ج8 - ف16

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثامن

 

16- (تعليم ليليّ لسمعان بطرس)

 

15 / 01 / 1947

 

يسوع وحده في غرفة صغيرة. جالس على سريره الصغير، يفكّر أو يصلّي. مصباح زيت، فوق رفّ، يُنير الغرفة بشعلته الصغيرة الـمُصفرّة الخافقة. لا بدّ أنّ الوقت ليل، لأنّه ما مِن صوت في المنزل ولا على الدرب. وحده هدير السّيل يبدو أقوى، خارج المنزل، في صمت الليل.

 

يسوع يرفع رأسه لينظر إلى الباب. يُنصِت. ينهض ويذهب ليفتح. يرى بطرس في الخارج: «أنتَ؟ تعال. ما الّذي تريده يا سمعان؟ ألا تزال مستيقظاً، أنتَ الّذي عليكَ أن تمشي كثيراً؟» لقد أمسكه مِن يده وجذبه إلى الداخل، معيداً غلق الباب دون إحداث ضجّة. يجعله يجلس قربه على حافّة السرير.

 

«كنتُ أريد أن أقول لكَ يا معلّم… نعم، كنتُ أريد أن أقول لكَ أنّكَ قد رأيتَ اليوم أيضاً ما الّذي أُساويه. أنا لستُ أهلاً سوى لتسلية أطفال مساكين، تعزية امرأة عجوز، إحلال السلام بين راعِيَين اختلفا حول نعجة قد جفّ حليبها. أنا إنسان مسكين. مسكين لدرجة أنّني لا أفهم حتّى ما تشرحه لي. إنّما هذه مسألة أخرى. الآن كنتُ أريد أن أقول لكَ، بالضبط لأجل هذا، أن تُبقيني هنا. فأنا لا أصرّ على التجوال عندما لا تكون معنا. ولا أُحسِن التصرف… ارضني يا ربّ.» بطرس يتكلّم بحرارة، إنّما يُبقي عينيه مسمّرتين على طوب الأرضيّة الخَشِن والمتشقّق.

 

«أُنظر إليَّ يا سمعان.» يأمر يسوع. وحيث أن بطرس يطيع، فإنّ يسوع يحدّق فيه بقوّة سائلاً إيّاه: «وهذا كلّ شيء؟ كلّ سبب بقائكَ مستيقظاً؟ كلّ سبب رجائكَ أن أبقيكَ هنا؟ كن صادقاً يا سمعان. فالإفصاح لمعلّمكَ عن الجانب الآخر لما يجول في فكركَ ليس تذمّراً. يجب أن نُحسِن التمييز بين كلام غير مجدٍ وكلام مجدٍ. إنّه كلام غير مجدٍ، وهو كلام لا فائدة منه، وفي غير المجدي عادة ما تُزهِر الخطيئة، حينما نتحدّث عن نقائص الآخرين لِمَن لا يستطيع شيئاً حيالهم. فذلك هو ببساطة افتقار للمحبّة، حتّى ولو أنّ ما قيل صحيح. كما أنّه افتقار للمحبّة توجيه لوم سواء شديد أو خفيف دون إرفاق اللوم بالنصيحة. وأتحدّث عن الملامات الصائبة. أمّا الأخرى فهي ظالمة، وهي خطيئة ضدّ القريب. إنّما عندما نرى قريباً يخطئ، ونتألّم لذلك، لأنّ مَن يخطئ يسيء إلى الله ويؤذي نفسه، وعندما نُدرك بأنّنا مِن ذاتنا غير قادرين على تقدير حجم خطيئة الآخر، ولا نشعر بأنّنا حكماء كفاية لقول كلمة اهتداء، وأنّنا حينذاك نتوجّه إلى بارّ، إلى حكيم، ونفصح له عمّا يثقلنا، فعندها لا نرتكب خطيئة، لأنّ إفصاحنا كان بهدف وضع حدّ لعثرة وتخليص نَفْس. إنّ الأمر هو كما لو أنّ شخصاً له قريب مريض مرضاً مُنَفّراً. هو بالتأكيد سوف يسعى لإبقائه مخفيّاً عن الشعب، إنّما في السرّ يمضي ليقول للطبيب: "إنّ قريبي حسب رأيي يعاني مِن مرض كذا وكذا، وأنا لا أستطيع نصحه أو علاجه. تعال أنتَ أو قل لي ما الّذي يتوجّب عليَّ فِعله". فهل هو ربّما يفتقر للمحبّة تجاه القريب؟ لا. على العكس! لكان افتقر إليها لو تظاهر بعدم ملاحظته للمرض وتركه يتفاقم، مؤدّياً للموت، بشعور احتراس ومحبّة سيّئَي الإدراك. يوماً ما، ولن تمضي أعوام، أنتَ، ومعكَ رفاقكَ، سوف يكون عليكم الإنصات إلى بَوح القلوب. لا كما تُنصِتون إليهم الآن، باعتباركم بشراً، بل ككَهَنة، أي كأطبّاء، معلّمين ورعاة للنّفوس، كما أنا طبيب، معلّم وراعٍ. سيكون عليكم أن تُنصتوا وتقرّروا وتنصحوا. سيكون لحكمكم قيمة كما لو أنَّ الله نفسه قد نطق به...»

