ج4 - ف152

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الثاني

 

152- (التّبشير في جيراسا)

 

27 / 09 / 1945

 

كان يَظنّ نفسه غير معروف! وما أن يَضَع رِجله في صبيحة اليوم التالي خارج مَتجَر اسكندر، حتّى يَجِد أُناساً ينتظرونه. يسوع مع الرُّسُل فقط؛ النساء والتلاميذ ظَلّوا في البيت للاستراحة.

 

يُحيّيه الناس ويُحيطون به قائلين له إنّهم يعرفونه، لأنّهم استَمَعوا إلى رَجُل شُـفِيَ مِـن استحواذ شيطانيّ. وهذا الأخير غائب الآن، لأنّه ذَهَبَ مع تلميذَين مَـرّا مِن هنـاك منذ بضعة أيّام. يُنصِت يسوع بانتباه إلى هذه الأحاديث وهو يَسير عَبْر المدينة حيث تَظهَر له، في الغالب، المناطق التي يُسمَع فيها ضجيج الـمَشاغِل الفظيع. بَنَّاؤون، مُتعهِّدو أعمال تُرابية، نَحّاتو حَجَر، حدّادون، نجّارون، يَعمَلون في بناء أو تسوية أو ردم أراض بمستويات مُختَلِفة، في تهذيب أحجار مِن أجل الجُّدران، في تهيئة الحديد لمختَلَف الاستعمالات، في النَّشر، في السَّحج، في صُنع أوتاد مِن جُذوع صُلبة.

 

يَمرّ يسوع ويَنظُر، يَعبُر جسراً فوق سيل غزير يمرّ في وسط المدينة تماماً، والبيوت مصطفّة على جانبيه، كما لتشكيل رصيف. يَرقى بعدئذ إلى القسـم الأعلى مِن المدينة، مُختَلِف المستويات قليلاً، بحيث أنّ الجانب الجنوبيّ الغربيّ أعلى مِن الجانب الشماليّ الشرقيّ، ولكنّ الجّانِبَين أعلى مِن وسط المدينة التي يقطعها مجرى الماء الصغير إلى قسمين. المنظر جميل مِن حيث وَقَفَ يسوع. المدينة بأكملها، الكبيرة بشكل مقبول، تُظهِر نفسها للناظر، وفي الخلف، في الشرق والوسط والغرب توجد هضاب على شكل حدوة حصـان، وهي ذات انحدار لطيف، وخضراء بمجملها، بينما في الجنوب يمتدّ النظر إلى سهل مكشوف وواسع، وهو يُشكِّل في الأفق نتوءاً خفيفاً يَصعُب تسميته بالهضبة، وقد اكتسى اللون الأشقر بأكمله بفعل شمس الصباح التي تُذهِّب أغصان الكُروم الصفراء التي تغطي موجة الأرض تلك، كما لِتُلطِّف كآبة الأوراق الميتة بفخامة طبقة التَّذهيب .

 

يسوع يُراقِب، ويظلّ أهالي جيراسا يَنظرون إليه. يستميلهم يسوع بقوله: «هذه المدينة جميلة جدّاً، فاجعلوها جميلة كذلك بالاستقامة والقداسة. الروابي، الجدول، السهل الأخضر، هو الله الذي أَنعَمَ بها عليكم. روما تساعدكم الآن في بناء بيوت لكم وأبنية جميلة، إنّما لكم وحدكم يَعود أن تُعطوا لمدينتكم اسم المدينة المقدّسـة والمستقيمة. فالمدينة هي من صنـع ساكنيها، لأنّ المدينة هي جزء مِن المؤسّسة المحتواة ضمن أسوار، إنّما ما يجعلها مدينة هُم السكّان. المدينة بحدّ ذاتها لا تُخطِئ. فالجدول والجسر والبيوت والأبراج لا يمكنها أن ترتكب خطيئة. فهي موادّ وليست نفوساً. ولكنّ أولئك الـمُنحَصِرين ضمن أسوار المدينة، في البيوت، في المتاجر، أولئك الذين يمرّون على الجسر أو يستحمّون في الجدول، فَهُم الذين بإمكانهم أن يرتَكِبوا الخطايا. يُقال عن مدينة مُشاغبة ومتوحّشة: "إنّها مدينة شرّيرة للغاية". ولكنّه قَول غير صحيح. فليست المدينة هي الشرّيرة، ولكنّ السكان هُم الأشرار.

