ج7 - ف232
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السابع / القسم الثاني
232- (يهوذا الاسخريوطيّ وأعداء يسوع)
02 / 12 / 1946
لا أرى يسوع، ولا بطرس، ولا يوضاس بن حلفى، ولا توما. لكنّني أرى التسعة الآخرين يسيرون صوب ضاحية عوفل.
الناس الّذين على الطرق ليسوا ذاك الحشد الكبير لعيد الفصح، عيد الخمسين وعيد المظالّ، إنّهم بأغلبيتهم مِن سكّان المدينة. قد لا يكون عيد الأنوار بغاية الأهمّية ولم يكن يتطلّب وجود العبرانيّين في أورشليم. لم يكن هناك سوى مَن صادف وجودهم في المدينة، أو أهل البلدات المجاورة لأورشليم، الّذين كانوا قد أتوا إلى المدينة للصعود إلى الهيكل. والآخرون، سواء بسبب الفصل أو بسبب طابع العيد ذاته، كانوا قد بقوا في مدنهم ومنازلهم.
مع ذلك فإنّ تلاميذ كُثُر، ممّن تركوا منازلهم وأهلهم، مصالحهم وأعمالهم، بدافع محبّة المعلّم، هم في أورشليم وقد انضمّوا إلى الرُّسُل. لكنّني لا أرى إسحاق، ولا هابيل، ولا فيلبّس، ولا نيقولاوس كذلك، الّذي ذهب كي يرافق صابئة إلى عِرا. إنّهم يتحدّثون إلى بعضهم بألفة، راوين ومصغين إلى كلّ الأحداث الّتي وقعت خلال الوقت الّذي كانوا فيه منفصلين. إنّما يمكن القول بأنّهم قد رأوا المعلّم، ربّما في الهيكل، لأنّهم لا يستغربون مِن غيابه. إنّهم يمضون على مهل، ومِن حين لآخر يتوقّفون كما للانتظار، ناظرين إلى الأمام وإلى الوراء، ناظرين إلى الدروب النازلة مِن جبل صهيون إلى هذه الطريق، الّتي تؤدّي إلى الأبواب الجنوبيّة للمدينة.
الاسخريوطيّ، هو تقريباً خلف الجميع، ويلعب دور الخطيب في مجموعة صغيرة مِن التلاميذ الممتلئين بالإرادة الصالحة، أكثر منها بالمعرفة، تتمّ مناداته بالاسم لمرّتين مِن قِبَل بعض اليهود الّذين يتبعون المجموعة، إنّما مِن دون الاختلاط بها، لا أعرف نواياهم ولا ما هم مكلّفون به. والاسخريوطيّ، في المرّتين، يرفع كتفيه حتّى مِن دون أن يلتفت. إنّما في المرّة الثالثة هو مضطرّ لفعل ذلك، لأنّ يهوديّاً يترك مجموعته، ويشقّ بعنجهيّة مجموعة التلاميذ، ويمسك يهوذا مِن كُمّه ويُرغمه على التوقّف قائلاً له: «تعال هنا جانباً للحظة، لأنّه علينا أن نكلّمكَ.»
«لا وقت لديَّ ولا أستطيع.» يجيب الاسخريوطيّ بشكل قاطع.
«اذهب، اذهب. سوف ننتظركَ. فطالما لا نرى توما، لا يمكننا الخروج مِن المدينة.» يقول له أندراوس الأقرب إليه.
«حسناً، امضوا قدماً وسوف آتي قريباً.» يقول يهوذا الّذي لا يُظهِر ترحيباً لفعل ما عليه القيام به.
يقول لِمَن يضايقه، وقد لبث وحده: «فإذن؟ ما الّذي تريده؟ ما الّذي تريدونه؟ ألم تنتهوا بعد مِن مضايقتي؟»
«أوه! أوه! كم تتبدّل! لكن عندما كنّا نستدعيكَ كي نعطيكَ مالاً لم تكن تشعر أنّنا نزعجكَ! أنتَ متكبّر يا رجل! إنّما هناك مَن يستطيع جعلكَ متواضعاً… تذكّر ذلك.»
«إنّني إنسان حرّ و...»
«لا. لستَ حرّاً. فالحرّ هو مَن لا نستطيع جعله عبداً بأيّة طريقة. وأنتَ تعرف اسمه. أنتَ عبد لكلّ شيء وللكلّ، ولكبريائكَ أوّلاً. باختصار. حاذر، إن لم تأتِ قبل الساعة السادسة إلى منزل قيافا، فالويل لكَ!» "وَيل" متوعِّد بحقّ.
«حسناً! سوف آتي. إنّما تفعلون حسناً بتركي وشأني إذا أردتم...»