 

بطرس ينفصل عن يسوع، الّذي كان يشدّه إليه، ويقول وهو ينهض: «هذا غير ممكن يا ربّ. لا تفرضه علينا أبداً. كيف تريدنا أن نحكم مثل الله، إن كنّا لا نُحسِن الحكم حتّى كبشر؟»

 

«وقتها سوف تُحسِنون ذلك، لأنّ روح الله سوف يحوم فوقكم ويخترقكم بأنواره. سوف تُحسِنون الحكم، آخذين بعين الاعتبار الشروط السبعة للوقائع الّتي سيأتون ليطرحوها عليكم كي يحظوا بالنصح أو المغفرة. أَنصِت جيّداً وحاول أن تتذكّر. إنّ روح الله سوف يذكّركَ بأقوالي في وقته المحدّد. إنّما أنتَ فحاول مع ذلك أن تتذكّر بذكائكَ، لأنّ الله قد منحكَ إيّاه كي تستخدمه دونما كسل ولا افتراض روحيّ، اللذان يقودان إلى انتظار وطلب كلّ شيء مِن الله. عندما ستصبح معلّماً، طبيباً وراعياً مكاني ونيابةً عنّي، وعندما سيأتي مؤمن ليبكي عند قدميكَ اضطراباته بسبب أفعاله الشخصيّة أو أفعال الغير، يجب أن يكون حاضراً في ذهنكَ دوماً مجموع الأسئلة السبعة هذه:

 

مَن: مَن الّذي أخطأ؟

ماذا: ما هو موضوع الخطيئة؟

أين: في أيّ مكان؟

كيف: بأيّة ظروف؟

بماذا أو مع مَن: الأداة أو الشخص مادّة الخطيئة؟

لماذا: ما هي الدوافع الّتي خلقت البيئة الملائمة للخطيئة؟

متى: ماهيّة الظروف وردود الأفعال، وإن كانت عرضيّة أم بسبب عادة غير صحّية؟

 

بالفعل، أنتَ ترى يا سمعان، الخطيئة ذاتها يمكن أن تحمل فوارق ودرجات لا حصر لها، بحسب كلّ الظروف الّتي أَوجَدَتها، والأفراد الّذين ارتكبوها. مثلاً… لنأخذ خطيئتين مِن الخطايا الأكثر شيوعاً: شهوة الجسد وشهوة الثروات.

