ج6 - ف104

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السادس/ القسم الأول

 

104- (في بيت عنيا)

 

11 / 04 / 1946

 

سماء الغسق حمراء عندما يصل يسوع إلى بيت عنيا. يتبعه أتباعه وهم يتصبّبون عرقاً، وقد كساهم الغبار. يسوع والرُّسُل هم وحدهم الذين يَتَحَدّون أَتُون الطريق التي تمنحها قليلاً مِن الظلّ الأشجار المستمرّة مِن جبل الزيتون إلى سفوح بيت عنيا. احتَدَمَ الصيف، ولكنّ الحقد أكثر احتداماً. الحقول عارية ومحترقة، هي أفران تتصاعد منها نفثات نار. إلاّ أنّ نفوس أعداء يسوع هي أكثر عرياً، لا أقول مِن الحبّ، بل مِن النزاهة، مِن الحسّ الوجدانيّ، بل حتّى الإنسانيّ، وقد أحرقهم الحقد... وليس ليسوع سوى بيت واحد، ملجأ واحد: بيت عنيا. هناك الحبّ، هناك العزاء، والحماية، والوفاء... الحاجّ الـمُضطَهَد يتوجّه إليها بثوبه الأبيض، ووجهه الحزين، والخطوة التَّعِبة لِمَن لا يستطيع التوقّف، لأنّ أعداءه يخزونه مِن الخلف، والنَّظرة المستسلمة لِمَن يُتمّ موت كلّ ساعة، كلّ خطوة تقرّبه منه وهو أَصبَحَ راضياً طاعة لله…

 

البيت، وسط حديقته الواسعة، مغلق وصامت، في انتظار الأوقات الأكثر رطوبة. الحديقة فارغة وصامتة، والشمس تسود وحدها.

 

يهتف توما بصوته الجهير.

 

ينزاح ستار، ووجه ينظر بحذر... ثمّ صيحة: «المعلّم!» ويَهرَع الخُدّام إلى الخارج، وقد تبعتاهم المعلّمتان مندهشتين، إذ لم تكونا تنتظران يسوع بالتأكيد في ساعة الهجير هذه.

 

«رابّوني!» «سيّدي!» مرثا ومريم ترميان السلام مِن بعيد، وقد انحنتا، جاهزتين للركوع، كذا كانتا تفعلان مذ فُتحَت البوابة. لم يعد يسوع بعيداً عنهما.

 

«مرثا، مريم، السلام لكما ولبيتكما.»

 

«السلام لكَ، أيّها المعلّم والربّ... ولكن كيف إذن في مثل هذه الساعة؟» تَسأَل الأختان بينما تصرفان الخُدّام ليتمكّن يسوع مِن الكلام بحرّيّة.

 

«لأريح الجسد والروح حيث لا بُغض...» يقولها يسوع بحزن وهو يمدّ يديه كما ليقول: «هل تريدانني» ويجتهد في الابتسام، ولكنّها ابتسامة حزينة للغاية تفضحها نظرة العينين المتألّمتين.

 

«هل سبّبوا لكَ الأذى؟» تَسأَل مريم ثائرة.

 

«ماذا حصل لكَ؟» تَسأَل مرثا، وتضيف بلهجة أموميّة: «تعال، سوف أقدّم لكَ ما تستعيد به قواكَ. منذ متى وأنتَ تسير لتكون تعباً لهذه الدرجة؟»

 

«منذ الفجر... ويمكنني القول بشكل مستمرّ، ذلك أنّ التوقّف القصير في بيت حِلقِيّا السنهدرينيّ كان أسوأ مِن مسير طويل...»

 

«هل نغّصوا عليكَ؟...»

 

«نعم. وقبلها في الهيكل...»

 

تَسأَل مريم: «ولكن لماذا ذهبتَ إلى بيت ذلك الثعبان؟»

 

«لأنّ عدم الذهاب كان سيكون في مصلحة حقده الذي كان سيدينني باحتقار أعضاء السنهدرين. ولكن مع ذلك... إن ذهبتُ أم لم أذهب، فإنّ مقدار الحقد الفرّيسيّ قد بَلَغَ الجمام... ولن يعود هناك مِن هدنة...»

