ج8 - ف15

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثامن

 

15- (السبت في أفرايم)

 

12 / 01 / 1947

 

«انهضوا ولنمضِ بمحاذاة السيل. سوف نحتفل بالسبت فيما بيننا، كالعبرانيّين الّذين خارج وطنهم وفي مواضع لا معابد فيها. هيّا يا أولادي...» يقول يسوع للرُّسُل المسترخين في حديقة المنزل، ويمدّ يده للأطفال المساكين الثلاثة المتجمّعين في أحدى الزوايا.

 

إنّهم يَهرعون بِفَرح خَجول على وجوههم الصغيرة الـمُفكّرة بشكل مُبكّر لأطفال رأوا أموراً أكبر منهم، والاثنين الأكبر سنّاً يضعان يديهما الصغيرتين في يديّ يسوع، إنّما الأصغر يريد أن يُحمَل على الذراعين، ويسوع يُرضيه بالقول للأكبر: «أنتَ ستبقى إلى جانبي، وستُمسك بثوبي كما البارحة. بينما إسحاق متعب للغاية وصغير جدّاً كي يمضي لوحده...» الأكبر يرتشف ابتسامة يسوع ويَقبَل، مكتفياً بالسير قرب يسوع مثل رجل صغير.

 

«أعطني الطفل، يا معلّم. لا بدّ أنّكَ لا تزال متعباً مِن الأمس، وروبين يعاني مِن عدم الإمساك بيدكَ...» يقول برتلماوس، ويعمل على أخذ الطفل، الّذي يتشبّث برقبة يسوع.

 

«إنّه عنيد مثل كلّ بني جنسه!» يصيح الاسخريوطيّ.

 

«لا. إنّه خائف. أنتَ لا تفهم شيئاً عن الأطفال. الصغار هم هكذا. حينما يكونون مغمومين أو خائفين فهم يبحثون عن ملاذ لدى أوّل مَن ابتسم لهم وعزّاهم.» يردّ برتلماوس. وكونه لا يقدر على حمل الأصغر بين ذراعيه، فإنّه يعطي يده للأكبر بعدما داعب شعره وابتسم له ابتسامة أبويّة.

 

يَخرجون مِن المنزل، الّذي لا يبقى فيه سوى المرأة، ويمضون إلى ما بعد البلدة، محاذين السيل. جميلة هي ضفافه الّتي يغطّيها العشب الجديد وتزيّنها زهور المروج. الماء صافٍ ويخرّ بين الحجارة، ولو أنّه قليل الغزارة، فهو يعزف نغمات قيثارة ويخرّ وهو يتكسّر على الحجارة الأكثر ضخامة المتناثرة فوق القاع الرمليّ، أو ينساب بين أفاريز جزيرة صغيرة مغطّاة بالقصب. من أشجار قرب الضفّة، طيور تطير بتغريدات فَرَح، أو تحطّ على غصن تحت الشمس الساطعة وتغرّد أُولى التغريدات الربيعيّة، أو تهبط، رشيقة ومفعمة حيويّة، لتبحث عن ديدان أو حشرات في الأرض، أو لتشرب قرب الضفاف. ترغلّتان تستحمّان في مُنحنى مِن الضفّة، وتتداعبان هادلتين، ثمّ تطيران، حاملتين في منقاريهما ندفة صوف خَلّفتها نعجة ما على غصن زعرور قد بدأ يزهر عند قمّته.

 

«إنّهما تفعلان هكذا كي تبنيا عشّهما.» يقول الطفل الأكبر. «لديهما فراخ بالتأكيد...» يحني رأسه أخفض فأخفض، وبعد أن كان قد شرع بابتسامة عند بداية كلامه، فهو يبكي مِن دون صوت ماسحاً عينيه بيده.

 

برتلماوس يحمله بين ذراعيه، مُدركاً الجرح الّذي قد أحدثته الترغلّتان باهتمامهما بعشّهما، ويتنهّد برتلماوس، بنفسه الطيّبة لأب عائلة. الطفل يبكي على كتفه، والآخر، الثاني، إذ رأى تلك الدموع، يشرع في البكاء بدوره، مقتدياً به الثالث، منادياً أباه بصوته الّذي لطفل في بداية النطق.

 

«اليوم سيكون هذا صلاة السبت! كان بإمكانكَ تركهم في المنزل! إنّ المرأة أجدر منّا في هذه الحالات و...» يلاحظ الاسخريوطيّ.

 

«إنّما إن لم تكن تفعل سوى البكاء هي كذلك! كَم بي رغبة قويّة مع ذلك لأن أفعل هذا أنا أيضاً… لأنّها أمور… تبعث على البكاء...» يجيبه بطرس، حاملاً بين ذراعيه الطفل الثاني.

 

«نعم. تبعث على البكاء. هذا صحيح. ومريم الّتي ليعقوب، العجوز المسكينة المحزونة، ليست قادرة جدّاً على المواساة.» يؤكّد الغيور.

 

«كذلك نحن لا يبدو أنّنا نفعل الكثير. الوحيد الّذي كان باستطاعته مواساتهم كان المعلّم. ولم يفعل ذلك.»

 

«لم يفعل ذلك؟ وماذا كان عليه أن يفعل أكثر؟ لقد أقنع اللصوص. قطع أميالاً عدّة والأطفال بين ذراعيه، عمل على إخطار أقاربهم...»

