ج5 - ف44
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الثاني
44- (خبز السّماء)
07 / 12 / 1945
شاطئ كفرناحوم يعجّ بالناس الذين يَخرجون مِن أسطول حقيقيّ مِن الـمَراكِب مِن كلّ حجم. والأوائل الذين هبطوا مِن الـمَراكِب يَمضون بين الناس محاولين رؤية المعلّم أو أحد الرُّسُل، أو أقلّه أحد التلاميذ. وينطلقون في البحث…
وأخيراً يُجيب أحد الرجال: «المعلّم؟ الرُّسُل؟ لا. لقد رحلوا بعد السبت مباشرة، ولم يعودوا. ولكنّهم سيعودون، فما يزال هنا بعض التلاميذ. لقد تحدّثت للتوّ مع أحدهم. إنّه تلميذ عظيم. يتحدّث مثل يائيروس! ولقد مضى إلى ذلك البيت وسط الحقول متتبّعاً البحر.»
والرجل الذي طَرَحَ السؤال يدبّ الصوت، ويَهرع الجميع إلى المكان المشار إليه. ولكن بعد أن قطعوا حوالي مائتي متر على الشاطئ، يُصادِفون مجموعة مِن التلاميذ قادمين صوب كفرناحوم ويومئون بحماس. يُحيّونهم ويَسأَلونهم: «أين هو المعلّم؟»
يُجيب التلاميذ: «بعد اجتراح المعجزة، ليلاً، رَحَلَ مع أخصّائه، بالـمَراكِب، إلى ما وراء البحر. وقد رأينا الأشرعة على ضوء القمر، وهي متّجهة صوب دالمانوثا.»
«آه! لقد كنّا نبحث عنه في مجدلا في بيت مريم، ولم يكن هناك! ومع ذلك... كان بإمكان صيّادي مجدلا أن يقولوا ذلك لنا!»
«إنّهم لا يَعلَمون. قد يكون ذَهَبَ إلى جبال أربيلا ليصلّي. فقد ذهب إلى هناك في مرّة سابقة، العام الماضي، قبل الفصح. وقد صادفتُه آنذاك، بنعمة كبيرة مِن الربّ لخادمه المسكين» يقول استفانوس.
«ولكن ألا يعود إلى هنا؟»
«بالتأكيد سيعود. ينبغي أن يودِّعنا ويُصدِر أوامره. ولكن ماذا تريدون؟»
«أن نستمع إليه أيضاً وأيضاً، أن نتبعه ونُصبح مِن أتباعه.»
«في الوقت الحاضر، هو ماضٍ إلى أورشليم. وستجدونه هناك. وهناك، في بيت الله، سيكلّمكم الربّ إذا ما كان مِن مصلحتكم أن تتبعوه. فَمِن الخير أن تعلموا أنّه، وإن كان هو لا يُقصي أحداً، فهناك ميول فينا تَنبذ النور. والآن، مَن لديه منها الكثير لدرجة ألاّ يكون فقط مشبعاً بها -فهذا ليس سوى القليل مِن السوء، لأنّه هو نور، وفيما إذا أصبحنا أتباعه بحقّ بإرادة تامّة، فإنّ نوره يَلِج إلينا ويطرد ظلماتنا- وإنّما غائصاً فيها ومتعلّقاً بها بشدّة كما بجسد شخصه، فالأفضل أن يُحجم عن المجيء، إذا لم يكن كي يُنقَضَ ليُخلَقَ مِن جديد. فكّروا إذن لِتَعلَموا إذا ما كانت لديكم القدرة لتقبّل روح جديد، طريقة جديدة في التفكير، وأسلوب جديد في الإرادة. صلّوا كي تتمكنّوا مِن معرفة حقيقة دعوتكم. ثمّ تعالوا، إذا كنتم تؤمنون. وليَقُدْكم الله تعالى، الذي قاد إسرائيل في عبوره، في مسيرتكم هذه على آثار الحَمَل، خارج الصحارى، صوب الأرض الخالدة، صوب ملكوت الله.» يقول استفانوس متحدّثاً باسم رفاقه كلّهم.
«لا، لا! في الحال! في الحال! لا أحد يصنع ما يصنعه هو. نريد أن نتبعه.» يقول الجميع بصخب.
يبتسم استفانوس ابتسامة معبّرة جدّاً. يفتح ذراعيه ويقول: «أَلِأنّه أعطاكم خبزاً طيّباً بوفرة، تريدون المجيء؟ أتظنّون أنّه لن يعطيكم سوى هذا مستقبلاً؟ إنّه يَعِد الذي يتبعه بنصيبه: الألم، الاضطهاد، الشهادة. وهذه ليست وروداً، ولكنّها أشواك؛ هي ليست ملاطفات، بل هي صفعات؛ هي ليست خبزاً، بل هي حجار مهيّأة "للمُسَحاء". أتكلّم هكذا دون أن أكفر، لأنّ الذين يؤمنون به حقّاً، سوف يُمسَحون بالزيت المقدّس المصنوع بنعمته وبألمه؛ وسوف نُمسَح كي نكون الضحايا على الهيكل والملوك في السماء.»
«وإذن؟ ألعلّكَ تَحسدنا لذلكَ؟ هل أنتَ منهم؟ نريد أن نكون نحن أيضاً. فهو معلّم للجميع.»
«حسناً. كنتُ أقول لكم ذلك لأنّني أحبّكم، وأريد أن تعرفوا ماذا يعني أن تكونوا "تلاميذه"، كي لا تكونوا فيما بعد مِن الهاربين. هيّا بنا إذن لننتظره جميعنا في البيت. لقد بدأ الغسق، وهذا أوّل السبت. سوف يأتي ليُمضيه هنا قبل رحيله.»
