ج2 - ف107

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الثاني

 

107- (في منـزل رئيس المَجْمع كِلْيوباس)

 

18 / 04 / 1945

 

يوحنّا وأخوه يَقرَعان باب منـزل في بلدة. أَتَعَرَّف على ذلك المنـزل، إنّه ذاك الذي دَخَلَه تلميذا عِمّاوس مع يسوع القائم مِن بين الأموات. عندما يُفتَح لهما، يتحدّثان إلى أحد لستُ أراه، ثمّ يَخرُجان ويَذهَبان عَبرَ إحدى الطرقات لموافاة يسوع الواقف مع الآخرين في مَوضِع مُحايِد.

 

«إنّه هنا يا معلّم، وهو في غاية السعادة لمجيئكَ. وقد قال لنا: "اذهبا وقولا له إنّ بيتي تحت تصرّفه. الآن آتي أنا أيضاً".»

 

«هيّا بنا إذن.»

 

يَسيرون قليلاً. ثمّ يَلتَقون رئيس المَجْمع العجوز كِلْيوباس، الذي التقوه سابقاً في منطقة المياه الحلوة. ينحيان الواحد والآخر، ولكن بعدئذ يجثو العجوز الصالح، الذي يبدو كَحَبر، مُحيّياً بإجلال. يراه بعض السكان، فيقتربون بفضول. يَنهَض العجوز ويقول: «هو ذا المسيح الموعود. تذكّروا هذا اليوم يا سكّان عِمّاوس.»

 

يَنظُر البعض بفضول بشريّ حقيقيّ، ويُبدي آخرون إجلالاً دينيّاً. ثمّ يَشقّ رَجُلان طريقهما بين الناس وهما يقولان: «السلام لكَ يا رابّي. نحن أيضاً كنّا موجودين في ذلك اليوم.»

 

«السلام لكما، ولكم جميعاً. لقد قَدِمتُ بناء على طلب رئيس مَجْمعكم.»

 

«هل ستجترح معجزات، هنا أيضاً؟»

 

«إذا وُجِد أبناء لله، يؤمنون، وهم في حاجة إلى المعجزات، فسوف أجتَرِحها بكلّ تأكيد.»

 

ويقول رئيس المَجْمع: «الذين يَودّون الاستماع إلى المعلّم، وكذلك الذين لديهم مرضى، فليأتوا إلى المَجْمع. هل يمكنني أن أقول ذلك يا معلّم؟»

 

«يمكنكَ ذلك. بعد صلاة الساعة السادسة، سأكون كلّي لكم. أمّا الآن فأنا لكِلْيوباس الصالح.» وبينما يتبعه جمع غفير مِن الناس، يتابع سيره إلى جانب العجوز حتّى البيت.

 

«هو ذا ابني، يا معلّم، وزوجتي وزوجة ابني وأولاده الصغار. آسف لكون ابني الآخر مع حَمي ابني كِلْيوباس في أورشليم برفقة رجل مسكين مِن هنا... إنّما سأحدّثكَ عنه. تفضل يا سيّدي، وادخل مع تلاميذكَ.»

 

يَدخُلون، يَستَعيدون قُواهم حسب عادات البلدة، ثمّ يقتربون مِن نار تتأجّج في مَوقِد كبير، فالطقس اليوم رطب وبارد.

 

«بعد قليل سنجلس إلى المائدة، وقد دَعَوتُ وُجَهاء مِن المنطقة. عيد كبير هو اليوم. ولكن، لا يؤمن الجميع بكَ. ومع ذلك فهم لا يَكنّون لكَ مشاعر العداء. يبحثون فقط... يَودّون أن يُؤمِنوا. ولكنّنا خُدِعنا مرّات كثيرة في الآونة الأخيرة، بخصوص مَسيّا. فهناك رِيبة. وتكفي كلمة مِن الهيكل لإزالة كلّ ارتياب. ولكنّ الهيكل... فَكَّرتُ أنّ برؤيتكَ وسماعكَ، هكذا بكلّ بساطة، يمكن الحصول على نتائج كثيرة بهذا الخصوص. أودُّ أن أُقدّم لكَ أصدقاء حقيقيّين.»