«ماذا؟ ماذا، أيا بائع الوعود، مَن لا يصلح لشيء...» يهوذا يتحرّر، دافعاً بعنف مَن يمسك به، ويفرّ قائلاً: «سوف أتكلّم عندما سأكون هناك.»
يعاود الانضمام للآخرين مِن مجموعته. إنّه مستغرق بالتفكير ومرتبك بعض الشيء. أندراوس يَسأَله باهتمام: «أخبار سيّئة؟ لا، هه؟ ربّما أُمّكَ...»
يهوذا، الّذي كان قد نظر إليه نظرة سيّئة في البداية، مستعدّاً لإجابته إجابة لاذعة، يغدو أكثر إنسانيّة ويقول: «أجل. أخبار ليست جيّدة… تعلم… الفصل… الآن… لقد تبادر إلى ذهني للتوّ أمراً للمعلّم. لو لم يوقفني ذاك الرجل لكنتُ نسيتُ ذلك أيضاً… لقد ذكر لي اسم المكان حيث يقطن، وعلى إثر ذلك تذكّرتُ المهمّة الّتي أنيطت بي. وهكذا، فالآن حين أذهب لأجل ذلك، فسأقصد أيضاً ذاك الرجل وسأعرف أكثر...»
أندراوس، البسيط والمستقيم، هو بعيد كلّ البعد عن الشكّ بأنّ رفيقه يمكن أن يكذب. ويقول باندفاع: «ولكن اذهب، اذهب في الحال. سأخبر أنا الآخرين. اذهب، اذهب! أَنزِل عن كاهلكَ هذا الهمّ.»
«لا، لا. يجب أن أنتظر توما، لأجل المال. برهة أكثر أو أقلّ...»
الآخرون، الّذين توقّفوا لانتظاره، ينظرون إليهما فيما يأتيان.
«إنّ يهوذا قد تلقّى أخباراً محزنة.» يقول أندراوس بمودّة.
«نعم… بشكل مختصر. لكنّني سأعلم أكثر عن الأمر حين أذهب لأفعل ما عليَّ فِعله...»
«ما الأمر؟» يَسأَل برتلماوس.
«ها هو توما يأتي مسرعاً.» يقول يوحنّا في ذات اللحظة. ويستغلّ يهوذا ذلك كي لا يجيب.
«أجعلتُكم تنتظرون؟ كثيراً؟ الأمر هو أنّني كنتُ أريد أن أقوم بعمل جيّد ...وقد نجحت. انظروا إلى كيس المال الممتلئ. هذا جيّد للفقراء. سيكون المعلّم مسروراً.»
«كان يلزم ذلك. لم يكن لدينا أدنى قطعة نقد للمُستَجدِين.» يقول يعقوب بن حلفى.
«أعطني إيّاه.» يقول الاسخريوطيّ مادّاً يده نحو كيس المال الثقيل الّذي يؤرجحه توما بين يديه.
«إنّما بالحقيقة… لقد كلّفني يسوع بالبيع، وأنا عليَّ أن أضع العائد بين يديه.»
«سوف تخبره كم تلقّيت. الآن أعطني، لأنّني على عجلة للذهاب.»
«لا، لن أعطيكَ إيّاه! يسوع قال لي، فيما كنّا نعبر ميدان التدريب المسقوف "ومِن ثمّ ستعطيني المبلغ". وأنا أفعل ذلك.»
«ممّاذا تخاف؟ أن أجعله أخفّ أم أن أحرمكَ مِن فضل البيع؟ في أريحا، أنا أيضاً قد بعتُ، وقد أبليتُ بلاءً حسناً. منذ أعوام وأنا مَن هو المكلّف بالمال، إنّه حقّي.»
«آه! اسمع! إذا أردتَ التسبّب بشجار لأجل هذا، فَخُذ. لقد أنجزتُ مهمّتي، وغير ذلك لا يهمّني. خُذ، خُذ. هناك أمور كثيرة أجمل بكثير مِن هذا!...» وتوما يعطي كيس المال ليهوذا.
«حقّاً، إذا ما كان المعلّم قد قال...» يقول فيلبّس.
«إنّما كفى مماحكة! بدلاً مِن ذلك لنمضِ، الآن وقد اجتمعنا كلّنا. فالمعلّم قال بأن نكون في بيت عنيا قبل الساعة السادسة. إنّنا بالكاد لدينا الوقت الكافي.» يقول يعقوب بن زَبْدي.
«إذن أنا أغادركم. أنتم تقدّموا. وأنا سأذهب وأعود.»
«لكن لا! لقد قال بوضوح شديد: "كونوا كلّكم مجتمعين".» يقول متّى.
