ج2 - ف75
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الثاني
75- (يسوع في موسم القِطاف في بيت حنّة. معجزة الطفل المشلول)
14 / 02 / 1945
جميع قرى الجليل مُنشَغِلَة بقطاف العنب، ذلك العمل الـمُبهِج. الرجال، وقد تَسَلَّقوا السلالم العالية، يقطفون مِن على العرائش وسُوق الكرمة. أمّا النساء، فيحملن عناقيد العنب الحمراء الـمُذَهَّبة ضمن سِلال على رؤوسهنّ للعَصَّارين الذين ينتظرونهنّ. أغنيات ونُكات تَسري مِن كرمة إلى كرمة، ومِن بستان إلى بستان. في الوقت ذاته، تنتشر رائحة عصير العنب، أمّا النَّحل، وبأعداده الكبيرة، يطنّ وكأنّه سَكران، ويطير سريعاً ويَرقص على الأغصان التي ما تزال تحمل العناقيد الصغيرة، وحتّى السِّلال والبراميل، حيث تضيع حبّات فاقدة معالمها وسط حَرِيرة عصير العنب. الأولاد، وقد تَلَطَّخوا بالعُصارة، يُطلِقون صيحات كالسنونو، وهم يتراكضون على العشب وفي الساحات وعلى الدروب.
يتوجّه يسوع إلى بلدة لا تبعد كثيراً عن البحيرة. بلدة في سهل هو عبارة عن منخَفَض بين سِلسِلتين جبليّتين تتّجهان صوب الشمال. السهل مَرويّ بشكل جيّد، لأنّ نهراً، أظنّه نهر الأردن، يجتازه. يمرّ يسوع عبر الطريق الرئيسيّة، وكثيرون يحيّونه هاتِفين: «رابّي! رابّي!» يمرّ يسوع ويُبارِك.
قبل الوصول إلى البلدة، هناك عَقار ثري، يقف عند مدخله زوجان مُسِنَّان ينتظران المعلّم. «تفضّل بالدخول، وعندما ينتهي العمل سيسرع الجميع للاستماع إليكَ. يا للبهجة التي تحمل! هي آتية منك، وتنتشر مثل النُّسغ في الأغصان لتصبح كالخمر يُفرِح القلوب. أهي أُمّك؟» يَسأَل ربّ البيت.
«هي أُمّي. وقد استَقدَمتُها لأنّها الآن ضمن مجموعة تلاميذي. إنّها الأخيرة في ترتيب الوِفادة، لكنّها الأولى في ترتيب الوفاء. إنّها الرَّسول بكلّ معنى الكلمة. لقد بَشَّرَت بي منذ ما قبل وِلادتي... هلمّي يا أُمّي. ذات يوم، وقد كان ذلك في بدايات رحلة تبشيري، لم تَدَعني هذه الأُمّ أبكي فراقكِ، بقدر ما كانت لطيفة مع ابنكِ التَّعِب.»
«ليمنحكِ الربّ نِعَمه، أيّتها الأُمّ الشَّفوقة.»
«لقد نلتُ النّعمة كلّها حين حَظيتُ بمَسيّا وكذلك بكِ. هيّا. البيت رطب ومنعش، وقد خَفَّ الوهج. ستأخذين قسطاً مِن الراحة، يُفتَرَض أنّكِ تَعِبة.»
«ما مِن شيء يُسبّب لي التعب مثل حقد العالم. إنّما اللّحاق به والاستماع إليه، فهذه أمنيتي منذ طفولتي البعيدة جدّاً.»
«هل كنتِ تَعلَمين أنّكِ ستصبحين أُمّ مَسيّا؟»
«آه! لا. ولكنّني كنتُ أتمنّى أن أعيش حتّى أتمكّن مِن سماعه وخدمته، كآخِر مَن بُشِّروا، إنّما وفيّة! آه! وفيّة!»
«إنكِ تستمعين إليه وتخدمينه، وأنتِ الأولى في الحصول على هذا الحُبور. أنا أيضاً أُمّ، ولديَّ أبناء حُكَمَاء. عندما أستَمِع إليهم يتحدّثون، يخفق قلبي مِن الفَخر. وأنتِ بماذا تَشعُرين عندما تستمعين إليه؟»
«بنشوة لذيذة. أَضيع في عَدمي، والصَّلاح الذي ليس إلّا هو بذاته، يَرفعني معه. حينئذ أرى، بنظرة بسيطة، الحقيقة الأزليّة وهي تتجسّد بلحم ودم روحيّ.»