 

«أنتَ واحد منهم.»

 

«عجوز مسكين أنا. لو كنتُ أكثر شباباً لكنتُ تبعتكَ. ولكنّ السنّ يُثقِل حركتي.»

 

«أنتَ تخدمني الآن بإيمانكَ بي. تكرز بي بإيمانكَ. كُن مطمئنّاً يا كِلْيوباس، فلن أنساكَ ساعة الفِداء.»

 

«ها هو سمعان مع هَرْماس على وشك الوصول.» يُعلِن ابن رئيس المَجْمع.

 

«هذا هو سمعان، وهذا الآخر هَرْماس، يا معلّم. إنّهما إسرائيليّان لا غش فيهما، إنّهما صادقان في عمق النَّفْس.»

 

«سوف يتجلّى الله لنفسيهما. وفي انتظار ذلك، فليحلّ فيهما السلام. فَبِدون السلام لا يُسمَع صوت الله.»

 

«ذلك قِيل أيضاً في سِفر الملوك، في معرض الحديث عن إيليا.»

 

«هل هؤلاء هم تلاميذكَ؟» يَسأَل المدعوّ سمعان.

 

«نعم.»

 

«إنّ فيهم مِن كلّ الأعمار ومِن جميع المناطق. وأنتَ، هل أنتَ جليليّ؟»

 

«مِن الناصرة، ولكنّني وُلِدتُ في بيت لحم زمن الاكتتاب.»

 

«مِن بيت لحم إذن. هذا ما تؤكده السِّمات.»

 

«إنّه تأكيد عَطوف بالضعف البشريّ، ولكن التأكيد الأكيد هو مِن النوع فائق البشر.»

 

«تقصد القول: بأعمالكَ؟» يقول هَرْماس.

 

«بها، وبالكلام الذي يُضرِمه الروح على شفتيّ.»

 

«لقد نَقَلَه لي بعض الـمُستَمِعين. بالحقيقة، إنّ حكمتكَ لَعَظيمة. هل تنوي تأسيس مملكتكَ عليها؟»

 

«ينبغي للمَلِك أن يكون له أتباع يعرفون شرائع مملكته.»

 

«ولكنّ شرائعكَ جميعها روحانيّة.»

 

«أنتَ قُلتَ يا هَرْماس، كلّها روحانيّة. مملكتي ستكون روحانيّة. فلديَّ إذن تشريع روحانيّ.»

 

«ولكن ماذا بشأن إعادة أمجاد إسرائيل؟»

 

«لا تَقَعوا في الخطأ الشائع بأخذ اسم إسرائيل بمعناه البشريّ. فتُقال كلمة إسرائيل والمقصود بها "شَعب الله". سوف أُعيد الحريّة الحَقّة، القُدرة الحقيقيّة لشعب الله هذا، سأُعيد بناءها بأن أقود النُّفوس إلى السماء، مُفتَداة، وفي حَوزة حِكمة الحقائق الأزليّة.»

 

«رجاء لنأخذ أماكننا على المائدة.» يقول كِلْيوباس الذي يَجلس مع يسوع في الوسط، وعلى يمين يسوع هَرْماس، وإلى جانب كِلْيوباس سمعان، ثمّ أبناء رئيس المَجْمع والتلاميذ في الأمكنة المتبقّية.

 

يقوم يسوع، بناء على طلب الـمُضيف، بالتّقدمة والبَرَكَة، ويبدأ بتناول الطعام.

 

«هل أنتَ قادم إلى هذه المناطق يا معلّم؟» يَسأَل هَرْماس؟

 

«لا، بل أنا ماضٍ إلى الجليل، وقد قَدِمتُ إلى هنا مرور طريق.»

 

«كيف؟ أتغادر منطقة المياه الحلوة؟»

 

«نعم يا كِلْيوباس

 

«جُموع كثيرة كانت تأتيكَ، رغم قسوة الشتاء. فلماذا تُخيّب أملهم؟»

 

«ليس أنا، بل أطهار إسرائيل قَرَّروا هذا.»