«كلّكم مجتمعين، أنتم. إنّما أنا يجب أن أذهب. بالأخصّ الآن حيث لديَّ أخبار مِن أُمّي!...»
«يمكن لذلك أن يُفَسَّر على هذا النحو أيضاً. إن كان هو قد تلقّى أوامر نحن نجهلها...» يقول يوحنّا بهدف التوفيق.
الآخرون، ما عدا أندراوس وتوما، يبدون أقلّ ميلاً لتركه يذهب. لكنّهم ينتهون بالقول: «حسناً، اذهب. إنّما أسرع وكن محترساً...»
ويفرّ يهوذا عبر زقاق يؤدّي إلى تلّ صهيون، فيما الآخرون يعاودون المسير.
«لكنّ ذلك ليس صائباً. إنّنا لم نُحسِن التصرف. المعلّم قد قال: "ابقوا دوماً معاً وكونوا صالحين". لقد عصينا المعلّم. وذلك يؤرّقني.» يقول سمعان الغيور بعد مضيّ بعض الوقت.
«قد كنتُ أفكّر بذلك أنا أيضاً.» يجيبه متّى.
إنّ الرُّسُل جميعاً هم في مجموعة مذ اضطرّوا تقرير ما عليهم فِعله. لقد لاحظتُ أنّ التلاميذ يتباعدون دوماً بدافع الاحترام حينما يجتمع الرُّسُل كي يتناقشوا.
برتلماوس يقول: «لنفعل هكذا. لنصرف هؤلاء الّذين يتبعوننا، منذ الآن، دون الانتظار إلى أن نصبح على طريق بيت عنيا، ومِن ثمّ ننقسم إلى مجموعتين، ونبقى لانتظار يهوذا، قسم عند الدرب الواطئة، والآخرون عند الدرب المرتفعة، الأكثر رشاقة عند الدرب الواطئة، الآخرون عند الدرب العالية. حتّى إذا ما تقدّمنا المعلّم، يرانا نصل معاً، لأنّ مجموعةً سوف تنتظر الأخرى خارج بيت عنيا.»
تقرّر الأمر. يصرفون التلاميذ. ومِن ثمّ يمضون معاً وصولاً إلى الموضع الّذي يمكن الانعطاف منه صوب جَثْسَيْماني وسلوك الدرب المرتفعة على جبل الزيتون، ومِن جهة أخرى، بمحاذاة القدرون، سلوك الطريق الواطئة إلى بيت عنيا وأريحا…
يهوذا في تلك الأثناء يُسرِع كما لو أنّه مُلاحَق. يتابع لبعض الوقت صعود الطريق الضيّقة الّتي تقود إلى قمّة جبل صهيون مِن جهة الغرب، ثمّ ينعطف إلى طريق صغيرة أضيق بعد، هي تقريباً زقاق، الّتي بدلاً مِن أن تصعد، تنزل باتّجاه الجنوب. إنّه مرتاب. فهو يركض، ومِن حين لآخر يلتفت إلى الوراء كما لو أنّه خائف. يبدو جليّاً أنّه يخاف مِن أن يكون متبوعاً. إنّ الزقاق، الّذي يتعرّج تبعاً لانعطافات المنازل المشادة دونما معايير عمرانيّة، يُفضِي إلى ريف رَحْب. هناك تلّة ما وراء الوادي، خلف الأسوار. تلّة منخفضة، مغطّاة بالزيتون. إلى ما وراء الأرض الصخريّة القاحلة لوادي هنّوم. يهوذا يركض الآن مسرعاً، عابراً السياجات الّتي تحدّ بساتين المنازل الأخيرة المشادة عند الأسوار، المنازل الفقيرة لفقراء أورشليم، وكي يخرج مِن المدينة لا يسلك باب صهيون القريب، بل يركض صعوداً صوب باب آخر إلى الغرب قليلاً. إنّه خارج المدينة. يخبّ كما مهر كي يسرع. يمرّ مثل الريح بجانب قناة، ثمّ بجانب المغاور الكئيبة لبرص هنّوم، أَصَمّ عن نواحهم. مِن الواضح أنّه يبحث عن مواضع يتجنّبها الآخرون. إنّه يمضي مباشرة صوب التلّة المغطّاة بالزيتون، المنعزلة في جنوب المدينة. إنّه يتنفّس الصعداء عندما يغدو على منحدراتها ويبطئ سيره. إنّه يعيد تسوية غطاء رأسه، حزامه، الثوب الّذي رفعه. ينظر نحو الشرق وهو يحمي عينيه مِن الشمس الّتي تعمي بصره، إلى حيث الدرب الواطئة الّتي تؤدّي إلى بيت عنيا وأريحا. لكنّه لا يرى ما يُقلقه. على العكس فإنّ زاوية مِن التلّة تفصل بينه وبين ذاك الدرب. يبتسم. يشرع بصعود التلّة على مهل، كي يلتقط أنفاسه. إنّه يفكّر في تلك الأثناء. وكلّما فَكّر أكثر كلّما غدا أكثر تجهّماً. إنّه حتماً يناجي نفسه، إنّما بصمت. إنّه يتوقّف في لحظة ما. يُخرِج كيس المال مِن صدره، ينظر إليه، ثمّ يعيده إلى صدره، إنّما بعدما قسم محتواه، واضعاً جزءاً منه في كيس ماله، ربّما كي يَظهَر ما أخفاه في صدره أقلّ حجماً.
