ج2 - ف78
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الثاني
78- (لقاء سليمان عند مخاضة نهر الأردن)
18 / 02 / 1945
يوحنّا يقول للمعلّم: «إنّني مندهش جدّاً لعدم وجود المعمدان هنا.» إنّهم جميعاً على الضفّة الشرقيّة لنهر الأردن، عند المخاضة الشهيرة، حيث كان يوحنّا المعمدان يُعَمِّد في وقت ما.
«وهو ليس أيضاً على الضفّة الأخرى.» يقول يعقوب.
«لقد أوقَفوه، أَمَلاً بمبلغ جديد مِن المال.» يُعَلِّق بطرس. «إنّهم أنذال، رجال هيرودس هؤلاء!»
«سَنَعبُر إلى الضفّة الأخرى ونَستَعلِم.» يقول يسوع.
وبالفعل يَعبُرون. ويَسأَلون أحد العابِرين في الضفّة الأخرى: «ألم يَعُد المعمدان يُعَمِّد هنا؟»
«لا. إنّه في تخوم السامرة. لقد أُرغِمَ على ذلك! على القدّيس أن يُقيم قريباً مِن السامريّين ليهرب مِن مواطني إسرائيل. وتُدهَشون إن تخلّى الله عنّا؟ شيء واحد فقط يُدهِشني: أن لا يَفعَل بفلسطين كلّها ما فَعَلَه بسادوم وعامورة!...»
«لا يفعل ذلك بسبب الأبرار الموجودين فيها، بسبب أولئك الذين رغم عدم كونهم أبراراً، فإنّهم متعطّشون للبرارة ومتمسّكون بتعاليم الذين يَكرزون بالقداسة.» يُجيب يسوع.
«إذن، فهما اثنان: المعمدان ومَسيّا. الأوّل أعرفه، إذ قد خَدَمتُه هنا، في نهر الأردن، بأن جَلَبتُ له المؤمنين بمركبي، دونما مُقابِل، ذلك أنّه كان يقول بوجوب الاقتناع بالأجر العادل. وكان يبدو لي عدلاً الاقتناع بالربح الذي أُحقّقه مِن الخَدَمات الأخرى، وظُلماً طَلَب الأَجر مُقابِل جَلب نَفْس لتتطهّر. ولقد اعتَبَرني بعض الأصدقاء مجنوناً. إنّما، في النهاية... أنا مُقتَنِع بالقليل الذي لديَّ، وبالتالي أرى أنّني لم أمت بعد مِن الجوع، وأرجو أن يبتسم لي إبراهيم عند موتي.»
ويَسأَله يسوع: «إنّكَ على حقّ أيّها الرجل... مَن تكون؟»
«آه! إنّي أحمل اسماً عظيماً جدّاً، وأضحك مِن ذلك لأنّني أَجهَل كلّ ما سوى المجاذيف. اسمي هو سليمان.»
«إنّك تمتلك الحكمة الكافية لِتُقَدِّر أنّ الذي يساهم في التطهير، عليه ألّا يُلطّخه بأخذ الدراهم. أقول لكَ: ليس فقط إبراهيم، بل إله إبراهيم أيضاً سوف يبتسم لموتكَ كابن مُخلِص مُؤمِن.»
«آه! يا إلهي! أتقول لي ذلك حقّاً؟ مَن تكون أنتَ؟»
«إنّني بارّ.»
«اسمع: لقد قلتُ لكَ إنّ في إسرائيل اثنين، أحدهما المعمدان والآخر هو مَسيّا. هل أنتَ مَسيّا؟»
«أنا هو.»
«آه! يا للرحمة الأزليّة! ولكن... سَمِعتُ يوماً الفرّيسيّين، وقد كانوا يقولون... لِنَدَع ذلك... لا أريد أن أُنجّس فمي. فأنتَ لستَ كما كانوا يقولون، الألسنة المشطورة، أسوأ مِن ألسنة الثعابين!...»
«أنا هو، وأقول لكَ: لستَ بعيداً عن النور. الوداع يا سليمان. السلام لكَ.»
«أين تذهب يا ربّ؟» الرجل مندهش لهذا التجلّي. وقد اتَّخَذَ نبرة مختلفة تماماً. فبينما كان في البدء هُماماً يتكلّم، هو الآن تلميذ يَعبُد.
«أذهب إلى أورشليم، عبر أريحا، إنّه عيد المظالّ.»