يَمضون صوب المدينة وهُم يتحدّثون. وكثيرون يَسأَلون استفانوس وهَرْماس الذي لَحق بهم، وهما، في عيون الإسرائيليّين، يَحظَيان بنور خاصّ، كتلميذين مفضَّلين لغَمَالائيل. كثيرون يَسأَلون: «ماذا يقول عنه غَمَالائيل؟» وآخرون: «هل هو مَن أرسلكُما؟» وآخرون أيضاً: «ألم يتألّم لفقدانه إيّاكما؟» أو: «والمعلّم، ماذا يقول عن الرابّي العظيم؟»
يُجيب الاثنان بصبر: «غَمَالائيل يتحدّث عن يسوع الناصريّ كما عن أعظم رجال إسرائيل.»
«آه! أعظم مِن موسى؟» يقول البعض وقد أوشَكوا على أن يتعثَّروا.
«هو يقول إنّ موسى لم يكن سوى واحد مِن السابقين العديدين للمسيح، ولكنّه لم يكن سوى خادم للمسيح.»
«إذن، بالنسبة إلى غَمَالائيل، هل هذا هو المسيح؟ أهذا ما يقوله؟ وإذا كان هذا ما يقوله الرابّي غَمَالائيل، فالأمر محسوم. إنّه هو المسيح.»
«هو لا يقول ذلك. لم يتوصّل بعد إلى الإيمان به، لبؤسه. ولكنّه يقول إنّ المسيح على الأرض، ذلك أنّه تَحدَّثَ إليه، منذ بضعة سنوات. هو والحكيم هِلّيل. وهو ينتظر الإشارة التي وَعَدَه المسيح بها ليعرفه.» يقول هَرْماس.
«ولكن ما الذي فَعَلَه كي يؤمن أنَّ ذاك كان المسيح؟ ماذا كان يصنع؟ أنا في عُمر غَمَالائيل، ولكنّني لم أسمع قطّ أنّ أموراً جَرَت عندنا كالتي يصنعها المعلّم. إذا لم يقتنع بهذه المعجزات، ما الذي رآه في ذاك المسيح أكثر إعجازاً كي يستطيع الإيمان به؟»
«لقد رآه ممسوحاً بحكمة الله. هذا ما يقوله.» يُجيب أيضاً هَرْماس.
«وإذن، مَن يكون هذا بالنسبة إلى غَمَالائيل؟»
«أعظم إنسان، معلّم وسابق إسرائيل. عندما يستطيع القول: "هذا هو المسيح"، تَخلص نَفْس معلّمي الأوّل الحكيمة والبارّة.» يقول استفانوس، ويَختم بالقول: «وأصلّي ليكون هذا، بأيّ ثمن.»
«وإذا لم يكن يؤمن بأنّه هو المسيح، فلماذا أرسلكُما إليه؟»
«كنّا نريد المجيء. وهو تركنا نأتي قائلاً إنّ هذا لحسن.»
«قد يكون ذلك مِن أجل العِلم وإخبار السنهدرين...» يُلمِّح أحدهم.
«كيف تقول هذا، يا رجل؟ غَمَالائيل رجل نزيه. لا يستخدم التجسّس على أحد، وخاصّة لحساب أعداء إنسان بريء!» ويغضب استفانوس، ويبدو وكأنّه رئيس ملائكة لشدّة سخطه، ويكاد يكون مُشعّاً في ازدرائه المقدّس.
«وهو، مع ذلك، قد أسف على فقدانكما.» يقول آخر.
«نعم ولا. كإنسان كان يحبّنا كثيراً، نعم. كروح مستقيم للغاية، لا. لأنّه قال: "هو أفضل منّي، وأكثر شباباً. فيمكنني إذن أن أغمض عينيَّ، وأنا مطمئنّ على مستقبلكما، عالماً أنّكما تنتميان إلى ‘معلّم المعلّمين’"»
«ويسوع الناصريّ، ماذا يقول عن الرابّي العظيم؟»
«آه! هو لا يقول عنه إلاّ كلاماً سامياً!»
«ألا يحسده؟»
«الله لا يحسد.» يقول هَرْماس بصرامة. «لا تفترض افتراضات تنتهك المقدّسات.»
«ولكنّه، بالنسبة إليكم، هو الله إذن؟ هل أنتم على يقين مِن ذلك؟»
والاثنان، بصوت واحد: «كما نحن على يقين بأنّنا نحيا الآن.» ويَختتم استفانوس القول: «ولتؤمنوا أنتم أيضاً بذلك، لتكون لكم الحياة الحقيقيّة.»
إنّهم مِن جديد على الشاطئ الذي أضحى مكان اجتماع، ويجتازونه ليذهبوا إلى البيت.
على العَتَبَة كان يسوع يُداعِب صِغاراً.
يتجمّع بعض التلاميذ مع بعض الفضوليّين ويَسأَلون: «يا معلّم، متى أتيتَ؟»
«منذ قليل.» ما زال وجه يسوع محتفظاً بعظمته المهيبة، منتشياً قليلاً، الانتشاء الذي يكون له بعد صلاة طويلة.
«هل كنتَ تصلّي يا معلّم؟» يَسأَل استفانوس بصوت هامس، احتراماً، كما ينحني لنفس السبب.
«نعم. ما الذي جعلكَ ترى ذلك، يا بنيّ؟» يَسأَل يسوع واضعاً يده على شعره الداكن مع ملاطفة ناعمة.
«مِن وجهكَ الملائكيّ. أنا رجل مسكين، ولكنّ مظهركَ صاف لدرجة أنّني أقرأ فيه اختلاجات وتأثيرات روحكَ.»
«ومظهركَ كذلك صاف. فأنتَ واحد مِن الذين يُحافِظون على طفولتهم...»
