ج6 - ف81
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الأول
81- (شفاء أليشع أبرص عين جدي)
22 / 02 / 1946
ينبغي لهم، وقد يكون ذلك بحسب مشورة سكّان عين جدي أنفسهم، تسبيق رحيلهم، ذلك أنّ الليل في أوجه، والقمر الذي يكاد يكون بدراً ينير البلدة بنور ساطع للغاية. الأزقّة كشرائط الفضّة وسط مكعّبات البيوت وأسوار الحدائق، التي تبدو وكأنّها بَدَّلَت الكلس بمرمر نَحّات بفعل تأثير الأشعة القمريّة السحريّة. النخيل والأشجار الأخرى اتّخذت مظهراً خرافيّاً، مغلَّفاً بوميض القمر الفوسفوريّ. الينابيع والجداول الصغيرة هي كشلاّلات صغيرة وقلادات مِن الماس. في الإيراقات العنادل تسرد سلاسل علامات موسيقيّة، ضامّة تغريدها المدهش إلى نشيد المياه الذي يُسمِع، في الليل، أصواتاً أكثر نقاء.
البلدة نائمة، إنّما هناك بعض الأشخاص مع يسوع الذَّاهب. إنّهم رجال البيوت المضيفة ليسوع والرُّسُل، وبعض السكّان الآخرين الذين انضمّوا إليهم. رئيس المجمع يسير إلى جانب يسوع. آه! إنّه لا يريد التخلّي عن مرافقته، حتّى عندما رجاه يسوع ذلك، قبل ولوج ملء الريف.
ويمضون في اتّجاه الطريق التي تقود إلى مسادة، ليست الطريق المنخفضة التي تحاذي البحر الميت والتي أسمع القول عنها بأنّها وَبيلة وخطرة إذا ما سُلِكت ليلاً، بل باتّجاه الطريق الداخليّة المشيّدة على المنحدر، تكاد تكون على قمّة الهضاب التي تجانب البحيرة.
رائعة هي الواحة في ضوء القمر! يبدو وكأنّ المرء يسير في بلد الأحلام. ثم الواحة، الواحة الحقيقيّة، تنتهي وتغدو أشجار النخيل قليلة. إنّه الجبل بمعنى الكلمة، بدوحاته، حقوله، بحروفه حيث حُفرت الكهوف كما في كلّ جبال فلسطين تقريباً. إنّما هنا أقول إنّها أكثر عدداً، وفتحاتها غريبة، بالطول أو بالعرض، البعض مستقيمة، الأخرى منحرفة، منها ما هو مستدير في جانب، ومنها ما هو مجرّد ثغر، لها مظهر مخيف في ضوء القمر.
«إبراهيم، الطريق هي إلى أسفل. لماذا تستمرّ في الصعود جاعلاً الطريق أطول بسلوك درب غير مطروق؟» ينتقد أحدهم مِن عين جدي.
«لأنّ عليَّ أن أدلّ مَسيّا على أمر ما والطَّلب منه فِعل شيء علاوة على أفعال الخير العظيمة التي عملها لنا. ولكن إذا كنتم تعبين عودوا أو انتظروني هنا. سأمضي وحدي.» يقول العجوز الذي يسير بصعوبة لاهثاً على الدرب الصعب والشّديد الانحدار.
«آه! لا! نأتي معكَ. ولكنّ تعبكَ يؤلمنا. أنتَ تلهث...»