هناك منزل وسط أشجار الزيتون. منزل جميل. المنزل الأجمل في التلّة، لأنّ المنازل الصغيرة الأخرى المتناثرة على المنحدرات، الّتي لا أدري إن كانت مستقلّة عن المنزل الجميل أم ملحقة به، هي متواضعة جدّاً. يصل إليه عبر نوع مِن ممرّ مفروش بالرمل وسط أشجار الزيتون المزروعة بشكل منتظم. يقرع على الباب. يُعرّف عن نفسه. يدخل. يمضي واثقاً ما وراء الفناء الداخليّ إلى باحة مربّعة على جوانبها أبواب كثيرة. يفتح أحدها. يدخل إلى غرفة واسعة فيها العديد مِن الأشخاص، أتعرّف منها إلى وجه قيافا الخبيث والحاقد، وجه حِلقِيّا الفائق الفرّيسيّة، الوجه الماكر لعضو السنهدرين فيلكس، مع وجه الأفعى سمعان. إلى أبعد بعد هناك دوراس بن دوراس، الأكثر فأكثر شبهاً بملامح أبيه، ومعه كورنيليوس وتولماي. وهناك الكَتَبَة الآخرون: صادوق وحنانيا، العجوز، المتغضّن، إنّما الفتيّ بالشرّ، وقلاشبونا الشيخ، ونثنائيل بن فادا، ومِن ثمّ دورو، سمعان، يوسف، يعقوب، الّذين لا أعرفهم. فقيافا يقول الأسماء، وأنا أكتبها. وهو ينهي: «..المجتمعين هنا لمحاكمتكَ.»
ليهوذا وجه فضوليّ: خائف، ساخط، عنيف معاً. لكنّه يصمت. إنّه لا يُظهِر عنجهيّته. الآخرون يحيطون به ساخرين، وكلّ واحد يقول ما لديه.
«حسناً! ماذا فعلتَ بمالنا؟ ماذا تقول لنا أيّها الرجل الحكيم، الرجل الّذي يفعل كلّ شيء، وبسرعة وجودة؟ أين هي ثمرة عملكَ؟ إنّكَ كاذب، ثرثار لا تصلح لشيء. أين هي المرأة؟ حتّى هذه لم تعد تحظى بها؟ وهكذا، بدلاً مِن أن تخدمنا، تخدمه هو، إيه؟ أهكذا تساعدنا؟» هجوم صاعق، صارخ ومُهدِّد، والّذي يفوتني منه كلام كثير.
يهوذا يدعهم يصرخون على هواهم. وعندما يتعبون ويلهثون يتكلّم هو: «لقد فعلتُ ما بوسعي. ما ذنبي إذا ما كان هو إنساناً ليس بوسع أحد أن يجعله يخطئ؟ لقد قلتُم بأنّكم كنتم تريدون إخضاع فضيلته للتجربة. وأنا قد أعطيتُكم البرهان على أنّه لا يخطئ. فإذاً لقد خدمتُ مَقصِدَكم. أربّما استطعتم، أنتم كلّكم، في وضعه موضع المتّهم؟ لا. فَمِن كلّ مساعيكم لإظهاره خاطئاً، لاستدراجه إلى فخ، قد خرج أعظم مِن ذي قبل. وإذن، إن لم تنجحوا أنتم بحقدكم، فهل أنجح أنا الّذي لا أكرهه، أنا الخائب فقط مِن أنّني تبعتُ بريئاً مسكيناً، القدّيس أكثر ممّا يجب ليكون مَلِكاً، ومَلِكاً يَسحَق أعداءه؟ أيّ أذىً قد سبّبه لي، هو، كي أؤذيه؟ أقول هذا لأنني أعتقد أنّكم تكرهونه إلى درجة الرغبة في موته. لم أعد أستطيع التصديق بعد الآن بأنّكم تريدون فقط إقناع الشعب بأنّه مجنون، وإقناعنا، إقناعي، أنّ ذلك لخيرنا، وله نفسه بدافع الشفقة عليه. إنّكم بغاية السخاء معي، وبغاية الحنق لرؤيته مترفّعاً عن الشرّ، كي أصدّق ذلك. لقد سألتموني عمّا فعلتُه بمالكم. لقد استخدمتُه لما تعلمون. فكي أقنع المرأة كان عليَّ أن أُنفِق بسخاء… ولم أنجح في القيام بذلك مع الأولى و...»