 

«كلّها أمور ثانويّة، هو، الّذي يأمر حتّى الموت، كان بإمكانه، لا بل كان ينبغي أن ينزل إلى الحظيرة ويقيم الراعي مِن الموت. لقد فعل ذلك حقّاً للعازر، الّذي لم يكن ذا نفع لأحد! هنا أب، وفوق ذلك أرمل، أطفال يبقون وحدهم… هذه القيامة كانت تفرض ذاتها. إنّني لا أفهمكَ يا معلّم...»

 

«ونحن، لا نفهمكَ، أنتَ الّذي في غاية عدم الاحترام...»

 

«سكوناً، سكوناً! يهوذا لا يدرك. وليس هو الوحيد الذي لا يدرك مبرّرات الله ونتائج الخطيئة. أنتَ كذلك يا سمعان بن يونا، لا تدرك لماذا يتوجّب على الأبرياء أن يعانوا. فلا تحكموا إذن على يهوذا بن سمعان الّذي لا يدرك لماذا لم يُقَم الرجل مِن الموت. ولو كان يهوذا يفكّر، هو الّذي يلومني دوماً على الذهاب وحدي وبعيداً، لكان أدرك بأنّني لم أكن أستطيع الذهاب بعيداً هكذا… لأنّ الحظيرة كانت بالفعل في سهل أريحا، إنّما إلى ما وراء المدينة، قرب المخاضة. ماذا كنتم تقولون لو أنّني ابتعدتُ لثلاثة أيّام على الأقلّ؟»

 

«كان يمكنكَ أن تأمر الميت بروحكَ كي يقوم.»

 

«هل أنتَ أكثر تطلّباً مِن الفرّيسيين والكَتَبَة الّذين أرادوا كبرهان، ميتاً متحلّلاً كي يمكن القول بأنّني أقيم الأموات حقّاً؟»

 

«إنّما هم كانوا يريدون ذلك لأنّهم يكرهونكَ. أنا أودّ ذلك لأنّني أحبّكَ وأودّ أن أراكَ تسحق كلّ أعدائكَ.»

 

«شعوركَ القديم ومحبّتكَ غير المنظّمة. لم تُحسِن اقتلاع الأشجار العتيقة مِن قلبكَ لاستبدالها بالجديدة، والعتيقة، وقد خَصَّبها النور الّذي اقتربتَ منه، قد غدت أكثر صلابة بعد. إنّ خطأكَ هو خطأ كثيرين، حاليّين ومستقبليّين. خطأ الّذين، رغم معونات الله، لا يتبدّلون لأنّهم لا يتجاوبون بإرادة بطوليّة مع معونات الله.»

 

«هل هؤلاء، الّذين هم تلاميذكَ مثلي، قد اقتلعوا ربّما الأشجار العتيقة؟»

 

«أقلّه هم شَذَّبوها وطَعَّموها كثيراً. أنتَ لم تفعل ذلك. أنتَ حتّى لم تنظر بعناية إن كانت تستحقّ التطعيم، التشذيب، أو إن كان ينبغي اقتلاعها. إنّكَ بستانيّ عديم التبصّر يا يهوذا.»

 

«فقط بالنسبة إلى نفسي. ذلك أنّني أُحسِن أعمال البستنة.»

 

«تُحسِن أعمال البستنة. كلّ أمور الأرض تُحسِن فِعلها. أودُّ أن أراك قادراً بالقدر ذاته بالنسبة لأمور السماء.»

 

«إنّما ينبغي لنوركَ أن يفعل فينا مِن تلقائه كلّ أنواع الآيات! أيمكن ألاّ يكون صالحاً؟ فإذا كان يُخصّب الشرّ ويقوّيه، فإذن هو ليس صالحاً، والخطأ خطأه إن نحن لم نصبح صالحين.»

 

«تكلّم عن نفسكَ أيّها الصديق. فأنا لا أجد أنّ المعلّم قد جعل ميولي الشرّيرة أقوى.» يقول توما.

 

«ولا أنا» ، «ولا أنا» يقول أندراوس ويعقوب بن زَبْدي.

 

«وثمّ، بالنسبة لي، فَقُدرته قد حرّرتني مِن الشرّ وجَدّدتني. لماذا تتكلّم هكذا؟ هل تفكّر بما تقوله؟» يَسأَل متّى.

 

بطرس على وشك أن يتكلّم، لكنّه يُفضّل الذهاب، ويغذّ السير والطفل متعلّق بعنقه، مقلّداً تأرجح قارب لجعله يضحك، وفيما يمرّ، يأخذ بذراع تدّايوس ويصيح: «هيّا، لنذهب إلى هناك، إلى تلك الجزيرة! إنّها مليئة بالزهور مثل سلّة. تعالوا، نثنائيل، فيلبّس، سمعان، يوحنّا… قفزة جيّدة ونكون هناك. إنّ السيل، وهو مقسوم هكذا، لم يعد سوى ساقيتين على جانبيّ الجزيرة...» ويقفز أوّلاً، واضعاً قدمه على نتوء رمليّ عريض لبضعة أمتار، مكسوّ عشباً كأنّه مرج، مغطّى بالزهور الأولى لتُشكّل سجّادة، في الوسط شجرة حور واحدة طويلة ورفيعة، تتمايل قمّتها في نسيم خفيف. يلحق به مَن ناداهم على مهل، يتبعهم بعد ذلك مَن كانوا أقرب إلى يسوع، الّذي يبقى إلى الخلف ليتحدّث إلى الاسخريوطيّ.

