ج1 - ف9

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الأول

 

9- (بعد ثلاث سنوات ستكونين هنا، يا زنبقتي)

 

28 / 08 / 1944

 

إنّي أرى يواكيم وحنّة مع زكريّا وأليصابات يَخرجون مِن منزل في أورشليم، مِن المؤكّد أنّه منزل أصدقاء أو أقرباء. إنّهم يتوجّهون صوب الهيكل للمشاركة في طقوس التطهير.

 

الطفلة بين يديّ حنّة مقمّطة بشكل جيّد، يلفّها غطاء صوفيّ خفيف المفروض أنّه ناعم ودافئ. إنّها تحمل وليدتها الصغيرة بعناية بالغة وحبّ لا يوصف، وتراقبها وهي ترفع طرف الغطاء الناعم والدافئ بين آونة وأخرى لتَرى ما إذا كانت مريم تتنفّس بشكل جيّد، ثمّ تعود لتغطّيها فتحميها وتقيها مِن الهواء البارد في يوم جميل مِن أيّام الشتاء، ولكنّه يوم بارد!

 

كانت أليصابات تحمل رُزَماً بين يديها. ويواكيم يجرّ حَمَلين كبيرين ناصعي البياض مربوطين بحبل، إنّهما أكثر مِن حَمَلين، إنّهما بالأحرى خروفان. لم يكن زكريّا يحمل شيئاً. إنّه وسيم جدّاً في ثوبه الكتّاني الذي يَظهَر مِن خلال معطفه الصوفيّ الأبيض الثقيل. زكريّا أكثر شباباً ممّا كُنتُ قد رأيتهُ عند ولادة المعمدان، وهو بكامل قوّته. أليصابات أيضاً في سنّ ناضجة ولكنّها تبدو نَضِرَة. وفي كلّ مرة كانت حنّة تنظر إلى الطفلة، كانت تنحني بنشوة على الوجه الصغير النائم، وهي أيضاً كانت جميلة جدّاً بثوبها اللازورديّ المائل إلى البنفسجيّ القاتم، ووشاحها الذي يغطّي رأسها وينزل على كتفيها وعلى المعطف الأغمق لوناً مِن الثوب.

 

كان يواكيم وحنّة بشكل خاصّ مهيبين في ثياب العيد. على غير عادته، لم يكن يواكيم مرتدياً جلبابه الكستنائيّ الداكن، بل ثوباً طويلاً أحمر داكناً -كما يُطلَق عليه اليوم لون أحمر القديس يوسف- أمّا أهداب معطفه فجديدة وجميلة، وعلى رأسه نوع مِن الوشاح المستطيل المحاط بشريط دائريّ مِن الجلد. كلّ ثيابه كانت جديدة وناعمة.

 

حنّة! آه! لا تلبس ثوبها الداكن اليوم! بل هي ترتدي ثوباً أصفر فاتحاً جداً، يشبه لون عاج عتيق، تشدّه على الخصر وحول العنق والأكمام بشريطة تبدو مِن الذهب والفضة، كما تغطّي رأسها بوشـاح رقيق جدّاً حتّى يبدو كأنّه مدمقس، ومثبَّت على جبهتها بشريحة نفيسة. وفي عنقها عقد مصاغ، وفي معصمها أساور. حتّى لَتَحسبها ملكة حقيقيّة لمهابتها وهي ترتدي الثوب، خاصّة المعطف الأصفر الفاتح بحاشيته الموشّاة برسومات بديعة. لوناً على لون.

 

تقول لها أليصابات: «يبدو لي وكأنّي أراكِ يوم زفافكِ، كنتِ يومئذ طفلة صغيرة، إلاّ أنّني أتذكّركِ جيّداً، كم كنتِ جميلة وسعيدة!»

 

«ولكنّني الآن أنا كذلك، بل أنا أكثر من ذلك، لقد أردتُ أن أظهَر بنفس ذاك المظهَر في هذا الاحتفال، لقد احتفظتُ به ليوم العيد هذا... وأنا لا أمل لي بارتداء ثيابي هذه في يوم كهذا بعد...»

 

تقول أليصابات بتنهّد: «لقد أحبّكِ الربّ كثيراً.»

 

«لأجل ذلك أُقَدِّم له أحَبّ ما لديّ، هذه الزهرة... زهرتي.»

 

«كيف ستستطيعين انتزاعها مِن صدركِ عندما تزفّ الساعة؟»

 

«أتذكّر أنّها لم تكن وأن الربّ أعطانيها. سأكون أكثر سعادة في تلك الساعة، عندما أعلَم أنّها في الهيكل، سأقول لنفسي: "إنّها تصلّي عند خيمة تابوت العهد، ستصلّي لإله إسرائيل مِن أجل والدتها أيضاً". سأشعر بالسلام، بل سأختبر سلاماً أعظم وأنا أقول لنفسي: "إنّها لـه بكاملها، وعندما لا يعود العجوزان اللذان تَلَقَّياها مِن السماء في الوجود يبقى، هو الأزليّ، أباها". ثقي بي، إنّني متأكّدة بأنّ هذه الطفلة ليست لنا، لسنا نملكها، فأنا لم أكن في وضع أستطيع معه شيئاً... هو زَرَعَها في أحشائي، هبة إلهيّة، ليمسح دموعي ويثبّت رجاءنا وصلاتنا. إذاً هي لـه. أمّا نحن فلسنا سوى حرّاس سعداء... فليتمجّد اسمه!»

 

ها هُم وقد وصلوا أمام سور الهيكل.

 

«عندما تمضون إلى البوّابة، سأذهب أنا لأخبر الكاهن، ثمّ أعود.» قالها زكريّا وغاب خلف قنطرة، هي مدخل إلى ساحة كبيرة محاطة بأروقة.