 

«نحن لها هنا؟ امكث معنا، يا معلّم. هنا لن يؤذوكَ...»

 

«سأُقصِّر في رسالتي... نفوس كثيرة تنتظر مخلّصها. ينبغي لي الذهاب...»

 

«ولكنّهم سيمنعونكَ مِن الذهاب!...»

 

«لا. إنّهم يضطهدونني بجعلي أسير لدراسة كلّ خطوة مِن خطواتي، بجعلي أتكلّم لتحرّي كلّ كلمة، بمراقبتي كما تَلحَق كلاب الصيد طرائدها لتنال منها... أيّ شيء يمكن أن يبدو كخطأ... والكلّ يفيد...»

 

مرثا، المتحفّظة جدّاً على الدوام، تَختَبِر كمّاً مِن الإشفاق بحيث ترفع يدها مِن أجل ملاطفة الخدّ الذي أصابه الهزال، ولكنّها تتوقّف وقد اعتلاها الاحمرار، وتقول: «عفواً! لقد آلمتني تماماً كلعازرنا! سامحني، يا ربّ، لكوني أحببتكَ كأخ لي يتألّم!»

 

«أنا الأخ المتألّم... أحِبّيني حبّ أخوات طاهر... ولكن لعازر ماذا يفعل؟»

 

«سقيم، يا ربّ...» تجيب مريم وتتيح المجال للدموع التي أضحت تخز عينيها مع هذا البوح الذي يُضاف إلى ألم رؤية معلّمها حزيناً هكذا.

 

«لا تبكي يا مريم، لا مِن أجله ولا مِن أجلي. نُتمّم المشيئة الإلهيّة. علينا البكاء على الذين لا يعرفون أن يتمّموا هذه المشيئة...»

 

تنحني مريم للإمساك بيد يسوع وتُقبّل أطراف الأصابع.

 

في هذه الأثناء، يَصِلون إلى البيت ويَدخُلون متوجّهين رأساً إلى لقاء لعازر، بينما يستريح الرُّسُل منتعشين بما يقدّمه لهم الخُدّام.

 

ينحني يسوع على لعازر الذي هزل، وهو يزداد هزالاً، ويقبّله مبتسماً للتخفيف مِن حزن صديقه.

 

«كم تحبّني، يا معلّم! فأنتَ لم تنتظر حتّى المساء لتأتي إليَّ، في هذا الحرّ...»

 

«يا صديقي، أنا أفرح بكَ، وأنتَ بي. وما تبقّى ليس بشيء.»

 

«صحيح، ليس بشيء. حتى ألمي ليس بشيء بالنسبة إليَّ... الآن أعلم لماذا أتألّم، وما يمكنني فِعله بهذا الألم.» ويبتسم لعازر ابتسامة حميميّة، روحيّة.

 

«إنّه هكذا يا معلّم. نحسب لعازر يكاد يَنظُر بمتعة إلى الألم و...» وبكاء يكسر صوت مرثا التي تصمت.

 

«ولكن نعم، قوليها ببساطة: والموت. يا معلّم قُل لهما إنّ عليهما مساعدتي كما يفعل اللاويّون مع الكَهَنَة.»

 

«بماذا، يا صديقي؟»

 

«إتمام التضحية...»

 

«ومع ذلك فقد كان الموت يجعلكَ ترتجف، منذ وقت قريب! ألم تعد تحبّنا؟ ألم تعد تحبّ المعلّم؟ ألا تريد خدمته؟...» تَسأَله مريم بأكثر قوّة، إنّما يعلوها الشحوب مِن الحزن، وتُلاطِف يد أخيها الصفراء.

