع جليليّ كهل، صديق لحلفى ويوسف يسكن بالقرب مِن الأسواق.»

 

«آه! ... نعم... صديق للبيت عظيم...»

 

«إنّه هنا مع سمعان والنساء. وهناك أيضاً عائلة قانا.»

 

«لقد رأيتُ سمعان.»

 

«حسناً، لقد علم يوسف مِن صديقه هذا، الّذي هو صديق أيضاً لواحد مِن الهيكل أصبح نسيبه عن طريق النساء، أنّه قد تقرّر القبض عليكَ، وقال لبطرس: "لقد حاربتُه دائماً، ولكن بمحبّة وطالما كان ما يزال قويّاً. إنّما الآن وقد صار مثل طفل تحت رحمة أعدائه، فأنا قريبه الّذي أحبَّه دائماً، معه. إنّه واجب دم وقلب".»

 

يبتسم يسوع مستعيداً للحظة وجهه الصافي الّذي لأوقات الفرح.

 

«ويوسف قال لبطرس: "فرّيسيّو الجليل ثعابين سامّة ككلّ الفرّيسيّين. ولكنّ الجليل ليست كلّها فرّيسيّين. فهنا جليليّون كثيرون يحبّونه. هيّا بنا نقول لهم أن يتجمّعوا للدفاع عنه. ليس لدينا سوى السكاكين، ولكنّ العصيّ هي أيضاً أسلحة عندما تُستخدَم جيّداً. وإن لم تتدخّل الفرق الرومانيّة، سنتغلّب سريعاً على أولئك الحثالة الجبناء الّذين هم جنود الهيكل." وبطرس ذهب معه. وأنا في تلك الأثناء ذهبتُ إلى لعازر، مع نيقوديموس. كنّا قد قرّرنا إقناع لعازر بأن يأتي معنا ويفتح المنـزل ليبقى معكَ. فقال لنا: "ينبغي لي أن أطيع يسوع وأبقى هنا. كي يتضاعف ألمي..." هل هذا صحيح؟»

 

«صحيح. لقد أعطيتُه هذا الأمر.»

 

«ومع ذلك فقد أعطاني السيوف، وهي له: واحداً لي وواحداً لبطرس. خُوزي أيضاً كان يريد إعطائي سيوفاً. ولكن... ما قيمة حدّين مِن الحديد في مقابل جمهور كبير؟ خُوزي لا يستطيع تصديق أنّ ما تقوله صحيح. إنّه يُقسِم أنّه لا يعلم شيئاً وأنّ البلاط لا يفكّر سوى بالتمتع بالعيد... قصوف كالمعتاد. حتّى إنّه طلب مِن يُوَنّا أن تعود إلى واحد مِن منازلهما في اليهوديّة. ولكنّ يُوَنّا تريد البقاء هنا، حبيسة في قصرها كما لو كانت غير موجودة فيه. ولكنّها لم تبتعد. ومعها بلوتينا، حنّة ونيقي، وسيّدتان رومانيّتان مِن بيت كلوديا. يبكين ويصلّين، ويجعلن الأبرياء يُصلّون. ولكنّه ليس وقت صلاة. إنّه وقت دم. أشعر بولادة "الغيور" فيَّ مِن جديد وأتحرّق للقتل مِن أجل الانتقام!...»

 

«سمعان! لو كنتُ أريد جعلكَ تموت ملعوناً، لما كنتُ انتزعتُكَ مِن الأسى!» يسوع بغاية الصرامة.

 

«آه! اغفر لي يا معلّم... اغفر لي! أنا كالسكران وأهذي.»

 

«ومَنَاين، ماذا يقول؟»

 

«مَنَاين يقول إنّ هذا لا يمكن أن يكون صحيحاً، ولو كان كذلك، فهو سيتبعكَ حتّى إلى العذاب.»

 

«كم أنّكم جميعاً واثقون بأنفسكم!... أيّ كبرياء في البشر! ونيقوديموس ويوسف؟ ماذا يعرفان؟»

 

«ليس أكثر منّي، منذ بعض الوقت، في إحدى الاجتماعات، تصادم يوسف مع السنهدرين، لأنّه اعتبرهم قتلة لأنّهم كانوا يريدون قتل بريء، ويقول: "كلّ شيء هنا في الداخل غير قانونيّ. هو قد أحسن بقوله: إنّه الرجس هو في بيت الربّ. وهذا الهيكل سيُدمَّر لأنّه مدَنَّس". لم يرجموه لأنّه هو. إنّما منذ ذلك الحين جعلوه يجهل كلّ شيء تماماً. فقط غَمَالائيل ونيقوديموس ظلّوا أصدقاءه. ولكنّ الأوّل لا يتكلّم. والآخر... لا هو ولا يوسف لم يعودا يُدعَيا إلى السنهدرين في القرارات الحقيقيّة. السنهدرين يجتمع بشكل غير شرعيّ هنا وهناك، في أوقات مختلفة، ذلك أنّهم خائفون منهم ومِن روما. آه! نسيتُ!... الرعاة. هم أيضاً مع الجليليّين. ولكنّ عددنا قليل! لو شاء لعازر الاستماع إلينا والذهاب للقاء الحاكم الشرعيّ! ولكنّه لم يستمع إلينا... هذا ما فعلناه... الكثير... ولا شيء... وأنا مكدّر لدرجة أنّني أودّ أن أجري في الحقول وأصرخ مثل ابن آوى، أتصرّف في خَبَل عربدة، أقتل مثل قاطع طريق، لأتخلّص مِن فكرة "لا شيء يجدي نفعاً" كما قال لعازر، وكما قال يوسف وخُوزي ومَنَاين وغَمَالائيل...» الغيور لا يبدو هو نفسه…

