ج8 - ف31

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثامن

 

31- (في لِبونة "مَثَل الـمُساء نصحهم")

 

28 / 02 / 1947

 

إنّهم على وشك دخول لِبونة، المدينة تبدو لي غير مهمّة كثيراً ولا جميلة، إنّما في المقابل هي مرتادة جدّاً، حيث إنّ القوافل المتّجهة إلى أورشليم للفصح أضحت في حركة آتيةً مِن الجليل ومِن إيتوريا، جولانيطس [الجولان]، طراخونيطس [اللَّجاة]، حورانيطس [حوران] والمدن العشر. يمكن القول أنّ لِبونة هي على طريق قوافل، أو بالأحرى هي عقدة طرق قوافل تأتي مِن هذه المناطق، مِن البحر المتوسّط إلى جبال شرق فلسطين، وكذلك إلى شمالها، لتلتقي في هذا الموضع على الطريق الرئيسيّة المؤدّية إلى أورشليم. ربّما تفضيل الناس هذا يأتي مِن واقع أنّ هذه الطريق محروسة جيّداً مِن قِبَل الرومان، وبالتالي فإنّ الناس يشعرون بأمان أكبر مِن خطر مواجهات غير محمودة مع اللصوص. هذا ما أظنّه. لكن ربّما هذا التفضيل يتأتّى مِن أسباب أخرى، مِن ذكريات تاريخيّة أو مقدّسة، لا أدري.

 

إنّ القوافل، كَون الوقت ملائماً –استناداً إلى الشمس أُقدّر بأنّ الساعة هي حوالي الثامنة صباحاً- قد بدأت الحركة وسط صخب عظيم لأصوات، صياح، نهيق، جلجلة، عجلات. نسوة ينادين أطفالهنّ، رجال يحثّون الدواب، باعة يعرضون بضائعهم، مساومات بين الباعة السامريّين ومَن هم… أقلّ عبرانيّة، أي أهل المدن العشر والمناطق الأخرى، الأقلّ تشدّداً لاختلاطهم أكثر بالعنصر الوثنيّ، صَدٌّ مُحتَقِر إلى حدّ الإهانة عندما يقترب بائع سامريّ سيّئ الحظّ ليعرض منتجاته على بطل مِن اليهود. يبدو كما لو أنّهم اقتربوا مِن الشيطان بذاته مِن فرط ما يصرخون لاعنين… مُثيرين ردود فعل حادّة جدّاً مِن طرف السامريّين الـمُهانين. وقد تتبعها بعض المشاجرات لو لم يكن الجنود الرومان هناك يُحسِنون الحراسة.

 

يسوع يتقدم وسط هذه الفوضى. الرُّسُل حوله، التلميذات إلى الوراء، وخلف هؤلاء مجموعة أهل أفرايم وقد زاد عددهم كثيرون مِن أهل شيلوه.

 

همس يتقدّم المعلّم. إنّه ينتشر بدءاً مِن أولئك الّذين يرونه إلى مَن هم أبعد ولا يرونه بعد. همس أقوى يتبعه. وكُثُر يعلّقون رحيلهم ليروا ما يحدث.

 

يتساءلون: «كيف؟ أيبتعد عن اليهوديّة أكثر فأكثر؟ ماذا؟ أيبشّر الآن في السامرة؟»

 

صوت جليليّ إنشاديّ يقول: «القدّيسون طردوه، وهو يتوجّه إلى مَن هم ليسوا قدّيسين ليقدّسهم، كي يخزي اليهود.»

 

إجابة لاذعة أكثر مِن سمّ حادّ: «لقد عاد إلى وكره وإلى مَن يُنصِتون إلى كلامه الشيطانيّ.»

 

صوت آخر: «اخرسوا يا قتلة البارّ! إنّ هذا الاضطهاد سوف يدمغكم على مرّ العصور بأقبح اسم. إنّكم فاسدون ثلاث مرّات أكثر منّا نحن أهل المدن العشر.»

 

صوت آخر لعجوز، صارم: «بارّ إلى درجة أن يهرب مِن الهيكل في عيد الأعياد. هه! هه! هه!»

 

شخص مِن أفرايم، أحمر مِن الغضب: «هذا ليس صحيحاً. إنّكَ تكذب، أيّها الحيّة العجوز! إنّه الآن يمضي إلى فصحه.»

 

كاتب مُلتَحٍ، باحتقار: «عبر طريق جبل جِرِزِّيمَ.»