«ليكن قلبكِ مباركاً! إنّه طاهر، ولهذا السبب يُدرِك الكَلِمَة. أمّا نحن فإنّنا أكثر تَصَلُّباً لأنّنا مُثقَلون بالأخطاء...»
«لأجل ذلك كان بِودّي لو أعطي العالم كلّه قلبي، لأنّ الحبّ يصبح لهم نوراً ليَفهَموا. لأنّه، ثِقي تماماً، هو الحبّ الذي يَجعَل كلّ مَسعى سهلاً، وأنا، أنا الأُمّ، وفي داخلي يجري الحبّ كالنبع.»
ما تزال المرأتان تتحدّثان فيما بينهما، العجوز إلى جانب أُمّ ربّي، الشابّة، ذات الشباب الدائم. وفي هذه الأثناء يتحدّث يسوع إلى ربّ البيت قرب البراميل، حيث مجموعات ومجموعات مِن القَطّافين يُفرِغون العناقيد. الرُّسُل جالسون في ظلّ عريشة ياسمين، يأكلون بشهيّة، عنباً وخبزاً.
يُوشِك النهار على الغروب، ورويداً رويداً يتوقّف العمل. الفلّاحون، جميعهم، هم الآن في ساحة القرية حيث تفوح رائحة العنب المهروس. وفلّاحون آخرون يُقبِلون مِن بيوت مُجاوِرة.
يَصعَد يسوع سلّماً مؤدّياً إلى جناح ذي قناطر، وُضِعَت تحته أكياس محاصيل وعدد زراعيّة لحمايتها. ويا لابتسامة يسوع وهو يَصعَد هذه الدَّرَجات! أَلحَظ ابتسامته مِن خلال شَعره الحريريّ الذي يحرّكه نسيم المساء، وكنتُ أودُّ لو أعرِف سبب هذه الابتسامة المشرقة جدّاً. فَرَح هذه الابتسامة كالخمر التي كان ربّ البيت يتحدّث عنها، إنّه يَلِج قلبي الحزين جدّاً اليوم، ويُفَرِّج عنه.
هذا ليس أوّل أمر يُسَرّي عني اليوم. فهذا الصباح، كنتُ أبكي بسبب معاناة روحيّة تَنشط باستمرار، وعند التَّناوُل ظَهَرَ لي، كما دائماً لدى قولكَ: "هذا هو حَمَل الله". ولكنه لم يكن يقتَصِر على النَّظَر إليكَ بحبّ، أيها الأب، والابتسام لي. بل لقد تَرَكَ مكانه على يسار السرير، وانتَقَلَ إلى اليمين بخطوته الطويلة، وأتى إلى يميني وهو يمنحني مُلاطَفات حسّيّة ويقول لي: "لا تبكي!"... أمّا الآن، فإن ابتسامته تُغرِقني بالسلام.
يلتَفِت، ويجلس على الدَّرَجة الأخيرة في أعلى السلّم الذي أضحى مِنبَراً للمُستَمِعين الأكثر تفضيلاً. يعني سيّد البيت وسيّدته والرُّسُل ومريم. وتلك الـمُتواضِعة على الدوام، لم تكن تبحث عن الارتقاء إلى مكان الشَّرَف هذا، إنّما اقتيدَت إليه مِن قِبَل ربّة البيت. جَلَسَت، بالضبط، على الدَّرَجَة الأدنى مِن الدَّرَجَة التي جَلَسَ عليها مباشرة، بشكل جَعَلَ رأسها الأشقر على مستوى رُكبَتيّ الابن، وبجلوسها متطرّفة تتمكّن مِن النَّظَر إلى وجهه، بنظرتها التي تشبه نظرة حمامة هائمة. المنظر الجانبيّ اللطيف لمريم يَظهَر، بشكل جَليّ، على الجدار الـمُعتِم للبناء الريفي، كما لو كان على الرُّخام.
في الأسفل، الرُّسُل وأصحاب البيت، أمّا في الساحة فجميع الفلّاحين، البعض منهم وقوفاً، والبعض الآخر يجلسون على الأرض، وآخرون فوق البراميل وأشجار التين، في زوايا الساحة الأربع.
يتحدّث يسوع ببطء، بينما تغوص يده اليسرى في كيس كبير للحبوب خلف مريم، يبدو وكأنّه يلعب بها، أو بالأحرى يدغدغها بسرور، بينما يده اليمنى تقوم بحركات وَادِعة.