 

إنسان ارتكب خطيئة فجور، أو يظنّ بأنّه ارتكب خطيئة فجور. لأن الإنسان أحياناً يخلط بين الخطيئة والتجربة، أو يُصدِر ذات الحكم على استثارة قد اختلقتها شهوة غير صحّية، كذلك على الأفكار الّتي تنشأ كردّ فِعل على ألم مرضيّ، أو أيضاً لأنّ للجسد والدم في بعض الأحيان نداءات مفاجئة تدوّي في النَّفْس قبل أن يحظى بالوقت كي يتنبّه لها ليخنقها. يأتي إليكَ ويقول لكَ: "لقد ارتكبتُ خطيئة فجور". فكاهن غير كامل كان ليقول: "اللعنة عليكَ". لكن أنتَ، عزيزي بطرس، فلا ينبغي لكَ قول هذا. لأنّكَ بطرس يسوع، أنتَ خليفة الرحمة. إذن، قبل أن تدين، عليكَ أن تتفحّص وتلمس برفق وحذر القلب الّذي يبكي أمامكَ لمعرفة كلّ أوجه الخطيئة أو الخطيئة المفتَرَضة أو الوسواس. لقد قلتُ برفق وحذر. وتذكّر، إضافة إلى أنّكَ معلّم وراعٍ، فإنّكَ طبيب. الطبيب لا يسمّم الجروح. إنّه متأهّب للبتر إن كان هناك غرغرينا، إنّما الّذي يُحسِن أيضاً أن يكتشف ويعالج بيد ماهرة إن لم يكن هناك سوى جرح مع تمزّق أجزاء حيّة يجب إعادة جمعها، لا انتزاعها. وتذكّر، إضافة إلى أنّكَ طبيب وراعٍ، أنّكَ معلّم. والمعلّم يضبط كلامه بحسب عمر تلاميذه. فيكون مخزياً ذاك المربّي الّذي يكشف لأطفال صغار القوانين الحيوانيّة الّتي يجهلها الأبرياء، بإعطائهم هكذا معارف وخُبثاً سابقاً لأوانه. وأيضاً حينما نهتمّ بالنفوس، يجب أن نسألها باحتراس. يجب أن نحترم أنفسنا وأن نحترم الآخرين. سوف يكون ذلك سهلاً عليكَ إن رأيتَ في كلّ نَفْس ابناً لكَ. فالأب هو بالطبيعة معلّم، طبيب ومُرشِد لأبنائه. كذلك، أيّاً كان المخلوق الّذي أمامكَ، تُكدّره خطيئة، أو خشية مِن خطيئة، أَحبّه محبّة أبويّة، وسوف تُحسِن الحكم دون أن تجرح وأن تُعثِر. أتفهمني؟»

 

«نعم يا معلّم. إنّني أفهم جيّداً. يجب أن أكون حَذِراً وصبوراً، مُقنِعاً بكشف الجروح، إنّما ناظراً إليها بنفسي، دون جذب نَظَر الغير إليها، وفقط عندما أرى أنّ هناك جرحاً بحقّ أن أقول: "أترى؟ أنتَ قد أسأتَ إلى نَفْسكَ في كذا وكذا". لكن، إن رأيتُ أنّ المخلوق هو فقط خائف مِن أن يكون قد جُرِح لأنّه قد رأى أشباحاً، فعندئذ… أنفخ على السُّحُب دون أن أُسلّط أضواء، بغيرة غير مجدية، تُسهِم بإنارة مصادر خطايا حقيقيّة. هل أُحسِن القول؟»

 

«جيّداً جدّاً. فإذن، إن قال لكَ أحدهم: "لقد ارتكبتُ خطيئة فجور"، عليكَ أن تضع في اعتباركَ مَن هو الشخص الّذي أمامكَ. فصحيح أنّ الخطيئة يمكن أن تحدث في أيّ عُمر، إنّما سيكون مِن الأسهل أن تُصادَف لدى بالغ أكثر منه لدى طفل، وبالتالي ستكون مختلفة الأسئلة الّتي يجب طرحها والأجوبة الّتي يجب توجيهها لرجل أو لطفل. ثمّ يأتي تبعاً لذلك، على أثر الاستقصاء الأوّل، الاستقصاء الثاني حول مادّة الخطيئة، ثمّ الثالث حول موضع الخطيئة، والرابع حول ظروف الخطيئة، والخامس حول المشتركين المحتَمَلين في الخطيئة، والسادس حول سبب الخطيئة، والسابع حول توقيت وتعداد الخطايا.