«لكن اخرس! لا شيء صحيح. لقد كانت مفتونة به، وهي حتماً قد أتت على الفور. وفوق ذلك أنتَ ضمنتَها، لأنّكَ كنتَ تقول بأنّها قد أفضت لكَ بذلك. أنتَ سارق. مَن يدري لأيّ غرض استخدمتَ مالنا!»
«كي أُهلِك نفسي، يا قتلة النَّفْس! كي تجعلوني شخصاً مخادعاً، شخصاً فاقداً للسلام، شخصاً يشعر بأنّه مشتبه به مِن قِبَله ومِن قِبَل رفاقه. ذلك أنّه، اعلموا ذلك، قد كشف أمري… آه! لو أنّه طردني! لكنّه لا يطردني. لا. لا يطردني. إنّه يدافع عنّي، يحميني، يحبّني!... مالكم! لماذا قَبِلتُ أوّل قطعة منه؟»
«لأنّكَ بائس. وفي غضون ذلك تمتّعتَ بمالنا، والآن تبكي لكونكَ صرفتَه. كاذب! وفي تلك الأثناء لم يتحقّق شيء، والحشود حوله تزداد عدداً وتغدو أكثر فأكثر انبهاراً. إنّ هلاكنا يقترب، وبخطأ منكَ!»
«خطأي؟ ولماذا إذن لم تجرؤوا على القبض عليه واتّهامه بأنّه يريد أن ينصّب نفسه مَلِكاً. لقد قلتُم لي أيضاً أنّكم أردتم أن تجرّبوه، بالرغم مِن أنّني قلتُ لكم أنّ ذلك بلا جدوى، حيث أنّه ليس متعطّشاً للسُّلطة. لماذا لم تقودوه إلى الخطيئة ضدّ رسالته، إن كنتم بغاية البراعة؟»
«لأنّه أفلت مِن أيدينا. إنّه شيطان يختفي مثل دخان حينما يشاء. إنّه مثل حيّة: يفتن، لا تعود تستطيع فِعل شيء إذا ما نظر إليكَ.»
«عندما ينظر إلى أعدائه: أنتم. لأنّني أرى أنّه إذا ما نظر إلى مَن لا يكرهونه بكلّ ذواتهم، كما تفعلون أنتم، حينئذ نظره يُـحَرِّك، يَدفَع للعمل. آه! نَظَره! لماذا ينظر إليَّ هكذا ويجعلني صالحاً، أنا الّذي جعلتُ مِن نفسي وحشاً لنفسي، ولكم أنتم الّذين تجعلونني وحشاً عشرة أضعاف؟!»
«كَم مِن كلام! لقد أكّدتَ لنا أنّكَ تساعدنا لخير إسرائيل. إنّما ألا تفهم، أيا أيّها البائس، أنّ هذا الرجل هو هلاكنا؟»
«هلاكنا؟ هلاك مَن؟»
«إنّما هلاك الشعب كلّه! إنّ الرومان...»
«لا. إنّه هلاككم فقط. إنّكم تخشون على أنفسكم. إنّكم تعلمون أنّ روما لن تعاقبنا بسببه. أنتم تعلمون هذا، كما أعلمه أنا، كما يعلمه الشعب. لكنّكم ترتعدون لأنّكم تعلمون، تخشون أن يطردكم خارج الهيكل، خارج مملكة إسرائيل. وحسناً يفعل. يفعل حسناً بتخليص بيدره منكم، أيّها الضباع النجسة، القذارات، الثعابين.» إنّه هائج.
يمسكونه، يهزّونه، وقد غدوا بدورهم هائجين، يكادون يطرحونه أرضاً… قيافا يصيح في وجهه: «حسناً. هكذا هو الأمر. إنّما إن كان الأمر هكذا، فلدينا الحقّ بالدفاع عمّا هو لنا. وبما أنّ الوسائل الخفيفة لم تعد تكفي لإقناعه بالهرب، بالانسحاب مِن الساحة، فها إنّنا سنتصرّف الآن بأنفسنا، مُنَحّين إياكَ جانباً، أيّها الخادم الجبان، بائع الكلام. ومِن بعده سوف نتدبّر أمركَ أيضاً، لا تشكّ بذلك، و...»