«قيل لي: "هلمّ يا يسوع، بارِك عمل الإنسان". وقد أتيتُ. أباركه باسم الله. فكلّ عَمَل، عندما يكون شريفاً، يستحقّ بركة الربّ الأزليّ. ولكنّني قُلتُ: إنّ الشرط الأوّل لنيل بركة الله، هو أن يكون المرء شريفاً ونزيهاً في كلّ أعماله، على الدوام.»
والآن فلننظر معاً متى، وتحت أيّة شروط، تكون الأفعال نزيهة: إنّها كذلك، عندما نُنجِزها وروح الله الأزليّ حاضر فينا.
هل يمكن أن يَرتَكِب الخطيئة مَن يقول: "الله يراني"؟ "عين الربّ عليَّ ولا يفوته أيّ أمر مِن تفاصيل أفعالي"؟ لا. لا يمكنه ذلك. فالتفكير بالله تفكير ناجع، وأكثر مِن أيّ إنذار بشريّ، يُبعِد الإنسان عن الخطيئة. إنّما هل علينا فقط أن نخشاه، الله الأزليّ؟
لا. اسمعوا. قيل لكم: "اخشَ الربّ إلهكَ". لقد اضطَرَبَ الأحبار والأنبياء عندما ظَهَرَ وجه الله أو ملاك الربّ لأرواحهم كصدّيقين. وبالحقيقة، في زمن الغضب الإلهيّ، ينبغي لظهور الفائق الطبيعة أن يجعل القلب يَضطَرِب. فَمَن ذا الذي، حتّى ولو كان نقيّاً كطفل، لا يَضطَرِب في حضرة الكلّيّ القُدرة، أمام التلألؤ الأزليّ الذي يعمل الملائكة أمامه على إظهار آيات العبادة، ويَتَعجّلون في ترديد هليلويا الفردوسيّة؟ تَلألؤ ملاك غير الـمُحتَمَل يُخفّفه الله بوشاح مِن الرحمة، ليَسمَح لعين الإنسان أن تتأمّله دون أن تُحرَق حدقته أو تُحرَق روحه. فما بالكم إذن ستكون رؤية الله؟
ولكنّ ذلك يدوم ما دام الغضب. وعندما يحلّ السلام عِوَضاً عنه ويقول إله إسرائيل: "أقسمتُ وسوف أبرّ بقَسَمي. هو ذا الذي أُرسِله، هو أنا مع كونه ليس أنا، إنّما هو كَلِمَتي صار جسداً ليصبح فِداء". حينئذ يحلّ الحبّ محلّ الخوف، والحبّ فقط هو ما ينبغي إعطاؤه لله الأزليّ، بفرح، لأنّ زمن الحبّ قد حلّ على الأرض وبين الله والإنسان. عندما تَنثُر طليعة رياح الربيع غُبار طَلع زهور الكرمة، فينبغي على الزَّارع أن يعتريه الخوف أيضاً، إذ يمكن أن تُنصَب فخاخ كثيرة للثمار عن طريق تقلّبات الجوّ أو بواسطة الحشرات. ولكن حينما تَزفّ ساعة القطاف البهيجة، فحينئذ يتوقّف كلّ خوف، ويبتهج القلب عندما يتأكّد أوان القِطاف.
لقد أعلَنَها الأنبياء مسبقاً، وقد حَصَلَ الآن طَرح أصل يسّى (نَبَتَ الآن العنقود الذي مِن أصل يسّىى): هو الآن فيما بينكم، العنقود الرائع الذي يحمل لكم عُصارة الحكمة الأزليّة، ولا يَطلب سوى قَطفه وعَصره ليكون الخمر للناس، خَمر فرح لا نهاية له للذين سيَقتاتون به. آنئذ، الويل للذين يكون هذا الخمر في متناول أيديهم ويرفضونه، الويل الويل للذين، بعد تناوُله يُعاوِدون رميه، أو يمزجونه في داخلهم مع طعام الشيطان.
ها أنا ذا أعود إلى فكرتي الأولى. الإمكانيّة المبدئيّة للحصول على بركة الله، للأعمال الروحيّة كما للبشريّة، إنّها استقامة النيّة.