«آه! ليس الدّرب!... بل هو أمر آخر! إنّه سيف يحفر في قلبي... ورجاء يضخّمه. تعالوا، يا أبنائي، وستعرفون الألم، الألم الذي كان في قلب مَن كان يُعزّي كلّ آلامكم! كَم مِن... لا قنوط، هذا لا، بل... إذعان لعدم الرجاء بأيّ فرح مطلقاً، كان في قلب مَن كان يدعوكم دائماً للرجاء بالله القادر على كلّ شيء... لقد علّمتكم الإيمان بمَسيّا... هل تتذكّرون، حين كنتُ أستطيع فِعل ذلك دون أن أتسبّب له بالأذى، كيف كنتُ أتحدّث عنه بثقة؟ كنتم تقولون: "ولكن مذبحة هيرودس؟" إيه! نعم! كانت شوكة عظيمة في القلب! ولكنّني كنتُ متمسّكاً بالرجاء بكلّ ما أوتيتُ مِن قُدرة... كنتُ أقول: "إذا كان هؤلاء الثلاثة، الذين لم يكونوا حتّى مِن إسرائيل، قد أَرسَلَ الله لهم النجمة داعياً إيّاهم لعبادة مَسيّا الطفل، وإذا قادهم مِن خلالها إلى البيت الفقير الذي كان رابّيو إسرائيل يجهلونه، وأمراء الكَهَنَة والكتبة، وإذا كان قد حذَّرَهم عن طريق الحلم ألاّ يعودوا إلى هيرودس، لينقذ الطفل، ألم يكن، باستخدامه لقدرة أعظم، تحذير الأب والأُمّ للفرار، حامِلِين أمل الله والإنسان إلى مكان آمن؟"
وكان الإيمان بخلاصه ينمو، عبثاً يهاجمه الشكّ البشريّ وكلام الآخرين... وعندما... عندما تسلّط عليَّ أعظم ألم يمكن لأب أن يتحمّله... عندما فُرض عليَّ أن أقود حيّاً إلى أحد القبور... والقول له... والقول له... "ابقَ هنا ما دامت حياتكَ... وفَكّر أنّه إذا كان حُبّ ملاطفات الأُمّ أو سبب آخر يدفعكَ صوب البيوت، سيكون لزاماً عليَّ أن ألعنكَ، أن أضربكَ أوّل الناس، أن أنفيكَ إلى مكان لا يستطيع فيه حتّى حبّي الحزين أن يسعفكَ"، وعندما أُرغَمتُ على فِعل ذلك... فقد تعلّقتُ أكثر بالإيمان بالله، مخلّص مخلّصه، قائلاً لذاتي ولابني... لابني الأبرص... هل تسمعون؟ الأبرص... قائلاً... "فلنحنِ رؤوسنا لمشيئة الربّ ولنؤمن بمسيحه! أنا إبراهيم... أنتَ إسحاق، المضحَّى به بالمرض، لا بالنار، فلنقدّم ألمنا لننال المعجزة..." وفي كلّ شهر، في كلّ إطلالة قمر جديد... بقدومي هنا بالخفية، محمَّلاً بالطعام... بالثياب... وبالحبّ... كان ينبغي لي أن أضع كلّ ذلك بعيداً عن وَلَدي... لأنّه كان لزاماً عليَّ أن أعود إليكم...يا أبنائي... وإلى زوجتي العمياء، زوجتي البلهاء، التي جَعَلَها الألم الرهيب عمياء وبلهاء... العودة إلى بيتي الذي كان قد خلا مِن الأولاد... خلا مِن سلام حبّ متبادل واعٍ... إلى مجمعي والتحدّث فيه عن الله، وعن عظائمه... عن جمالاته المنتشرة في خليقته... وبين عينيّ رؤية ابني وقد تأكّله المرض... ولم يكن بإمكاني حتّى الدفاع عنه عندما كنتُ أسمع النمائم المهينة له، باعتباره ناكراً للجميل، مجرماً هارباً مِن البيت... وفي كلّ شهر كنتُ أقول، وأنا أقوم برحلة الأب هذه إلى قبر ابنه الحيّ، إليه، لمساندة قلبه، كنتُ أُردّد: "مَسيّا موجود. سيأتي. سوف يشفيكَ..."
في العام الماضي، في زمن الفصح في أورشليم، كنتُ أبحث عنكَ في المدّة القصيرة التي كنتُ أبقى فيها بعيداً عن زوجتي العمياء، وقيل لي: "هو موجود فعلاً. كان هنا في الأمس. لقد شفى حتّى بعض البرص. إنّه يجول في فلسطين، شافياً، مواسياً، ومعلّماً." آه! عُدتُ مسرعاً لدرجة أنّني كنتُ أبدو شابّاً ذاهباً إلى العرس! حتّى إنّني لم أتوقّف في عين جدي، ولكنّني أتيتُ إلى هنا، وناديتُ على ولدي، ابني، سُلالتي التي تموت، قائلاً له: "سوف يأتي!"
يا ربّ... لقد عملتَ كلّ أشكال الخير في بلدتنا. إنّكَ تمضي دون أن تترك خلفكَ مَن لا يزال مريضاً...لقد باركتَ فيها حتّى الأشجار والحيوانات… أفلا تشأ… وقد شَفَيتَ زوجتي... أن ترحم ثمرة أحشائها؟... ابن للأمّ!... أعد ابناً للأمّ، أنتَ، الابن الكامل لأُمّ كلّ نعمة! باسم أُمّكَ، ارحمني، ارحمنا!...»