 

الأشخاص الذين يصبحون، باتّحادهم، وحدة مركّبة، ومع ذلك هُم وحدة، وذاك هو ما يستحقّ اسم مدينة. الآن اسمعوا. إذا كان في مدينة عشرة آلاف مِن سكّانها صالحين، وألف فقط ليسوا كذلك، فهل يمكن القول إنّ هذه المدينة شـرّيرة؟ لا، لا يمكن قول ذلك. على النحو ذاته، إذا كان في مدينة، تِعداد سكّانها عشرة آلاف، فِرَق كثيرة، وكلّ فريق يريد تقديم مصلحته، فهل يمكن القول إنّ هذه المدينة متّحدة؟ لا، لا يمكن قول ذلك. وهل تعتقدون أنّ هذه المدينة ستكون مُزدَهِرة؟ لا، لن تكون كذلك.

 

أنتم، يا سكّان جيراسا، إنّكم متّحدون الآن في فِكرة جَعل مدينتكم عظيمة. وسوف تنجحون لأنّكم جميعكم تريدون الشيء ذاته، وتتنافسـون فيما بينكم لبلوغ هذا الهدف، ولكن، لو كانت قد قامت بينكم فِرَق مختلفة، وجاءكم فريق يقول: "لا، يجدر بنا الامتداد نحو الشرق"، وآخر: "أبداً، سنمضي صوب الشمال مِن جانب السهل"، وثالث: "لا هذا ولا ذاك، نريد أن نتجمّع في المركز إلى جانب الجدول"، فماذا يحصـل؟ الذي يحصل هـو أنّ الأعمال التي بُدِئَ بها تتوقّف، والذين يُقرِضون الأموال يستردّونها، والذين كانوا ينوون الإقامة يمضون للبحث عن مدينة أخرى أكثر تضامناً، وما أُنجِزَ يتهدّم لأنّه يتعرّض للأحوال الجوّية الرديئة دون أن يُكمَل بسبب انقسام السكّان.

 

هل الأمر هكذا أم لا؟ تقولون الأمر هكذا، وحسـناً تقولون. فيجب إذن التفاهم بين السكّان لِيُصار إلى فِعل ما هو في صَالِح المدينة، وبالتالي صالح السكّان، لأنّه في أيّة مؤسّسة، ما هو صالحها هو صالح الذين يُشكِّلونها.

 

ولكن لا توجد فقط المؤسّسة التي تُفكِّرون فيها، مؤسّسة الذين ينتمون إلى المدينة ذاتها، أو إلى الوطن ذاته، أو إلى مؤسّسة البيت الصغيرة والعزيزة. هناك مؤسّسة أَوسَع ولا نهائيّة: تلك التي للأرواح. نحن جميع الأحياء لدينا نَفْس. وهذه النَّفْس لا تموت مع الجسد، ولكنّها تَخلد للأبد. لقد كان في فِكر الله الخالق، الذي وَهَبَ الإنسان النَّفْس، أن تجتمع جميع النُّفوس البشريّة في مكان واحد: السماء، التي تُشكِّل ملكوت السماوات، حيث العاهِل هو الله والأشخاص المغبوطون هُم الناس، بعد حياة عاشوها بقداسة ورقاد بِسُكون. فالشـيطان قد أتى لِيُفرِّق ويُخرِّب، لكي يُحطِّم ويُحزِن الله والنُّفوس. لقد حَمَلَ الخطيئة إلى القلوب، ومعهـا الـموت للأجساد في زمن الوجود، راجياً إماتة حتّى الأرواح. موت الأرواح هو الدينونـة التي هي وجود كذلك، نعم، ولكنّه وجود مُجرَّد ممّا هو الحياة الحقّ والفرح الأبديّ، أي الحرمان مِن الرؤيا الـمُبهِجة لله، ومِن امتلاكه الأبديّ في النور الأزليّ. وانقَسَمَت البشـريّة في إراداتها مثل مؤسّسة تنقسم إلى أحزاب متضادّة. وبتصرّفها هكذا مَضَت إلى دمارها.