نَزيه هو الذي يقول: "أنا الشريعة، ليس لكي يُمجّدني البشر، بل إنّما وفاء لله". نزيه هو الذي يقول: "أنا المسيح، ليس للمعجزات التي يَجتَرِح، إنّما لنصائح الحياة الأبديّة التي يُعطي". ونزيه هو كذلك الذي يقول: "أنا أَعمَل، ليس في بحث متلهّف عن الـمَكسَب، ولكن لأنّ العمل قد وُضِعَ مِن قِبَل الله كوسيلة للتقديس، ذلك أنّه يمتلك القُدرة على التشكيل، والإماتة، والوقاية، والتنشئة. أَعمَل لكي أتمكّن مِن مساعدة قريبي. أَعمَل لكي أَجعَل آيات الله تَسطَع، الله الذي يُخرِج مِن الحَبّة الصغيرة باقة سنابل، ومِن بذور العنب كروماً كبيرة، ومِن النّواة شجرة، ومنّي أنا الإنسان المسكين الـمُعدَم، القادم مِن العَدَم بإرادته هو، لأقوم بمساعدته في عَمَل دَؤوب، لديمومة القمح والكروم والثمار، كما لأجعل أرض البشريّة آهِلة".
هنالك أشخاص يَعمَلون كالدواب، وليس لهم ديانة سِوى: زيادة ثروتهم. هل يموت حولهم الصاحب الأكثر عَوَزاً مِن الحرمان والفاقة؟ هل يموت أبناء ذلك البائس مِن الجوع؟ ماذا يهمّ بالنسبة إلى الذي لا يفكّر إلّا بِتَراكُم الثروات؟ كما أنّ هناك مَن هُم أكثر قَسوة كذلك، فلا يَعمَلون، ولكنّهم يَجعَلون الآخرين يَعمَلون، وهم يُكدِّسون الثروات، باستغلال عَرَق الآخرين. وأيضاً هناك آخرون يُبَدّدون ما يجنونه مِن تَعَب الآخرين بالطَّمع والجَّشع. في الحقيقة، إنّ هذا العمل، بالنسبة لهؤلاء، ليس شريفاً ولا نزيهاً. ولا تقولوا: "ومع ذلك فالله يَقيهم". لا. إنّه لا يَقيهم ولا يَحميهم. والساعة هذه، بالنسبة إليهم، ساعة نصر هي، ولكنّهم، خلال وقت قريب، سيتلقّون الضربة مِن الله، وبصرامة. وفي هذه الأثناء، أو في الأبديّة، سوف يُذَكِّرهم بالوصيّة القائلة: "أنا هو الربّ إلهكَ، أَحِبَّني فوق كلّ شيء، وأحبِب قريبكَ كنفسكَ". آه! حينئذ، إذا ما دَوَت هذه الكلمات في الأبديّة، فسوف تكون أكثر رُعباً مِن صواعق سيناء!
كثير، كثير جدّاً هو الكلام الذي يُقال لكم. وأنا لا أقول لكم سوى هذا: "أَحِبّوا الله، أَحِبّوا القريب". وهذا يُشبِه العمل الذي يجعل الكروم خَصيبة، عندما نمارسه حول جذعها في الربيع. حُبّ الله والقريب يُشبِه الـمِسلَفَة (المشط) التي تُخَلِّص الأرض مِن أعشاب الأنانيّة والشهوات الشرّيرة الضارّة. يُشبِه الـمِعوَل الذي يَحفر دائرة حول أسفل جذع الكرمة ليعزلها عن الأعشاب الطُفيليّة ويَرويها بماء السقاية المنعش. يُشبِه الـمِشذَب الذي يزيل الإنبات الزائد ليركّز النّسغ ويوجّهه حيث ينبغي أن يتشكّل الثَّمَر. يُشبِه الحبل الذي يشدّ النبات إلى الدعامة المتينة التي تسندها. وأخيراً هو الشمس التي تُنضِج ثمار الإرادة الصالحة وتجعل منها ثمار الحياة الأبديّة.
أنتم الآن فَرِحون، لأنّ السنة كانت جيّدة، والحصاد غنيّ، والقِطاف وَفير. ولكن، الحقّ أقول لكم: إنّ هذا الفرح الذي تختبرون، يُعادِل أقلّ مِن حبّة رمل إذا ما قُورِن بالفرح غير المحدود الذي تحصلون عليه عندما سيقول لكم الآب الأزلي: "تعالوا أيّها الأغصان الخَصيبة، الـمُطَعَّمة على الكرمة الحقيقيّة. لقد خَضَعتم لكلّ العمليات، حتّى المؤلمة منها، لتُعطوا الكثير مِن الثمار، والآن تعالوا إليَّ وقد امتلأتم عُصارة حُبّي وحُبّ القريب اللذيذة. تنعّموا في حدائقي الدهر كلّه".