 

«ماذا؟ لماذا؟ ما السوء الذي تَقتَرِف؟ فلسطين تعجّ بالرابّيين الذين يتحدّثون أينما شاؤوا. فلماذا لا يُسمَح بذلك لكَ أنتَ بالذات؟»

 

«لا تَسَل يا كِلْيوباس. إنّكَ مُسنّ وحكيم. لا تضع في قلبكَ سُمّ تلك المعرفة الـمُرّة.»

 

«ولكن هل تكون تحدَّثتَ عن مذاهب جديدة، وقَدَّروا أنّها خطيرة؟ آه! بكلّ تأكيد هو خطأ في التقييم مِن قِبَل الكَتَبَة والفرّيسيّين. كلّ ما نعرفه عنكَ لا يبدو لنا... أليس كذلك يا سمعان؟ ولكن قد لا نكون نعرف كلّ شيء. على ماذا يقوم مذهبكَ؟» يَسأَل هَرْماس.

 

«على المعرفة الدقيقة للوصايا العشر، وعلى الحبّ والرحمة. الحبّ والرحمة، ذلك التَّنَفُّس، دم الله، هما أساس مَذهَبي وسُلوكي. وأَعمَل على تطبيقهما في جميع مواقفي اليوميّة.»

 

«ولكن هذا ليس خطيئة! بل صلاح هو!»

 

«الكَتَبَة والفرّيسيّون يَحكمون بأنّه خطيئة. أمّا أنا فلا أستطيع الكذب في رسالتي ولا عصيان الله الذي أَرسَلَني إلى الأرض مِن قَبيل "الرحمة". لقد آن أوان الرحمة الكاملة، بعد دُهور مِن العدالة. إنّهما أُختان، وكأنّهما وُلِدَتا مِن أحشاء واحدة. إنّما في البدء كانت العدالة أقوى، والأخرى تُلَطِّف مِن شِدّتها فقط -إذ إنَّ الله لا يمكنه الامتناع عن الحبّ- والآن حان موعد الرحمة، وهي الـمَلِكة، وكم تُسَرّ بها العدالة التي كانت تتألّم كثيراً لوجوب العقاب! لو نظرتم إلى ذلك عن كَثَب، فإنّكم تَرَون بِيُسر أنّهما وُجِدا على الدوام، مُذ أَرغَمَ الإنسان الله على أن يكون صارماً. وما وُجود واستمرار الإنسانيّة إلّا دليل على ما أقول. فلقد امتزَجَت الرحمة حتّى بعقاب آدم. كان بإمكانه تحويلهما إلى رماد، نتيجة خطيئتهما. ولكنّه مَنَحَهُما التّكفير. وفي عينيّ المرأة، سبب كلّ الشّر، الـمُتّضعة لهذا السبب، جَعَلَ وجه امرأة يَشعّ، وهو سبب الخير كلّه. وقد مَنَحَ كِليهما أولاداً، والمعارف اللّازمة لاستمرار الوُجود. إنّ قايين القاتل، في الوقت ذاته حيث كانت العدالة تضربه، مَنَحَه الله عَلامة، كانت رحمة له لكي لا يُقتَل. وللإنسانيّة الفاسدة، مَنَحَ الله نُوحاً، ليحافظ عليها في السفينة. وانطلاقاً مِن هنا، وَعَدَ بميثاق أبديّ للسلام. فلا طوفان صارم بعد. بل لقد اتَّسَمَت العدالة بالرحمة. هل تريدون مراجعة التاريخ المقدّس معي، حتّى مجيئي؟ سوف تَرَون، على الدوام، الانتشار الدائم لتموّجات الحبّ، وبشكل أَوسَع. والآن بَلَغَ مِلء المدّ الإلهيّ، وهو يَرفَعكِ أيّتها الإنسانيّة على مياهه العذبة والساكنة، ويرفعكِ حتّى السماء طاهرة جميلة، ويقول لكِ: "أُعيدكِ إلى أبي".»