 

قُلتُها سابقاً للذين اتَّهَموني بأنّني ببعلزبول أُخرِج الشياطين: "كلّ مملكة تَنقَسِم على نفسها تَخرب". بالفعل إذا كان الشيطان يَطرد نفسـه، فإنّه يَمضي هو ومملكة الظَّلام التي له إلى الخراب. أنا، بسبب الحبّ الذي لَدَى الله تجاه البشريّة التي خَلَقَها هو، جئتُ أُذكِّر أنّ مَلكوتاً واحداً فقط هو المقدَّس: ملكوت السماوات. جئتُ أُبشِّر به لِيَهرَع إليه الأفضل. آه! أودُّ لو الجميع، حتّى الأكثر سوءاً، أن يأتوا إليه، مُهتَدين، مُحرِّرين أنفسهم مِن الشيطان الذي يُبقيهِم مُستعبَدين، سواء بشكل علنيّ مِن خلال الاستحواذات الجسديّة والروحيّة، أو سِرّاً من خلال تلك التي هي فقط روحيّة. لهذا أَمضَي شافياً المرضى، طارداً الشياطين مِن الأجساد المستحوذ عليها، هادياً الخطأة، غافِراً باسم الربّ، مُعلِّماً ما يخصّ الملكوت، صانعاً المعجزات لأقنعكم بسلطاني، وأنّ الله معي. إذ لا يمكن للمرء أن يصنع المعجزات إن لم يكن الله صديقاً له، لأنّني إذا ما كنتُ أَطرُد الشياطين بإصبع الله، وأُشفي المرضى، وأُطهِّر البرص، وأَهدي الخَطَأَة إلى التوبة، وأُبشِّر بالملكوت، وأُعطي العِبرة للوصول إليه، وأدعو إليه باسم الله، والله يُؤيّدني بشكل جليّ ولا يَحتَمِل الجدل، ولا يمكن إلّا للأعداء المخادعين فقط القول خلاف ذلك، فكلّ هذا ما هو إلّا إشـارة إلى أنّ الملكوت قد حلّ فيما بينكم، وينبغي له أن يُبنى لأنّ ساعة تأسيسه قد حانت.

 

كيف يتأسّس ملكوت الله في العالم وفي القلوب؟ بالعودة إلى شـريعة موسى وبالمعرفة الدقيقة لها، إذا كان المرء يجهلها، وبالأخصّ في التطبيق الكامل للشريعة على الذات، في كلّ عمل وفي كلّ لحظة مِن الحياة. ما هي طبيعة هذه الشريعة؟ أهي صارمة لدرجة لا يمكن معها ممارستها؟ لا. إنّها مجموعة مِن عشرة وصايا مقدّسة وسهلة، بحيث الإنسان الصالح ضميريّاً، الصالح بحقّ، يُدرِك أنّه يجب التقيّد بها حتّى ولو كان مختبئاً تحت السقف النباتيّ الذي لا مَخرَج له في مَجاهل غابات أفريقيا التي لا يمكن الولوج إليها. وهي تقول:

 

"أنا هو الربّ إلهكَ، لا يَكُن لكَ إله غيري.