 

«لا. عبر موريا. إنّه يأتي ليباركنا لأنّه يُحسِن المحبّة، ثمّ يصعد نحو كراهيّتكم، يا ملعونين!»

 

«اخرس يا سامريّ!»

 

«اخرس أنتَ يا شيطان!»

 

«مَن يثير الشغب ستكون له القَوادِس [الأشغال الشاقة على السفن]. إنّه أمر البنطيّ بيلاطس. تذكّروا وتفرّقوا.» يفرض ضابط رومانيّ، جاعلاً مرؤوسيه يتحرّكون لفصل مَن هم على وشك التعارك، في واحدة مِن تلك المشاجرات المناطقيّة والدينيّة، الّتي هي دوماً جاهزة للنشوب في فلسطين في زمن المسيح.

 

الناس يتفرّقون. إنّما لا أحد يرحل بعد. الحمير تُعاد إلى الـمَرابِط، أو يتمّ توجيهها إلى حيث يذهب يسوع. نساء وأطفال يترجّلون ويتبعون أزواجهنّ أو آباءهم، أو يلبثون في مجموعات تُثرثِر، إذا كان مزاج الأزواج أو الآباء يأمر بذلك. "لئلّا يسمعن الشيطان يتكلّم." لكنّ الرجال الأصدقاء، الأعداء، أو مجرّد الفضوليّين، يهرعون إلى الموضع حيث ذهب يسوع. وفيما يهرعون يتبادلون نظرات سوء، أو يتعزّون بهذا الفرح غير المتوقّع، أو يطرحون أسئلة، تبعاً لما إذا كانوا أصدقاء مع أعداء، أو أصدقاء فيما بينهم، أو فضوليّين.

 

يسوع توقّف في ساحة، قرب سبيل الماء الحتميّ الّذي تظلّله شجرة. ويستند إلى جدار السبيل الرطب، الّذي هو هنا مغطّىً برواق صغير، مفتوح فقط مِن جهة واحدة. ربّما هي بئر أكثر منها سبيل ماء. تشبه بئر عين روجيل.

 

يتحدّث إلى امرأة تُقدّم له ابنها الصغير الّذي تحمله بين ذراعيها. أرى أنّ يسوع يومئ بالموافقة ويضع يده على رأس الصغير. وبعدها فوراً أرى أنّ الأُمّ ترفع الصغير وتصيح: «ملاخي، ملاخي، أين أنتَ؟ إنّ صبيّنا لم يعد مشوّهاً.» والمرأة تهتف هوشعناها الّتي تنضمّ إليها هوشعنا الجمع، فيما رجل يشقّ له طريقاً ويمضي لينحني أمام الربّ.

 

الناس يعلّقون. النسوة، اللواتي هنّ أُمّهات بأغلبيتهنّ، يهنّئن المرأة الّتي نالت النعمة. مَن هم أبعد يمدّون أعناقهم ويسألون: «إنّما ما الّذي حدث؟» بعدما تردّدت الهوشعنا، كي ينضمّوا إلى الّذين يعلمون بما حدث.

 

«طفل أحدب، أحدب إلى درجة صعوبة القدرة على الوقوف على رجليه. كان طويلاً بهذا القدر، بالضبط هكذا، مِن فرط ما كان منحنياً. كان يبدو في الثالثة مِن العمر، وهو يبلغ سبعة أعوام. الآن انظروا إليه! إنّه طويل القامة مثل الجميع، منتصب مثل نخلة، رشيق. انظروا إليه كيف يتسلّق جدار سبيل الماء كي يَرى وتتمّ رؤيته. وكم يضحك فرحاً!»

 

جليلي يلتفت إلى شخص، له عُقَد عريضة على حزامه -لا أظنّ أنّني أخطئ بدعوته رابّياً- ويسأله: «إيه؟ ما رأيكَ بذلك؟ أهذا أيضاً عمل للشيطان؟ في الحقيقة، إن كان الشيطان يتصرّف هكذا، برفع مصائب كثيرة لإسعاد البشر وجعل الله مُسَبَّحاً، فينبغي القول بأنّه أفضل خادم لله!»

 

«اخرس يا مجدّف!»

