ج9 - ف15
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.
الجزء التاسع
15- (ثوب الكفّارة)
10 / 02 / 1944
يقول يسوع:
«والآن تعالي. رغم أنّكِ هذا المساء كمن يوشك على الموت، تعالي، حيث أصحبكِ إلى آلامي. طويل سيكون الدرب الّذي سنسلكه معاً، إذ لم يوفَّر عنّي أيّ ألم: لا الآلام الجسديّة، ولا الذهنيّة، ولا القلبيّة، ولا الروحيّة. لقد ذقتُها جميعهاً، جعلتُ مِن كلّ منها طعامي وشرابي، حتّى الموت.
لو كنتِ تضعين فمكِ على شفتيَّ، لكنتِ تشعرين أنّهما ما تزالان تحتفظان بمرارة آلام كثيرة. لو كنتِ تستطيعين رؤية إنسانيّتي في ثوبها، الـمُشِعّ الآن، لرأيتِ أنّ هذا الإشعاع ينبعث مِن آلاف الجراح الّتي تُغطّي بثوب أرجوانيّ حيّ أعضائي الـمُـمَزَّقة، النازفة، الموسومة بالضربات، المثقوبة حُبّاً بكم.
الآن تتألّق إنسانيّتي. ولكنّها كانت آنذاك تشبه تلك الّتي لأبرص مِن كثرة الضرب والذلّ. إنّ الإنسان-الله، الّذي كان له في ذاته كمال البهاء الجسديّ كونه ابن الله والمرأة الّتي بلا دَنَس، قد ظَهَرَ وقتها، في عيون الّذين كانوا ينظرون إليه آنذاك بمحبّة، أو بفضول، أو باحتقار، دميماً: "دودة" كما يقول داود، عار البشر، ومُحتَقَر الشعب.
لقد قادتني محبّتي لأبي ولأولاد أبي إلى أن أدع جسدي للّذين كانوا يضربونني، أن أقدّم وجهي للّذين كانوا يصفعونني ويغطّونني بالبصاق، للذين كانوا يظنّون أنّهم يصنعون عملاً مُستحِقّاً للثواب، بنزع شَعري ونتف لِحيتي، بخرق رأسي بالأشواك، جاعِلين الأرض وثمارها شريكة في العذابات المفروضة على مُخَلّصها، بخلع أعضائي، بكشف عظامي، بنزع ثيابي مسبّبين لبراءتي أشدّ العذاب، بتعليقي على خشبة ورفعي كالحَمَل المذبوح على كُلاّب الجزّار، نَابِحين حول احتضاري مثل زمرة ذئاب جوعى جَعَلَتهم رائحة الدم أكثر شراسة.
قاموا باتّهامي، قاموا بإدانتي، قاموا بقتلي. خانوني، جَحَدوني، باعوني. تمّ التخلّي عنّي حتّى مِن الله نفسه، إذ كانت الجرائم الّتي حَملتُها قد ران ثقلها عليَّ. صرتُ أكثر فقراً مِن شحّاذ عرّاه قُطّاع الطرق، إذ إنّهم لم يتركوا لي حتّى ثيابي أُغطّي بها شحوب عُريي كشهيد. حتّى بعد الموت لم تَكُفّ إهانة وجرح وافتراءات أعدائي. غُمِرتُ بأوحال خطاياكم، مدفوعاً إلى أعماق ظلام الألم، دون أيّ قَبَس مِن نور السماء يُجيب على نظري المائت [المحتضر]، وبلا كلمة مِن الله تُجيب على آخر نداء لي.
يشير إشَعياء إلى سبب كل تلك الآلام: "حقّاً أخذ عاهاتنا وحَمَل أوجاعنا".
أوجاعنا! نعم، حَمَلتُها بدلاً منكم! كي أخفّف أوجاعكم، أُلطِّفها، أُزيلها، فيما لو بقيتم أوفياء لي. ولكنّكم لم تُريدوا أن تكونوا كذلك. وماذا نلتُ مِن ذلك؟ "حسبتموني ذا بَرَص، مضروباً مِن الله". نعم، كنتُ أحمل بَرَص خطاياكم الّتي لا تُحصى، كانت عليَّ كثوب الكفّارة، كالمسوح؛ ولكن كيف لم تروا محبّة الله اللامتناهية متجلّية مِن خلال هذا الثوب الّذي وَضَعه مِن أجلكم على قداسته؟
"جُرِحَ لأجل معاصينا، وسُحِق لأجل آثامنا". يقول إشَعياء، الّذي كان يَرى بنظرته النبويّة ابن الإنسان الّذي صار جُرحاً عظيماً بكليته ليشفي جروح الناس. وكما لو لم يكن سوى جَرحاً لجسدي!
ولكنّ أكثر ما جَرَحتم كان مشاعري وروحي. فجعلتم منهما أداة هزء ونطاق تهديف، وقد جرحتُم صداقتي التي منحتُها لكم، مِن خلال يهوذا؛ جرحتم الإخلاص الّذي كنتُ آمله منكم، عبر بطرس الّذي أنكَرَني؛ جرحتم عرفان الجميل للخير الّذي صنعتُه، مِن خلال الّذين كانوا يهتفون لي: "مُتْ!" رغم أنّي كنتُ قد شفيتُهم مِن عديد مِن الأمراض؛ جرحتم المحبّة، بالعذابات الّتي تكبّدَتها أُمّي؛ جرحتموها عبر الدين، مُعلنين أنّني أُجدّف على الله، أنا، الّذي بسبب الغيرة على مشيئة الله، كنتُ قد وضعتُ نفسي بين أيدي البَشَر بتجسّدي، وبمعاناتي طوال عمري، وباستسلامي لوحشيّة البَشَر دون أن أتفوّه بأيّة كلمة أو شكوى.