حِلقِيّا يُسكِت قيافا، وبهدوئه الجليديّ الّذي لأفعى سامّة يقول: «لا. ليس هكذا. إنّكَ تبالغ يا قيافا. إنّ يهوذا قد فعل ما باستطاعته. ينبغي ألّا تهدّده. أليست لديه، في قرارة نفسه، ذات المصالح الّتي لنا؟»
«إنّما أأنتَ أحمق أيا حِلقِيّا؟ أنا، مصالح هذا؟ إنّما أنا أريده أن يُسحَق! ويهوذا يريده أن ينتصر كي ينتصر معه. وأنتَ تقول...» يصيح سمعان.
«هدوءاً، هدوءاً! تقولون دوماً أنّني صارم. إنّما ها إنّني الوحيد الطيّب اليوم. ينبغي أن نفهم يهوذا ونتعاطف معه. هو يساعدنا بقدر ما يستطيع. إنّه صديق جيّد لنا، لكنّه، بالطبع، صديق للمعلّم كذلك. إنّ قلبه في ضيق… فهو يودّ تخليص المعلّم، نفسه وإسرائيل… ما السبيل للتوفيق بين أمور بهذا التعارض؟ فلندعه يتكلّم.»
الصخب يهدأ. يمكن ليهوذا أن يتكلّم أخيراً. ويقول: «حِلقِيّا على صواب. أنا… ما الّذي تريدونه منّي؟ لا أعلم ذلك بعد بالتحديد. لقد فعلتُ ما بوسعي. لا يمكنني فِعل المزيد. هو أعظم منّي بكثير. إنّه يقرأ ما في قلبي… ولا يعاملني أبداً كما أستحقّ. أنا خاطئ، وهو يعلم ذلك ويغفر لي. لو كنتُ أقلّ جُبناً فعليَّ… عليَّ أن أقتل نفسي، كيما أضع نفسي في حالة استحالة أن أؤذيه.» يهوذا يجلس، مُنهَكاً. وجهه بين يديه، العينان جاحظتان ومحدّقتان في الفراغ، يعاني بشكل جليّ بفعل الصراع بين غرائزه المتعارضة…
«كلام فارغ! ما الّذي تريد أن يَعلَمَه؟ إنّكَ تتصرّف هكذا لأنّكَ ندمتَ على أنّكَ مضيتَ قُدُماً!» يصيح ذاك المدعوّ كورنيليوس.
«وإن يكن الأمر هكذا؟ آه! لو كان هكذا! لو أنّني ندمتُ حقّاً وأصبحتُ قادراً على الثبات في هذا الشعور...»
«ولكن أترونه؟ أتسمعونه؟ أموالنا المسكينة!» يَنعَق حنانيا.
«إنّنا نتعامل مع شخص لا يعرف ماذا يريد. إنّ مَن اخترناه هو أسوأ مِن مخبول!» يزايد فيلكس.
«مخبول؟ عليكَ أن تقول دمية! الجليليّ يشدّه بخيط، فيذهب إلى الجليليّ. نجذبه نحن فيأتي إلينا.» يزعق صادوق.
«حسناً، إن كنتم أكثر مهارة منّي بكثير، فتصرّفوا بأنفسكم. فمنذ اليوم ما عاد الأمر يعنيني. لا تنتظروا بعد إفادة ولا كلمة. فما عدتُ قادراً بعد على إعطائكم إيّاهما، لأنّه أصبح يأخذ حذره ويراقبني...»
«إنّما إن قلتَ أنّه يصفح عنكَ؟»
«نعم. إنّه يصفح عنّي، إنّما بالضبط لأنّه يعرف كلّ شيء. يعرف كلّ شيء! يعرف كلّ شيء! آه!» يهوذا يضع وجهه بين يديه.
«ارحل إذاً، يا امرأة بملابس رجل، أيّها السُّقط، أيّها المسخ! ارحل! سوف نتصرّف بأنفسنا. وحاذر، حاذر أن تكلّمه عن الأمر، وإلّا سنجعلكَ تدفع الثمن.»
«أنا راحل! راحل! لو أنّني لم آتِ قطّ! إنّما تذكّروا ما قلتُه لكم. لقد التقى أباكَ يا سمعان، وصهركَ يا حِلقِيّا. لا أظنُّ أنّ دانيال قد تكلّم. لقد كنتُ حاضراً ولم أرَهما أبداً يتكلّمان على انفراد. إنّما أبوكَ! لم يتكلّم، وفقاً لما يقوله زملائي. وهو لم يكشف حتّى عن اسمكَ. لقد اكتفى بالقول أنّ ابنه قد طرده لأنّه كان يحبّ المعلّم ولأنّه لم يكن موافقاً على سلوككَ. لكنّه قال بأنّنا نلتقي، وأنّني آتي إلى منزلكَ… وبإمكانه أيضاً أن يُفصِح عن الباقي. تيكوا ليست في آخر العالم… فلا تقولوا بعد ذلك بأنّني أنا الّذي تكلّمتُ، في حين أصبح هناك كُثُر يعرفون مشاريعكم.»