«إلى أورشليم؟ ولكن... أنتَ أيضاً؟»
«إنّني ابن الشريعة أيضاً. وأنا لا أَنقُض الشريعة. إنّني أعطيكم النور والقوّة لاتِّباعها بشكل كامل.»
«ولكنّ أورشليم تُكِنّ لكَ البُغض! أريد القول، هم الشخصيّات الكبيرة فيها، فرّيسيّو أورشليم. قلتُ لكَ إنّني سَمِعتُ...»
«دعهم يفعلون. إنّهم يؤدّون واجبهم، ما يظنّونه واجبهم. وأنا أؤدّي واجبي. الحقّ أقول لكَ إنّه طالما أنّ الساعة لم تحن فلن يستطيعوا شيئاً.»
«أيّة ساعة يا رب؟» يَسأَل التلاميذ والعابر.
«ساعة الانتصار على الظُلُمات.»
«هل ستعيش حتّى نهاية العالم؟»
«لا. فهناك ظُلمة أكثر فظاعة مِن النجوم المطفأة ومِن كوكبنا الميت مع كلّ رجاله. ذلك سيكون عندما يُطفئ الرجال النور الذي أكون. على العموم فالجريمة قد دَانَ وقوعها. الوداع يا سليمان.»
«أَتبَعكَ يا معلّم.»
«لا. تعال بعد ثلاثة أيّام إلى "بيل ندراش". السلام لكَ.»
ويسلك يسوع طريقه وسط تلاميذه مشغولي البال.
«بماذا تفكّرون؟ لا تخشوا عليَّ، ولا على أنفسكم. لقد مررنا بالمدن العشر والبيريه. وفي كلّ مكان رأينا حصّادين يعملون في الحقول. في بعض الأمكنة، كانت الأرض ما تزال ممتلئة بالحشف والعكرش، مُجدِبة، قاسية، ومزدحمة بالنباتات الضارّة التي حَمَلَتها رياح الصيف، وبَذَرَتها، حاملة الحبوب مِن الصحارى الـمُقفِرة. وهذه كانت حقول الكسالى والشهوانيّين. بينما، في أمكنة أخرى، كانت الأرض قد حُرِثَت ونُقِّبَت وتَنَقَّت بالنار والأيدي مِن الحجارة والعلّيق والعكرش، والذي كان في البدء ضارّاً، وها هي ذي النباتات التي لا نفع منها قد تَحَوَّلت، بفعل التنقية بالنار أو بالتشذيب، إلى أشياء نافعة: إلى سماد أو أملاح ضروريّة لتجعل الأرض خصبة. كانت الأرض قد بكت تحت تأثير ألم السكّة التي كانت تشقّها وتُنقّبها، وتحت لسعات النار التي كانت تمرّ فوق جراحها. ولكنّها سوف تصبح ضاحكة أكثر في الربيع، وسوف تقول: "لقد عذّبني الإنسان كي يمنحني هذه الغِلال الوَفيرة، وهي بالنسبة لي زينة وجمال". وهذه الحقول كان يملكها أولئك الذين يعرفون ماذا يريدون. وفي أمكنة أخرى أيضاً، كانت الأرض في حالتها المثاليّة المكتملة، وقد خُلِّصَت حتّى مِن الرماد، حتّى بَدَت كسرير زوجيّة حقيقيّ، ليتمّ تَزاوُج الأرض والبذور، وهذا التَّزاوُج الخَصيب الذي يعطي حَصاد سنابل عظيماً جدّاً. وهذه كانت حقول الكُرَماء الذين لا يشعرهم بالرضى سوى كمال العمل.
كذلك هو الأمر بالنسبة للقلوب. فأنا سكة المحراث، وكلمتي هي النار، للتهيئة للنصر الأزلي.