 

«إنّما ألم ينتهِ ذاك بعد؟» يَسأَل بطرس أخاه.

 

«إنّ المعلّم يعمل على قلبه.» يجيب أندراوس.

 

«إيه! إنّه لأسهل بالنسبة لي جعل التين ينبت على هذه الشجرة، مِن جعل الاستقامة تُولَد في قلب يهوذا.»

 

«وفي عقله.» يزاود متّى.

 

«إنّه أحمق لأنّه يريد أن يكون كذلك، وفيما يريده.» يقول تدّايوس.

 

«إنّه يعاني لأنّه لم يتمّ اختياره للتبشير. أنا أعلم ذلك.» يشرح يوحنّا.

 

«إنّما بالنسبة لي… إن كان يريد أن يذهب هو مكاني… فإنّني حقّاً لا أتمسّك بالذهاب!» يهتف بطرس.

 

«لا أحد منّا يتمسّك بذلك. أمّا هو فنعم. مِن جهة أخرى أخي لا يريد إرساله. لقد حدّثتُه في الأمر هذا الصباح، لأنّني كنتُ قد فهمتُ مزاج يهوذا وأسبابه. لكنّ يسوع قال لي: "بالضبط لأنّ له قلباً مريضاً جدّاً، فإنّني أُبقيه بقربي. إنّ الّذين يعانون والضعفاء هم مَن يحتاجون إلى طبيب وإلى مَن يعضدهم".»

 

«أجل!... حسناً!... تعاليا أيّها الولدان. لنأخذ الآن هذه القَصَبات الجميلة ولنصنع منها قوارب صغيرة. انظرا كم هي جميلة! وفي الداخل، بمثابة الصيّادين، سوف نضع هذه الزهور الصغيرة. انظرا إذا لم تكن تبدو كالرؤوس، بقبّعة بيضاء وحمراء… هنا نعمل المرفأ، وهنا، ها هي منازل الصيادين الصغيرة… الآن نربط القوارب بهذه الأعشاب الدقيقة، وأنتما تجعلانها تسير على الماء، هكذا… ومِن ثمّ تجذبانها إلى الضفّة بعد الصيد… يمكنكما أيضاً أن تقوما بدورة حول الجزيرة… واحذرا الصخور، إيه!...» بطرس مثير للإعجاب بصبره. لقد عمل بسكّينه على قِطَع القصب، قاطعاً إيّاها مِن عقدة إلى عقدة، وكاشفاً إيّاها مِن إحدى الجهات لتحويل القصب إلى قوارب صغيرة، وعمل صيّادين مِن الأقحوانات الّتي لا تزال أزراراً، وحَفَرَ في الرمل مرفأً صغيراً جدّاً، وصَنَعَ منازل صغيرة بالرمل الرطب، وببلوغه غايته بتسلية الطفلين، يجلس راضياً وهو يتمتم: «يا للولدين المسكينين!...»

 

يسوع يطأ الجزيرة بالضبط حينما يبدأ الطفلان لعبتهما، ويداعبهما واضعاً على الأرض الطفل الأصغر، الّذي يشترك في لعبة أخويه.

 

«أنا لكم. والآن لنتحدّث عن الله. لأنّ الحديث عن الله والحديث إلى الله هما الاستعداد للرسالة. وبعد الصلاة، أي التحدّث إلى الله، سوف نتحدّث عن الله الحاضر في كلّ الأشياء لتعليم الأمور الصالحة. هيّا، انهضوا ولنصلّ.» ويُنشِد المزامير بالعبريّة، الّتي يشترك بإنشادها الرُّسُل.

 

الأطفال، الّذين كانوا قد ابتعدوا مع قواربهم الصغيرة، يُوقِفون زقزقة أصواتهم وألعابهم، ويقتربون وقد سمعوا هؤلاء الرجال يُنشِدون. يُصغون بانتباه، مُركّزين نظرهم على يسوع، الّذي هو كلّ شيء بالنسبة إليهم، ومِن ثمّ، بروح التقليد الّذي للأطفال، يتّخذون نفس وضعيّة الـمُصلّين، ويحاولون اتّباع النشيد، مُدندِنين النغم، ذلك أنّهم لا يعرفون كلمات المزامير. يسوع يخفض نظره وينظر إليهم بابتسامة تُشجّع إنشاد الأصوات الصغيرة البريئة. وإذ يشعرون بالتأييد فيتشجّعون…

 

ينتهي إنشاد المزامير. يسوع يجلس على العشب ويبدأ الكلام: «عندما اتّحد مَلِكا إسرائيل، مَلِك أَدُومَ ومَلِك يهوذا، لمحاربة مَلِك مُوآبَ، وتَوجّها إلى النبي أليشع طلباً للمشورة، فهذا أجاب مُرسَل الـمَلِكين: "لو لم يكن بي احترام ليَهُوشَافَاطَ، مَلِك يهوذا، لما نظرتُ إليكَ حتّى. إنّما الآن فَأتُوني بضارب قيثارة". وفيما كان ضارب القيثارة يعزف، كَلَّم الله نبيّه آمِراً بحفر خنادق عديدة في السيل الجاف، كي تمتلئ بالماء للرجال والبهائم. وعند ساعة تقدمة الصباح، امتلأ السيل كما قال الربّ، دونما ريح أو مطر. ما هي، بالنسبة لكم، دروس هذا الحدث؟ تكلّموا!»