 

«أنا لا أجدّف أيّها الرابّي. بل أعلّق على ما أرى. لماذا قداستكم لا تجلب لنا سوى أعباء ومصائب، وتضع على شفاهنا شتائم، وأفكار ارتياب نحو العليّ، بينما تمنحنا أعمال رابّي الناصرة سلاماً ويقيناً بأنّ الله صالح؟»

 

الرابّي لا يجيب، يبتعد ويمضي ليثرثر مع آخرين مِن أصدقائه. وأحدهم ينفصل ويشقّ لنفسه طريقاً ليذهب إلى قبالة يسوع، حيث دون أن يحيّيه قبلاً، يسأله هكذا: «ما الّذي أنتَ مزمع أن تفعله؟»

 

«التحدّث إلى مَن يطلبون كلمتي.» يجيب يسوع محدّقاً في عينيه، دونما احتقار، إنّما دون خوف كذلك.»

 

«هذا غير مسموح لكَ. السنهدرين لا يريد ذلك.»

 

«إنّها مشيئة العليّ، الّذي يجب أن يكون السنهدرين خادمه.»

 

«إنّكَ مُدان، تعلم ذلك. اصمت، أو...»

 

«إنّ اسمي هو الكلمة. والكلمة تتكلّم.»

 

«إلى السامريّين… إن كنتَ حقّاً مَن تقول أنّكَ هو، فلا ينبغي أن تعطي كلمتكَ للسامريّين.»

 

«لقد أعطيتُها وسوف أعطيها للجليليّين، كما لليهود وكما للسامريّين، فلا فرق في عينيّ يسوع.»

 

«حاول إعطاءها في اليهوديّة، إن تجرّأتَ!...»

 

«الحقّ أنّني سأعطيها. انتظروني. ألستَ إليعازر بن برتا؟ نعم؟ مِن المؤكّد إذن أنّكَ سترى غَمَالائيل قبلي. أخبره بإسمي بأنّني سأعطيه هو أيضاً، بعد واحد وعشرين عاماً، الإجابة الّتي ينتظرها. هل فهمتَ؟ تذكّر جيّداً: له أيضاً سوف أعطي، بعد واحد وعشرين عاماً، الإجابة الّتي ينتظرها. وداعاً.»

 

«أين؟ أين تريد أن تتكلّم، أين تجيب غَمَالائيل العظيم؟ إنّه حتماً قد غادر جَمَلا اليهوديّة كي يدخل إلى أورشليم. إنّما ولو كان لا يزال في جَمَلا، فلن تستطيع التحدّث إليه.»

 

«أين؟ وأين يتجمّع كَتَبَة ورابّيو إسرائيل؟»

 

«في الهيكل؟ أنتَ، في الهيكل؟ وستجرؤ؟ إنّما ألا تعلم...»

 

«أنّكم تكرهونني؟ أعلم ذلك. يكفيني أنّني لستُ مكروهاً مِن أبي. بعد فترة قصيرة سيرتعد الهيكل مِن كلمتي.»

 

ومِن دون أن يعير اهتماماً بعد بالّذي يسأله، يفتح ذراعيه كي يفرض الصمت على الناس، الّذين يهيجون في تيّارين متعارضين ويقفون ضدّ المخلّين بالنظام.

 

يسود الصمت على الفور، وفي الصمت يتكلّم يسوع: «في شيلوه تكلّمتُ عن الناصِحِين بالسوء، وما يمكن أن يحصل حقّاً، مِن نصيحة، خيراً أو شرّاً. ولكم، أنتم الّذين لم تعودوا فقط من لِبونة، وإنّما مِن كلّ مناطق فلسطين، أعرض الآن هذا الـمَثَل. سندعوه: "مَثَل الـمُساء نصحهم".

 

