ج6 - ف101

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السادس/ القسم الأول

 

101- (الكلام فيما بين الرُّسُل، ومع يسوع. يسوع وبطرس)

 

08 / 04 / 1946

 

تُدير المجموعة الرَّسوليّة ظهرها للسهل، وعَبر طُرُق وَعِرة، وعَبر جبال ووديان يتوجّهون إلى أورشليم. لاختصار الطريق، تَرَكوا الشوارع الرئيسيّة، ليسلكوا الدروب المختصرة المأهولة قليلاً، الـمُتعِبة إنّما السريعة جدّاً.

 

في هذه الأثناء هُم في عمق وادٍ أخضر مرويّ جيّداً وغنيّ بالزهور، ولا تنقصه سوى النباتات العطريّة، الأمر الذي لَفَتَ نظر تدّاوس إلى أنّه مِن الجدير تسمية الزهور هذه "بزنابق الوادي" والإشادة بجمالها الزّائل رغم مقاومتها وعطرها الخفيف.

 

«إلاّ أنّها زنابق مقلوبة. تتّجه للأسفل بدلاً مِن أن تتّجه للأعلى» يشير توما.

 

«وكم هي صغيرة! لدينا زهور أكثر أناقة. لستُ أدري لماذا مديحها إلى هذا الحدّ...» يقول يهوذا وهو يَركل بقدمه باحتقار باقة مِن زنابق الوادي مُزهِرة.

 

«لا! لماذا؟ إنّها ظريفة للغاية!» يتدخّل أندراوس مُدافِعاً عن الزهور المسكينة وينحني ليلتقط السوق المهشّمة.

 

«تَحسَبها كلأً جافاً، لا أكثر. زهرة الأغاف أجمل، أكثر مهابة، قادرة، لائقة بالله وبالإزهار لأجل الله.»

 

«أنا أرى الله أكثر في هذه الكؤوس الصغيرة... ولكن انظر إلى هذه الكياسة!... مخرَّمة هي، تكاد تكون مقعّرة... تبدو مِن المرمر، مِن الشمع الخام، مشغولة بأيدٍ صغيرة للغاية... على العكس هو المدى الذي صَنَعَها! آه! يا لقدرة الله!...» يكاد أندراوس أن يكون نشواناً في تأمّله للزهور والتأمّل في كمال الخالق.

 

«تبدو لي مخنّثاً بأعصاب مريضة!...» يُدمدِم يهوذا الاسخريوطيّ مع ابتسامة سيّئة.

 

«لا» يقول توما. «أنا خبير وأفهم في ذلك، أنا كذلك، وأرى أنّ هذه الزهور هي عين الكمال. إنّه لأصعب كثيراً أن تُصنَع مِن المعدن مِن صناعة زهرة الأغاف. إذ، اعلم ذلك جيّداً، يا صديقي، هو الصّغر اللامتناهي الذي يحفّز موهبة الفنان، أعطني زهرة، يا أندراوس... وأنتَ، بعينكَ البقريّة التي لا تُقدِّر إلاّ ما يوحي بالعظمة، تعال هنا ولاحظ. ولكن أيّ فنّان كان بإمكانه صناعة هذه المقاطع الرقيقة للغاية، الكاملة للغاية، وتزيينها بهذه الياقوتات الصغيرة هنا في القعر، وربطها بالقاع بهذه الساق مِن المصاغ السلكيّ المنحني هكذا، رقيق القوام للغاية... إنّها تحفة!...»

 

«آه! كم مِن الشعراء قاموا في وسطنا!... أنتَ أيضاً يا توما، هكذا...»

 

«أنا لستُ معتوهاً، ولا مخنّثاً، هل تعلم؟ بل أنا فنّان، فنّان حَسّاس وأفتخر. هل تروق لكَ يا معلّم؟» ينادي توما المعلّم الذي سَمِع كلّ شيء ولم يتكلّم.

 

«كلّ ما في الخليقة يروق لي، ولكنّ هذه الزهور هي مِن المفضّلة لديَّ...»

 

«لماذا؟» يَسأَل الكثيرون، وفي الوقت ذاته يَسأَل يهوذا: «حتّى الحيّات تروق لكَ؟» ويضحك.

 

«حتّى هي، فهي مفيدة...»

 

«لماذا؟» يَسأَل الكثيرون.

 

«للّدغ. آه! آه! آه!» يقول يهوذا مع ضحكة جارحة.

 

«فإذاً مِن المفروض أن تروق لكَ أنتَ كثيراً.» يُجيبه تدّاوس قاطعاً ضحكته بمُضمَر جليّ. الآن هُم الآخرون الذين يضحكون مِن هذه الضربة الـمُحكَمَة.