يبكي الجميع مع العجوز، الذي كانت كلماته مؤثّرة يتفطّر لها القلب…
يضمّه يسوع بين ذراعيه بينما هو يبكي ويقول له: «كُفّ عن البكاء! هيّا بنا نجد أليشعكَ. فإيمانكَ وبرّكَ ورجاؤكَ تستحقّ ذلك وأكثر. لا تبكِ، أيّها الأب! ولا نتأخّرنّ أكثر في تحرير خليقة مِن الهَلَع.»
«القمر يميل، الـمَسلَك صعب. ألا يمكننا انتظار الفجر؟» يقول البعض.
«لا. النباتات الراتنجية كثيرة حولنا. اقطفوا منها بعض الأغصان، أشعلوها، وهيّا بنا.» يأمر يسوع.
يتابعون الصعود عبر درب ضيّق وصعب. تحسبه قاع مجرى مائيّ مؤقّت جافّ. المشاعل تزفر مدخّنة حمراء ناشرة رائحة راتنج قويّة في الهواء.
كهف ذو فتحة ضيّقة، يكاد يكون متخفّياً خلف نباتات وفيرة نبتت على حافّة نبع، يبدو فيما بعد هضبة ضيّقة قُطعت مِن منتصفها بصدع فيه ينسكب النبع.
«هنا يقيم أليشع، منذ سنوات... في انتظار الموت أو نعمة الله...» يقول العجوز بصوت خافت، مشيراً إلى الكهف.
«نادِ ولدكَ، شجّعه. لا يخف، بل فليؤمن.»
ينادي إبراهيم بصوت مرتفع: «أليشع! أليشع! يا بني!» ويكرّر النداء، مرتجفاً خوفاً بسبب الصمت الذي وحده يجيبه.
«أيُحتمل أن يكون قد مات؟» يقول البعض.
«لا! يموت، الآن، لا! في نهاية عذابه! دون لحظة فرح، لا! آه! يا ولدي!» يئنّ الأب…
«لا تبكِ. ناده مرّة أخرى.»
«أليشع! أليشع! لماذا لا تجيب...»
«أبي! يا أبي! لماذا تأتي في غير الأوان المعتاد؟ قد تكون ماتت أُمّي، وأتيتَ لـ...» والصوت البعيد في البداية، اقترب، وشبح يُبعد الأغصان التي تُغلِق المدخل. شبح رهيب، هيكل عظميّ، شبه عار، وقد استبدّ به البرص... وإذ يرى الكثير مِن الناس مع المشاعل والعصيّ، لستُ أدري ماذا يتصوّر، ويتراجع صارخاً: «لماذا خنتني، يا أبي؟ لم أخرج مِن هنا أبداً... لماذا أتيتَ بالناس ليرجموني؟!» ويبتعد الصوت، ولم يبقَ مِن ذكرى ما ظَهَر سوى أغصان تتحرّك.
«شجِّعه! قل له إنّ المخلّص هنا!» يحثّه يسوع.
ولكنّ الرجل لم يعد يمتلك القدرة... يبكي حزيناً…
يسوع هو الذي يتكلّم: «يا ابن إبراهيم وأبي السماوات، اسمع. ما كان أبوك البارّ يتنبّأ به لكَ يتمّ. المخلّص هنا، ومعه أصدقاؤكَ مِن عين جدي ورُسُل مَسيّا، أتوا ليَفرَحوا بقيامتكَ. تعال دون خوف! اقترب حتّى الصّدع، وأنا سآتي أيضاً وسألمسكَ فتطهر. تعال دون خوف إلى الربّ الذي يحبّكَ!»
تتباعد الأغصان ثانية ويَنظُر الأبرص المذعور إلى الخارج. ينظر إلى يسوع، الشكل الأبيض الذي يسير على عشب الهضبة، والذي يقف عند الصدع... يَنظُر إلى الآخرين... وبشكل خاصّ إلى أبيه العجوز الذي يتبع يسوع كالمسحور، ذراعاه ممدودتان، ونظره مثبّت على وجه الابن الأبرص. يتقدّم، واثقاً. يعرج بشدّة بسبب جراح قدميه... يمدّ ذراعيه بيدين متآكلتين... يأتي مقابل يسوع... يَنظُر إليه... يمدّ يسوع يديه البديعتين، يرفع نظره إلى السماء، يستجمع، يبدو مستجمعاً فيه كلّ أنوار النجوم التي لا تُحصى، ويعكس الروعة فائقة النقاء على البشرات القَذِرة، النتنة، المتساقطة أشلاء، التي تُظهِرها المشاعل، التي جُعِلت تتضرم لإعطاء المزيد مِن النور، بأكثر رهبة في الضوء الأحمر للأغصان المشتعلة.