 

يتشاور الرُّسُل فيما بينهم. مِنهم مَن يقول: «الربّ لا يتكلّم حينما يكون القلب مضطرباً، إليشع يريد تسكين سخطه، الّذي نتج عن رؤية نفسه أمام مَلِك إسرائيل، كي يتمكّن مِن سماع الله.» في حين يقول آخرون: «إنّه درس برّ. فإليشع، كي لا يعاقب مَلِك يهوذا البريء، يخلّص حتّى المذنب.» وآخرون أيضاً: «إنّه درس طاعة وإيمان. فهما قد حفرا الخنادق طاعة لأمر هو في الظاهر سخيف، وانتظرا الماء بإيمان، رغم أنّ السماء كانت صافية وبلا ريح.»

 

«لقد أحسنتم الإجابة، إنّما ليس تماماً. فالقلب حين يكون مضطرباً لا يتكلّم الله. هذا صحيح. إنّما القيثارة ليست ضرورية لتسكين القلب. يكفي امتلاك المحبّة، الّتي هي القيثارة الروحيّة الّتي تمنح نغمات الفردوس. حين تحيا نَفْس في المحبّة تمتلك قلباً ساكناً، وتسمع صوت الله وتفهمه.»

 

«فإذن إليشع لم يكن يمتلك المحبّة، لأنّه كان مضطرباً.»

 

«إليشع هو مِن زمن العدل. يجب أن نُحسِن نقل الوقائع القديمة إلى زمن المحبّة، وأن نراها لا في ضوء الصواعق، بل في نور النجوم. أنتم تنتمون للزمن الجديد. فلماذا إذن أنتم غالباً أكثر غضباً واضطراباً مِن أهل الزمن القديم؟ تجرّدوا مِن الماضي. أكرّر ذلك، حتّى ولو لم يعجب يهوذا سماعها تتكرّر. اقتلعوا، شَذِّبوا، طَعِّموا، ازرعوا اشجاراً جديدة. تجدّدوا، احفروا خنادق التواضع، الطاعة، الإيمان. ذَيْنِكَ الـمَلِكان قد أحسنا فِعل ذلك، وكانا، اثنان ضدّ واحد، ليس مِن اليهوديّة، ولم يسمعا الله، بل نبيّ الله يردّد لهما مشيئة العليّ. لو لم يُحسِنا الطاعة لكانا ماتا عطشاً بفعل الجفاف. لقد أطاعا، والماء ملأ الخنادق الّتي حفراها، ولم ينجوا فقط مِن العطش، لا بل انتصرا على أعدائهما. أنا ماء الحياة. احفروا خنادق في قلوبكم كي تتمكّنوا مِن استقبالي. والآن أنصِتوا. لن ألقي مواعظ طويلة. إنّني أعطيكم أفكاراً كي تتأمّلوا فيها. ستكونون دوماً مثل هؤلاء الأطفال، بل حتّى أقلّ منهم، لأنّهم أبرياء وأنتم لستم كذلك، وبالتالي فالنور الروحيّ فيكم يكون أكثر ضبابيّة، إن لم تعتادوا التأمّل. إنّكم تسمعون دوماً ولا تحفظون أبداً، لأنّ عقلكم خامل بدلاً مِن أن يكون متحفّزاً. فاسمعوا إذن. عندما مات ابن الشُّونَمِيَّةَ، أرادت الذهاب إلى النبيّ رغم أنّ زوجها قد أخبرها بأنّه لم يكن الأوّل مِن الشهر ولم يكن السبت. لكنّها كانت تعلم بأنّ عليها الذهاب، لأنّ التأجيل غير مسموح في أمور معيّنة. وبما أنّها قد أحسنت فهم الأشياء روحيّاً، فقد حظيت بابنها قائماً مِن الموت. ما هو رأيكم بهذا الحدث؟»

 

«أنّه لوم لي فيما يخصّ السبت.» يقول الاسخريوطيّ.

 

«أترى إذاً، يا يهوذا، أنّكَ تُحسِن الفهم عندما تريد؟ فافتح إذن روحكَ للبرّ.»

 

«نعم… لكنّكَ لم تنتهك السبت لتقيم الرجل مِن الموت.»

 

«قد فعلتُ أكثر. لقد منعتُ هلاك، موت هؤلاء الأولاد، الموت الحقيقيّ. وذَكّرتُ اللصوص بأنّ...»

 

«آه! انتظر كي تعزّي نفسكَ بفكرة أنّكَ قمتَ بأمر ما! أنا لا أعتقد بأنّهم قد أطاعوكَ...»

 

«إن كان المعلّم هو مَن يقول ذلك...»

 

«إليشع نفسه، في رواية الشُّونَمِيَّةَ، يقول: "الربّ قد حفظه مخفيّاً". إذاً لا يُعرَف كلّ شيء مِن الأنبياء.» يردّ الاسخريوطيّ.

 

«إنّ أخانا هو أكثر مِن نبيّ.» يلاحظ تدّايوس.

 

«أعلم ذلك. إنّه ابن الله. لكنّه أيضاً الإنسان. وعلى هذا النحو قد يكون عرضة لعدم معرفة أشياء ثانويّة، مثل أمر اهتداء وعودة… يا معلّم، أتعلم حقّاً دوماً، دوماً كلّ شيء؟ غالباً ما أسأل نفسي عن ذلك...» يلحّ الاسخريوطيّ برغبة عنيدة.