 

استَحوَذَت على الثلاثة الدهشة مِن نور الحبّ هذا. ثم يتنهّد كِلْيوباس: «إنّه هكذا. إنّما أنتَ وحدكَ هكذا! ماذا سيحلّ بيوسف؟ ألا يُفتَرَض أن يكون الخبر قد شاع الآن؟ هل سَمِعتَ به؟»

 

لا أحد يُجيب. يَلتَفِت كِلْيوباس إلى يسوع: «يا معلّم، إنّ الأمر يخصّ رَجُلاً مِن عِمّاوس. كان أبوه قد طَلَّقَ زوجته التي سافرت إلى أنطاكية لتتزوّج مِن أخ صاحب مَتجَر. هذا الرجل وَقَعَ في خطأ جسيم، فهو لم يَعرف قطّ تلك المرأة التي كانت قد طُرِدَت بعد أشهر قليلة مِن زواجها، ولستُ في صدد البحث عن الأسباب. لم يكن يَعرف عنها أيّ شيء، لأنّه مِن الطبيعيّ أن يكون اسمها قد أُلغِي مِن ذاك البيت. وهو حين وَصَلَ إلى سنّ الرجولة، وقد ورث عن أبيه تجارته وأملاكه، فَكَّر في الزواج. وكان قد تَعَرَّف في يافا على امرأة، صاحبة مَتجر ثريّ، وتَزَوَّجَها. ولستُ أدري كيف عرفوا، أو الطريقة التي اتَّبَعوها ليعرفوا أنّها ابنة زوجة أبيه. إذن فزواجه هذا خطيئة فاحشة، رغم أنّ نَسَبه إلى تلك المرأة، برأيي، أمر مَشكوك فيه تماماً. وقد أُدين يوسف. وعليه فَقَد طمأنينته كمؤمن وكزوج. ورغم حزنه طَلَّقَ امرأته، أخته المزعومة، التي مِن شدّة ألمها اعترتها الحمّى وماتت. ورغم ذلك، لم يَغفِر له أحد. وأنا أقول صدقاً، لو لم يكن هناك أعداء يُنافسونه على مصلحته، لما كان أصابه ما أصابه. وأنتَ، ماذا كنتَ ستفعل؟»

 

«الحالة جدّيّة للغاية يا كِلْيوباس. لماذا لم تحدّثني عنها عندما أَتَيتَ إليَّ؟»

 

«لم أكن أريد إبعادكَ عن هنا...»

 

«آه! ولكن أموراً مِن هذا النوع لا تطردني! الآن اسمَع. عمليّاً هو زِنى ذَوي القُربى، وبالنتيجة العقاب. ولكنّ الخطيئة، لكي تكون منطقيّاً خطيئة، يجب أن تكون مَبنيّة على أساس العَزم على ارتكاب الخطيئة. فهل ارتَكَبَ هذا الرجل خطيئة زِنى ذَوي القُربى عن سابق معرفة وقصد؟ تقول لا. إذن أين الخطيئة؟ يبقى موضوع الحياة المشتركة مع فتاة لأبيه. ولكنّكَ تقول إنّ هذه القُربى مَشكوك فيها. وحتّى ولو كانت مُحَقَّقَة، فالخطيئة تَبطُل مع تَوَقُّف الحياة المشتركة. وهنا التَّوَقُّف مُؤكَّد، ليس فقط بفعل الطلاق، إنّما بحصول الموت. أقول إذن، إنّه مِن المفروض أن يُسامَح ذلك الرجل، حتّى هذا الذي يبدو خاطئاً. أقول: بما أنّه لا تُوجَد إدانة زِنى بزواج الأقارب الـمُحَرَّمين المستمرّ على مرأى ومعرفة الجميع، فينبغي أن تحلّ الرحمة في هذه الحالة المؤلمة، التي يعود أصلها إلى السُّلطة الممنوحة مِن موسى بطلاق الزوجة لتحاشي شرور أكثر عدداً، إن لم تكن أكثر خطورة. وهذه السُّلطة أنا أُدينها، إذ ينبغي للرجل، وُفِّق في زواجه أم لم يُوَفَّق، أن يعيش مع زوجته ولا يُطلّقها، الأمر الذي يُهيّئ لأخطار وأوضاع شبيهة بتلك. فضلاً عن ذلك، أُكرِّر، في ما يتعلّق بالصرامة، فينبغي تطبيقها مع الجميع على السواء. خاصّة مع الذات ومع العظماء. وحتّى الآن لم أَعلَم أنّ أحداً، ما عدا المعمدان، قد رَفَعَ صوته في مواجهة خطيئة الـمَلِك. فالذين يُدينون، هل تخلو حياتهم مِن خطايا مُشابِهة أو حتّى أسوأ منها؟ أم إنّ اسمهم وسُلطانهم يُساهِمان في سَترها كما يَحجب معطفهم الباذخ النَّظر عن جسدهم الذي جَعَلَته الرذيلة عَليلاً؟»