«أبي لن يتكلّم بعد أبداً. لقد مات.» يقول سمعان على مهل.
«مات؟ هل قتلتَه؟ يا للفظاعة! لماذا أفصحتُ لكَ عن مكانه!...»
«أنا لم أقتل أحداً. لم أبارح أورشليم. هناك طرق عديدة للموت. أيدهشكَ أنّ عجوزاً، عجوزاً يتجوّل مطالباً بالمال، قد قُتِل؟ على كلّ حال… إنّه خطأه. فلو لبث ساكناً، لو لم تكن له عينان وأذنان ولسان، كي يرى ويسمع ويلوم، لكان لا يزال يُكرَّم ويُخدَم في منزل ابنه...» يقول سمعان ببطء يغيظ.
«بإيجاز… أدفعتَ لقتله؟ أيا قاتل أبيكَ!»
«أنتَ مجنون. إنّ العجوز قد ضُرِب، ووقع، ارتطم رأسه، ومات. إنّه حادث، حادث بسيط. لقد كان مِن سوء حظّه أن يطلب الأجرة من لصّ...»
«أنا أعرفكَ يا سمعان. ولا أستطيع التصديق… إنّكَ قاتل…» يهوذا مصعوق.
الآخر يضحك في وجهه قائلاً: «وأنتَ تهذي. إنّكَ ترى جريمة حيث لا يوجد سوى مُصاب. لقد علمتُ بالأمر قبل البارحة فقط، واتّخذتُ إجراءات، كي أنتقم وأُكرّمه. إنّما إن استطعتُ تكريم الجثمان، فلم أستطع القبض على القاتل. إنّه أحد اللصوص بالتأكيد، النازل مِن أَدُمِّيم ليبيع ما سرقه في الأسواق… مَن يستطيع الإمساك به الآن؟»
«لا أصدّق… لا أصدّق… أنا ذاهب! أنا ذاهب! دعوني أرحل! إنّكم… أسوأ مِن أبناء آوى… أنا ذاهب! أنا ذاهب!» ويلتقط معطفه الّذي كان قد سقط ويشرع بالخروج.
لكن حنانيا يمسك به بيده الكاسرة: «والمرأة؟ أين هي المرأة؟ ما الّذي قالته؟ ما الّذي فعلته؟ أتعلم ذلك؟»
«لا أعلم شيئاً… دعني أرحل...»
«إنّكَ تكذب! إنّكَ كاذب!» يصرخ حنانيا.
«لا أعلم. أُقسِم على ذلك. لقد جاءت. هذا أكيد. لكن لم يرها أحد. لا أنا الّذي اضطررتُ لأن أمضي فوراً مع الرابّي. ولا رفاقي. لقد استجوبتُهم بحذاقة… لقد رأيتُ المجوهرات المحطّمة الّتي جلبتها إليز إلى المطبخ… ولا أعلم شيئاً آخر. أُقسِم بالمذبح والخيمة! [حيث يُحفَظ تابوت العهد]»
«ومَن يمكنه أن يصدّقكَ؟ إنّكَ نَذْل. فكما تخون معلّمكَ، يمكنكَ أن تخوننا نحن كذلك. إنّما حاذر على نفسكَ!»
«أنا لا أخون… أُقسِم بهيكل الله!»
«إنّكَ حانث باليمين. وجهكَ يقول ذلك. فهو مَن تخدم، لا نحن...»
«لا. أُقسِم على ذلك باسم الله.»
«قُلهُ، إن تجرؤ، لتؤكّد على صحّة قَسَمكَ!»
«أُقسِم على ذلك بيهوه!» وتغدو سحنته ترابية فيما ينطق هكذا اسم الله. يرتجف، يتلعثم، لا يعود حتّى يُحسِن قوله كما يُنطَق في العادة. يبدو كأنّه يقول يـ، هـ، و، مطوّلة جدّاً، أحسبها منتهية بهنّة. أعيد تركيبها هكذا: Jeocvèh، لقد كان نطقه بطريقة غريبة بالمجمل.
يسود صمت، أحسبه مخيفاً، في الغرفة. إنّهم حتّى قد ابتعدوا عن يهوذا… إنّما بعد ذلك دوراس وآخر يقولان: «كرّر ذات القَسَم لتؤكّد بأنّكَ لن تخدم سوانا...»