وهناك الكسالى والشهوانيّون الذين لم يبحثوا عنّي بعد، بل لا يرغبون بي، ولا هَمَّ لهم سوى البحث عن التمتّع برذائلهم وميولهم السيّئة. وكلّ ما يبدو لهم زينة وخُضرة وزهوراً، هو ليس سوى علّيق وأشواك تمزّق أرواحهم حتّى الموت، وتُكبّلهم، وتجعل منهم طُعماً لنار جهنّم. فالآن المدن العشر والبيريه هما هكذا... وليسا وحدهما. لا يُطلَب منّي اجتراح المعجزات، ذلك أنّ أحداً لا يريد تشذيب الكلمة ولا حرارة النار، ولكنّ ساعتهم آتية. وفي أمكنة أخرى، هناك مَن يتقبّل هذا التشذيب وهذه الحرارة، ويفكّرون: "إنّ ذلك لمؤلم، ولكنّه يطهّرني ويجعلني خَصباً بالأعمال الصالحة". إنّهم أولئك الذين لا يمتلكون بطولة الفِعل، ولكنّهم يَسمَحون لي بأن أقوم أنا بالفِعل. إنّها الخطوة الأولى على طريقي. وهناك، أخيراً، مَن يساعدني بعمله الفاعل الذي لا يعرف الكَلَل. إنّهم يَعمَلون عملي، لا يسيرون، بل هم يطيرون على طريق الله. هؤلاء هم التلاميذ الأوفياء: أنتم والآخرون المنتشرون في إسرائيل.»
«ولكنّ عددنا قليل... مقابل عددهم الكبير جدّاً. ونحن ضعفاء مُتواضِعون... مقابل مَن هُم ذوو سلطان. فكيف ندافع عنكَ ونحميكَ إذا ما أرادوا إيذاءكَ؟»
«أصدقائي، تذكّروا حلم يعقوب: لقد رأى جمعاً مِن الملائكة غفيراً يَصعَدون ويَنـزلون على سلّم منصوبة بين الحَبر والسماء. جمعاً غفيراً كانوا، مع أنّهم ليسوا سوى جزء يسير مِن الجيوش الملائكيّة... حسناً، فحتّى ولو كانت جيوش السماء جميعها، التي ترتّل هللويا لله في السماء تنـزل حولي لتدافع عنّي، عندما تحين الساعة، فلن تستطيع شيئاً. ينبغي للعدل أن يتحقّق...»
«بل الظُّلم، هو ما تريد قوله! إنّكَ قدّيس، وإذا ما أساؤوا إليكَ، إذا ما أبغضوكَ، فَهُم ظالِـمون.»
«لأجل هذا أقول، بالنسبة للبعض، الجريمة قد تمّت. ذلك أنّ مَن يَضمر فكرة قتل إنسان، قد أَصبَحَ قاتلاً. وإذا كانت الفكرة سرقة، فهو سارق؛ وإذا كانت الزّنى، فهو زانٍ، وإذا كانت الخيانة، فهو خائن. الآب يَعلَم وأنا أَعلَم. ولكنّه يتركني أمضي في طريقي، وأنا أمشي هذه الطريق لأنّني مِن أجل هذا أتيتُ. ولكنّ الحصاد سوف يَنضج، وسيتمّ البذار مرّة أولى وثانية قبل أن يُوهَبَ الخبز والخمر غذاء للعالم.»
«سنقيم وليمة فرح وسلام إذن!»
«سلام؟ نعم. فرح؟ أيضاً. ولكن... يا بطرس! يا أصدقائي! كَم مِن الدموع ستسيل بين الكأس الأولى والكأس الثانية! وسيكون فقط أنّ بعد شرب آخر نقطة مِن الكأس الثالثة، سيحل الفرح بين الأبرار، وسيكون سلام مؤكّد للناس ذوي الإرادة المستقيمة.»
«وستكون أنتَ فيها، أليس كذلك؟»
«أنا؟... ولكن متى غاب ربّ الأسرة عن الاحتفال؟ وأنا ألستُ ربّ أسرة المسيح الكبيرة؟»
سمعان الغيور، الذي لم يتكلّم أبداً، قال وكَمَن يُكلّم نفسه: «"مَن هذا القادم بثياب مصبوغة بالأحمر؟ إنّه بهيّ بثوبه، ويسير بِعَظَمة قوّته". "أنا مَن يتكلّم بالعدل، وأحمي بشكل أن أُخلّص". "لماذا إذن ثيابكَ مصبوغة بالأحمر، ولباسكَ مثل ألبسة هرّاسي المعصرة؟" "كنتُ أَهرُس وحيداً في المعصرة. سنة افتدائي قد حانت".»
«أأدركتَ يا سمعان؟» يقول يسوع.
«لقد أدركتُ، ربّي.»