 

«ماذا قال الرابّي؟»

 

«قال: "أنا لا أعرف بالضبط نوايا قيافا، ولكنّي أقول لكم إنّ ما تقولونه قد تمّ التنبّؤ به مِن أجل المسيح فقط. وحيث إنّي لم أتعرّف على المسيح في هذا النبيّ، فلستُ أرى مِن داع للاضطراب. رجل سيُقتل، صالح، وصديق لله. ولكن كم ممّن يشبهونه شربت صهيون دماءهم ؟!". وبما أنّنا كنّا نصرّ على الطبيعة الإلهيّة، فقد كرّر بعناد: "عندما أرى العلامة، سأؤمن." ووعد أن يمتنع عن التصويت على موتكَ، وحتّى، إن أمكن، أن يحاول إقناع الآخرين بعدم إدانتكَ. هذا، وليس أكثر. إنّه لا يؤمن! لا يؤمن! لو كنّا نستطيع الوصول إلى الغد... ولكن أنتَ تقول لا. آه! ماذا نفعل نحن؟!»

 

«ستذهب إلى لعازر وتحاول أن تصحب قدر استطاعتكَ إليه. ليس فقط رُسُلاً، بل أيضاً تلاميذ تجدهم تائهين على طرقات الريف. حاول أن ترى الرعاة وتعطيهم هذا الأمر. منـزل بيت عنيا الآن هو أكثر مِن أيّ وقت مضى منـزل بيت عنيا، منـزل الضيافة الصالحة. ومَن ليس لهم الشجاعة لمواجهة كراهية شعب كامل فليلتجئوا إلى هناك، لينتظروا...»

 

«ولكنّنا لن نترككَ.»

 

«لا تنفصلوا... بالانقسام لا تكونون شيئاً. بالاتّحاد، ستكونون قوّة. سمعان، عدني بهذا. أنتَ وديع، مخلص، تعرف كيف تتكلّم وتقود حتّى بطرس. وعليكَ التزام كبير نحوي. أُذكّركَ به لأوّل مرة لأفرض عليكَ الطاعة. انظر: نحن في قدرون. مِن هنا صعدتَ لي أبرصاً ومِن هنا مضيتَ مطهَّراً. أعطني مِن أجل ما أعطيتُكَ. أعط للإنسان ما أعطيتُه أنا للبشر، الآن الأبرص هو أنا...»

 

«لا! لا تقل هذا!» يقول التلميذان وهما يئنّان.

 

«هو هكذا! بطرس، إخوتي سيصبحون الأكثر إعياء. سيشعر بطرس النـزيه وكأنّه مجرم ولن يحظى بالسلام. وإخوتي... لن تكون لهم الشجاعة للنظر إلى أُمّهم ولا إلى أُمّي... أوصيكَ بهم...»

 

«وأنا يا ربّ، لمن توكلني؟ ألا تفكّر بي؟»

 

«يا ولدي الصغير! أنتَ موكل لمحبّتكَ. إنّها قويّة لدرجة أنّها ستقودك كأُمّ. لن أُصدِر لكَ أمراً ولا توجيهاً. سأترككَ على مياه المحبّة. هي فيكَ نهر ساكن جدّاً وعميق جدّاً حتّى إنّي لستُ قلقاً بشأن غدكَ. سمعان، هل سمعتَ؟ عدني، عدني!» مِن المؤلم رؤية يسوع قلقاً لهذا الحدّ... ويستأنف: «قبل أن يأتي الآخرون! آه! شكراً! كن مباركاً!»

 

تجتمع المجموعة كلّها.

 

«الآن، فلنفترق. أنا أصعد إلى الأعلى للصلاة. أريد معي بطرس، يوحنّا ويعقوب. أنتم، ابقوا هنا. وإن كنتم منهكين، نادوا. ولا تخافوا. لن تُمَسَّ شعرة مِن رؤوسكم. صلّوا مِن أجلي. اطرحوا الكراهية والخوف. لن تكون سوى لحظة... ومِن ثمّ سيكتمل الفرح. ابتسموا. لتكن في قلبي ابتساماتكم. وأيضاً، شكراً على كلّ شيء يا أصدقائي. الوداع. لا يتخلّينّ عنكم الربّ...»

 

ينفصل يسوع عن الرُّسُل ويمضي إلى الأمام، بينما يعطي سمعان الـمِشعَل إلى بطرس بعدما أشعل به أغصاناً راتنجيّة تطقطق وهي مشتعلة على حافة بستان الزيتون ناشرة رائحة العرعر.

 

أتألّم مِن رؤية تداوس الّذي ينظر إلى يسوع تلك النظرة الحادّة والأليمة للغاية، حتّى إنّ يسوع يلتفت ويبحث عمّن نظر إليه. ولكنّ تداوس يختبئ خلف برتلماوس ويعضّ شفتيه كي يهدأ.