 

سوف ترى، عموماً، بالنسبة لراشد، وراشد يحيا في العالم، أنّ كلّ سؤال سوف يُظهِر لكَ توافقاً مع ظرف خطيئة حقيقيّة، بينما بالنسبة لِمَن هم أطفال في السنّ أو الروح، فعلى الكثير مِن الأسئلة يجب أن تجيب: "هنا دخان، ما مِن خطيئة فِعليّة". لا بل سوف ترى أحياناً أنّه بدلاً مِن الوحل هناك زنبقة ترتعد لأنّ الوحل لَطَّخها، وتخلط بين قطرة الندى النازلة في كأسها ولطخة الوحل. نفوس بغاية التُّوق للسماء بحيث تخشى، كما لو أنّها لطخة، حتّى مِن ظلّ سحابة يبقيها لبرهة في العتمة، حائلاً بينها وبين الشمس، لكنّها تعبر بعد ذلك، دون أن تترك أثراً على تويجاتها البيضاء. نفوس بغاية البراءة وتحرص على أن تظلّ هكذا، بحيث أنّ الشيطان يخيفها بتصوّرات ذهنيّة، أو بإثارة مَناخِس الجسد أو الجسد ذاته، مستغلاًّ أمراضاً فعليّة للجسد. هذه النفوس يجب أن تتعزّى وتُعضَد، لأنّها ليست خاطئة، إنّما شهيدة. تذكّر ذلك دوماً.

 

وتذكّر دوماً أن تحكم حتّى على مَن يخطئ بالجشع إلى الثروات أو إلى مقتنيات أخرى للغير بالطريقة ذاتها. بالفعل، إن كانت خطيئة ملعونة أن يكون المرء جَشِعاً وبلا رأفة بسرقة الفقير، وضدّ العدل بإيذاء المواطنين، الخدّام، أو الشعوب، فإنّها أقلّ جسامة، أقلّ جسامة بكثير خطيئة مَن قد مُنِع عنه رغيف خبز، فيسرقه من قريبه كي يسدّ جوعه وجوع أطفاله. تذكّر، إذا كان بالنسبة للفاجر كما للسارق يتوجّب في معرض الحكم قياس: عدد الخطايا، ظروف ومدى جسامة الخطيئة، فيتوجب كذلك في معرض الحكم قياس مدى إدراك الخاطئ للخطيئة الّتي ارتكبها في الوقت الّذي كان قد ارتكبها فيه. لأنّ مَن يفعل ذلك عن إدراك تامّ، يخطئ أكثر ممّن يفعل ذلك عن جهل. ومَن يفعل ذلك بموافقة إرادة حرّة يخطئ أكثر ممّن تمّ إجباره على ارتكاب الخطيئة. الحقّ أقول لكَ أنّه ستكون هناك في بعض الأحيان أفعال لها مَظهَر الخطيئة، والّتي ستكون استشهاداً، وستحظى بأجر شهيد قد عانى. وتذكّر فوق كلّ شيء أنّه في كلّ الحالات، وقبل أن تدين، أنّكَ أنتَ أيضاً كنتَ إنساناً، وأنّ معلّمكَ، الّذي لم يستطع أحد أبداً أن يجده في حال خطيئة، لم يدن أبداً أيّ شخص تاب عن الخطيئة.

 

أُغفر سبعين مرّة سبع مرّات، وحتّى سبعين مرّة سبعين مرّة، خطايا إخوتكَ وأبنائكَ. لأنّ إقفال أبواب الخلاص في وجه مريض، فقط لأنّه عاود السقوط في مرضه، هو إرادة جعله يموت. هل فهمتَ؟»

 

«لقد فهمتُ. هذا قد فهمتُه حقّاً...»

 

«فإذن قل لي الآن كلّ ما تفكّر به»

 

«إيه! نعم! أقوله لكَ لأنّني أرى أنّكَ تعرف كلّ شيء حقّاً، وأُدرك بأنّه ليس تذمّراً أن أقول لكَ بأن ترسل يهوذا بدلاً عنّي، لأنّه يعاني مِن عدم الذهاب. إنّني أقوله لكَ لا كي أقول بأنّه حسود ويثير سخطي، إنّما كي أمنحه السلام و… أمنحكَ السلام، فلا بدّ أن يكون أمراً شاقّاً عليكَ أن تكون العاصفة قريبة منكَ...»