 

يسوع لا يضحك. على العكس هو شاحب وحزين. ينظر إلى أتباعه الاثني عشر وبشكل خاصّ إلى الخصمين اللذين ينظران إلى بعضهما، الواحد بغضب، والآخر بصرامة، ويجيب الجميع، مجيباً الإسخريوطيّ بشكل خاصّ:

 

«إذا كان الله الذي خلقها، فلأنّها مفيدة. ما مِن شيء في الخليقة مضرّ بالكامل. وحده الشرّ مُضرّ بشكل جليّ وفقط، والويل لِمَن يَدَعونه يَلدَغهم. إحدى ثمار لدغته هي العجز عن التمييز بين الخير والشرّ، انحراف الإدراك والضمير الـمُفسَد بأمور غير صالحة، وهذا هو العمى الروحيّ الذي به، يا يهوذا ويا سمعان، لا نعود نرى قدرة الله تتألّق في الأشياء، حتّى الأكثر صغراً. فهي مكتوبة في هذه الزهرة بجمالها، بعطرها، بشكلها المختلف تماماً عن أيّة زهرة أخرى، بنقطة الندى هذه التي تهتزّ وتتلألأ معلَّقة على الهدب الشمعيّ للبتلة الصغيرة، والتي تبدو كدمعة اعتراف بفضل الخالق الذي قام بفِعل كلّ شيء، وإجادة فِعل الكلّ، والكلّ مفيد، ومتنوّع. ولكن قيل إنّ كلّ شيء كان جميلاً بالنسبة إلى الأبوين الأوّلين، حتّى لحظة السقوط في الخطيئة... كلّ شيء كان يُحدّثهما عن الله، إلى أن قُطِّر على الأشياء، أو بالأحرى، على عيونهما السائل الذي شوَّه قدرتهما على رؤية الله... حتّى في الوقت الحاليّ، يتجلّى الله أكثر كلّما كان الروح مَلِكاً بزيادة في خليقة...»

 

«لقد تغنّى سليمان بعجائب الله، وكذلك داود... وروحهم لم يكن مَلِكاً بالتأكيد! يا معلّم، هذه المرّة أضبطكَ في خطأ.»

 

«ولكن يا لكَ مِن وَقِح! كيف تجرؤ على قول ذلك؟» يقول برتلماوس محتدّاً.

 

«دعه يتكلّم... لا أبالي. إنّها كلمات تحملها الريح ولا تتشكّك بها الأعشاب والأشجار. نحن الوحيدون الذين كنّا نسمعها، يمكننا إعطاءها الوزن الذي تستحقّ، أليس كذلك؟ ولا نعود نتذكّرها. الشباب غالباً أرعن، يا برتلماوس. أشفق عليهم... ولكنّ أحداً سألني لماذا كنتُ أُفضّل زنابق الوادي... إجابتي هي هذه: "بسبب تواضعها". كلّ ما فيها يتحدّث عن التواضع... الأماكن التي تحبّ... مَظهَر الزهرة... تجعلني أُفكّر بأُمّي... هذه الزهرة... البالغة الصغر! ومع ذلك انظروا كم مِن العطر يفوح مِن زهرة واحدة. الجوّ المحيط بها معطّر... كذلك أُمّي، متواضعة، متحفّظة، مجهولة، وهي لم تكن تطلب سوى أن تبقى مجهولة... ومع ذلك فعطر قداستها جذبني مِن السماء...»

 

«هل ترى في هذه الزهرة رمزاً لأُمّكَ؟»

 

«نعم، يا توما.»

 

«وتظنّ أنّ أجدادنا، بإشادتهم بزنبق الوديان، كان لديهم هذا الحَدْس؟» يَسأَل يعقوب بن حلفا. «حينئذ قَارَنوا بينها وبين نباتات أخرى وزهور أخرى: بالوردة، بشجرة الزيتون، وبالحيوانات الأكثر لطفاً: اليمامات، الحمامات...»

 

«كلّ منهم كان يقول ما يراه الأجمل في الخليقة. ومِن الخليقة هي بالحقيقة الكاملة الجمال. إنّما أدعوها زنبقة الوادي وشجرة الزيتون السلاميّة، إذا ما كان عليَّ الإشادة بها» ويسوع يستعيد هدوءه وإشعاعه مفكّراً بأُمّه ويبتعد ليختلي…

 

يستمرّ المسير، رغم الحرارة في منتصف النهار، ذلك أنّ في عمق الوادي توالي أشجار تحمي مِن الشمس.

 

بعد فترة، يُسرع بطرس الخطى ويلحق بالمعلّم. يناديه بهدوء: «يا معلّمي!»