اسمعوا. ذات مرّة كانت هناك عائلة هائلة العدد إلى درجة أنّها كانت قبيلة. أولاد كُثُر كانوا قد تزوّجوا، مُكوّنين، حول العائلة الأولى، عائلات أخرى كثيرة مع أبناء كثيرين، الّذين بدورهم، وقد تزوّجوا، فقد كوّنوا عائلات أخرى، بحيث أنّ الأب العجوز قد وجد نفسه على رأس مملكة صغيرة كان هو مَلِكها. وكما يحصل دوماً في العائلات، فقد كان بين الأولاد الكُثُر وأولاد الأولاد شخصيّات مختلفة: مَن هو صالح وبارّ، ومَن هو متكبّر وظالم. مَن كان راضياً بوضعه، ومَن كان حسوداً، وقد بدا له نصيبه أقلّ مِن نصيب أخيه أو قريبه. وكان هناك، إلى جانب الأسوأ، مَن هو أفضل مِن الجميع. وكان مِن الطبيعي أن يكون هذا الأخير محبوباً بحنوّ مِن قِبَل والد العائلة الكبيرة بأكملها. وكما يحصل دوماً، فإنّ الشرير، ومَن هم أكثر شبهاً به، كانوا يكرهون الصالح، لأنّه كان الأكثر تفضيلاً بالمحبّة، غير مفكّرين بأنّه قد كان بإمكانهم هم أيضاً أن يكونوا محبوبين، فيما لو أنّهم كانوا صالحين مثله. والصالح، الّذي كان الأب يودعه أفكاره كي يقولها للجميع، كان يتبعه آخرون صالحون. لذلك، فإنّ العائلة الكبيرة قد انقسمت إلى ثلاثة أقسام: قسم الصالحين، قسم الأشرار، وبين هذا القسم وذاك كان القسم الثالث، الـمُكوَّن مِن الـمُتردّدين، الّذين كانوا يشعرون بالانجذاب إلى الابن الصالح، لكنّهم كانوا يخافون الابن الشرّير وأولئك الّذين هم مِن فرقته. هذا القسم الثالث كان يتأرجح بين القسمين الأوّلين، ولم يكن يُحسِن اختيار أحدهما بشكل قاطع. حينذاك فإنّ الأب العجوز، وقد رأى هذا التردّد، قال لابنه المفضّل: "إنّكَ إلى الآن قد بذلتَ كلمتكَ خصوصاً لمن يحبّونها ولمن لا يحبّونها، لأنّ الأوّلين يطلبونها منكَ كي يحبّوني دوماً ببرّ أكثر، والآخرين هم أغبياء وينبغي ردّهم إلى البرّ. لكنّكَ ترى أنّ هؤلاء الأغبياء لا يكتفون فقط بعدم قبولها، لابثين على ما هم عليه، وإنّما إلى ظلمهم الأوّل نحوكَ، أنتَ الحامل إليهم رغبتي، يضمّون، بنصائح سيّئة، إفساد أولئك الّذين لا يُحسِنون بعد أن يبتغوا بقوّة سلوك الدرب الأفضل. فاذهب إليهم إذن وكَلّمهم عمّا أنا أكون، وعمّا أنتَ تكون، وعمّا يجب أن يفعلوه كي يكونوا معي ومعكَ".

 

الابن، المطيع على الدوام، مضى كما كان يشاء الأب، وكلّ يوم كان يستميل قلباً ما. والأب رأى هكذا بوضوح مَن كان أبناءه العُصاة الحقيقيّين، وكان ينظر إليهم بصرامة إنّما دون أن يؤنّبهم آنذاك، لأنّه كان أباً وكان يريد أن يجذبهم إليه بالأناة، بمحبّة وبمثال الصالحين.

 

لكنّ الأشرار، وقد رأوا أنفسهم وحدهم، قالوا: "هكذا يبدو بوضوح شديد أنّنا العُصاة. قبلاً كانوا يخلطون بيننا وبين مَن لم يكونوا لا صالحين ولا أشراراً. الآن تشاهدونهم، إنّهم يمضون كلّهم وراء الابن الـمُفَضَّل. ينبغي أن نتصرّف. أن ندمّر عمله. هيّا بنا، متظاهرين بأنّنا تائبون، وسط الّذين بالكاد قد اهتدوا، وأولئك الأكثر بساطة مِن بين الأفضل، ولننشر شائعةً بأنّ الابن الـمُفَضَّل يتظاهر بأنّه يخدم الأب، لكنّه في الحقيقة يحشد أتباعاً كي ينقلب عليه فيما بعد، أو حتّى نقول أنّ الأب ينوي تصفية الابن وأتباعه، لأنّهم يبالغون بالانتصار ويهمّشون مجده كأب-مَلِك، وبالتالي، لحماية الابن الـمُفَضَّل والمغدور به، ينبغي إبقاؤه بيننا، بعيداً عن المنزل الأبويّ حيث تنتظره الخيانة".