 

«وبأيّ روح؟ كي تمنح نفسكَ سلاماً، كي تمنح نفسكَ مشورةً، كي تمنح نفسكَ اضطراباً؟» يَسأَل يسوع.

 

«لكن… لا أعلم. إنّني أتساءل عن ذلك و...»

 

«وتبدو قلقاً حتّى وأنتَ تتساءل عن ذلك.» يقول توما.

 

«أنا؟ الحيرة تسبّب القلق دوماً بالتأكيد...»

 

«يا لدقّة الفكر! أنا لا أطرح على نفسي أسئلة كثيرة. أؤمن دونما محاولة للمعرفة، ولا حيرة بي ولا اضطراب أبداً. إنّما لنترك المعلّم يتكلّم. هذا الدرس لا يعجبني. قُل لنا مثلاً جميلاً يا معلّم. فسوف يعجب الأطفال أيضاً.» يقول بطرس.

 

«لا يزال لديّ أمر لأسأله. هذا. ما الذي يعنيه بالنسبة لكم الطحين الّذي يزيل المرارة مِن حساء أبناء الأنبياء؟»

 

صمت عميق يجيب على السؤال.

 

«وماذا؟ ألا تعرفون الإجابة؟»

 

«ربّما لأنّ الطحين يمتصّ المرارة...» يقول متّى غير واثق.

 

«إنّ كلّ شيء كان ليكون مرّاً، حتّى الطحين.»

 

«بمعجزة مِن النبيّ، الّذي لم يكن يريد إذلال الخادم.» يقترح فيلبّس.

 

«أيضاً. إنّما ليس لأجل هذا فقط.»

 

«الربّ شاء أن يؤلّق قدرة النبيّ حتّى في الأمور المادّيّة.» يقول الغيور.

 

«نعم. إنّما ليس هو المعنى الصحيح بعد. إنّ حيوات الأنبياء تستبق ما سيكون في ملء الزمان: في زمني، مُظهِرين أيّامي الأرضيّة في رموز وصور. إذن...»

 

صَمْت. يتبادلون النّظر. ثمّ يحني يوحنّا رأسه، يصبح مضطرم الوجه، ويبتسم.

 

«لماذا لا تقول ما يجول في فكركَ يا يوحنّا؟» يَسأَله يسوع. «فالكلام لا ينتقص مِن المحبّة، طالما لا تفعل ذلك بغية إذلال أحد ما.»

 

«أعتقد بأنّه يعني هذا: أنّه في زمن الجوع للحقّ والعوز للحكمة، في هذا الزمن الّذي جئتَ فيه، كلّ الأشجار قد عادت برّيّة وطرحت ثماراً مُرّة، غير قابلة للأكل، كأنّها مسمومة، بالنسبة لأبناء البشر، الّذين هم بهذا الشكل يقطفونها عبثاً، وعبثاً يعدّونها كي يتغذّوا منها. لكنّ صلاح الأزليّ أرسلكَ أنتَ، طحين حَبّ مختار، وأنتَ بكمالكَ، تزيل السمّ مِن كلّ غذاء، معيداً إليه حلاوته الأولى، كذلك لأشجار الكتابات المقدّسة الّتي شوّهتها القرون، ولحلق البشر الّذي أفسده الشبق. وفي هذه الحال، فإنّ مَن يأمر بجلب الطحين ويسكبه في الحساء الـمُرّ هو أبوكَ، وأنتَ الطحين الّذي يضحّي بنفسه كي يصبح غذاءً للبشر. وبعد أن يتمّ تناولكَ، فلن يعود في العالم شيء مُرّ بعد، لأنّكَ ستكون قد أعدت الصداقة مع الله. قد أكون أخطأتُ.»

 

«لم تخطئ. هذا هو الرمز.»

 

«آه! وكيف فعلتَ لتفكّر به؟» يَسأَل بطرس مندهشاً.

 

يجيبه يسوع: «أقول لكَ ذلك بكلماتكَ الأخيرة ذاتها. قفزة جيدة ونكون على جزيرة الروحانيّة الساكنة. إنّما يجب التحلّي بالشجاعة لإجراء القفزة، تاركين الضفّة، العالم. القفز مِن دون التفكير فيما إذا كان هناك مَن قد يضحك على بلاهة قفزتنا، أو يسخر مِن سذاجتنا بتفضيلنا جزيرة صغيرة منعزلة على العالم. القفز دون الخوف مِن أن نُجرَح أو نتبلّل، أو مِن أن يخيب أملنا. أن نترك كلّ شيء كي نلوذ بالله. أن نمكث على الجزيرة منفصلين عن العالم، وأن نخرج مِن هناك فقط كي نُوزّع، على مَن بقوا على الضفة، الزهور والمياه النقيّة المجموعة في جزيرة الروح، حيث هناك شجرة وحيدة: شجرة الحكمة. بالبقاء قربها، بعيداً عن صخب العالم المدوّي، يتمّ استيعاب كلّ الأقوال، يصبح المرء معلّماً عارفاً أن يكون تلميذاً. هذا أيضاً رمز. إنّما لنروِ الآن مثلاً جميلاً للأطفال. تعالوا إلى هنا، قريباً.»