«وما الذي على وجهي، يا ربّ؟»
«تعال جانباً وأقول لكَ.» يمسك به مِن قبضته ويأخذه إلى ممرّ مظلم. «محبّة، إيمان، طهارة، سخاء، حكمة؛ كلّ ذلك قد منحكَ إيّاه الله، وأنتَ استتثمرته وستفعل باطّراد. أخيراً، بحسب اسمكَ، لديكَ الإكليل (اسم استفانوس يعني الإكليل): وهو مِن الذهب الخالص مع جوهرة كبيرة تشعّ على جبهتكَ. وعلى الذهب والأحجار نُقِشَت كَلِمَتان: "قضاء الله" و "بواكير". كُن أهلاً لمصيركَ، يا استفانوس. امض بسلام ولتصحبكَ بركتي.» ويضع يده مِن جديد على شعره، بينما يجثو استفانوس ليَسجُد بعد ذلك ويُقبِّل له القدمين. ويعودان إلى الآخرين.
«هؤلاء الناس أتوا ليستمعوا إليكَ...» يقول فليبّس.
«لا يمكننا التحدّث هنا. هيّا بنا إلى المجمع. وسوف يُسَرّ يائيروس لذلك.»
يسوع في المقدّمة، خلفه مَوكِب الآخرين، ويَمضون إلى مجمع كفرناحوم الجميل، ويسوع، الذي يحيّيه يائيروس، يَدخُل ويَأمُر أن تبقى الأبواب مفتوحة، كي يتمكّن الذين لا يستطيعون الدخول مِن سماعه مِن الطريق والساحة اللذين بجانب المجمع.
يذهب يسوع إلى مكانه، في هذا المجمع الصديق، الذي غاب عنه اليوم، لحسن الحظّ، الفرّيسيّون الذين قد يكونون مضوا إلى أورشليم بسرعة كبيرة. ويبدأ الحديث.
«الحقّ أقول لكم: أنتم تبحثون عنّي ليس مِن أجل الاستماع إليَّ، ولا مِن أجل المعجزات التي رأيتموها، بل مِن أجل ذلك الخبز الذي أعطيتُكم إيّاه لتأكلوا كفاية وبدون تكلفة. ثلاثة أرباعكم كانوا يبحثون عنّي مِن أجل ذلك، ومِن قبيل الفضول، قادمين مِن كلّ أرجاء وطننا. يَغيب عن البحث إذن الروح فائق الطبيعة، ويبقى مهيمناً الروح البشريّ بفضوله الخبيث، وأقلّه لقصور طفولي، ليس بسيطاً كقصور الأطفال الصغار، ولكنّه قاصر كذكاء روح ثقيل الفهم. ومع الفضول، تبقى الشهوانيّة، وحسّ فاسد. الشهوانيّة التي تتخفّى، بمهارة كما الشيطان الذي هي ابنته، خلف مظاهر وأفعال هي صالحة في الظاهر، والحسّ الفاسد الذي لا يعدو كونه انحرافاً مَرَضيّاً للإحساس، والذي ككلّ "مرض"، يَشعُر بالحاجة والرغبة بعد الأدوية -التي هي ليست بالغذاء- إلى الخبز الطيب، الماء القراح، الزيت الصافي، الحليب الطازج الكافي للعيش، للعيش بشكل جيّد. الحسّ الفاسد يطلب الأمور غير العاديّة ليتأثّر ويختبر الرعشة التي تُرضِي، الرعشة الـمَرَضيّة للمشلولين الذين هُم في حاجة إلى الأدوية لاختبار أحاسيس تتيح لهم التوهّم بأنّهم معافون وفُحول. الحسّ الذي يبغي إشباع الشراهة دون تعب، في هذه الحال، عن طريق خبز لم يكلِّف عَرَقاً، لأنّ الله مَنَحَه بعطف.
نِعَمُ الله ليست عاديّة، إنّها فائقة. لا يمكننا أن نَطمَع بها، ولا أن نستسلم للكسل قائلين: "الله يمنحني إيّاها". قيل: "ستأكل خبزكَ مبلّلاً بعرق جبينكَ" يعني الخبز المكتَسَب بالعمل. إذا كان مَن هو الرحمة قد قال: "أُشفِق على هذه الجموع التي تتبعني منذ ثلاثة أيّام، ولم يَعُد لديهم شيء يأكلوه، ومِن الممكن أن يسقطوا في الطريق قبل بلوغ جَمَلا أو أيّة مدينة أو قرية أخرى على البحيرة"، وتَدَبَّرَ أمر احتياجاتهم، ومع أنّه لم يُقَل إنّ على المرء أن يتبعه لأجل ذلك. بل على المرء أن يتبعني مِن أجل شيء أسمى مِن هذا القليل مِن الخبز المقدَّر له أن يُصبِح قذارة بعد الهضم. ليس مِن أجل طعام يملأ البطن، بل مِن أجل الذي يُغذِّي النَّفْس، ذلك أنّكم لستم مجرّد حيوانات ترعى وتجترّ، أو تنبش بالخطم وتَسمَن. ولكنّكم نفوس! هذا ما أنتم عليه! الجسد رداء، أمّا الكائن فهي النَّفْس. هي غير المائتة. الجسد، ككلّ رداء، يبلى ويفنى، ولا يستحقّ الاهتمام به كما لو أنّه الكمال الذي ينبغي أن نوليه كلّ عنايتنا.
ابحثوا إذن عمّا هو جدير بالحصول عليه، ليس على ما لا مبرّر له. حاوِلوا الحصول لا على الغذاء الذي يفنى، إنّما على الذي يدوم إلى الحياة الأبديّة. هذا، يُقدِّمه لكم ابن الإنسان على الدوام، عندما تشاؤون أنتم. لأنّ كلّ ما يأتي مِن الله هو تحت تصرّف ابن الإنسان، ويمكنه أن يعطيكم إيّاه؛ هو المعلّم، والمعلّم النبيل، لكنوز الله الآب الذي طَبَعَ عليه ختمه كي لا يختلط الأمر على ذَوي العيون النـزيهة. وإذا كان فيكم الغذاء الذي لا يفنى، فيمكنكم أن تعملوا أعمال الله، كونكم تَغذَّيتم بغذاء الله.»