 

تابَعَ الجَّمع التقدّم عبر شرفات متتالية -لستُ أدري ما إذا كنتُ قد تحدّثتُ عن ذلك سابقاً- إنّ سور الهيكل على مستويات مختلفة، ولكنّه يتوالى صعداً بمسطّحات متتالية أكثر ارتفاعاً الواحدة عن الأخرى. وكلّ شرفة يُرتقَى إليها بِدَرَجات، وهي محاطة بساحات وأروقة ومداخل رائعة مِن الرخام والبرونز والذهب.

 

قبل الوصول إلى مكان الالتقاء، توقَّفوا ليُخرِجوا مِن الرُّزم الأشياء التي جُلبَت: فطائر كما يبدو لي، كبيرة ومنبَسِطة والسمن فيها وفير. طحين أبيض وحمامتان في قفص، وقطعتا فضّة كبيرتان: إنّه نوع مِن العملة الثقيلة، لدرجة أنّه كان مِن حسن الحظّ آنئذ أنّه لم يكن هناك جيوب، وإلاّ لكانت هذه العملة تثقبها باستمرار.

 

ها هو باب نيكانور الجميل، إنّه رائع، كُتلة مشغولة بالبرونز وملبّسة بالفضّة. وها هو زكريّا إلى جانب أحد الكَهَنَة، جليل بثوبه الكتّاني. تتلقّف حنّة رشة الماء، أظنّها مياه التطهير، ثمّ تمتثّل للأمر بالتقدّم باتّجاه مذبح المُحرقة.

 

لم تعد الطفلة بين يدي والدتها، لقد أخَذَتها اليصابات وبَقِيَت خارجاً بينما دَخَلَ يواكيم خلف زوجته جارّاً بشكل عكسي حَمَلاً بائساً يثغو. أمّا أنا... ففعلتُ كما في تطهير مريم: أغمضتُ عينيّ لكي لا أرى تلك المذبحة.

 

الآن تطهَّرَت حنّة.

 

هَمَسَ زكريّا بكلمات لصديقه الذي سَمِعَها وابتَسَم. ثمّ لحق هذا الأخير الجَّمع الذي انتظَم مُهنِّئاً الأب والأُمّ بفرحتهما وإيمانهما بالوعود، وتَقبُّل الحَمَل الثاني والطحين والفطائر.

 

«هذه الفتاة إذن مكرَّسة للربّ؟ بركته سترافقها وترافقكم كذلك. ها هي حنّة أخرى تَصِل، ستكون واحدة مِن معلماتها، إنها حنّة بنت فَنُوئيل مِن سِبط أَشير. تعالي أيّتها المرأة، فهذه الطفلة تُقدَّم للهيكل وسوف تصبحين معلّمتها، وستنمو تحت حراستكِ في القداسة كقربان تسبيح.»

 

حنّة بنت فَنُوئيل، المتسربلة الأبيض بشكل كامل، تداعب الطفلة التي استيقظَت وهي تنظر بعينيها البريئتين والمندهشتين إلى كلّ هذا البياض، إلى كلّ هذا الذهب الذي يلمع تحت الشمس.

 

المفروض أنّ الاحتفال انتهى، ومع ذلك لم أرَ طقوساً خاصّة لتقدمة مريم. قد يكون البوح بذلك للكاهن وبالأخصّ لله قرب الموضع المقدّس كافياً.

 

تقول حنّة: «أودّ لو أُقرِّب التقادم للهيكل، وأَذهَب هناك حيث رأيتُ النور العام الماضي.»

 

يذهب الجميع برفقة حنّة بنت فَنُوئيل. إلّا أنّهم لم يَلِجوا داخل الهيكل، وهذا أمر مفروغ منه بوجود نساء وطفلة. لم يذهبوا إلى المكان الذي قَدَّمت فيه مريم ابنها. إنّما قرب الباب المفتوح على مصراعيه ينظرون إلى الداخل شبه المظلم، حيث تنطلق أصداء حناجر شابّات في تراتيل عذبة، وحيث تضيء أنوار نفيسة تنشر نوراً مُذهَّباً على رؤوس رَتلَين بأوشحة بيضاء: رَتلَي زنبق حقيقيّين.

 

«بعد سنوات ثلاث ستكونين هنا أيضاً يا زنبقتي.» هذا هو الوعد الذي نَطَقَت به حنّة وكان موجّهاً لمريم التي تنظر إلى الداخل كالمسحورة، مشدوهة ومبتسمة للتراتيل المنبعثة ببطء.

 

تقول حنّة بنت فَنُوئيل: «يبدو لي أنّها فَهِمَت، إنّها طفلة رائعة، ستكون عزيزة على قلبي كما لو أنّها ابنتي الحقيقيّة. أعدكِ بذلك أيّتها الأُمّ، إذا ما كُتِب لي عُمر.»

 

يجيب زكريا: «ستكونين هنا يا امرأة، وستستقبلينها بين الفتيات المكرَّسات. وسأكون أنا أيضاً هنا، أريد أن أكون هنا في ذلك اليوم لأطلب منها أن تصلّي مِن أجلنا منذ دخولها...» ثمّ ينظر إلى زوجته التي تُدرِك قوله وتتنهّد.

 

ينتهي الاحتفال، وتنسحب حنّة بنت فَنُوئيل، بينما يخرج الباقون مِن الهيكل يتحدّثون فيما بينهم.

 

أَسمَع يواكيم يقول: «كنتُ على استعداد ليس فقط لتقديم أفضل حَمَلين عندي، بل لأن أقدّمها كلّها لأجل هذه الفرحة، ولتسبيح الربّ.»

 

لم أعد أرى شيئاً.