 

«أأنتِ التي تطلبين ذلك، بالضبط أنتِ، النَّفْس المتّقدة والكريمة؟ ألستُ أخاكِ؟ ألستُ أحمل الدم ذاته الذي لكِ والحبّ ذاته الذي تملكين: يسوع، النُّفوس، وأنتما الأختين المحبوبتين؟... إنّما منذ الفصح تلقّت نفسي كلمة عظيمة. وأُحِبّ الموت. يا ربّ، أُقدِّمه لكَ مِن أجل نواياكَ ذاتها.»

 

«ألم تعد تطلب منّي الشفاء إذن؟»

 

«لا، يا رابّوني. أَطلُب بركتكَ لأعرف كيف أتألّم و... أموت... و، إذا لم يكن كثيراً الطلب، والافتداء... هو أنتَ مَن قلتَ ذلك...»

 

«أنا قلتُ ذلك وأبارككَ لأمنحكَ كلّ قوّة» ويضع يديه عليه ثمّ يُقبّله.

 

«سنبقى معاً وتثقّفني...»

 

«ليس الآن يا لعازر، لن أبقى. أتيتُ لساعات. سأرحل ليلاً.»

 

«ولكن لماذا؟» يَسأَل الثلاثة وقد خاب أملهم.

 

«لأنّني لا أستطيع البقاء... سأعود في الخريف. حينذاك سأمكث طويلاً وأعمل كثيراً هنا... وفي الأماكن المجاورة...»

 

صمت حزين. ثمّ ترجوه مرثا: «إذاً، على الأقلّ خُذ قسطاً مِن الراحة، استعد قواكَ...»

 

«لا شيء يُشدّد عزيمتي أكثر مِن حبّكم. اجعلوا الرُّسُل يستريحون ودعوني أبقى معكم هنا، هكذا، بسلام...»

 

تخرج مرثا وهي تبكي لتعود حاملة حليباً بارداً وفواكه طازجة…

 

«لقد تناوَلَ الرُّسُل الطعام، وبما أنّهم تَعِبون، ناموا. يا معلّم، ألا تريد حقّاً أن تأخذ قسطاً مِن الراحة؟»

 

«لا تصرّي يا مرثا. قبل بزوغ الفجر سوف يبحثون عنّي هنا، في جَثْسَيْماني، لدى يُوَنّا، وفي كلّ بيت مضيف. ولكن عند الفجر سأكون قد أصبحتُ بعيداً.»

 

«أين تذهب يا معلّم؟» يَسأَل لعازر.

 

«إلى أريحا، إنّما ليس عبر الدرب المعتاد... سأدور حول تيكوا (Tecua) ثمّ أعود إلى أريحا.»

 

«طريق مضنية في هذا الفصل!...» تُهمهم مرثا.

 

«لأجل ذلك بالضبط هي خاوية. سنرحل ليلاً. الليالي مضاءة حتّى قبل بزوغ القمر... والفجر يبزغ باكراً جدّاً...»

 

«وبعد ذلك؟» تَسأَل مريم.

 

«وبعد ذلك فيما بعد الأردن، وفي مستوى السامرة مِن جهة الشمال، سأعبر النهر لآتي إلى هذه الجهة.»

 

«اذهب إلى الناصرة ، بسرعة. أنتَ تَعِب...» يقول لعازر.

 

«قبل ذلك عليَّ الذهاب إلى ضفاف البحر... ثمّ... سأذهب إلى الجليل، ولكنّهم سيضطهدونني حتّى هناك...»

 

«ستكون لكَ أُمّكَ على الدوام لتشدّد مِن عزيمتكَ...» تقول مرثا.

 

«نعم، الأُمّ المسكينة!»

 

«يا معلّم، إنّ مجدلا هي لكَ. أنتَ تعلم ذلك.» تُذكّره مريم.

 

«أعلم ذلك، يا مريم... أعلم كلّ الخير وكلّ الشرّ...»