«ماذا علينا أن نفعل لنعمل أعمال الله؟ إنّنا نحافظ على الشريعة والأنبياء. فهل نكون بذلك قد تَغذَّينا مِن الله ونعمل أعمال الله.»
«حقّاً. تُحافِظون على الشريعة، أو بالحريّ أنتم "تعرفون" الشريعة. ولكنّ المعرفة لا تعني الممارسة. فمثلاً نحن نعرف شرائع روما، ومع ذلك فإنّ الإسرائيليّ الأمين لا يمارسها إلاّ اللهم ضمن الشكليّات التي تُفرَض عليه بشكل شخصيّ. فيما عدا ذلك، نحن، أقصد الإسرائيليّين الأوفياء، لا نُمارِس التصرّفات الوثنيّة التي للرومان رغم أنّنا نعرفها. الشريعة التي تعرفونها جميعكم والأنبياء، يجب بالفعل أن تغذّيكم بالله، وأن تمنحكم بالنتيجة إمكانيّة أن تعملوا أعمال الله. ولكن، لِفِعل ذلك، ينبغي أن تصبح واحداً معكم، كالهواء الذي تتنفّسون، والغذاء الذي تتمثّلون، وكلاهما يتحوّلان إلى حياة ودم. بينما هي تبقى غريبة، رغم كونها داخل بيتكم، كما أيّ غرض مِن البيت معروف لديكم ومفيد، إنّما لو حَدَثَ أن فُقد فلا يلغي وجودكم. بينما... آه! حاولوا قليلاً ألاّ تتنفّسوا لبضعة دقائق، حاولوا أن تبقوا دون طعام لأيّام وأيّام... وسترون أنّ لا إمكانيّة للحياة لديكم. هكذا ينبغي للأنا لديكم أن تحسّ بسوء التغذية والاختناق للشريعة والأنبياء، إذا كنتم تعرفونها ولا تتمثّلونها ولا تصبح وإيّاكم واحداً. هذا ما جئتُ أُعلِّمه وأُعطيه: العُصارة، هواء الشريعة والأنبياء، لأعيد الدم والتنفّس لنفوسكم التي تموت جوعاً واختناقاً. إنّكم تشبهون أطفالاً أُصيبوا بمرض جعلهم عاجزين عن معرفة ما يمكن أن يغذّيهم. لديكم مؤونة مِن الغذاء، ولكنّكم لا تعرفون ما الذي يجب أن يؤكل كي يتحوّل إلى شيء مُحيي، وتصبح المؤونة بالحقيقة مِلكاً لنا، بأمانة حقيقيّة وطاهرة لشريعة الربّ الذي تحدّث إلى موسى والأنبياء مِن أجلكم جميعاً. المجيء إليَّ إذن للحصول على الهواء وعُصارة الحياة الأبديّة، هو واجب. ولكنّ هذا الواجب يَفتَرِض مسبقاً أن يكون لديكم إيمان. ذلك أنّه لو لم يكن لدى أحدكم إيمان، فلا يمكنه أن يؤمن بكلامي، وإذا لم يؤمن فإنّه لا يأتي ليقول لي: "أعطني الخبز الحقيقيّ". وإذا لم يكن لديه الخبز الحقيقيّ، لا يمكنه عمل أعمال الله لعدم قدرته على صنعها. بالنتيجة، للتغذّي بالله ولعمل أعمال الله، مِن الضروريّ أن تقوموا بالفعل الأساس الذي هو: الإيمان بمن أَرسَلَه الله.»
«ولكن أيّة معجزات تصنع إذن كي نتمكّن مِن الإيمان بكَ كمُرسَل مِن الله، ونتمكّن مِن أن نرى خاتم الله ظاهراً عليكَ؟ وماذا تفعل أنتَ الآن غير ما فَعَلَه الأنبياء، إنّما بشكل متواضع أكثر؟ موسى تجاوزكَ حتّى، لأنّه ليس لمرّة واحدة فقط، إنّما على مدى أربعين سنة أَطعَمَ آباءنا طعاماً رائعاً. كُتِبَ أنّ آباءنا، على مدى أربعين سنة، أكلوا المنّ في البرية، وبالنتيجة فقد قيل إنّ موسى قد أعطاهم خبزاً نازلاً مِن السماء ليأكلوا، وهو الذي كان قادراً على ذلك.»
«أنتم على خطأ. ليس موسى الذي استطاع فِعل ذلك، بل الربّ. ويقرأ المرء في سِفر الخروج: "ها أنا ممطر لكم خبزاً مِن السماء. فليَخرج القوم ليلتقطوه طعام كلّ يوم في يومه، لكي أمتحنهم هل يَسلكون في شريعتي أم لا. فإذا كان اليوم السادس فليُعدّوا ما يأتون به، وليكن ضِعف ما يلتقطونه في كلّ يوم احتراماً لليوم السابع، السبت". ورأى العبرانيّون البرّية تُغَطَّى كلّ صباح بذاك "الشيء الدقيق الذي يشبه ما يُهرَس في الجرن، والبَرَد، يُشبه بزر الكزبرة وطعمه كقطائف بعسل". وإذن، فليس موسى مَن وفَّر المنّ، بل الربّ. الربّ الذي بيده كلّ شيء. كلّ شيء. العقاب والبركة، الحرمان والإنعام. وأنا أقول لكم، إنّه مِن الاثنين، يُفضَّل البركة والإنعام على العقاب والحرمان.