التَفِتوا إلى هذه السعادة الأبديّة. تمسّكوا بكلّ أمانة باللحاق بهذا الخير. بالعرفان باركوا الأزليّ الذي يساعدكم على بلوغه. باركوه على نعمة كلمته. باركوه على نعمة المحصول الجيّد. أحبّوا الربّ بعرفانكم بجميله، ولا تكونوا بعد خائفين. فالله يمنح الذين يحبّونه مائة ضعف.»
كان يسوع قد أنهى كلامه عندما جَعَلَ الجميع يهتفون: «بارِك! بارِك! بركتكَ علينا!»
يَقف يسوع ويَفتح ذراعيه ويقول بصوت كالرعد: «فليبارككم الربّ ويحفظكم. وليُرِكُم وجهه ويرحمكم. فلينظر الربّ إليكم ويمنحكم سلامه، وليكن اسم الربّ في قلوبكم وعلى بيوتكم وعلى حقولكم.
الحشد الذي كان قد تَجَمَّع يُطلِق صرخة فرح ويهلّل لمَسيّا. إنّما بعد ذلك يصمت الجميع ويَفسَحون المجال لتمرّ أُمّ تحمل صبيّاً في حوالي العاشرة من عمره، مشلولاً. تُقَدِّمه عند أسفل السلّم، كما لِتَهِبه ليسوع.
«إنها إحدى خادماتي.» يشرح ربّ البيت. «لقد وَقَعَ ابنها العام الماضي مِن على السطح وأصيب جَنباه. عليه أن يُمضي بقيّة عمره مُلقى على ظهره.»
«كان رجاؤها فيكَ أنتَ طوال الأشهر الماضية.» تضيف ربّة البيت.
«قولي لها أن تأتي إليَّ.»
ولكن المرأة، لشدّة تأثرها، بَدَت وكأنّها هي المشلولة. تضطرِب بكلّ أعضائها، وتتعثّر بثوبها الطويل، وهي تَصعَد الدَّرَجات العالية، وابنها على ساعِدَيها.
تقف مريم مُشفِقة، وتَنـزل لملاقاتها: «تعالي، لا تخافي، فابني يحبّكِ. أعطني ابنكِ لتصعدي بسهولة. هيا يا ابنتي، فأنا أُمّ أيضاً.» وتأخذ منها الطفل الذي تبتسم له بلطف وهي تَصعَد مع الحَمَل الـمَرثيّ له، الذي تحمله على ساعِدَيها.
مريم الآن قرب يسوع. تجثو وتقول: «بنيَّ! لأجل هذه الأُمّ!» ولا شيء آخر.
لا يَطرَح يسوع ولا حتّى سؤاله التقليديّ: «ماذا تريدين أن أفعل لكِ؟ هل تؤمنين بأنّني قادر على فِعله؟» لا. بل يبتسم ويقول: «أيّتها المرأة، هلمّي إلى هنا.»
تأتي المرأة إلى جانب مريم. يضع يسوع يده على رأسها ويقول بكلّ بساطة: «كوني مسرورة.» ولم يَكد يُكمِل كلامه حتّى يَجلس فجأة الطفل الذي كان مُلقى بثقل على ذراعيّ مريم، وساقاه خامدتان. ويَصرخ بفرح: «ماما!» ويجري ملتجئاً إلى صدر أُمّه.
تبدو هتافات "أوشعنا" أنّها تَبغي وُلوج السماء التي جَعَلَها الغَسَق حمراء. والمرأة، ومعها ابنها تضمّه إلى صدرها، لا تعرف ما تقول، وتسأله: «ماذا ينبغي لي، بل ماذا يجب أن أفعل لأُعبّر لكَ عن سعادتي؟»
ويقول لها يسوع، وهو ما يزال يُلاطِفها: «كوني صالحة، أحبّي الله والقريب، وأَنشِئي ابنكِ على هذا الحبّ.»
ولكنّ سرور المرأة لم يكن بعد قد أُشبِع، فقد كانت تودّ... كانت تودّ... وانتهت بالطَّلَب: «قبلة منكَ ومِن أُمّكَ لطفلي.»
ينحني يسوع ويقبّله، وكذلك مريم. وبينما تبتعد المرأة منتشية وسط تهليل مَوكِب أصدقاء مُهلِّلين، يَشرَح يسوع لربّة البيت: «لم يكن ينبغي أكثر. لقد كان بين يدي أُمّي. وهي دون أن تتكلّم كنتُ سأشفيه. فهي تُسعَد عندما تتمكّن مِن تخفيف كَرب، وأنا أودُّ أن أُبهِجها وأُفرِحها.»
وبين يسوع ومريم واحدة مِن تلك النظرات التي وحده الذي رأى، يُدرِك قَدر عُمق دلالتها.