 

«أما زال يهوذا يشتكي بعد؟»

 

«إيه! نعم! لقد قال أنّ كلّ كلمة منكَ هي جرح له. حتّى ذاك الّذي قلتَه للأطفال. يقول بأنّ الكلام الّذي قلتَه بأنّ حواء قد مضت إلى الشجرة لأنّه كان يعجبها ذاك الشيء الّذي يلمع مثل تاج ملك، قد كان في الحقيقة مِن أجله. أنا حقّاً لم أجد أيّ تشابه. لكنّني جاهل. في حين أنّ برتلماوس والغيور، على العكس، قد قالا بأنّ يهوذا حقّاً قد "أصيب في صميم الصميم"، لأنّه مفتون بكلّ ما يلمع ويغوي الغرور. وقد يكونان على حقّ، لأنّهما حكيمان. كن طيّباً مع الرُّسُل المساكين يا معلّم! إجعل يهوذا سعيداً، وأنا معه. على أيّ حال! أترى؟ إنّني لا أُحسِن سوى الترفيه عن الأطفال… وأن أكون طفلاً بين ذراعيكَ.» ويلتصق بيسوعه، الّذي يحبّه حقّاً بكلّ قواه.

 

«لا. لا يمكنني أن أسعدكَ. لا تصرّ، أنتَ، لأنّكَ بالضبط على ما أنتَ عليه، تمضي إلى الرسالة. هو، بالضبط لأنّه على ما هو عليه، يبقى هنا. كذلك أخي حَدَّثني عن الأمر، ورغم محبّتي له فقد أجبتُه هو أيضاً "لا". وحتّى لو توسَّلَت لي أُمّي بشأن ذلك فلن أرضخ. هذا ليس عقاباً، بل هو علاج. ويهوذا يجب أن يأخذه. فإن لم يفِد ذلك روحه فسوف يفيد روحي، لأنّني لن أستطيع لوم نفسي بأنّني أغفلتُ أيّ شيء كي أُقدّسه.» إنّ يسوع حازم وحاسم وهو يقول ذلك.

 

بطرس يترك ذراعيه تسقطان ثانيةً ويخفض رأسه متنهّداً.

 

«لا تغتمّ يا سمعان. ستكون لدينا الأبديّة لنكون متّحدين ونحبّ بعضنا البعض. إنّما كان لديكَ أمر آخر لتقوله لي...»

 

«لقد تأخّر الوقت يا معلّم. يجب أن تنام.»

 

«أنتَ أكثر منّي يا سمعان، أنتَ الّذي يجب أن تبدأ المسير عند الفجر.»

 

«آه! بالنسبة لي! أن أبقى هنا معكَ يريحني أكثر مِن أن أكون في السرير.»

 

«تكلّم إذن. أنتَ تعلم بأنّني أنام قليلاً...»

 

«هوذا! إنّني عنيد، أنا أعلم ذلك وأقوله دونما خجل. ولو كان الأمر يتعلّق بي لما كان يهمّني كثيراً بأن أعلم، لأنّني أعتقد بأنّ أعظم حكمة هي أن أحبّكَ وأتبعكَ وأخدمكَ بكلّ قلبي. لكنّكَ ترسلني إلى هنا وهناك. والناس يسألونني وعليَّ أن أجيبهم. وأعتقد بأنّ ما أسألكَ إيّاه، يمكن لآخرين أن يسألوني إيّاه، ذلك أنّ للبشر الأفكار ذاتها. لقد كنتَ تقول أمس بأنّ الأبرياء والقدّيسين سيتألّمون دوماً، لا بل سيكونون هم مَن سيتألّمون عن الجميع. إنّ ذلك صعب على فهمي، وكذلك قولكَ بأنّهم هم بأنفسهم سيرغبون بذلك. وأعتقد بأنّه، كما هو صعب عليَّ، يمكن أن يكون كذلك على الآخرين. وإذا ما سألوني عن ذلك، فبماذا يجب أن أجيب؟ في الرحلة الأولى هذه، قالت لي إحدى الأُمّهات: "لم يكن مِن العدل أن تموت طفلتي مع الكثير مِن الألم، لأنّها كانت طيّبة وبريئة". وأنا، غير عارف ماذا أقول، قلتُ لها كلام أيّوب: "الربّ أعطى. الربّ أخذ. ليكن مباركاً اسم الربّ". لكنّني لم أكن مقتنعاً أنا أيضاً. ولم أُقنعها. أودّ أن أعرف ماذا أقول في المرّة القادمة...»