موسى، كما قيل، كان "عزيزاً على قلب الربّ والناس، ذِكره كان مباركاً، لأنّه جُعِلَ مِن قِبَل الله شبيهاً بالقدّيسين في مجدهم، عظيماً ومريعاً للأعداء، قادراً على صنع المعجزات ووضع حدّ لهم، جليلاً أمام الملوك، ممثِّلاً لله أمام الشعب، رأى مَجد الله وسَمِع صوت العليّ، كان حارساً على الوصايا وعلى شريعة الحياة والعِلم". وكذلك الله، كما تقول الحكمة، حُبّاً بموسى، أطعَمَ شعبه خبز الملائكة، وأَرسَلَ له مِن السماء خبزاً مصنوعاً، دون تعب، خبزاً شهيّاً وذو طعم لذيذ. -تذكّروا جيّداً ما تقوله الحكمة- وبما أنّه كان نازلاً مِن السماء، مِن الله، وكان يُظهِر العذوبة الإلهيّة تجاه أبنائه، كان كلّ واحد يتذوّق به الطعم الذي كان يريد، ويؤمِّن لكلّ واحد التأثيرات التي كان يرغب بها، وكان مفيداً للطفل الرضيع ذي الـمَعِدة غير المكتملة، كما البالغ ذي الشهيّة والهضم القويّين، كما الفتاة الناعمة والعجوز الهَرِم. وحتّى، لإظهار أنّه لم يكن مِن صُنع بشر، قَلَبَ أنظمة العناصر، ذلك أنّ ذاك الخبز السرّيّ الذي كان يذوب كالجليد لدى طلوع الشمس، كان مقاوماً للنار. أو بالحريّ: فإنّ النار -ما تزال الحكمة هي التي تتكلّم- هي التي نسيت طبيعتها احتراماً لعمل الله خالقها، ومِن أجل حاجة المستقيمين في عينيّ الله، ففي الوقت الذي كانت تشتعل لتسبّب الغمّ، أصبحت هنا عذبة لتصنع خيراً للواثقين بالربّ. إذاً، فلأجل ذلك، بالتحوّل بكافة الأشكال، كانت بحسب نعمة الربّ، المغذّية للجميع، وحسب حاجات الذي يتضرّع إلى الآب الأزليّ، كي يتعلّم أبناؤه الأحبّاء أنّه ليس إنتاج الثمار هو الذي يغذّي الناس، بل إنّما كلمة الربّ هي التي تحفظ الذين يؤمنون بالله. بالفعل، لم تكن النار لتُفني المنّ اللذيذ، بحسب استطاعتها، حتّى ولو كانت ألسنتها مرتفعة وشديدة، بينما كانت شمس الصباح اللطيفة كافية لإذابته، وذلك كي يتذكّر الناس ويتعلّموا أنّه ينبغي البحث وطلب نِعَم الله منذ بداية النهار والحياة، وأنّه كي يكون الحصول عليها، يجبّ استباق النور والنهوض لتمجيد الأزليّ منذ أوّل ساعة في الصباح.
هذا ما كان المنّ يُعلِّمه للعبرانيّين، وأنا، أُذكّركم به لأنّه فَرْض دام وسيدوم إلى نهاية الدهور. اطلبوا الربّ وعطاياه السماويّة، دون تكاسل، حتّى الساعات المتأخّرة مِن النهار أو الحياة. انهضوا لتسبيحه، حتّى قبل أن تُسبِّحه الشمس الـمُشرِقة، وتغذّوا بكلمته التي تُقدِّس وتحفظ وتقود إلى الحياة الحقيقيّة. ليس موسى مَن أعطاكم الخبز السماويّ، إنّما، في الحقيقة، الذي مَنَحَه هو الله الآب، والآن، في الحقيقة، هو أبي الذي يمنحكم الخبز الحقيقيّ، الخبز الجديد، الخبز الأبديّ النازل مِن السماء، خبز الرحمة، خبز الحياة، الخبز الذي يَهِب العالم الحياة، الخبز الذي يُشبع كلّ جوع ويزيل كلّ وَهَن، الخبز الذي يَمنح كلّ مَن يتناوله الحياة الأبديّة والفرح الأبديّ.»
«أعطِنا، يا ربّ، مِن هذا الخبز، فلا نعود نموت.»
«ستموتون كما يموت كلّ إنسان، ولكنّكم تقومون للحياة الأبديّة إذا ما تغذّيتم مِن هذا الخبز بقداسة، لأنّه يَجعَل الذي يتناول منه غير قابل للفساد. وبالنسبة لإعطائكم إيّاه، فهو يُعطى للذين يطلبونه مِن أبي بقلب نقيّ ونيّة مستقيمة ومحبّة مقدّسة. لأجل هذا عَلَّمتُ القول: "أعطِنا خبزنا اليومي". أمّا الذين يتناولونه بغير استحقاق، فإنّه يُصبِح عجيج ديدان جهنّم، كَسِلال المنّ التي حُفظَت خلافاً للأمر الذي تمّ تلقّيه. وخبز الصحّة والحياة ذاك يصبح، بالنسبة إليهم، موتاً ودينونة. ذلك أنّ أعظم تدنيس للمقدّسات يُرتَكَب، سيكون مِن الذين سيضعون هذا الخبز على طاولة روحيّة فاسدة ونتنة، ويُدنِّسونه بمزجه بميول شهواتهم غير القابلة للشفاء. فالأفضل لهؤلاء لو لم يتناولوه أبداً!»