 

لا تَذكُر اسم الله بالباطل.

 

احفظ يوم السبت بحسب وصية الله وحاجة الخليقة.

 

أَكرِم أباكَ وأُمّكَ لتعيش طويلاً وتنال الخير على الأرض وفي السماء.

 

لا تَقتُل.

 

لا تَسرق.

 

لا تَزنِ.

 

لا تَشهَد على قريبكَ بالزّور.

 

لا تشته امرأة قريبكَ.

 

لا تشتهِ مقتنى غيركَ".

 

مَن هو الإنسان الذي، إذا كانت له نَفْس صالحة، حتّى ولو كان مُتوحّشاً، والذي إذا ما نَظَرَ إلى كلّ ما حوله، لا يتوصّل إلى القول: "لا يمكن أن يُصنع كلّ هذا مِن ذاته. إذاً فهناك مَن هو أكثر سلطاناً مِن الطبيعة ومِن الإنسان ذاته قد صَنَعَه؟ ويَعبُد ذا السلطان هذا الذي يَعرف أو لا يعرف اسمه القدّوس، ولكنّه يشعر بوجوده. ويُكِنُّ له احتراماً عندما يَذكُر اسمه الذي سمّاه به أو الذي تَعلَّمَ قوله لدى تسميته، ويرتَعِد مِن شدّة الاحترام، ويُدرِك أن يُصلّي له، لا لشيء إلّا لِيَذكُر اسمه باحترام. بالفعل، إنّ ذكر اسم الله بُغية عبادته أو تعريف الناس الذين يجهلونه عليه، هو صلاة.

 

وكذلك، لمجرّد الحيطة الوجدانيّة، يَشعُر كلّ إنسان أنّ عليه أن يَمنَح أعضاءه فترة راحة لتتمكّن مِن الصمود طالما هو على قيد الحياة. مِن باب أولى، فإنّ الإنسان الذي لا يَجهَل إله إسرائيل، الخالق وربّ الكون، يُدرِك أنّ عليه أن يُكرِّس هذه الراحة الجسديّة للربّ، لكي لا يكون شبيهاً بالبهيمة التي، إذا ما تَعِبَت، تستريح على المهاد وهي تجترّ الشوفان بين أسنانها القويّة.

 

الدم ذاته يصيح حبّاً للذين أتى منهم، ونلاحظ ذلك في ذلك الحمار الصغير الذي يجري الآن وهو يَنهَق لِيُلاقي أُمّه العائدة مِن السُّوق. لقد كان يَلعَب ضِمن القطيع، وما إن رآها حتّى تذكَّر أنّه رَضِع منها، وقد لَعَقَته أمّه بحنان ودافَعَت عنه وجَعَلَته ينعم بالـدفء، وهل تَرَون؟ إنّه يَفرك لها رقبتها بمنخره الناعم، ويقفز فرحاً وهو يفرك رَدفه الفتيّ بالكَشح الذي حَمَله. حُبّ الأهل واجب ومُتعة. وما مِن حيوان لا يحبّ الذي أنَجَبه. ومـاذا؟ هل يكون الإنسان أدنى مستوى مِن الدودة التي تعيش في الوحل؟

 

الإنسان الصالح وجدانيّاً لا يَقتُل. العنف يجعله يشمئزّ. يُدرِك أنّه لا يجوز انتزاع حياة أيّ كان، ووحده الله الذي مَنَحَها له الحق في انتزاعها. ويأبى القتل.

 

وكذلك مَن كان وجدانه سليماً لا يمكنه الاستيلاء على ما هو مِلك لغيره. إنّ رغيف خبز يأكله وضميره مرتاح قرب نبع فضّيّ الماء، لهو عنده أفضل مِن خروف مشـويّ لذيذ حصل عليه عن طريق السرقة. يُفضِّل النوم على الأرض مُسنِداً رأسه على حجر، والنجمات الصديقات تُمطِر فوق رأسه سلاماً وتُشدِّد عزيمته بضمير نزيه، على النوم المضطَرِب على سرير مَسروق.