 

يحرّك يسوع يديه بالبركة والوداع، ثمّ يكمل طريقه. القمر، الّذي هو الآن في كبد السماء، يحيط بنوره قامته الممشوقة ويجعلها تبدو أكبر، مُرَوحِناً إيّاه، جاعلاً ثوبه الأحمر أكثر إشراقاً، وشعره الذهبيّ أكثر شحوباً. خلفه يسرع بطرس الخطى بالشعلة وكذلك ابنا زَبْدي.

 

يتابعون حتّى وصولهم إلى طرف أوّل منحدر لمدرّج بستان الزيتون، الّذي مدخله فسحة صغيرة غير منتظمة وهي مدرّج لانحدارات مختلفة تَصعَد الجبل على شكل درجات مِن أشجار الزيتون. ثمّ يقول لهم يسوع: «توقّفوا، انتظروني هنا فيما أصلّي. ولكن لا تناموا. قد أحتاج إليكم. وأطلب منكم ذلك بمحبّة: صلّوا! فمعلّمكم مُثقَل للغاية.»

 

بالفعل لقد أصبح مُثقَلاً حتّى الأعماق. يبدو وكأنّه يحمل حِملاً ثقيلاً. أين هو الآن يسوع الشجاع الّذي كان يتحدّث إلى الجموع، البهيّ، القويّ، ذو النظرة المهيمنة، والابتسامة الهادئة، بصوته المدوّي والمفعم روعة؟ يبدو الآن مأخوذاً بالانقباض. يبدو كمن ركض أو بكى. صوته متعب وقلق. حزين، حزين، حزين…

 

يجيب بطرس باسم الجميع: «كن مطمئنّاً يا معلّم. سنسهر ونصلّي. ليس لكَ سوى النداء وسنأتي.»

 

ويتركهم يسوع، بينما ينحني الثلاثة كي يجمعوا أوراقاً وأغصاناً ليوقدوا ناراً تساعدهم على البقاء متيقّظين، وأيضاً لمكافحة الندى الّذي بدأ بالتساقط بوفرة.

 

يمشي، مديراً لهم ظهره، مِن الغرب نحو الشرق، في مواجهة ضوء القمر. أرى أنّ ألماً عظيماً يفتح عينه أكثر، ربّما قد اتّسعت بسبب العياء الـمُكَدِّر، أو هو ظلّ قوس الحاجب. لستُ أدري. أعلم أنّ عينه مفتوحة أكثر وغائرة أكثر. يصعد، رأسه منحن، يرفعه فقط مِن وقت إلى آخر في تنهيدة كما لو كان متعباً ويلهث، حينئذ يدير بصره الحزين للغاية إلى بستان الزيتون الساكن. يصعد بضعة أمتار، ثمّ يستدير حول أحد المنحدرات الّذي بينه وبين الثلاثة الّذين تركهم بالأسفل.

 

المنحدر الّذي لا يتصاعد في البداية سوى بضع ديسيمترات [الديسيمتر = 10سم]، ثمّ يستمرّ في الارتفاع، حيث بعدها بلغ المترين، ممّا جعل يسوع بمنأى تماماً عن أيّة نظرة فضوليّة أو صديقة. يتابع يسوع حتّى يبلغ صخرة كبيرة تسدّ الدرب الصغير إلى حدّ ما، ربما وُضِعت لتدعيم الجانب المنحدر بشدّة والعاري حتّى فسحة منعزلة تتقدّم الأسوار الّتي خلفها أورشليم، ومِن الأعلى تستمرّ في الارتفاع بمنحدرات أخرى وأشجار زيتون أخرى. ومباشرة فوق هذه الصخرة الضخمة تنحني شجرة زيتون ملتوية ومليئة بالعقد. تبدو كإشارة استفهام غير مألوفة وضعتها الطبيعة كي تطرح سؤالاً ما. والأغصان الكثيفة في القمّة تعطي إجابة على سؤال الجذع، مجيبة أحياناً بنعم حينما تميل نحو الأرض، وأحياناً بلا حينما تتحرّك مِن اليمين إلى اليسار، بتأثير أمواج نسائم متتابعة عبر الأوراق فتنشر أحياناً رائحة الأرض فقط، وأحياناً الرائحة اللاذعة قليلاً للزيتون، وأحياناً عطر زهور مختلط بزنابق الوادي، الّذي يجعل المرء يتساءل مِن أين يمكن أن يأتي. وإلى ما وراء الدرب الصغير، إلى الأسفل، أشجار زيتون أخرى، وواحدة منها، تماماً أسفل الصخرة، وقد ضربتها صاعقة ومع ذلك عاشت، أو شُقَّت، لا أدري كيف، قد استحال جذعها الأصليّ جذعين ينتصبان كطرفي حرف V، وكلّ مِن الإيراقين في جهة مِن الصخرة، كما لو كانا في نفس الوقت يرغبان أن ينظرا ويختفيا، أو أن يجعلا قاعدة لها رماديّة مفضّضة مسالمة للغاية.

 

يتوقّف يسوع في هذا المكان. لا ينظر إلى المدينة الّتي تتبدّى هناك في الأسفل، بيضاء بكلّيتها تحت ضوء القمر. على العكس يدير لها ظهره ويصلّي، ذراعاه مفتوحتان على شكل صليب، وجهه مرتفع نحو السماء. لا أرى وجهه لأنّه في الظلّ، كون القمر عموديّاً تقريباً فوق رأسه، هذا صحيح، إنّما أيضاً كون أوراق الزيتون الكثيفة بينه وبين القمر، حيث تتسلل أشعّته بالكاد مِن بين الأوراق لتشكّل بقعاً مضيئة في حركة دائمة. صلاة حارّة وطويلة. مِن وقت إلى آخر يطلق زفرة وكلمة واضحة. ليس مزموراً، ولا الأبانا. إنّها صلاة تنطلق مِن دفق محبّته ومِن احتياجه. محادثة حقيقيّة مع أبيه.