 

«أَحسَنتَ قولاً يا معلّم. هذا جيّد. إنّما خُلاصة القَول: أنتَ مَن تكون؟...» يَسأَل معاً صَديقا رئيس المَجْمع.

 

لا يتمكّن يسوع مِن الإجابة، لأنّ الباب فُتِح في تلك اللحظة ودَخَلَ سمعان حمو كِلْيوباس الابن.

 

«عُدتم بالسلامة؟ وإذن؟»

 

وقد كان الفضول مُتَوَقِّداً للغاية لدرجة أنّ أحداً لم يَعُد يُفكّر بالمعلّم.

 

«وإذن... إدانة مُطلَقَة. ولم يَقبَلوا حتّى بتقدمة قربان التضحية. لقد أُقصي يوسف عن إسرائيل.»

 

«أين هو؟»

 

«هنا، يبكي خارجاً. حَاوَلتُ التحدّث إلى السُّلطات العُليا، فطردوني كالأبرص. الآن... ولكن... إنّه دَمار ذاك الرجل. أملاكه ونَفْسه. ماذا تريده أن يفعل؟»

 

يَنهَض يسوع ويتوجّه صوب الباب دون أن يَنبس ببنت شفة.

 

يَظنّ كِلْيوباس العجوز أنّه استاء مِن إهماله، ويقول: «آه! سامحني يا معلّم! ولكن ألم الحَدَث قد جَعَلَ نفسي تَضطَرِب. ابقَ، أرجوكَ!»

 

«إنّني باقٍ يا كِلْيوباس. سأبحث فقط عن ذاك البائس. تعال معي إن شئتَ.» ويَخرُج يسوع إلى الردهة.

 

قُرب البيت، هناك رُقعة أرض وحدائق زهور صغيرة، ثمّ بَعدها الطريق. على الأرض، عند العتبة، رجل. يَدنو منه يسوع مادّاً له يديه. وفي الخلف الجميع، وهم يُحاوِلون المشاهدة.

 

«يا يوسف، ألم يَصفَح عنكَ أحد؟» يتكلّم يسوع بنعومة فائقة.

 

يرتَعِش الرجل لدى سماعه صوتاً مجهولاً وفائق الصلاح والطّيبة، بعد كلّ تلك الأصوات التي كانت تَدينه. يَرفَع رأسه ويَنظُر إليه بدهشة.

 

«يوسف، ألم يَغفر لكَ أحد؟» يُكرّر يسوع القَول، وينحني ليَطال يديّ الرجل مُحاوِلاً إنهاضه.

 

«مَن أنتَ؟» يَسأَل المغضوب عليه.

 

«أنا الرحمة والسلام.»

 

«لم يَعُد لي رحمة ولا سلام.»

 

«في حضن الله، هناك دائماً رحمة وسلام. هذا الحضن يَفيض على الدوام بمثل تلك الأشياء، وخاصّة للبؤساء.»

 

«ولكنّ خطيئتي هي تلك التي تجعلني أُفْصَل عن الله. فدعني، أنتَ يا مَن هو، بالتأكيد، صالح، لكي لا أُصيبكَ بالعدوى.»