«ولكن أين هذا الخبز؟ كيف نجده؟ وأيّ اسم يَحمِل؟»
«أنا خبز الحياة. فيَّ أنا يجده المرء. اسمه يسوع. مَن يأتِ إليَّ لا يَجُع أبداً، ومَن يؤمن بي لا يعطش أبداً، لأنّ الأنهار السماويّة تصبّ فيه، مُطفِئة كلّ اضطرام مادّي. ولقد قُلتُ لكم ذلك. لقد عرفتموني، ومع ذلك لا تؤمنون. لا يمكنكم أن تؤمنوا أنّ كلّ ما هو كائن هو فيَّ أنا. ومع ذلك فالأمر هو هكذا. فيَّ أنا كلّ كنوز الله. لي أنا أُعطِيَ كلّ ما هو للأرض، وفيَّ أنا إذن اجتَمَعَت السماوات المجيدة والأرض الـمُجاهِدة، وحتّى جماعة الذين ماتوا في نعمة الله المتألّمون والمتأمّلون هُم فيَّ أنا، ذلك أنّ فيَّ ولأجلي كلّ سلطان هو. وأنا، أقول لكم: "كلّ مَن يعطينيه الآب يأتي إليَّ. وأنا لا أقصي الذي يأتي إليَّ، لأنّني نزلتُ مِن السماء لا لكي أعمل مشيئتي، بل إنّما مشيئة الذي أَرسَلَني. ومشيئة أبي، الآب الذي أَرسَلَني هي ذي: ألاّ أفقد أحداً مِن الذين أعطانيهم، بل أن أُقيمُهم في اليوم الأخير. الآن مشيئة الآب الذي أَرسَلَني هي أنّ كلّ مَن عَرف الابن وآمَنَ به تكون له الحياة الأبديّة، وأن أستطيع أن أقيمه في اليوم الأخير، وذلك برؤيته يتغذّى على الإيمان بي ويُوسَم بخاتمي.»
وحَدَث لَغط غير رزين في المجمع وفي الخارج، بسبب كلام المعلّم الجديد والجريء. وهو، بعد أن التقط أنفاسه للحظة، يلتفت بعينيه المشعّتين غِبطة إلى حيث كَثُر التذمّر، حيث جماعات اليهود بالتحديد. ويُعاوِد الكلام.
«لماذا تُتمتِمون فيما بينكم؟ نعم، أنا ابن مريم الناصريّة، ابنة يواكيم مِن نسل داود، العذراء المكرَّسة للهيكل، ثمّ المتزوجة مِن يوسف بن يعقوب، مِن نسل داود. الكثيرون منكم عرفوا البارَّين اللذين منحا الحياة ليوسف، النجار مِن أصل مَلَكيّ، ولمريم، عذراء وارثة مِن عِرق مَلَكيّ. وهذا يجعلكم تقولون: "كيف يمكن لهذا الادّعاء بأنّه نازل مِن السماء؟" ويتولّد فيكم الشكّ.
أُذكّركم بالأنبياء حول تجسّد الكلمة. وأذكّركم كيف أنّه، بالنسبة إلينا كإسرائيليّين أكثر مِن أيّ شعب آخر، مِن أساس الإيمان أنّ ذاك الذي لا نجرؤ على ذكر اسمه لا يمكنه أن يتّخذ لنفسه جسداً بحسب الشرائع البشريّة، وبالأخصّ بحسب شرائع إنسانيّة ساقطة. الكليّ الطُّهر، غير المخلوق، إذا ما تجرَّدَ حتّى صار إنساناً حبّاً بالإنسان، لم يكن بإمكانه اختيار غير أحشاء عذراء أطهر مِن الزنابق ليكسو ألوهيّته جسداً. الخبز النازل مِن السماء زمن موسى وُضِع في تابوت العهد الذهبيّ، المغطّى بالذبيحة التكفيريّة، تحرسه الشيروبيم، خلف حُجُب الخيمة. ومع الخبز كانت كلمة الله. وكان مِن العدل أن يكون هكذا، لأنّ أكبر قَدْر مِن الاحترام يجب أن يُعطى لعطايا الله ولموائد كلمته المقدّسة. ولكن حينئذ ما الذي هيّأه الله مِن أجل كلمته هو، ومِن أجل الخبز الحقيقيّ الآتي مِن السماء؟ تابوت عهد لم يُمَسّ، وثميناً أكثر مِن تابوت العهد الذهبيّ، توشّحه الذبيحة التكفيريّة الثمينة لمشيئته الطاهرة بالفِداء، يحرسه شيروبيم الله، يحجبه طُهر بتوليّ، تواضُع كامل، محبّة سامية، وكلّ الفضائل الأكثر قدسيّة.
وإذن؟ أفلا تُدرِكون بعد أنّ أبي الحقيقيّ هو في السماء، وبالتالي منها أنا أتيتُ؟ نعم، لقد انحَدَرتُ مِن السماء لأتمّم قرار أبي، قرار خلاص البشر بحسب الوعد المعطى في لحظة الإدانة نفسها، وقد تكرَّر للأحبار والأنبياء. ولكنّ ذلك هو الإيمان. والإيمان يُعطى مِن الله للذين لهم نَفْس ذات إرادة صالحة. وأيضاً، لا يستطيع أحد أن يأتي إليَّ إذا لم يَقده إليَّ أبي، الذي يَراه في الظلمات، إنّما الذي به رغبة حقيقيّة للنور. كُتِب في الأنبياء: "سيثقّفهم الله جميعاً". هو ذا، قد قيل. هو الله الذي يُعْلِمُهم أين ينبغي لهم أن يذهبوا كي يثقّفهم الله. إذن، فكلّ إنسان سَمِع الله يتكلّم في أعماق روحه المستقيم، أَعْلَمَه أبي أن يأتي إليَّ.»
«ومَن تريده أن يكون قد سَمِع الله أو رأى وجهه؟» يَسأَل الكثيرون وقد شَرَعوا بإظهار علامات هياج وشَكّ. وينتهون بالقول: «إنّكَ تَهذي أو إنّكَ متوهِّم.»
«لم يرَ أحد الله قط إلاّ الذي هو مِن الله. وهذا رأى الآب، وهذا هو أنا. والآن اسمعوا قانون إيمان الحياة المستقبليّة الذي لا خلاص بدونه.