 

أُدرِكها مِن بضعة كلمات أتبيّنها: «أنتَ تعرف... أنا ابنكَ... كلّ شيء، ولكن ساعدني... أتت الساعة... لم أعد مِن الأرض. لم يعد مِن حاجة للعون يُقدَّم لكلمتكَ... اجعل الإنسان يرضيكَ كفادي، كما كان الكلمة مطيعاً لكَ... ما تريده... مِن أجلهم أطلب منكَ الرحمة... هل سأخلّصهم؟ هذا ما أطلبه منكَ. أريدهم هكذا: مُخَلَّصين مِن العالم، مِن الجسد، مِن الشيطان... هل يمكنني أن أطلب منكَ المزيد؟ هو طلب عادل، يا أبي. ليس مِن أجلي. مِن أجل الإنسان، الّذي هو خليقتُكَ، والّذي أراد جعل حتّى نَفْسه وحلاً. أنا ألقي هذا الوحل في ألمي وفي دمي كي يصير مِن جديد جوهر الروح غير القابل للفساد الّذي هو مرضيّ لديكَ... والفساد هو في كلّ مكان. إنّه الـمَلِك هذا المساء: في القصر الملكيّ وفي المنازل، وسط الفِرَق وفي الهيكل... المدينة مليئة به، وغداً سيكون جحيماً...»

 

يستدير يسوع، يسند ظهره على الصخرة ويبقى مكتوف الذراعين. وينظر إلى أورشليم. وجه يسوع يصبح حزيناً أكثر فأكثر. يهمس: تبدو وكأنّها ثلج... وهي ليست سوى خطيئة. حتّى فيها كم شَفَيتُ! كم تكلّمتُ!... أين هم أولئك الّذين بدوا لي أوفياء؟»…

 

يحني يسوع رأسه ويحدّق في الأرض المغطّاة بعشب قصير يجعله الندى يتلألأ. ولكن، رغم انحناء رأسه، أُدرك أنّه يبكي، لأنّ قطرات تلمع وهي تسقط مِن وجهه على التربة. ثمّ يرفع رأسه، يفكّ ذراعيه ويضمّهما فوق رأسه ويحرّكهما هكذا مضمومتين.

 

ثمّ يسير، يرجع إلى الرُّسُل الثلاثة الجالسين حول نار الأغصان. ويجدهم نصف نائمين. بطرس يسند كتفيه إلى جذع، ذراعاه متصالبتان على صدره، رأسه يتأرجح، في أول ضباب نوم عميق، يعقوب يجلس مع أخيه على جذر ضخم ناتئ، وضعا عليه معطفيهما كي يتجنّبا خشونته، ورغم أنّهما في وضع أقلّ راحة مِن بطرس، إلاّ أنّهما غافيان. يعقوب قد أرخى رأسه على كتف يوحنّا الّذي مال برأسه على رأس أخيه، كما لو أنّ شبه النوم جعلهما ثابتين في ذلك الوضع.

 

«أتنامون؟ ألم تستطيعوا السهر ساعة واحدة فقط؟ وأنا في أمسّ الحاجة إلى تشجيعكم وصلواتكم!»

 

يقفز الثلاثة مشوَّشين. يفركون عيونهم، يدمدمون بعذر، متّهمين عملية الهضم بأنّها السبب الأوّل لنعاسهم: «إنّه الخمر... الطعام... إنّما سيزول هذا الآن، إنّها مجرّد لحظة. لم نكن نرغب في الحديث وهذا ما جعلنا ننام. أمّا الآن فسنصلّي بصوت مرتفع ولن يتكرّر هذا معنا.»

 

«نعم. صلّوا واسهروا. مِن أجلكم كذلك، فأنتم في حاجة لهذا.»

 

«نعم يا معلّم، سوف نطيعكَ.»

 

يستدير يسوع. القمر الّذي يسطع على وجهه، قويّ لدرجة أنّ ضياءه الفضّيّ يجعل ثيابه الحمراء أكثر فأكثر شحوباً كما لو كان يغطّيها غبار أبيض ومضيء، ويجعلني أرى وجهه المحبط، الحزين، الشائخ. النظرة الهائمة ذاتها ولكنّها تبدو مغشّاة بالدموع. الفم به ثنية تعب.