 

وإذا كان وجدانه سـليماً، فإنّه لا يشتهي امرأة غيره، ولا يَلِج بِخِسّـة في سرير غيره لِيُلطّخه. بل إنّه يرى في زوجة الصديق أُختاً، ولا تكون نظراته وعواطفه تجاهها إلّا ما تكون عليه نظرات وعواطف أخ تجاه أخته.

 

الإنسان ذو النَّفْس المستقيمة، حتّى طبيعيّاً فقط، بدون أيّة معرفة عن الخير سوى تلك التي يعطيه إيّاها ضميره الـمُفعَم استقامة، لا يَرضَى مُطلقاً الإدلاء بشهادة تمسّ الحقيقة بسوء، إذ يبدو له ذلك شبيهاً بالقتل والسرقة، وهو كذلك. ولكنّ لديه شفتين نزيهتان مِثل قلبه، وليست لديه نَظَرات يَشتهي بها امرأة غيره. وليست لديه الرغبة في ذلك لأنّه يَعلَم أنّ الرغبة تَدفَع إلى الخطيئة. وليس لديه حَسَد لأنّه صالح. والصالح لا يَحسد أبداً. إنّه فَرِح بمصيره.

 

هذه الشريعة، بما فيها مِن متطلّبات، هل تبدو لكم غير قابلة للتطبيق؟ لا تُغالِطوا أنفسكم! أنا واثق من أنّكم لن تفعلوا، وإذا لم تفعلوا فإنّكم تؤسّسـون ملكوت الله في ذواتكم وفي مدينتكم، وسوف تعودون ثانية للّقاء يوماً، وأنتم سُـعداء، مع الذين أحببتموهم والذين، مثلكم، قد بَلَغوا الملكوت الأبديّ في أفراح السماء التي لا نهاية لها.

 

ولكن في أعماقنا ذاتها تُوجَد الميول، كما السكان القابعون ضمن أسوار مدينة. يجب أن تُريد كلّ مُيول الإنسان أمراً واحداً: أن تعرف القداسة. وإلّا فعبثاً يميل قِسم نحو السماء، إذا ما تَرَكَ قِسم آخر بعدئذ الباب دون حراسة، فيدع الشـيطان يَدخُل، أو يُبطِل، بنقاشات وكَسَل، عَمَل قِسم مِن السكّان الروحيّين، بجعله داخل المدينـة يَفنى وعُرضـة للقـرّاص وللأعشاب السامّة، للعكرش، للأفاعي، للعقارب، للفئران وأبناء آوى وللبوم، أي للميول الشرّيرة ولملائكة الشيطان. يجب السهر دون الإهمال لحظة، مثل الحرّاس الذين يُوضَعون عند الجدران لمنع الشرّير مِن الدخول إلى حيث نريد بناء ملكوت الله.

 

الحقّ أقول لكم: طالما الرجل القويّ يَحرس مَدخل بيته بالسلاح، فكلّ مَن في داخله هُم في أمان. ولكن لو أتى مَن هو أقوى منه، أو لو تَرَكَ بابه دون حراسة، إذاً لَأَدرَكَه الأقوى وجَرَّدَه مِن سلاحه وهو، إذ يُجرَّد مِن الأسـلحة التي كان يُعوِّل عليها، فإنّه يتذلَّل ويُذعِن، ويَأسِره الأقوى ويَسبيه. ولكن لو عاش الإنسان في الله، بواسطة الأمانة للشريعة والاستقامة التي يمارسها بقداسة، فإنّ الله يكون معه، وأنا معه، ولا يمكن أن يمسّه سوء. الاتّحاد بالله هو السلاح الذي لا يمكن لأيّ قويّ أن يتغلّب عليه. الاتّحاد بي ضمان للنصر ولغنيمة فضائل أبديّة، مِن أجلها يُمنَح للأبد مكاناً في ملكوت الله. ولكنّ الذي يَنفَصِل عنّي أو يُصبِح عدوّاً لي، فإنّه بالنتيجة يَرفُض الأسلحة وأمان كَلِمَتي. ومَن يُنكِر الكلمة يُنكِر الله. ومَن يُنكِر الله يدعو الشيطان. والذي يدعو الشيطان يُحطِّم كلّ ما كان يملكه لِبُلوغ الملكوت.