الحقّ، الحقّ أقول لكم مَن يؤمن بي له الحياة الأبديّة. الحقّ، الحقّ أقول لكم أنا خبز الحياة الأبديّة.
آباؤكم أكلوا المنّ في البرّية وماتوا، ذلك أنّ المنّ كان غذاء مقدّساً، ولكنّه وقتيّ، وكان يمنح الحياة بالقدر الذي يكفي للوصول إلى الأرض التي وَعَد الله بها شعبه. أمّا المنّ الذي أنا هو فلا حدود له، لا زمنيّاً ولا سلطويّاً. وهو ليس سماويّاً وحسب، بل هو إلهيّ، ويَنتُج عنه ما هو إلهيّ: عدم الفساد، خلود مَن خَلَقَه الله على صورته كمثاله. وهو لا يدوم فقط أربعين يوماً، أربعين شهراً، أربعين سنة أو أربعين قرناً، ولكنّه يدوم ما دام الزمن، ويُعطى لكلّ الذين لديهم جوع مقدّس إليه مقبول لدى الربّ، الذي يُسَرّ بأن يَهِب ذاته بغير حدود للناس الذين تَجسَّدَ مِن أجلهم لتكون لهم الحياة التي لا موت لها.
أنا، يمكنني أن أَهِب ذاتي، يمكنني أن أتحوّل حبّاً بالبشر، بشكل أن يُصبِح الخبز جسداً والجسد خبزاً، مِن أجل الجوع الروحيّ لدى البشر الذين، بدون هذا الغذاء، يموتون مِن الجوع والأمراض الروحيّة. ولكن لو أكل أحد مِن هذا الخبز باستقامة، يحيا إلى الأبد. إنّ الخبز الذي سأُعطيه هو جسدي الذي يُبذَل مِن أجل حياة العالم؛ سيكون حبّي الذي يُسكَب في بيوت الله كي يُقبِل إلى مائدة الربّ المحبّون أو التعساء فيجدون التعزية لحاجتهم إلى الذوبان في الله، والسلوان لأحزانهم.»
«ولكن كيف يمكنكَ أن تُعطينا جسدكَ لنأكله؟ ماذا تعتَبِرنا؟ أحيوانات مفترسة؟ وحوشاً؟ قَتَلة؟ نحن نشمئزّ مِن الدم والجريمة.»
«الحقّ، الحقّ أقول لكم إنّ كثيراً ما يكون الإنسان أكثر مِن حيوان مفترس، والخطيئة تجعله أكثر مِن وحش، والكبرياء يؤجّج فيه العطش إلى القتل، وإنّ الحاضرين لا يشمئزّون جميعهم مِن الدم ومِن الجريمة. وحتّى في المستقبل سيكون الإنسان هكذا، لأنّ الشيطان والشهوة والكبرياء، تجعل منه حيواناً مفترساً. ومِن أجل إشباع حاجة أعظم ينبغي لكم، وسوف ينبغي لكلّ إنسان، التعافي مِن البذور الرهيبة بمنقوع القداسة.
الحقّ، الحقّ أقول لكم إنّكم إنْ لم تأكلوا جسد ابن الإنسان ولم تشربوا دمه، لن تكون لكم الحياة في ذاتكم. مَن يأكل جسدي باستحقاق ويشرب دمي له الحياة الأبديّة وأنا أقيمه في اليوم الأخير، لأنّ جسدي مأكل حقّ ودمي شراب حقّ. مَن يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه. كما الآب الحيّ أَرسَلَني، وأنا أحيا بالآب، كذلك مَن يأكلني يحيَ هو أيضاً بي ويذهب حيث أُرسِله، ويفعل ما أريد ويعيش بتقشّف كإنسان، ويكون مضطرماً مثل سيرافيم، ويصبح قدّيساً، ذلك أنّه كي يتمكّن مِن التغذّي بجسدي ودمي، سوف يمتنع عن ارتكاب الأخطاء، ويحيا وهو يسمو لينتهي به ارتقاؤه عند قدميّ الأزليّ.»
«ولكنّ هذا مجنون! مَن يقدر أن يحيا بهذه الطريقة؟ في ديننا ليس سِوى الكاهن الذي ينبغي له أن يتطهّر كي يقدّم الذبيحة. وهنا هو يريد أن يجعل منّا ضحايا جنونه. هذا المذهب شاقّ كثيراً وهذه اللغة صعبة جدّاً! مَن يستطيع سماعها وممارستها؟» يُهمهِم الحاضرون، وكثيرون منهم تلاميذ مشهورون.
تفرَّقَ الناس وهُم يُعلِّقون، وظَهَرَت صفوف التلاميذ وقد تقلَّصَت كثيراً، حين لم يبقَ في المجمع سوى المعلّم والأكثر وفاء له. لم أَعُدُّهم، ولكنّني أقول إنّ عددهم قد يصل إلى المائة. يُفتَرَض أن يكون هناك ارتداد كبير حتّى في صفوف التلاميذ القدامى الذين يعود زمن خدمتهم لله إلى أمد بعيد. بين الذين مكثوا، هناك الرُّسُل، الكاهن يوحنّا والكاتب يوحنّا، استفانوس، هَرْماس، تيمون، هرمست، اغاب، يوسف، سليمان، هابيل الذي مِن بيت لحم الجليل، وهابيل الأبرص مِن كورازين مع صديقه صاموئيل، إيلي (الذي استغنى عن الذهاب لدفن أبيه ليتبع يسوع)، فليبّس الذي مِن أربيلا، أَشِير وإسماعيل الناصريَّين، إضافة إلى آخرين لا أعرف أسماءهم. هؤلاء جميعهم يتحدّثون بهدوء مُعلِّقين على ارتداد الآخرين، وعلى كلام يسوع الذي يبقى غارقاً في التفكير، ذراعاه متصالبتان، ومتّكئاً على مَقرَأ مرتفع.