 

ومضوا، بدهاء شديد، مُوَسوِسين وناشرين الشائعات والنصائح، بحيث أنّ كُثُراً وقعوا في الفخّ، خصوصاً أولئك الّذين اهتدوا مؤخّراً، الّذين أعطاهم الناصحون الأشرار هذه النصيحة السيّئة: "أترون كم أَحبَّكم؟ لقد فَضَّل المجيء وسطكم على البقاء قرب أبيه، أو على الأقل قرب إخوته الصالحين. لقد عمل الكثير بحيث أنّه على مرأىً من العالم قد رفعكم مِن انحطاطكم كما كائنات لم تكن تعلم ماذا تريد، والّتي كانت لأجل ذلك محطّ سخرية الجميع. فلأجل هذا التفضيل حيالكم، عليكم واجب الدفاع عنه، وحتّى استبقاؤه بالقوّة، إن لم يكن كلامكم الإقناعيّ كافياً لاستبقائه في معسكركم. أو انتفضوا، منادين به قائداً لكم ومَلِكاً، وازحفوا ضدّ الأب الظالم وأبنائه الظالمين مثله". وتردّد البعض مُلاحِظين: "إنّما هو يريد، لقد أراد أن نذهب معه لتكريم الأب، وحصل لنا على البركة والمغفرة". وكانوا يقولون لهؤلاء: "لا تصدّقوا! هو لم يقل لكم كلّ الحقيقة، ولا الأب قد أظهر لكم كلّ الحقيقة. لقد تصرّف هكذا لأنّه يشعر بأنّ الأب على وشك أن يخونه، وأراد اختبار قلوبكم ليعرف أين يجد حمايةً وملجأً. لكن ربّما… كان بغاية الصلاح! ربّما سيندم بعدها على الشكّ بأبيه ويريد العودة إليه. لا تسمحوا له بذلك". وكُثُر وعدوهم: "لن نسمح بذلك". وأخذهم الحماس واضعين الخطط لاستبقاء الابن الـمُفَضَّل، غير مُلاحِظين أنّه بينما كان الناصحون الأشرار يقولون: "نحن سوف نساعدكم في تخليص المبارك". فإنّ عيونهم كانت تمتلئ بومضات كذب وقسوة، وأنّهم كانوا يتغامزون، فارِكين أيديهم وهامسين: "إنّهم يقعون في الفخّ! سوف ننتصر!"، في كلّ مرّة يؤخَذ أحدهم بكلامهم المخادع. ثمّ مضى الناصحون الأشرار، مضوا ناشرين في مواضع أخرى شائعة أنّه قريباً سيتم تبيّن خيانة الابن الـمُفضّل، الخارج مِن أرض أبيه لإقامة مملكة، خَصمة للأب، مع أولئك الّذين كانوا يكرهون الأب أو على الأقل لم يكونوا يكنّون له محبّة أكيدة. والّذين تأثّروا بالنصائح السيّئة، كانوا في تلك الأثناء يخطّطون لكيفيّة حثّ الابن المفضّل على خطيئة العصيان الّتي كانت لتصدم العالم.

 

وحدهم الأكثر حكمةً مِن بينهم -أولئك الّذين كانت قد تغلغلت فيهم عميقاً كلمة البارّ وتجذّرت لأنّها وقعت على أرض متعطّشة لتقبُّلها- قالوا، بعدما فكّروا: "لا. ليس حسناً فِعل ذلك. إنّه فِعل شرّ تجاه الأب، تجاه الابن، وحتّى تجاه أنفسنا. إنّنا نعرف برّ وحكمة الواحد والآخر. نعرفهما حتّى ولو للأسف لم نكن دوماً نتبعهما. ويجب ألاّ نظنّ، بأنّ نصائح أولئك الّذين كانوا على الدوام ضدّ الأب والعدالة جهاراً، وكذلك ضدّ الابن الّذي يحبّه الأب، يمكن أن تكون أكثر برّاً مِن تلك الّتي أعطانا إيّاها الابن المبارك". ولم يتبعوها. وعلى العكس، بمحبّة وألم، تركوا الابن يذهب إلى حيث عليه أن يمضي، مُكتفين بمرافقته مع إيماءات محبّة حتّى حدود حقولهم، وواعدين إيّاه في الوداع: "إنّكَ تذهب. نحن نبقى. لكنّ كلامكَ فينا، ومِن الآن وصاعداً سوف نفعل ما يشاؤه الأب. ارحل مطمئنّاً. لقد رفعتَنا إلى الأبد مِن الحال الّتي وجدتَنا عليها. والآن، وقد وُضِعنا على الدرب الصالحة، سوف نُحسِن التقدّم عليها إلى أن نصل إلى البيت الأبوي، بحيث نكون مباركين مِن الأب".

 

وعلى النقيض، البعض التحقوا بالناصحين الأشرار، وخطئوا بتحريض الابن الـمُفَضَّل على الخطيئة، وسخروا منه كأحمق لأنّه كان عنيداً في أدائه لواجبه.