«آه، لا! أيّها الملاعين! هذا لا! أُقسِم لكم بأنّني لم أخنكم وبأنّني لن أشي بكم للمعلّم. وهكذا أساساً أرتكب خطيئة. إنّما لا أربط مستقبلي بكم. أنتم الّذين، باسم قَسَمي، يمكنكم في الغد أن تفرضوا عليَّ… أيّ شيء، حتّى جريمة. لا! بَلِّغوا عنّي السنهدرين كمُدَنِّس، بَلِّغوا عنّي الرومان كقاتل. لن أدافع عن نفسي. سوف أُعدَم… وسيكون ذلك أمراً حسناً بالنسبة لي. إنّما أنا لن أُقسِم بعد… لن أُقسِم بعد...» ويحرّر نفسه بجهود عنيفة ممّن يمسك به، ويهرب صارخاً: «إنّما اعلموا أنّ روما تراقبكم، وأنّ روما تحبّ المعلّم...» الخروج المدوّي الّذي يجعل المنزل يهدر، يشير إلى أنّ يهوذا قد خرج مِن وكر الذئاب ذاك.
ينظرون إلى بعضهم البعض… الغضب، وربّما الخوف، يجعلانهم شاحبين… ولأنهم غير قادرين على التنفيس عن غضبهم وخوفهم على أحد، فإنهم يتشاجرون فيما بينهم. كلّ واحد منهم يسعى إلى الإلقاء على الآخر مسؤوليّة الخطوات المتّخذة والعواقب الّتي قد تترتّب عليها. البعض يعيبون على أمر، وآخرون على أمر آخر. البعض فيما يتعلّق بالماضي. البعض بالنسبة للمستقبل. البعض يصرخون: «أنتَ مَن أراد إغواء يهوذا»؛ وآخرون: «لقد أخطأتم بإساءة معاملته. لقد فضحتم أنفسكم!»؛ والبعض يقترح: «لنهرع خلفه، حاملين مالاً، مع الاعتذارات...»
«آه! هذا لا!» يزعق حِلقِيّا الّذي يتلقّى أكثر اللوم. «دعوا الأمر لي، وسوف يتوجّب عليكم أن تقولوا لي أنّني حكيم. إنّ يهوذا سوف يغدو وديعاً حين لا يعود لديه مال. آه! وديعاً مثل حَمَل!» ويضحك مثل أفعى. «سوف يصمد اليوم، غداً، ربّما لشهر… إنّما بعد ذلك… إنّه بغاية الفساد كي يستطيع العيش في الفقر الّذي يمنحه إيّاه الرابّي… وسوف يأتي إلينا… ها! ها! دعوا الأمر لي! دعوا الأمر لي! أنا أعلم...»
«نعم. إنّما في غضون ذلك… أسمعتَ؟ إنّ الرومان يتجسّسون علينا! الرومان يحبّونه! وهذا صحيح. فهذا الصباح بالذات والبارحة، وقبل البارحة، كان هناك مَن ينتظره في باحة الوثنييّن. نسوة قلعة أنطونيا هنّ هناك دائماً… إنّهنّ يأتين حتّى مِن القيصريّة كي يستمعن إليه...»
«نزوات إناث! لا أهتمّ بذلك. إنّ الرجل وسيم. ويُحسِن الكلام. إنّهنّ مهووسات بالغوغائيّين الثرثارين والفلاسفة. بالنسبة لهنّ الجليليّ هو واحد مِن هؤلاء، لا أكثر. ويفيد بتسليتهنّ في أوقات فراغهنّ. يلزم الصبر للنجاح! الصبر والدهاء. وكذلك الشجاعة. لكنّكم لا تملكونها. وتريدون أن تتصرّفوا مِن دون أن تظهروا. أنا قد قلتُ لكم ما أفعله. لكنّكم لا تريدون...»
«أنا أخاف الشعب. إنّه يحبّه كثيراً. محبّة مِن هنا. محبّة مِن هناك… مَن يستطيع مسّه؟ إذا ما طردناه، فسوف نُطرَد نحن… يجب...» يقول قيافا.
«يجب الكفّ عن تفويت الفرصة. كم مِن فرص قد أضعنا! عند أوّل فرصة تسنح ينبغي الضغط على المتردّدين منّا، ثمّ أيضاً التحرّك مع الرومان.»
«قول متسرّع هو هذا! لكن متى، أين سنحت لنا الفرصة لفعل ذلك؟ هو لا يخطئ، لا يتطلّع للسُّلطة، لا...»
«إن كانت غير موجودة، نختلقها… والآن هيّا بنا. في غضون ذلك سنراقبه غداً. إنّ الهيكل لنا. خارجاً روما هي الّتي تسيطر. في الخارج الشعب يدافع عنه. إنّما داخل الهيكل...»