 

الأطفال الثلاثة يذهبون قريباً جدّاً إلى حدّ أنّهم يجلسون ببساطة على ساقيه. يسوع يطوّقهم بذراعيه ويبدأ الرواية: «ذات يوم قال الربّ الإله: "سوف أعمل الإنسان، والإنسان سوف يحيا في الفردوس الأرضيّ حيث النهر العظيم الّذي ينقسم بعد ذلك إلى أربعة، هي فِيشُون، جِيحُون، الفرات، دجلة، الّتي تعبر الأرض. والإنسان سوف يكون سعيداً لامتلاكه كلّ الجمالات وكلّ ما هو صالح في الخليقة، ومحبّتي لفرح روحه"، وهذا ما فَعَل. كان الأمر كما لو أنّ الإنسان موجود على جزيرة كبيرة، إنّما أكثر إزهاراً مِن هذه، ومع أشجار وحيوانات مِن كلّ الأنواع. وفوق ذلك كانت محبّة الله الّتي كانت بمثابة الشمس للنَّفْس، وكان صوت الله في الرياح، أكثر رخامةً مِن تغريد طَير.

 

ولكن ها إنّ إلى هذه الجزيرة الجميلة الـمُزهِرة، وإلى وسط كلّ الحيوانات والنباتات، إنّ حَيّة، مختلفة عن تلك الّتي كان الله قد خلقها والّتي كانت صالحة، بلا الأسنان السامّة، ودونما شراسة في طوايا جسمها الليّن، تدخل زاحفةً. حتّى إنّ هذه الحيّة كانت قد لبست جلداً بألوان جواهر كما لتلك الأُخرى، لا بل كانت قد جَمَّلت نفسها أكثر مِن تلك الأُخرى، إلى درجة أنّها كانت تبدو كأنّها قلادة كبيرة لـِمَلِك، تتقدّم بانسياب وسط الأشجار الرائعة للحديقة. ومضت لتلتفّ حول شجرة كانت تنتصب في وسط الحديقة، شجرة جميلة، متفرّدة، أطول كثيراً مِن هذه، ومكسوّة بأوراق وثمار بديعة. والحيّة كانت تبدو كجوهرة حول الشجرة الجميلة، وكانت تتلألأ تحت الشمس، وكانت كلّ الحيوانات تنظر إليها لأنّ لا أحد منها كان يتذكّر بأنّه قد رآها تُخلَق، ولا بأنّه قد رآها قبل الآن. إنّما لا أحد كان يقترب منها، لا بل كلّهم كانوا يبتعدون عن الشجرة، الآن والحيّة حول جذعها.

 

وحدهما الرجل والمرأة اقتربا منها، المرأة قبل الرجل، لأنّ ذاك الشيء اللامع الّذي كان يتلألأ تحت الشمس ويحرّك رأسه، الذي يشبه زهرة نصف متفتّحة كان يعجبها، وأنصتت إلى ما كانت تقوله الحيّة، وعصت الربّ وجعلت آدم يعصي، وفقط بعدما عصيا، رأيا الحيّة على حقيقتها وأدركا خطيئتهما، لأنّهما آنذاك كانا قد فقدا براءة القلب. وتواريا عن نظر الله الّذي كان يبحث عنهما، وبعد ذلك كذبا على الله الّذي كان يسألهما.

 

عندئذ وضع الله ملائكة عند حدود الحديقة، وطرد البشر منها. كان الأمر كما لو أنّ البشر، مِن على ضفّة عدن الآمنة، قد طُرِحوا في الأنهار الأرضيّة المليئة بالمياه، كما حين تأتي فيضانات الربيع. إنّما مع ذلك فقد ترك الله في قلب مَن طُرِدوا ذكرى مصيرهم الأبديّ، أي العبور إلى الحديقة الجميلة، حيث كانوا يسمعون صوت الله الـمُحِبّ، في الجنّة حيث كانوا ينعمون بالله كلّيّاً. ومع هذه الذكرى ترك لهما الحافز المقدّس لمعاودة الصعود نحو المكان المفقود بحياة برّ.

 

إنّما، يا أطفالي، لقد اختبرتم منذ قليل أنّه ما دام القارب ينحدر متّبعاً التيّار فإنّ سيره يكون سهلاً، بينما عندما يعاود صعود التيّار فإنّه يكافح كي يبقى طافياً، كي لا تقلبه المياه، كي لا يغرق وسط الأعشاب والرمال أو حجارة مجرى النهر. ولو أنّ سمعان بطرس لم يربط قواربكم الصغيرة بخيزران الضفّة، لكنتم فقدتموها كلّها، كما حصل مع إسحاق لاستغنائه عن الخيزران.

 

الأمر ذاته حصل للبشر المطروحين في تيّارات الأرض. عليهم البقاء دوماً بين يديّ الله، مُستَودِعينه إرادتهم، الّتي هي كما الخيزران، بين يديّ الأب الصالح الّذي في السماوات، والّذي هو أبو الجميع وخصوصاً الأبرياء، ويجب أن تكون عينهم يقظة كي يتجنّبوا الأعشاب والحشائش المائيّة، الحجارة، الدوّامات والوحل، الّتي يمكن أن تعيق، تُحطّم أو تبتلع قارب نَفْسهم، بانتزاع خيط الإرادة الّذي يبقيهم متّحدين بالله. فالحيّة، الّتي لم تعد في الحديقة، هي الآن على الأرض، وتسعى بالضبط لإغراق النفوس، تسعى لمنعها مِن معاودة الصعود مِن الفرات، مِن دجلة، مِن جِيحُون، مِن فِيشُون، إلى النهر العظيم الّذي يجري في الفردوس الأبديّ، ويغذّي شجرتي الحياة والخلاص، اللتين تحملان الثمار الدائمة الّتي سينعم بها كلّ مَن أحسَنوا معاودة صعود التيّار كي يتّحدوا مجدّداً مع الله وملائكته، دون أن يكون عليهم أن يُعانوا بعد مِن أيّ شيء.»