 

الآن أسألكم: "لماذا عملت ذات النصيحة بطرق مختلفة؟". ألا تجيبون؟ أنا سوف أقول لكم ذلك، كما قلتُ في شيلوه. لأنّ النصائح تَكتسب قيمة أو تغدو عدماً بحسب إذا ما تمّ قبولها أم لم يتمّ. عبثاً يُغوى أحدهم بنصائح سيّئة، فإذا كان لا يريد أن يخطئ، فلن يخطئ، ولن يُعاقَب على اضطراره لسماع تلميحات الأشرار. لن يُعاقَب لأنّ الله عادل ولا يُحاسِب على خطايا لم تُرتَكب. لن يُعاقَب إلّا إذا، بعد اضطراره لسماع الشرّ الّذي يغويه، يضعه موضع التنفيذ دون أن يستخدم ذكاءه للتأمّل بطبيعة النصيحة وأصلها. ولن يكون له عذر مسوّغ ليقول: "لقد ظننتُها صالحة". إنّ الصالح هو ما يُرضِي الله. أربّما يمكن لله أن يؤيّد أو يقبل المعصية، أو أمراً يقود إلى المعصية؟ أيمكن لله أن يبارك أمراً يتعارض مع شريعته، أي مع كلمته؟ الحقّ أقول لكم أن لا. والحقّ أقول لكم أيضاً أنّه ينبغي ابتغاء الموت بدلاً مِن التعدّي على الشريعة الإلهيّة. في شكيم [نابلس] سأتكلّم بعد لأجعلكم قويمين في معرفة ابتغاء أو عدم ابتغاء تطبيق نصيحة أُسديت لكم. امضوا.»

 

الناس يرحلون معلّقين.

 

«هل سمعتَ؟ هو يعلم ما قالوه لنا! ودعانا إلى الإرادة المستقيمة.» يقول سامريّ.

 

«نعم. وهل رأيتَ كيف اضطرب اليهود والكَتَبَة الّذين كانوا حاضرين؟»

 

«نعم. إنّهم لم ينتظروا حتّى النهاية ليرحلوا.»

 

«الأفاعي الشرّيرة! مع ذلك… هو يقول ما يريد أن يفعل. إنّه على خطأ، فيمكنه أن يجلب لنفسه المتاعب. إنّ جماعة جبل عِيبَالَ وجبل جِرِزِّيمَ قد تحمّسوا كثيراً!...»

 

«أنا… لم أُوهِم نفسي أبداً. إنّ الرابّي هو الرابّي. وهذا القول يتضمّن كلّ شيء. أيمكن للرابّي أن يخطئ بعدم الصعود إلى هيكل أورشليم؟»

 

«سوف يجد الموت. سترى!... وسينتهي الأمر!...»

 

«لمن؟ له؟ لنا؟ أو… لليهود؟»

 

«له. إن مات!»

 

«إنّكَ أحمق يا رجل. أنا مِن أفرايم. إنّني أعرفه جيّداً. لقد عشتُ قربه قمرين كاملين، وأكثر بعد. كان يتحدّث إلينا دوماً. سيكون ألماً… إنّما لن تكون نهايةً، لا بالنسبة له، ولا بالنسبة لنا. لا يمكن أن يموت، ينتهي، قدّوس القدّيسين. إنّ الأمر لا يمكن أن ينتهي هكذا بالنسبة لـنا. أنا... جاهل، لكنّني أشعر بأنّ الملكوت سوف يأتي عندما سيظنّ اليهود بأنّه انتهى… وسيكونون هم الّذين سينتهون...»

 

«أتعتقد بأنّ التلاميذ سوف يثأرون للمعلّم؟ تمرّد؟ مذبحة؟ والرومان؟»

 

«آه! لا حاجة لتلاميذ، لثأر بشريّ، لمذابح. سيكون العليّ مَن يغلبهم. لقد عاقَبَنا بحقّ، لعصور، ومِن أجل ما هو أقلّ بكثير! أتريد ألّا يعاقبهم هم، على خطيئة تعذيبهم لمسيحه؟»

 

«أن أراهم مضروبين! آه!»

 

«لكَ قلب لا يشاؤه المعلّم. هو يصلّي لأجل أعدائه...»

 

«أنا… سأتبعه غداً. أريد أن أسمع ما سيقوله في شكيم [نابلس].»

 

«أنا أيضاً.»

 

«وأنا كذلك...»

 

كُثُر من لِبونة لديهم ذات التفكير، ويمضون كي يستعدّوا لرحيل الغد، وقد تآخوا مع أهل أفرايم وشيلوه.