 

يعود إلى صخرته ببطء أكثر وانحناء أكبر. يركع متّكئاً بذراعيه على الصخرة الّتي ما هي بالملساء، ولكن عند منتصف ارتفاعها لها كما شكل بطن، كما لو كانت منحوتة قصداً. على هذا البطن الصغير الحجم، نبتت نبتة صغيرة، الّتي تبدو لي مِن تلك الزهيرات الشبيهة بالزنابق الصغيرة الّتي رأيتُها كذلك في إيطاليا، أوراقها الصغيرة مستديرة ولكنّها مزخرفة على الحواف ولحميّة مع زهيرات على سوق نحيلة جدّاً. وكأنّي بها ندف مِن ثلج منثورة على رماديّ الصخرة والأوراق الخضراء الداكنة. يسند يسوع يديه قربها فتلامس الزهيرات خده، ذلك أنّه يضع رأسه على يديه المضمومتين ويصلّي. بعد لحظة يشعر بنداوة هذه التويجات ويرفع رأسه. ينظر إليها يداعبها ويكلّمها: «أنتِ نقيّة! تواسينني! في مغارة أُمّي الصغيرة، كانت كذلك مِن تلك الزهيرات... وهي كانت تحبّها ذلك أنّها كانت تقول: "عندما كنتُ صغيرة، كان أبي يقول لي: ’أنتِ زنبقة صغيرة للغاية ومفعمة بالندى السماويّ‘"... أُمّي! آه! أُمّي!» وينفجر بالبكاء... رأسه على يديه المضمومتين، يتهاوى قليلاً على عقبيه، أراه وأسمعه يبكي، بينما يداه تهصران الأصابع ويؤلم أحدها الآخر. أسمعه يقول: «في بيت لحم أيضاً... حملتُها إليكِ يا أُمّي. أمّا هذه فمن سيحملها إليكِ الآن؟...»

 

ثمّ يعود مِن جديد إلى الصلاة والتأمّل. لا بدّ أنّه تأمّل حزين جدّاً، بل هو في ضيق أكثر منه حزين، وكي يتخلّص منه، يقف، يمضي إلى الأمام والخلف وهو يدمدم بأقوال لم أتبيّنها، رافعاً وجهه، خافضاً إيّاه، يقوم بحركات، ممرّراً يديه على عينيه وخدّيه وشعره بحركات آليّة ومضطربة، كما لشخص في ضيق عظيم. أمر لا يمكن قوله. مستحيل وصفه. رؤيته تعني مشاركته في ضيقه.

 

يقوم بحركات باتّجاه أورشليم. ثمّ يعود إلى رفع ذراعيه نحو السماء كما كي يسأل المعونة. يخلع رداءه كما لو كان يشعر بالحرّ. ينظر إليه... ولكن ما الّذي يراه؟ عيناه لا تريان شيئاً سوى عذابه، وكلّ شيء يقود إلى مزيد منه، حتّى الرداء الّذي نسجته أُمّه. يُقبّله ويقول: «سامحيني يا أُمّي! سامحيني!» يبدو وكأنّه يطلب ذلك مِن قماش مغزول ومنسوج بحبّ أُمّه... يعاود ارتداءه. أخذ منه ألم مبرّح كلّ مأخذ. يريد أن يصلّي ليتغلّب عليه، ولكن مع الصلاة تعود الذكريات، التخوّف، الشكوك، الأسف… سيل مِن الأسماء... المدن... الأشخاص... الأعمال... لا أتمكّن مِن متابعته لسرعته، وعدم انتظامه. إنّها حياته التبشيريّة الّتي تتوالى أمامه... وتقوده إلى يهوذا الخائن. إنّ كربه عظيم، وكي يتغلّب عليه يصيح باسم بطرس ويوحنّا ويقول: «الآن سيأتيان. فهما مخلصان للغاية!» أمّا "هما" فلا يأتيان. ينادي ثانية. يبدو هَلِعاً وكأنّه كان يرى ما لا أعرف ما هو. يهرب بسرعة إلى المكان الّذي فيه بطرس والأخَوان. ويجدهم في نوم أكثر ثقلاً وأكثر راحة حول بضع جمرات على وشك الانطفاء وتُنتِج فقط ومضات حمراء في الرماد الرمادي.

 

«بطرس! ناديتُكم ثلاث مرّات! ولكن ما الّذي تفعلونه؟ أما زلتم نائمين؟ ولكن ألا تشعرون كم أتألّم؟ صلّوا. كي لا يعلونَّ الجسد، وينتصر عليكم. على أيّ واحد فيكم. إذا كان الروح متأهّباً، يكون الجسد ضعيفاً... ساعدوني...»

 

يستيقظ الثلاثة ببطء. ولكنّهم في النهاية يتوصّلون إلى ذلك ويعتذرون، وعيونهم مذهولة. ينهضون، بدءاً بالجلوس ثمّ ينهضون بحقّ.

 

«ولكن انظر قليلاً!» يتمتم بطرس. «هذا لم يحدث لنا أبداً! لا بدّ أنّه ذاك الخمر. كان قويّاً. وأيضاً هذا البرد. لقد تغطّينا لكيلا نشعر به (بالفعل كانت الأردية تغطّيهم حتّى الرأس) لم نعد نرى ناراً، ولم نعد نشعر بالبرد، فحلّ النعاس. تقول إنّكَ ناديتَنا؟ ومع ذلك لا يبدو لي أنّني كنتُ أنام بكلّ هذا العمق... هيّا يا يوحنّا، لنبحث عن أغصان، لنتحرّك. هذا سيمرّ. كن مطمئنّاً يا معلّم، إنّنا مِن الآن فصاعدا!... سنبقى واقفين...» ويلقي قبضة مِن الأوراق اليابسة على الجمر وينفخ إلى أن تتأجّج الشعلة. يغذّيها بالأغصان الّتي أحضرها يوحنّا، بينما يُحضِر يعقوب غصن عرعر كبير أو نبتة مِن نفس الفصيلة قطعها مِن دغل بعيد قليلاً، ويضعها فوق الباقي.