«هل أنتم تتشكَّكون ممّا قُلتُه لكم؟ ولو كنتُ قُلتُ لكم إنّكم سَتَرون يوماً ابن الإنسان يرتفع إلى السماء، حيث كان قبلاً، ويجلس إلى جانب الآب؟ وما الذي فَهِمتموه، استوعبتموه، وآمنتم به حتّى الآن؟ وبماذا سمعتم وتمثّلتم؟ أفقط بما هو بشريّ؟ إنّ الروح هو الذي يُحيي وهو القيِّم. والجسد لا ينفع في شيء. كلامي روح وحياة، وبالروح يجب أن يُسمع ويُفهَم لنيل الحياة. ولكنّ كثيرين منكم مات فيهم الروح لأنّه بدون إيمان. كثيرون منكم لا يؤمنون بحقّ، وعبثاً يمكثون بقربي. لن تكون لهم الحياة، بل الموت. لأنّهم إنّما يمكثون، كما قُلتُ سابقاً، إمّا بدافع الفضول، أو بعاطفة بشريّة، أو بما هو أسوأ، مِن أجل نهايات أكثر ضِعة. لم يَقُدْهم الآب إلى هنا مكافأة لهم على إرادتهم الصالحة، ولكنّ الشيطان هو الذي قادهم. في الحقيقة، لا يمكن لأحد أن يأتي إليَّ إن لم يُعطَ له ذلك مِن الآب. اذهبوا أنتم أيضاً، يا مَن مكثتُم بصعوبة، خَجِلين، بشريّاً، مِن تركي، ولكنّكم خَجِلون أكثر مِن بقائكم في خدمة مَن يبدو لكم "مجنوناً وقاسياً". اذهبوا. فالأفضل لكم أن تكونوا بعيدين للإساءة.»
ويَنسَحِب بعض آخر مِن التلاميذ، وكان بينهم الكاتب يوحنّا، ومرقس الجراساني المستحوذ عليه الذي شُفي بإرسال الشياطين إلى الخنازير. يتشاور التلاميذ الصالحون ويَركُضون خلف الذين تركوه، محاولين إيقافهم. وفي المجمع يبقي يسوع ورئيس المجمع والرُّسُل…
ويلتفت إليهم يسوع، وقد مكثوا في أحد الأركان متألّمين، ويقول لهم: «هل تريدون أنتم أيضاً أن تذهبوا؟» قالها بدون مرارة ولا حزن، إنّما بكثير مِن الجديّة.
بطرس، باندفاع متألّم، يقول له: «يا ربّ، إلى أين تريدنا أن نذهب؟ إلى مَن؟ أنتَ حياتنا وحبّنا، وعندكَ فقط كلام الحياة الأبديّة. نحن نَعلَم أنّكَ المسيح، ابن الله. إذا شئتَ فاطردنا. أمّا نحن، على ما نحن عليه، فلن نترككَ، حتّى... حتّى ولو لم تَعُد تحبّنا...» ويبكي بطرس دون صوت، وبدموع غزيرة... وكذلك أندراوس ويوحنّا وابنا حلفا يبكون جهاراً، والآخرون يَشحبون أو يحمرّون، مِن جرّاء الانفعال، ولا يبكون، بل يتألّمون بشكل ملحوظ.
«لماذا أطردكم؟ ألم أختركم أنا، أنتم الاثني عشر؟...»
وينسَحِب يائيروس بحذر، كي يُفسِح المجال ليسوع كي يشدّ مِن أزر رُسُله أو يوبّخهم. ويسوع الذي يُلاحِظ انسحابه الصامت، يَجلس، وقد بدا عليه الإنهاك، وكأنّ ذلك الكشف الذي أَفصَحَ عنه كان قد كلَّفَه جهداً يفوق ما يمكنه القيام به، مُرهَقاً، مُشمئزّاً ومتألّماً، ويقول: «ومع ذلك فأحدكم شيطان هو.»
وتقع الكلمة بطيئة، مخيفة، في المجمع، حيث ليس هناك سوى أنوار مصابيح عديدة تتراقص فَرِحة... ولا يجرؤ أحد على التفوّه بكلمة. ولكنّهم ينظرون بعضهم إلى بعض، مرتجفين مِن الخوف، متسائلين بقلق، وبسؤال أكثر قَلَقاً وأكثر حميميّة، يفحص كلّ منهم ذاته…
خلال مدّة، لا أحد يتحرّك. ويبقى يسوع وحده على كرسيّه، يداه متصالبتان على ركبتيه، خافضاً رأسه. ثمّ يرفعه بعد ذلك ويقول: «تعالوا. فأنا لستُ أبرصاً! أو إنّكم تظنّونني كذلك؟...»
ويتقدّم يوحنّا مسرعاً ويرتمي على عنقه قائلاً: «إذن، أنا معكَ في البرص، يا حبّي الوحيد. معكَ في الإدانة. معكَ في الموت، إذا كنتَ تظنّ أنّ ذلك ينتظركَ...» ويزحف بطرس إلى قدميه، يأخذهما ويضعهما على كتفيه منتحباً: «اعصرني، اسحقني تحت قدميكَ! ولكن لا تدعني أُفكِّر أنّكَ ترتاب بسمعانكَ.»
الآخرون، حينما يَرَون يسوع يُلاطِف الاثنين الأوَّلين، يتقدّمون ويُقبِّلون ثيابه ويديه وشعره... وحده يهوذا الاسخريوطيّ يتجاسر ويُقبِّله على وجهه.
فجأة ينهض يسوع، ويبدو وكأنّه يَدفَعه على حين غرّة، كون حركته أتت مُباغِتة، ويقول: «هيّا بنا إلى البيت. غداً مساء، أثناء الليل، سنمضي بالـمَراكِب إلى إيبو.»