 

«هذا صحيح. أَنْصِت. إنّ ذلك يبدو ظلماً، وهو عدل عظيم أن يتألّم الأفضل عن الجميع. إنّما قل لي قليلاً يا سمعان. ما هي الأرض؟ كلّ الأرض؟»

 

«الأرض؟ هي مكان فسيح، ضخم. مصنوع مِن تراب وماء، مِن صخور، مِن نباتات، حيوانات ومخلوقات بشريّة.»

 

«ومِن ثمّ؟»

 

«ومِن ثمّ، هذا كلّ شيء… إلّا إذا كنتَ تريدني أن أقول أنّها مكان عقاب الإنسان ونفيه.»

 

«الأرض هي هيكل يا سمعان. هيكل هائل الضخامة. كان مِن المفروض أن تكون هيكل تسبيح دائم لخالقها. لكنّ الأرض مليئة بالخطايا. وبالتالي يجب أن تكون هيكل تكفير دائم، هيكل تضحية، تحترق فوقه القرابين. إنّ الأرض، كما العوالم الأخرى المنتشرة في الخليقة، يجب أن تُنشِد المزامير لله الّذي عملها. أُنظر!» يسوع يفتح المصراعين الخشبيّين، فتدخل عبر النافذة المفتوحة على مصراعيها برودة الليل، صخب السيل، أشعة القمر، وتُرى السماء مرصّعة بالنجوم. «أُنظر إلى هذه الأجرام السماويّة! إنّها بصوتها، الّذي هو نور وحركة في الفضاءات اللامتناهية للسماء، تُنشِد تسابيح الله. منذ آلاف الأعوام يستمرّ نشيدها، الّذي يرتفع مِن حقول السماء الزرقاء إلى سماء الله. يمكننا أن نعتبر أنّ الأجرام السماويّة والكواكب، النجوم والمذنّبات، الّتي هي مخلوقات فلكيّة، أنّها كَهَنة فلكيّون، لاويّون، عذارى ومؤمنون، عليها أن تُنشِد في هيكل لا حدود له تسابيح الخالق. أَنصِت يا سمعان. اسمَع حفيف النسيم بين الأوراق، وصخب المياه في الليل. إنّ الأرض أيضاً تُنشِد، مثل السماء، بالرياح، بالمياه، بأصوات الطيور والحيوانات. لكن، إن كان كافياً بالنسبة للسماء التسبيح الساطع للأجرام السماويّة الّتي تستوطنها، فليس كافياً تسبيح الرياح، المياه والحيوانات بالنسبة للهيكل الّذي هو الأرض. لأنّه لا يوجد فيها فقط رياح، مياه وحيوانات تُنشِد لا شعوريّاً تسابيح الله، إنّما يوجد فيها أيضاً الإنسان: المخلوق الكامل الّذي يسمو على كلّ ما هو حيّ في الزمن وفي العالم، الموهوب مادّةً مثل الحيوانات، المعادن والنباتات، وروحاً مثل ملائكة السماء، والـمُعدّ مثلهم، إذا كان وفيّاً وقت الاختبار، أن يعرف ويمتلك الله، بالنعمة أوّلاً، وفي الفردوس بعد ذلك. إنّ الإنسان، التوليفة الّتي تشمل كلّ الحالات، لديه رسالة ليست لدى المخلوقات الأخرى، والّتي، عدا عن أنّها واجب، يجب أن تكون بالنسبة له فَرَحاً: محبّة الله. تقديم عبادة محبّة لله عن وعي وطواعيةً. إيفاءً لله عن المحبّة الّتي منحها للإنسان بأن وهبه الحياة ووهبه السماء فيما بعد الحياة.