 

«أُمّي أيضاً كانت تقول ذلك.» يقول أكبر الأطفال سنّاً.

 

«نعم، كانت تقول ذلك.» يزقزق الأصغر سنّاً.

 

«أنتَ لا يمكنكَ أن تعلم ذلك. أنا نعم، لأنّني كبير. إنّما إن قلتَ أموراً غير صحيحة، فلن تدخل إلى الفردوس.»

 

«آنذاك أبي كان يقول بأنّ ما مِن شيء كان صحيحاً.» يعترض الأوسط.

 

«لأنّه لم يكن يؤمن بربّ أُمّي.»

 

«ألم يكن أبوك سامريّاً ؟» يَسأَل يعقوب بن حلفى.

 

«لا. كان مِن مكان آخر. أمّا أُمّي فكانت سامريّة، ونحن كنّا كذلك لأنّها كانت تريدنا مثلها. وكانت تُحدّثنا عن الفردوس وعن الحديقة، إنّما ليس بإجادتكَ أنتَ. أنا كنتُ أخاف مِن الحيّة ومِن الموت، لأنّ أُمّي كانت تقول إنّ الحيّة كانت الشيطان، ولأنّ أبي كان يقول إنّ الموت ينهي كلّ شيء. بسبب ذلك كنتُ بغاية التعاسة لكوني وحيداً، وكنتُ أقول أيضاً أنّه مِن غير المجدي أن أكون صالحاً مِن الآن فصاعداً، لأنّه وطالما كان هناك أُمّ وأب، يجعلهما المرء فرحين بصلاحه، بينما الآن لم يعد هناك أحد نُفرِحه بصلاحنا. الآن، على العكس، أعلم… وسأكون صالحاً. لن أنتزع خيطي أبداً مِن يديّ الله، كي لا تجرفني مياه الأرض.»

 

«ولكن هل ذهبت أُمّي إلى فوق أم إلى تحت؟» يَسأَل بِحَيرة الطفل الثاني.

 

«ما الّذي تقصده يا ولدي؟» يَسأَل متّى.

 

«أقول: أين هي؟ هل ذهبت إلى نهر الفردوس الأبدي؟»

 

«لِنَرجُ ذلك يا ولدي. إن كانت صالحة...»

 

«كانت سامريّة...» يقول الاسخريوطيّ بازدراء.

 

«فإذن لا فردوس لنا، لأنّنا سامريّون؟ إذن لن نحظى بالله، نحن؟ هو قد دعاه: "أبا الجميع". بالنسبة لي أنا اليتيم كان يسعدني التفكير بأنّه ما يزال لي أب … إنّما إن لم يكن هناك أب بالنسبة لنا...» يحني رأسه مغموماً.

 

«الله هو أبو الجميع يا ولدي. هل أحببتُكَ أقلّ يا ترى، لأنّكَ سامري؟ لقد زاحمتُ لأجلكَ اللصوص، وسوف أزاحم لأجلكَ الشيطان، بذات الطريقة الّتي كنتُ سأزاحم فيها لأجل صغير كبير كَهَنَة هيكل أورشليم، إن هو لم يعتبر مِن العار أن يخلّص المخلّص ولده. لا بل سأزاحم لأجلكَ أكثر بعد، لأنّكَ وحيد وتعيس. بالنسبة لي ليس هناك فرق بين روح يهوديّ وروح سامريّ، وبعد قليل لن يعود هناك بعد تفرقة بين السامريّة واليهوديّة، لأنّه سيكون للمسيح شعب واحد، سيحمل اسمه، وفيه سيكون كلّ مَن سيحبّونه.»

 

«أنا أحبّكَ يا ربّ. ولكن هل تأخذني إلى حيث أُمّي؟» يقول الأكبر سنّاً مِن الأطفال الثلاثة.

 

«أنتَ لا تعرف أين هي. لقد قال هذا الرجل، أنّ هناك فقط الرجاء...» يقول الأوسط.

 

«أنا لا أعرف ذلك، لكنّ السيّد يعرف. لقد عرف أيضاً أين كنّا، ونحن على العكس لم نعرف حتّى أين كنّا.»

 

«مع لصوص… كانوا يريدون قتلنا...» الذعر يرتسم مجدّداً على الوجه الصغير للأوسط.

 

«اللصوص كانوا مثل الشياطين. لكنّه قد خلّصنا، لأنّ ملائكتنا استدعوه.»

 

«كذلك الملائكة قد خلّصت أُمّي. أنا أعرف ذلك، لأنّني أحلم بها دوماً.»

 

«أنتَ كاذب يا إسحاق. لا يمكنكَ أن تحلم بها. فأنتَ لا تتذكّرها.»

 

الصغير يبكي قائلاً: «لا. لا. إنّني أحلم بها. أنا أحلم بها...»