 

«بطرسي!»

 

«هل أُزعِجكَ إذا ما أتيتُ معكَ؟»

 

«لا يا صديقي. ما هو الأمر المستعجل الذي تريد قوله لي، والذي دعاكَ للمجيء إلى جانب معلّمكَ؟»

 

«سؤال... يا معلّم، فأنا إنسان فضوليّ...»

 

«وإذن؟» يبتسم يسوع وهو ينظر إلى رسوله.

 

«ويروق لي أن أعرف أموراً كثيرة...»

 

«هذا خطأ، يا عزيزي بطرس.»

 

«أعرف ذلك... ولكنّني أظنّ أنّ هذه المرّة، هو ليس بالخطأ. إذا ما كنتُ أريد معرفة أشياء سيّئة، إحتيالات للتمكّن مِن انتقاد الذي يفعلها، آه! حينئذ تصبح خطأ. ولكنّك ترى أنّني لم أسألكَ إذا ما كان يهوذا قد استُدعي لأمر ما في بِتّير، ولماذا...»

 

«إنّما كانت لديكَ رغبة عارمة...»

 

«نعم، هذا صحيح. ولكن على العكس، أليس لهذا استحقاق أعظم؟»

 

«لهذا استحقاق عظيم، كما أنّ للسيطرة على الذات استحقاق عظيم. وهذا يشير، في الذي يقوم به، إلى تطوّر جيّد وجادّ في الأمور الروحيّة، إدراك واستيعاب بفعالية حقيقيّة لتعاليم المعلّم.»

 

«نعم، وإذاً؟ هل أنتَ مسرور؟»

 

«آه! يا بطرس، هل تسألني عن ذلك؟ أنا سعيد.»

 

«نعم؟ أكيد؟ يا معلّمي! ولكن أهو سمعانكَ المسكين الذي يجعلكَ مسروراً لهذه الدرجة؟»

 

«نعم، ولكن ألم تكن تعلم ذلك؟»

 

«لم أكن أجرؤ على الظنّ به، ولكنّني لدى رؤيتي إيّاكَ البارحة مسروراً للغاية، جعلتُكَ تُسأل، إذ كنتُ أفكّر أنّه مِن الممكن أن يكون يهوذا كذلك قد أَصبَحَ أفضل... رغم أنّ لا دلائل لديَّ... إنّما قد أكون سيّئ النظر. لقد قال لي يوحنّا بأنّكَ قُلتَ له إنّكَ مسرور لأنّ هناك مَن يُصبح قدّيساً... ثمّ، منذ لحظة، قلتَ لي إنّك مسرور منّي لأنّني أُصبِح أفضل. الآن أعلم. الذي يجعلكَ مسروراً ويُفرحكَ : هو أنا، سمعان المسكين... ومع ذلك أودُّ الآن مِن تضحياتي أن تُغيّر يهوذا. أنا لستُ حسوداً، أودُّ لو يصبح الجميع كاملين لجعلكَ مسروراً بشكل كامل. هل سأنجح؟»

 

«ثق، يا سمعان، ثق وثابر.»

 

«سأفعل! بكلّ تأكيد سأفعل مِن أجلكَ... وكذلك مِن أجله. لأنّه أكيد ليس مِن دواعي الفرح البقاء هكذا على الدوام. في العمق... يكاد يكون ابني... هوم!... بالحقيقة أُفضِّل أن أكون الأب لمارغزيام! ولكن... سأكون له الأب في العمل لمنحه نَفْساً لائقة بكَ.»

 

«وبكَ، يا سمعان» وينحني يسوع ويُقبّل شعره.

 

بطرس سعيد للغاية... بعد برهة يَسأَل: «ألا تقول لي شيئاً آخر؟ أما مِن خبر سارّ آخر؟ بعض الزهور وسط الأشواك التي تُصادفها في كلّ مكان؟»

 

«بلى. صديق ليوسف يُقبِل إلى النور.»

 

«أحقّاً؟ أحد السنهدرينيّين؟»

 

«نعم، ولكن يجب ألاّ يقال ذلك لأحد. علينا الصلاة والتألّم مِن أجله. ألا تسألني مَن يكون؟ ألستَ فضوليّاً؟»

 

«كثيراً! ولكنّني لا أسأل. تضحية مِن أجل هذا المجهول.»

 

«بوركتَ يا سمعان! اليوم تجعلني سعيداً بحقّ. استمرّ هكذا وسأحبّكَ أكثر فأكثر، ويحبّكَ الله أكثر فأكثر. فلنتوقّف الآن في انتظار وصول الآخرين...»