 

«لن أدعكَ، أريد أن أقودكَ إلى السلام.»

 

«ولكن أنا، إنّني... أنتَ مَن تكون؟»

 

«قُلتُ لكَ: الرحمة والسلام. أنا الـمُخلِّص. أنا يسوع. انهض. أنا قادر على ما أريد. باسم الله، أنا أُحلِّكَ مِن اللّوثة غير الإراديّة. الخطأ الآخر لا وجود له. أنا حَمَل الله الحامل خطايا العالم. فالأزليّ قد مَنَحَني أنا كلّ حُكم. ومَن يؤمن بكلامي فله الحياة الأبديّة. تعال يا ابن إسرائيل المسكين. استَعِد قوّة جسدكَ الـمُنهَك، وحَصِّن روحكَ المحطّم. سوف أَصفَح عن كثير مِن الخطايا الأخرى. لا. لن يتأتّى منّي اليأس في القلوب! أنا الحَمَل الـمُنـزّه عن كلّ عَيب، ولكنّني لا أتخلّى عن النّعاج المجروحة خوفاً مِن العَدوى. بل بالعكس، إنّني أبحث عنها وآخذها معي. كثيرون، كثيرون جدّاً هم الذين اقتيدوا إلى الدمار الكامل مِن جرّاء صرامة حُكم، هو مع ذلك جائِر. الويل للذين، بقسوتهم المتصلّبة المتشدّدة، يُوصِلون نَفْساً إلى اليأس! تلك ليست في مصلحة الله، ولكنّها في مصلحة الشيطان الذي يَخدمون. حاليّاً، أرى خاطِئة تَرغَب في فِدائها وبقلق، وها هي تُبعَد عن الفادي. أرى رئيس مَجْمع مُضطَهَد بسبب عدالته، أرى رجلاً ارتَكَبَ خطيئة عن غير قَصد وقد ظُلِم، أرى أموراً كثيرة تجري وهي متأتّية مِن حيث تعيش الرذيلة والكذب، مثل جدار يَنتَصِب حجراً حجراً ويَخلق انفصالاً. هكذا الأشياء التي رأيتُها، وقد رأيتُ منها الكثير في خلال سنة واحدة، تَرفَع بيني وبينهم جِداراً مِن القَسوة. والويل لهم حينما يُصبِح مُنتَصِباً بالكامل بواسطة المواد التي يصنعونها هم! خُذ: اشرب، كُلْ. إنّكَ مُنهَك. ثمّ، غداً ستأتي معي. لا تخف. عندما تعود نفسكَ إلى اطمئنانها وسكينتها، سوف تكون حرّاً في اختيار مستقبلكَ. أمّا الآن فلا يمكنكَ ذلك. ومن الخطر ترككَ تفعل.»

 

يَأخُذ يسوع الرجل إلى الغرفة، ويُجبِره على الجلوس في مكانه، ثم أَخَذَ يَخدمه. بعدئذ يلتفت إلى هَرْماس وسمعان ويقول لهما: «ذاك هو مَذهَبي وتعليمي. هو ذاك وليس شيئاً آخر. وأنا لا أقتصر على الكرازة بها فقط، بل إنّما أُطبّقها. ومَن يُحِسّ بالعطش إلى الحقيقة والحب فليأتِ إليَّ.»

 

يقول يسوع:

 

«وبهذا تُختَتَم السنة الأولى للتبشير. دَوِّنوا ذلك. ماذا أقول لكم أيضاً؟ سَرَدتُ هذا لأنّ رغبتي كانت في أن يُصبح مَعلوماً. ولكنّ الذي يجري بالنسبة لهذا العمل، تماماً كالذي جرى مع الفرّيسيّين. رغبتي في أن أكون محبوباً -والمعرفة هي الحبّ- وستكون مرفوضة بسبب أشياء كثيرة. وذلك يُسبّب ألماً هائلاً لي، أنا المعلّم الأزليّ، وقد أسرتموني أنتم...»

 

--- نهاية الجزء الثاني ---