يتبادلان النَّظَر، ويَنظُر إليهما الآخرون مندهشين، وهم يتساءلون فيما بينهم: «ولكن هل يتحدّث عن الثياب الحمراء التي يرتديها يسوع الآن، أم عن البِرفِيرُ الـمَلَكيّ الذي سيرتديه عندما تحين الساعة؟»
يَستَغرق يسوع في تأمُّله، ويبدو وكأنّه لم يَسمَع شيئاً. أمّا بطرس فيأخذ سمعان جانباً ويَسأَله: «أنتَ الحكيم والـمُتواضِع، فَسِّر كلماتكَ لِجَهلي.»
«نعم يا أخي! إنّ اسمه الفادي. وكؤوس السلام والفرح بين الإنسان والله، الأرض والسماء، هو مَن سيملؤها بخمره، بهرسه ذاته في الألم، حبّاً بنا جميعاً. سوف يكون إذاً حاضراً، رغم أنّ الظَّاهر هو أنّ سُلطان الظُّلمات سيكون قد خَنَقَ النور الذي هو، هو نفسه. آه! علينا أن نحبّه كثيراً، هذا المسيح مسيحنا، ذلك أنّ الكثيرين سوف يرفضون أن يمنحوه حبّهم. فلنعمل على ألّا يتمكّن أحد، عند ساعة التخلّي عنه، مِن التوجّه إلينا واتّهامنا، حسب شكوى داود: "سرب مِن الكلاب (ونحن منهم) يحيط بي".»
«ماذا تقول؟... ولكنّنا... سوف نُدافع عنه نحن، حتّى ولو توجّب علينا أن نموت معه.»
«سوف نُدافع عنه... ولكنّنا بَشَر، يا بطرس. سوف تذوب شجاعتنا قبل أن يَكسروا له عظامه... نعم، سوف يكون تصرّفنا مثل الماء الذي يتجمّد في السماء، فتذيبه الصاعقة، محوّلة إيّاه إلى مطر، وتعود الريح فتجمّده على الأرض. هذا نحن! هذا نحن! شجاعتنا الحاليّة التي تجعل منّا تلاميذ له، وبفعل محبّته وقُربه، تتكثّف لتصبح إقداماً رجوليّاً، وهذه سوف تذوب تحت ضربة صاعقة الشيطان والأبالسة... وماذا سوف يبقى منا؟ ثمّ بعد التجربة الحتميّة، والتي تحطّ مِن قَدرنا، ها هو ذا الإيمان والحبّ يقويّاننا مِن جديد، ونصبح مثل بِلّورات لا تخشى أن يحطّمها أحد. ولكنّ ذلك سوف نعرفه ونصبح أهلاً له، إذا ما أحببناه كثيراً طالما نحن نمتلكه. آنئذ...نعم، أظنّ أنّ حينذاك، بفعل كلمته، لن نكون أعداء وخَوَنَة.»
«أنتَ حكيم يا سمعان. أمّا أنا... فإنّني أُمّي، وأخجَل مِن طرحي عليه أسئلة كثيرة. وهذا يؤلمني، عندما أرى مسبّبات كثيرة تستوجب الدموع... انظر إلى وجهه: يبدو أنّه غارق في دموع خفيّة. انظر إلى عينيه. إنّهما لا تنظران إلى سماء ولا إلى أرض. إنّهما مفتوحتان على عالم نجهله. كم يبدو مُنهَكاً وخائر القوى في مسيرته! يبدو مُسنّاً في فِكره. آه! لا يمكنني رؤيته هكذا! يا معلّم! يا معلّم! ابتسم. لا يمكنني رؤيتكَ حزيناً إلى هذا الحدّ. إنّكَ عزيز على قلبي مثل ابن لي، وإنّني لمانحكَ صدري وِسادة لتنام وتحلم بعوالِم أخرى... آه! سامحني إذا ما قُلتُ لكَ: "ابن"! فهذا لأنّني أحبّكَ يا يسوع.»
«أنا هو الابن... هذا الاسم هو اسمي. ولكنّني لم أعد حزيناً. أترى ذلك؟ إنّني أبتسم لأنّكم لي أصدقاء. ها هي ذي أريحا، حمراء في الغَسَق. فليذهب اثنان منكم للبحث عن مأوى. أّما أنا والآخرون فسنذهب لننتظرهما أمام المَجْمع. هيّا.»
وينتهي كلّ شيء بينما يوحنّا ويوضاس تدّاوس يذهبان للبحث عن بيت مُضيف.