 

تقديم عبادة واعية. تَأمّل يا سمعان. أيّ خير يجنيه الله مِن الخليقة؟ أيّ فائدة؟ ولا واحدة. إنّ الخليقة لا تزيد الله، لا تقدّسه، لا تغنيه. إنّه أزليّ. كان ليكون هكذا حتّى ولو لم تُوجَد الخليقة. لكنّ الله-المحبّة كان يريد أن يحظى بمحبّة. وخَلَقَ ليحظى بمحبّة. وحدها المحبّة هي ما يمكن أن يجنيه الله مِن الخليقة، وهذه المحبّة، الّتي هي واعية وحرّة فقط عند الملائكة والبشر، هي مجد الله، فرح الملائكة، دِيْن للبشر. وفي اليوم الّذي يَصمت فيه هيكل الأرض عن تسابيح المحبّة وابتهالاتها، ستتوقّف الأرض عن الوجود. لأنّه، حالما تُطفأ المحبّة، سينطفئ التكفير، وغضب الله سوف يبيد الجحيم الأرضيّ الّذي ستكون قد آلت إليه الأرض. فالأرض، إذن، يجب أن تحبّ لِتُوجَد. وأيضاً: ينبغي أن تكون الأرض الهيكل الّذي يحبّ ويصلّي بوعي البشر. إنّما في الهيكل، في أيّ هيكل، أيّة ضحايا تُقرَّب؟ الضحايا النقيّة، الّتي بلا دَنَس وبلا عَيب. فقط هذه مَرضيّة عند الربّ. هي والبواكير. ذلك أنّه مِن الواجب أن يعطى ربّ العائلة أفضل الأشياء، ولله، ربّ العائلة البشريّة، يجب أن تُقدّم بواكير كلّ شيء، والأشياء المختارة.

 

لكنّني قلتُ إنّ على الأرض واجب تضحية مُضاعف: واجب التسبيح وواجب التكفير. لأنّ البشريّة الّتي تغطّيها قد خطئت بالبشر الأوائل، وما زالت تخطئ، مُضيفةً إلى خطيئة الافتقار لمحبّة الله، تلك الآلاف الأخرى الّتي هي التصاقها بأصوات العالم والجسد والشيطان. إنّها آثمة، إنّها بشريّة آثمة، فرغم أنّها قد حظيت بالشّبه بالله، وبذكاء خاصّ وعون إلهيّ، فهي خاطئة دوماً، ودوماً أكثر. فالأجرام السماويّة تطيع، النباتات تطيع، العناصر تطيع، الحيوانات تطيع، وهي، كما تُحسِن، تسبّح الربّ. البشر لا يطيعون ولا يسبّحون الربّ كفاية. ولهذا إذن تتأتّى الحاجة لنفوسٍ قرابين تحبّ وتُكفّر عن الجميع. إنّهم الأطفال، الأبرياء والجاهلون، الّذين يُؤدّون عقاب الألم المرّ عن الّذين لا يُحسِنون سوى أن يخطئوا. إنّهم القدّيسون الّذين يضحّون بأنفسهم طوعاً عن الجميع.

 

بعد مدّة قليلة -إن يكن عاماً أو قرناً، فذلك "دوماً" قليل مقارنةً بالأبديّة- لن يعود يُحتَفل بعد على مذبح هيكل الأرض العظيم بمحرقات أخرى ما عدا محرقة البشر-الضحايا، الـمُستَنفَذة بالتضحية الدائمة: قرابين إلى جانب القربان الكامل. لا تضطرب يا سمعان. أنا لا أقول بأنّني سوف أُقيم شعائر شبيهة بشعائر مولوخ(1)، بعل وعشتروت. إنّ البشر بأنفسهم هم مَن سوف يُضحّون بنا. أتفهم؟ سوف يُضحّون بنا. ونحن سنمضي بفرح إلى الموت لنُكفّر ونحبّ عن الجميع. ومِن ثمّ تأتي الأزمنة الّتي لا يعود فيها البشر يُضحّون بالبشر. إنّما دوماً ستكون هناك الضحايا النقيّة الّتي تستنفذها المحبّة إلى جانب الضحيّة العظمى في الذبيحة الدائمة. أقول محبّة الله والمحبّة مِن أجل الله. في الحقيقة هي سوف تكون قرابين الزمن والهيكل الآتي. فلا الحملان والكِباش، العجول والحمام، بل تضحية القلب هي الّتي تُرضي الله. إنّ داود قد تكهّن بذلك. وفي الزمن الجديد، زمن الروح والمحبّة، فقط هذه التضحية ستكون مَرضيّة.