 

ترتفع النار عالياً وجذلة منيرة وجه يسوع المسكين، إنّه وجه حزين حقّاً لدرجة أنّه لا يمكن النظر إليه دون بكاء. كلّ إشراق هذا الوجه قد اختفى في إعياء مميت. ويقول: «أختبر ضيقاً يقتلني! آه! نعم! نفسي حزينة حتّى الموت. أصدقائي! أصدقائي! أصدقائي!» ولكن حتّى لو لم يكن يقول ذلك، فمظهره يقول إنّه حقّاً كمن يموت، وفي التخلّي الأكثر كرباً وانعزالاً. فتبدو كلّ كلمة مِن كلماته وكأنّها نحيب…

 

ولكنّ الثلاثة مثقلون بالنعاس. يبدون وكأنّهم سكارى وهم يمشون ويترنّحون بعيون نصف مغمضة... ينظر إليهم يسوع... لا يكدّرهم بلوم. يهزّ رأسه، يتنهّد ويمضي إلى المكان الّذي كان يشغله.

 

يصلّي ثانية وقوفاً، ذراعاه متصالبتان. ثمّ جاثياً كالسابق، وجهه منحنٍ على الأزهار الصغيرة. يفكّر. يصمت... ثمّ يبدأ بالأنين والنشيج بقوّة، في شبه سجود لارتخائه على عقبيه. ينادي الآب، بضيق أشدّ…

 

«آه!» يقول «يا لمرارة هذه الكأس! لا أستطيع! لا أستطيع. إنّه فوق ما أستطيع. استطعتُ كلّ شيء! ولكن ليس هذا... أبعده يا أبي عن ابنكَ! ارحمني!... ماذا فعلتُ كي أستحقّه؟» ثمّ يستأنف ويقول: «إنّما لا تسمع يا أبي صوتي إن سألكَ شيئاً يخالف مشيئتكَ. لا تتذكّر أنّني ابنكَ، بل فقط خادمكَ. ولا تكن مشيئتي، بل مشيئتكَ.»

 

يبقى هكذا لبعض الوقت، ثمّ يُطلِق صيحة مكتومة ويرفع وجهاً مضطرباً. لحظة فقط، ثمّ يتهاوى على الأرض، وجهه حقّاً على الأرض، ويبقى هكذا. حطام إنسان يحمل ثقل كلّ خطيئة العالم، يقع عليه عدل الآب، تهبط عليه الظلمات، الرماد، المرارة، وهذا الشيء المريع، المريع، المريع للغاية الّذي هو تخلّي الله، بينما يعذّبنا الشيطان... إنه اختناق النَّفْس، الدفن أحياء في هذا السجن الّذي هو العالم لدى عدم إمكانيّة الشعور برباط بيننا وبين الله، إنّه القيد، الإسكات، الرجم بصلواتنا الخاصّة الّتي ترتدّ علينا مكتنفة برؤوس واخزة ومليئة بالنار، إنّه الاصطدام بسماء مغلقة لا يخترقها صوت ولا نظرات ضيقنا، إنّه "اليتم مِن الله" إنّه الجنون، الاحتضار، الشكّ في البقاء مخدوعين حتّى ذلك الحين، إنّه الاقتناع بالطرد مِن قبل الله، بالإدانة. إنّها جهنّم!...

 

آه! عرفتُ ذلك! ولا أستطيع، لا أستطيع أن أرى آلام مسيحي. ومعرفة أنّها أفظع مليون مرّة مما أصابني العام الماضي، والّذي كلّما تذكّرتُه، يهزّني أيضاً وأيضاً…

 

يئنّ يسوع وسط حشرجات وشهقات احتضار حقيقيّ: «لا شيء!... لا شيء!... اذهب!... مشيئة الآب! هي! هي! فقط!... مشيئتكَ يا أبي. مشيئتكَ، لا مشيئتي... لا جدوى... ليس لي سوى ربّ واحد: الله القدّوس. شريعة واحدة: الطاعة. محبّة واحدة: الفداء... لا. لم يعد لي أُمّ. لم تعد لي حياة. لم تعد لي ألوهيّة. لم تعد لي رسالة. لا جدوى مِن تجربتي، أيّها الشيطان، بأُمّي، بالحياة، بألوهيّتي، برسالّتي. لي أُمّ هي الإنسانيّة وأحبّها حتّى الموت مِن أجلها. الحياة أردّها لمن منحنيها ويطلبها منّي، إلى المعلّم الأسمى لكلّ حيّ. الألوهيّة، أؤكّدها بإظهار أنّها قادرة على هذا التكفير. الرسالة، أتمّمها بموتي. لم يعد لي سوى فِعل مشيئة الربّ، إلهي. اذهب أيّها الشيطان! قُلتُها في المرّة الأولى والمرّة الثانية. وأعود فأقولها في الثالثة: "أبت: إن أمكن فلتعبر عنّي هذه الكأس، ولكن مع ذلك لا تكن مشيئتي، بل مشيئتكَ." اذهب أيّها الشيطان. إنّني لله.»

 

ثمّ لم يعد يتكلّم سوى كي يقول بين لهاثه: «إلهي! إلهي! إلهي!» يناديه مع كلّ دقّة مِن دقّات قلبه، ويبدو أنّ الدم ينضح مع كلّ نبضة. النسيج المشلوح على كتفيه يتشرّبه ويصبح داكناً رغم نور القمر الكبير الّذي يغلّفه بالكامل.