 

«بهكذا فرقة!... لزمن طويل! هل ستعود لتجدني حيّاً، يا معلّم؟»

 

«لا تشكّ بذلك. لا تبكوا... يجب الاعتياد حتّى على الانفصالات. فهي مفيدة في اختبار قوّة العواطف. تُفهَم القلوب بشكل أفضل، بالنَّظر إليها نظرة روحيّة، مِن بعيد. عندما لا يعود المرء مُفسَداً بالمتعة البشريّة بوجود المحبوب، يمكنه التأمّل بروحه وبحبّه... تُدرَك أكثر الأنا للذي هو في البعيد... أنا على ثقة أنّكم بتفكيركم بمعلّمكم ستفهمونه بشكل أفضل عندما سترون وتتأمّلون في السلام أعمالي وعواطفي.»

 

«آه! يا معلّم! ولكن نحن، لا شكّ لدينا فيكَ!»

 

«ولا أنا أشكّ فيكم. أعلم ذلك، إنّما ستعرفونني أكثر. ولستُ أقول لكم أن تحبوني، ذلك أنّني أعلم ما في قلوبكم. أقول فقط: صلّوا لأجلي.»

 

يبكي الثلاثة... يسوع حزين!... كيف لا يبكون؟

 

«ما الذي تريدونه؟ كان الله قد أَرسَلَ الحبّ وسط الناس. ولكنّ الناس استبدلوه بالبغض... والبغض يُفرّق ليس فقط الأعداء فيما بينهم، إنّما يتسلّل لتفريق الأصدقاء.»

 

صمت طويل.

 

بعد ذلك يقول لعازر: «يا معلّم، ارحل عن فلسطين لبعض الوقت...»

 

«لا. فمكاني هنا لأعيش، وأُبشّر، وأموت.»

 

«ولكن مع ذلك فقد تدبّرتَ أمن يوحنّا واليونانيّة. اذهب معهما.»

 

«لا. فهما كان يجب تخليصهما. أما أنا فينبغي لي أن أُخلِّص. وهذا هو الفرق الذي يُفسِّر كلّ شيء. الهيكل هنا، وهنا هو الجسد. لا يمكنني الذهاب إلى مكان آخر. وفيما يبقى!... هل تظنّون أنّ هذا يغيّر شيئاً ممّا هو مقرَّر؟ لا. لا على الأرض ولا في السماء. ذلك يُظلِم فقط النقاء الروحيّ للوجه المَسيّانيّ. أكون "الجبان" الذي يُنقِذ نفسه بالهرب. ينبغي لي أن أكون الـمَثَل المحتذى للذين هم الآن والذين سيأتون، أنّه يجب أن لا يكون المرء جباناً في الأمور الخاصّة بالله، الأمور المقدّسة...»

 

«أنتَ على حقّ، يا معلّم.» يتأوّه لعازر.

 

ومرثا، بينما تزيح الستار، تقول: «أنتَ محقّ... يهبط المساء، لم يعد مِن أثر للشمس...»

 

تبكي مريم بضيق، كما لو أنّ هذه الكلمة كان لها القُدرة على إذابة قوّتها الوجدانيّة التي حوّلت بكاءها إلى دموع صامتة. إنّها دموع أكثر تمزيقاً مِن التي كانت في بيت الفرّيسيّ، عندما كانت تلتمس بدموعها غفران المخلّص…

 

«لماذا تبكين هكذا؟» تَسأَل مرثا.

 

«لأنّكِ قلتِ الحقيقة، يا أختي! لم تعد هناك شمس... المعلّم يمضي... لم تعد لي شمس... لنا...»

 

«كونوا بخير. أبارككم ولتحلّ بركتي عليكم. والآن اتركاني مع لعازر التَّعِب وهو في حاجة إلى الصمت. سأستريح بالسَّهر على صديقي. اهتمّا بالرُّسُل واحرصا على أن يكونوا مستعدّين في الليل...»

 

تنسحب الأختان، ويبقى يسوع صامتاً، مختلياً بنفسه، جالساً قرب الصديق الخامل الذي، إذ يكتفي بهذا الحضور، ينام وابتسامة خفيفة ترتسم على وجهه.