 

«لا تتعامل مع أخيكَ على أنّه كاذب يا روبين. يمكن لنَفْسه أن ترى أُمّه حقّاً، لأنّ أبا السموات الصالح يمكن أن يسمح لليتيم بأن يحلم بها ويعرفها جزئياً، كما يسمح لنا بأنّ نعرفه هو ذاته. لأنّ مِن هذه المعرفة المحدودة تأتي إرادة صالحة لمعرفته بشكل كامل، وهو أمر نناله بكوننا شديدي الصلاح على الدوام. هيّا بنا. لقد تحدّثنا عن الله، والسبت قد تَقَدَّس.» ينهضون ويُنشِدون مزامير أخرى.

 

أناس مِن أفرايم، وقد سمعوا الجوقة، يقتربون وينتظرون باحترام انتهاء المزمور كي يحيّوه، ويقولون ليسوع: «أفضّلتَ المجيء إلى هنا بدلاً مِن المجيء إلينا؟ ألا تحبّنا إذن؟»

 

«لا أحد منكم قد دعاني. لذلك فقد أتيتُ إلى هنا مع رُسُلي والأطفال.»

 

«هذا صحيح. لكنّنا كنّا نعتقد بأنّ تلميذكَ قد أخبركَ عن رغبتنا.»

 

ينظر يسوع إلى يوحنّا ويهوذا. ويهوذا يجيب: «لقد نسيتُ أن أقول ذلك البارحة، واليوم، مع هؤلاء الأطفال، لم أعد أفكّر في ذلك.»

 

يسوع في غضون ذلك يترك الجزيرة ويجتاز خليج الماء الصغير، متّجهاً صوب أهل أفرايم. الرُّسُل يتبعونه، فيما يتأخّر الصغار كي يفكّوا قاربي القصب الباقيين، ويشرحون لبطرس الّذي يسألهم: «نريد أن نحتفظ بها كي تُذكّرنا بالدرس.»

 

«وأنا؟ لقد فقدتُه! ولن أتذكّر. ولن أذهب إلى الفردوس.» يقول الأصغر باكياً.

 

«مهلاً! لا تبكِ. سوف أصنع لكَ قارباً صغيراً في الحال. بالتأكيد. أنتَ أيضاً يجب أن تتذكّر الدرس. إيه! يجب أن يكون لدينا كلّنا قارب مربوط مِن مقدّمته بالخيزران كي نتذكّر. فذلك ينفعنا نحن، الرجال، أكثر منكم أنتم الصغار! للأسف!» ويَقطَع بطرس القصب ويُشكّل القارب الصغير مع خيزرانته، ويحمل بين ذراعيه، بِحَضنَة واحدة، الأطفال الثلاثة، ويقفز فوق السيل ليذهب إلى قرب يسوع.»

 

«أهؤلاء هم؟» يَسأَل ملاخي الذي مِن أفرايم.

 

«إنّهم هم.»

 

«وهم مِن شكيم [نابلس]؟»

 

«هذا ما كان يقوله الراعي الصغير: بأنّ أقاربهم كانوا مِن الأرياف.»

 

«يا للأطفال المساكين! إنّما إن لم يأتِ الأقارب، فماذا تفعل؟»

 

«سأحتفظ بهم معي. لكنّهم سيأتون.»

 

«أولئك اللصوص… ألن يأتوا هم أيضاً؟»

 

«لن يأتوا. إنّما لا تخافوا منهم. حتّى لو أتوا… فأنا مَن يسرقهم وليس هم مَن يسرقونكم. لقد سبق أن انتزعتُ منهم غنائمهم الأربعة، وآمل بأن أكون انتزعتُ قليلاً مِن نَفْسهم مِن الخطيئة، أقلّه مِن أحدهم.»

 

«سوف نساعدكَ بالنسبة لهؤلاء الأطفال. سوف تسمح لنا بهذا.»

 

«نعم. وليس لأنّهم مِن منطقتكم، إنّما لأنّهم أبرياء، ومحبّة الأبرياء هي الدرب الّذي يقود سريعاً إلى الله.»

 

«لكنّكَ وحدك الّذي لا تُفرّق بين أبرياء وأبرياء. إنّ يهوديّاً ما كان ليحتضن هؤلاء السامريّين الصغار، ولا جليليّاً كذلك. فنحن لسنا محبوبين. وعدم المحبّة تجاهنا تنطبق أيضاً بالنسبة للّذين حتّى لا يعلمون بعد ما هو أن نكون سامريّين ويهوداً. وهذا أمر قاسٍ.»

 

«نعم. إنّما لن يكون الأمر كذلك عندما يتمّ اتّباع شريعتي. أترى يا ملاخي؟ إنّهم بين ذراعيّ سمعان بطرس، أخي وسمعان الغيور. لا أحد منهم سامريّ، ولا أب. ومع ذلك، فحتّى أنتَ لا تضمّ أطفالكَ إلى قلبكَ بهكذا قَدر مِن المحبّة كما يفعل تلاميذي هؤلاء مع يتامى السامرة. الفكرة المَسيّانيّة هي هذه: توحيد الجميع في المحبّة. هذه هي حقيقة الفكرة المَسيّانيّة. شعب واحد على الأرض تحت صولجان مَسيّا. شعب واحد في السماء تحت نظر إله واحد.»

 

يبتعدون وهم يتحدّثون، صوب منزل مريم الّتي ليعقوب.