 

بيد أن نوراً أكثر حيويّة يتشكّل فوق رأسه، ممتدّاً حوالي المتر منه، نور في غاية الشدّة حتّى إنّ المنهك يراه يتخلّل تموّجات الشعر الّذي أثقله الدم، وبالرغم مِن الغشاوة الّتي تغلّف عينيه بالدم. يرفع رأسه... فيتألّق القمر على الوجه المسكين، والأكثر تألّقاً هذا النور الملائكي المشابه للماس الأبيض السماويّ لكوكب الزهرة. ويظهر النـزاع الرهيب في الدم الّذي ينضح مِن المسام. الجفون، الشعر، الشارب، اللحية تنضح وهي مغطّاة بالدم. دم يسيل مِن الصدغين، دم ينضح مِن أوردة الرقبة، دم يسيل مِن اليدين. يمدّ يديه نحو النور الملائكيّ وعندما ينزلق الكُمّان الواسعان نحو الكوعين، يَظهر ساعِدا المسيح وهما يعرقان دماً. في الوجه وحده تخطّ الدموع خطّين واضحين عبر القناع الأحمر.

 

يعاود نزع ردائه ويمسح اليدين، الوجه، العنق، والساعدين. ولكنّ العَرَق يستمرّ. يضغط النسيج على وجهه مرّات عديدة ويبقيه مضغوطاً بيديه، وفي كلّ مرّة يغيّر المكان، تظهر بوضوح على النسيج الأحمر الداكن البقع الّتي لرطوبتها تبدو سوداء. العشب على الأرض أحمر مِن الدم.

 

يبدو يسوع على وشك الإغماء. يحلّ ثوبه عند الرقبة كما لو كان يشعر بالاختناق. يضع يده على قلبه ثمّ على رأسه ويحرّكها أمام وجهه كما للتهوية، مبقياً على فمه شبه مفتوح. يجرّ نفسه إلى الصخرة، أو بالأحرى إلى قمّة المنحدر ويسند ظهره. ويبقي ذراعيه ممدودتين على طول جسده، كما لو كان ميتاً بالفعل، الرأس يتدلّى على الصدر. لم يعد يتحرّك.

 

النور الملائكيّ يخفت على مهل، ثمّ يصبح وكأنّه غارق في ضياء القمر. يسوع يعاود فتح عينيه. يرفع رأسه بعناء. ينظر. إنّه وحيد، ولكنّه أقلّ ضيقاً. يمدّ يداً. يجلب إليه الرداء الّذي تركه على العشب ويشرع بمسح الوجه، اليدين، العنق، اللحية، الشعر. يأخذ ورقة عريضة نمت تماماً على حافّة المنحدر، مغطّاة تماماً بالندى، وبها يكمل المسح، غاسلاً الوجه والأيدي ومن ثمّ ماسحاً إيّاها مِن جديد. ويفعل هذا مرّات عديدة بأوراق أخرى، إلى أن مسح كلّ أثر لعرقه الرهيب. ثوبه فقط ملطّخ، وخاصّة عند الكتفين وثنيات الكوع، عند العنق والحزام والركبتين. ينظر إليه ويهزّ رأسه. ينظر أيضاً إلى الرداء، فيراه كثير اللطخ. يطويه ويضعه على الصخرة، حيث يشكّل مهداً قرب الزهيرات.

 

وبصعوبة، بسبب ضعفه، يستدير ليركع. يصلّي مسنداً رأسه على الرداء الّذي وضع عليه أيضاً يديه. ثمّ يستند إلى الصخرة ويقف، وبترنّح خفيف يذهب إلى التلاميذ. وجهه في غاية الشحوب، ولكنّه لم يعد مضطرباً. إنّه وجه مفعم بجمال إلهيّ رغم كونه نازفاً دماً وأكثر حزناً مِن المعتاد.

 

الثلاثة في نوم عميق، ملتحفين بأرديتهم، ممدّدين تماماً بجوار النار المطفأة. يُسمَع تنفّسهم العميق في بداية شخير مدوٍّ. يناديهم يسوع، بلا جدوى. يجب أن ينحني ويهزّ بطرس كثيراً.

 

«ماذا؟ مَن يقبض عليّ؟» يقول وهو يَخرج مِن ردائه الأخضر الداكن في ذهول وخوف.

 

«لا أحد. أنا مَن أناديكَ.»

 

«هل هو الصباح؟»

 

«لا. إنّه الهزيع الثاني وهو على وشك النهاية.»

 

بطرس متراخٍ للغاية. يهزّ يسوع يوحنّا الّذي يطلق صيحة رعب وهو يرى وجه شبح ينحني فوقه طالما يبدو كالرخام. «آه!... كنتَ تبدو لي كميت!»

 

يهزّ يعقوب، وهذا يظنّ أنّ أخاه هو الّذي يناديه، ويقول: «هل قبضوا على المعلّم؟»

 

«ليس بعد يا يعقوب.» يجيب يسوع. «ولكن انهضوا الآن ولنمضِ. إنّ الّذي يخونني قريب.»

 

الثلاثة، وهم ما يزالون في ذهول، ينهضون. ينظرون حولهم... شجر الزيتون، القمر، العندليب، نسمات الهواء، السلام... لا شيء آخر. حينئذ يتبعون يسوع دون كلام. الثمانية أيضاً كانوا نياماً تقريباً بقرب النار المطفأة.