نظرة واحدة كانت كافية لتُحوّل الّذين يتّهمونني، القُضاة والجلاّدين، إلى رماد. ولكنّني كنتُ قد أتيتُ طوعاً كي أتمّم التضحية، إذاً كحَمَل -لأنّني حَمَل الله وأنا كذلك للأبد- تركتُ نفسي أُساق للسلخ والموت. وهكذا جعلتُ مِن جسدي حياة لكم.
عندما رُفِعتُ عن الأرض، كنت منهكاً بالفعل بالآلام الّتي بلا اسم، أو بالأحرى الّتي كانت تحمل كلّ الـمُسمّيات. قد بدأتُ فعلاً بالموت في بيت لحم، وأنا أرى نور الأرض المختلف تماماً على نحو مقلق بالنسبة لي، أنا الذي كنتُ حيّ السماء. وتابعتُ الموت في الفقر، في الهَرب، في المنفى، في العمل، في عدم الفهم، في التعب، في الخيانة، في المودّات الّتي كانت تُسلَب منّي، في العذابات، في الأكاذيب، وفي التجاديف. هذا ما أعطانيه الإنسان، أنا الّذي كنتُ قد جئتُ كي أصالحه مع الله!
ماريّا، انظري إلى مُخلّصكِ. هو لا يرتدي ثوبه الأبيض، ولا شعره أشقر. ليست له نظرته اللازورديّة الّتي تعرفينها له. إنّ ثوبه أحمر مِن الدم، مُمزَّق هو، مُغطّى بالقذارة والبصاق. وجهه مُتورّم ومُشوّه، نظرته مُغشّاة بالدم والدموع، وينظر إليكِ مِن خلال القشور الّتي تُكوِّنها ممزوجة بالغبار ممّا يُثقِل الجفنين. يداي -أترينهما؟- ليستا سوى جرح واحد في انتظار الجرح النهائيّ.
انظري، يا يوحنّاي الصغيرة، كما فعل أخوكِ يوحنّا. لقد تركتُ آثاراً دمويّة أثناء مروري. العَرَق يُخفّف لون الدم الباقي مِن نزاع البستان والّذي ينـزف مِن تمزيقات السياط. الكَلِمة تخرج، في لهاث ضِيقِ قلب أضحى يموت من العذاب بكلّ المسمّيات، من شَفَتيّ الـمُحتَرِقَتين والمرضوضَتين.
مِن الآن فصاعداً سترينني غالباً هكذا. إنّني مَلِك الآلام وسآتي لأكلّمكِ عن ألمي في ثوبي الـمَلكيّ. اتبعيني، رغم نزاعكِ. ولأنّي مُفعم رحمة، سأعرف أن أضع على شفتيكِ المسمومتين بفعل آلامي، كذلك العَسَل الـمُعطَّر بالتأمّلات الأكثر صفاء. ولكن ينبغي لكِ أن تُفضّلي أكثر بعد هذه التأمّلات الدمويّة، لأنّ بها تنالين الحياة وبها ستحملين الحياة إلى الآخرين. قَبّلي يدي الـمُدمّاة واسهري وأنتِ تتأمّلين فيَّ أنا الفادي.»
أرى يسوع كما يصف نفسه. ومنذ الساعة السابعة مِن مساء اليوم (الآن الساعة هي الواحدة والربع من يوم 11 / 02). إنّني حقّاً في نزاع.
يقول لي يسوع هذا الصباح 11 / 02 / 1944 في السابعة والنصف:
«مساء أمس، لم أشأ أن أكلّمكِ سوى عن آلامي، إذ بدأتُ وصفها ورؤياها. مساء أمس كانت الـمُقدّمة. وقد كنتِ يا صديقتي في غاية الإنهاك! ولكن قبل أن يعاودكِ النـزاع، عليَّ أن أعاتبكِ بلطف.
صباح أمس، بدوتِ أنانيّة. قُلتِ للأب [ميغليوريني]: "لنأمل أن أستطيع الصمود، ذلك أنّي أنا الّتي أعاني أكثر." كلاّ، فمعاناته أعظم مِن معاناتكِ: فهي ليست ثقيلة فقط، بل هي بلا تعويض مِن غبطة رؤية وامتلاك يسوع حاضراً، مثلكِ أنتِ، كذلك في إنسانيّته الـمُقدّسة. لا تكوني أنانيّة أبداً، حتّى في أصغر الأمور. ينبغي للتلميذة، يوحنّا الصغيرة، أن تكون متواضعة جدّاً ومُحِبّة مثل يسوعها.
والآن هلمّي وابقي معي. "قد ظَهَرَت الأزهار... ووافى أوان التشذيب... وسُمِع صوت اليمامة في الحقول..." وهي الأزهار التي نبتت في بِرَك دم مسيحكِ. والّذي سيُقطَع مِثل الفرع الّذي يُشذّب، هو الفادي. وصوت اليمامة الّتي تُنادي العروس لوليمة العرس الأليمة والـمُقدّسة، فهو صوتي الذي يحبّك.
قفي وهلمّي، كما يقول نص قدّاس اليوم. تعالي لتتأمّلي وتتألّمي. هذه هي الهبة الّتي أُقدّمها للّذين أحبّهم.»