ينحني يسوع على الصّدع، ويلمس بأطراف أصابعه أطراف أصابع الأبرص ويقول: «أريد!» ويقول ذلك بابتسامة لا يمكن وصف جمالها. يكرّر: «أريد!» مرّتين أُخريين. يصلّي ويأمر بهذه العبارة…
ثمّ يبتعد، يرجع خطوة، فاتحاً ذراعيه على شكل صليب، ويقول: «عندما تتطهّر، اكرز بالربّ، لأنّكَ تخصّه. تذكّر أنّ الله أحبّكَ لأنّكَ كنتَ إسرائيليّا صالحاً وابناً صالحاً. ولتكن لكَ زوجة وأولاد واجعلهم ينمون مِن أجل الربّ. ها قد تلاشت مرارتكَ شديدة المرارة. بارك الله وكن مغتبطاً!»
ثمّ يستدير ويقول: «أنتم، مع مشاعلكم، تقدّموا وانظروا ماذا يمكن للربّ أن يفعل للذين يستحقّون.»
يخفض ذراعيه، اللتين وهما مفتوحتان هكذا والمغلّفتان بمعطفه، كانتا تحجبان رؤية الأبرص، ويتنحّى.
الصرخة الأولى كانت مِن العجوز الذي جثا خلف يسوع: «بنيّ! بنيّ! بنيّ كما كنتَ في العشرين! جميلاً كما آنذاك! سليماً كما حينذاك! جميلاً، آه! أجمل مِن ذلك الحين!... آه! لوح خشبيّ، غصن، أيّ شيء للوصول إليكَ!» ويوشِك على الاندفاع.
ولكنّ يسوع يمسكه: «لا! لا تجعلنّكَ الفرحة تنتهك الشريعة. عليه أوّلاً التطهّر! انظر إليه! قبّله بالعينين والقلب، كن قويّاً الآن كما كنتَ خلال أعوام كثيرة. وكن مسروراً...»
بالفعل هي معجزة كاملة. ليست شفاء فقط، بل إعادة بناء ما خرّبه المرض، والرجل الأربعيني سليم كما لو لم يكن قد أصيب. يبقى فقط نحف شديد يُضفي عليه مظهراً زهديّاً ذا جمال غير عادي وفائق الطبيعة. ويحرّك ذراعيه، يجثو، ويُبارِك... لا يدري ما يفعل ليقول ليسوع إنّه يشكره. أخيراً يرى زهوراً في العشب، يقطفها، يُقبّلها ويرميها إلى ما بعد الصدع عند قدميّ المخلّص.
«هيّا بنا! أنتم الذين مِن عين جدي، امكثوا مع رئيس مجمعكم. ونحن، سنتابع سيرنا صوب مسادة.»
«ولكنّكم لا تعرفون... لا ترون...»
«أعرف، أعرف الدرب. أعرف كلّ شيء! إنْ دروب الأرض، وإنْ تلك التي للقلوب التي يمرّ عبرها الله وكذلك عدوّ الله، وأرى مَن يستقبل الواحد أو الآخر. امكثوا! امكثوا مع سلامي! على كلّ حال سيبزغ النهار سريعاً، وسنستضيء حتّى الفجر بأغصان مشتعلة. إبراهيم، تعال أقبّلكَ قبلة الوداع. وليكن الله معكَ على الدوام كما كان حتّى الآن معكَ، ومع أتباعكَ، ومع بلدتكَ الطيّبة.»
«ألن تعود، يا ربّ؟ لرؤية بيتي السعيد؟»
«لا. فدربي سوف يَصِل إلى مآله. أمّا في السماء فستكون معي وأتباعكَ معكَ. أحبّوا بعضكم وربّوا الصغار على الإيمان بالمسيح... وداعاً لكم جميعاً. السلام والبركة لجميع الحاضرين ولعائلاتهم. السلام لكَ، يا أليشع. كُن كاملاً اعترافاً منكَ بجميل الربّ. تعالوا، أنتم، يا رُسُلي...»
ويسير على رأس المجموعة الصغيرة مِن الذين يرفعون الأغصان المشتعلة، ويتقدّم، ويدور حول صخرة ناتئة، ثمّ يغيب بثوبه الأبيض، ويتوارى الرُّسُل الواحد تلو الآخر، يبتعد وقع أقدامهم، واللّهب الأحمر للأغصان المشتعلة يخبو…
على الهضبة يبقى الأب والابن جالِسَين على حافة الصدع يتأمّل الواحد الآخر... وخلفهما يتجمّع الذين مِن عين جدي، هامِسِين بتعجّب... ينتظرون الفجر للعودة إلى البلدة مع بشرى الشفاء الـمُعجِز.