 

«انهضوا!» يدوّي صوت يسوع. «فيما يقترب الشيطان، أَظهِروا لمن لا ينام أبداً ولأبنائه أنّ أبناء الله لا ينامون!»

 

«نعم يا معلّم.»

 

«أين هو، يا معلم؟»

 

«يسوع، أنا...»

 

«ولكن، ماذا حدث؟»

 

ووسط الأسئلة والإجابات المشوّشة، يرتدون أرديتهم…

 

يضعونها في الوقت المناسب للظهور بمظهر حسن أمام قطيع الجنود يقودهم يهوذا، الّذي يقتحم الساحة الصغيرة الهادئة وينيرها بشدّة بمشاعل كثيرة مضيئة. إنّهم جماعة لصوص متنكّرون بعساكر، وجوه محكوم عليهم بالأشغال الشاقّة تُشوّهها ابتسامات شيطانيّة. وهناك أيضاً البعض مِن جماعة الهيكل.

 

يقفز الرُّسُل جميعاً إلى أحد الأركان. بطرس في المقدّمة، والآخرون جماعة خلفه. يسوع يبقى حيث هو.

 

يقترب يهوذا مقاوماً نظرة يسوع، النظرة الّتي عادت متلألئة كما في أفضل أيّامه. إنّه لا يخفض وجهه. بل على العكس يدنو بابتسامة ضبع ويُقبّله على خدّه الأيمن.

 

«يا صديقي، ما الّذي جئتَ تفعله؟ أبقبلة تخونني؟»

 

ينَكِّس يهوذا رأسه للحظة، ثمّ يرفعه ثانية... غير آبه بالتأنيب كما في كلّ دعوة له للتوبة.

 

يسوع، بعد الكلمات الأولى الّتي قالها بسموّ المعلّم، يتّخذ النبرة الحزينة كمن يستسلم لحدث أليم.

 

يتقدّم الجنود وهم يصيحون حاملين الحبال والعصي، ويحاولون احتجاز الرُّسُل بالإضافة إلى المسيح، ما عدا يهوذا الاسخريوطيّ بالطبع.

 

«مَن تطلبون؟» يَسأَل يسوع بهدوء وسموّ.

 

«يسوع الناصريّ.»

 

«أنا هو!» صوته رعد. أمام عالم القتلة وعالم البراءة، أمام الطبيعة والنجوم، يعطي يسوع شهادة لنفسه بصراحة، بصدق، ومفعماً ثقة. أقول إنّه سعيد بالتمكّن مِن إعطائها لنفسه.

 

ولكن إن كان قد أطلق صاعقة، لما كان بوسعه أن يفعل أكثر. يسقط الجميع أرضاً مثل حزمة سنابل محصودة. لم يبقَ واقفاً سوى يهوذا، يسوع والرُّسُل الّذين يستردّون شجاعتهم أمام منظر الجنود الساقطين، حتّى إنّهم يقتربون مِن يسوع مهدّدين بوضوح يهوذا الّذي يقفز في الوقت المناسب ليتلافى ضربة محكمة مِن سيف سمعان. وقد تبعتها بلا جدوى ضربات حجارة وعصيّ ألقاها عليه مِن الخلف الرُّسُل غير المسلّحين بالسيوف، فيهرب إلى ما وراء قدرون ويختفي في ظلمة أحد الأزقّة.

 

«انهضوا. مَن تطلبون؟ أسألكم ثانية.»

 

«يسوع، الناصريّ.»

 

«قد قُلتُ لكم: إنّي أنا هو.» يقول يسوع بلطف. نعم، بلطف. «دعوا إذن هؤلاء أحراراً. أنا آتي. أنزلوا السيوف والعصيّ. لستُ لصّاً. كنتُ وسطكم على الدوام. لماذا لم تمسكوني آنذاك؟ ولكنّها ساعتكم، وساعة الشيطان...»

 

ولكن فيما هو يتكلّم، يقترب بطرس مِن الرجل الّذي يمدّ الحبال ليوثق يسوع، ويضربه ضربة سيف فاشلة. ولو كان استخدم الحد، لكان ذبحه كخروف. ولكنّه قطع فقط أذنه الّتي بقيت مدلاّة نازفة دماً غزيراً، يصيح الرجل بأنّه مات. تحلّ الفوضى بين الّذين يبغون التقدّم والّذين أخذهم الخوف مِن رؤية السيوف والخناجر الّتي تلمع.

 

«اتركوا تلك الأسلحة. أنا آمركم. لو كنتُ أريد، لجاءت ملائكة أبي تدافع عني. وأنتَ فلتبرأ. ولتبرأ نفسكَ في البداية إن استطعتَ.» وقبل أن يمدّ يديه للحبال، يلمس الأذن ويشفيها.

 

يُطلِق الرُّسُل صيحات مضطربة... نعم. أنا آسفة أن أقولها، ولكنّ الأمر هكذا. هناك مَن يهتف بشيء والثاني بآخر. يصيح أحدهم: «لقد خنتَنا!»، وآخر: «إنّه مجنون!»، وآخر: «مَن يقدر أن يصدّقكَ؟» ومَن لم يصح يهرب…

 

ويبقى يسوع وحده... هو والجنود... ويبدأ الدرب.