 

وبالنتيجة فَمَن ليس معي فهو عليَّ. ومَن لا يَحصُد ما زَرَعتُ أنا، يَقطف ما زَرَعَه العدو. ومن لا يَحصد معي يُبدِّد، وسوف يأتي مسكيناً وعرياناً إلى الديّان العظيم الذي سيُرسِله إلى المعلّم الذي باع نفسه له، مُفضِّلاً بعلزبول على المسيح.

 

يا سُكّان جيراسا أَنشِئوا في ذواتكم وفي مدينتكم ملكوت الله.»

 

ويرتَفِع صوت امرأة حاد، صافياً كنشيد تمجيد، على صوت ضجّة الجموع الـمُفعَم إعجاباً، مُرنِّماً الطوبى الجديدة، أي مَجد مريم: «طوبى للبطن الذي حملكَ وللثديين اللذين رَضَعتَهُما.»

 

يلتفت يسوع صوب المرأة التي تُشيد بالأُمّ عن طريق الإعجاب بالابن. يبتسم لأنّ مديح الأُمّ يُبهِجه. ولكنّه يقول بعد ذلك: «بل طوبى لِمَن يَسمع كلمة الله ويَعمَل بها. افعلي ذلك أنتِ أيّتها المرأة.»

 

بعد ذلك، يُبارِك يسوع ويتوجّه صوب الريف، يَتبَعه الرُّسُل الذين يسألونه: «لماذا قُلتَ هذا؟»

 

«الحقّ أقول لكم، لأنّ مقاييس السماء تَختَلِف عن مقاييس الأرض. وأُمّي نفسها ستكون مَغبوطة، ليس بسبب نَفْسها التي بِلا دَنَس، بِقَدر ما هو بسبب سماعها كلمة الله وممارستها بطاعة. فإنَّ "لِتَكن نَفْس مريم بلا خطيئة" لَـهِيَ معجزة مِن الخالق. إذن فله يكون المديح. أمّا "لِيَكُن لي بحسب قولكَ"، فهي معجزة أُمّي. فَمِن أجل هذا يكون ما تستحقّه عظيماً. إنّه عظيم لدرجة أنّ مُخلِّص العالم قد أتى بفضل هذه الـمَقدِرة على سماع كلمة الله المتكلّم بفم جبرائيل، وبفضل إرادتها وَضَعَ كلمة الله مَوضِع التطبيق والممارسة دون أيّ حساب لمقدار الصعوبات والآلام المباشرة والمستقبلية التي تتأتّى مِن موافقتها. تَرَون إذاً أنّ أُمّي لَمغبوطة هي، ليس فقط لأنّها حَبِلَت بي وأرضَعَتني، ولكن لأنّها سَمِعَت كلمة الله ومارَسَتها بِطاعة. إنّما الآن فلنعد إلى البيت. كانت أُمّي تَعلَم أنّني خرجتُ لبعض الوقت، وقد تخاف إذا ما رأت أنّني تأخرتُ. إنّنا في بلدة نصفها مِن الوَثَن. ولكن في الحقيقة، إنّها أفضل مِن الأُخريات. وكذلك فلنمضِ، ولِنَدُر خلف الجدران لِنُفلِت مِن الجموع التي تريد إبقائي هنا. هيّا بنا بسـرعة خلف تلك الخمائل الكثيفة...»