 

تأمّل يا سمعان، إن كان على إله أن يتجسّد لتسكين العدالة الإلهيّة بالنسبة للخطيئة العُظمى، فبالنسبة لخطايا البشر الكثيرة، في زمن الحقيقة، وحدها تضحيات أرواح البشر يمكنها أن تمنح السكينة للربّ. أنتَ تفكّر: "إنّما لماذا إذن هو، العليّ، قد أعطى الأمر بالتضحية بصغار الحيوانات وثمار النباتات؟" أنا أقول لكَ ذلك: لأنّ الإنسان، قبل مجيئي، كان محرقة مُدنَّسة، ولأنّ المحبّة لم تكن معروفة. أمّا الآن فستكون معروفة. والإنسان، الّذي سوف يعرف المحبّة، لأنّني سأعيد النعمة الّتي بها سيعرف الإنسان المحبّة، وسيخرج مِن سباته، يتذكّر، يفهم، يحيا، يحلّ محلّ الكِباش والحملان، فيصبح قربان محبّة وتكفير، مقتدياً بمعلّمه وفاديه. إنّ الألم، الّذي هو حتّى الآن عقوبة، سوف يستحيل محبّة كاملة، وطوبى لِمَن يُعانقونه بمحبّة كاملة.»

 

«إنّما الأطفال...»

 

«تقصد مَن لا يُحسِنون بعد تقديم ذواتهم… وهل تعلم أنتَ متى يتكلّم الله فيهم؟ إنّ لغة الله هي لغة روحيّة. النَّفْس تفهمها، وليس للنَّفْس عُمر. لا بل أقول لكَ إنّ النَّفْس الطفوليّة، لأنّها بلا خُبث، وهي بالنسبة للقدرة على فهم الله، أكثر رُشداً مِن شيخ خاطئ. أقول لكَ يا سمعان، أنّكَ ستعيش كفاية لترى كثيراً مِن الأطفال يُعلّمون الراشِدِين، وكذلك لكَ أنتَ نفسكَ، حكمة المحبّة البطوليّة. إنّما في أولئك الصغار الّذين يموتون لأسباب طبيعيّة، هو الله الّذي يعمل بشكل مباشر، لأسباب محبّة سامية لدرجة أنّني لا أستطيع شرحها لكَ، بإدخالهم إلى الحكمة المكتوبة في أسفار الحياة، والّتي لن يقرأها سوى المغبوطين في السماء. قد قلتُ يقرأها، لكن، في الحقيقة، سوف تكفي معاينة الله كي يعرف المرء ليس الله فقط، بل كذلك حكمته اللامتناهية… لقد أَدرَكَنا مغيب القمر يا سمعان… عاجلاً ما سيحلّ الفجر، وأنتَ لم تنم...»

 

«لا يهمّ يا معلّم. لقد فقدتُ بضع ساعات نوم، واكتسبتُ الكثير مِن الحكمة. وقد بقيتُ معكَ. إنّما إن سمحتَ، فالآن أمضي، لا كي أنام، بل كي أُعاود التأمّل بكلامكَ.»

 

لقد أصبح عند الباب ويهمّ بالخروج حين يتوقّف مُفكّراً ومِن ثمّ يقول: «أمر آخر بعد يا معلّم. هل مِن الصواب أن أقول، لشخص ما يتألّم، أنّ الألم ليس عقاباً، بل هو… نعمة، شيء مثل… مثل دعوتنا [رسالتنا]، هو أمر جميل ولو أنّه مُتعِب، جميل ولو أنّه، لِمَن لا يعلم، قد يبدو أمراً بغيضاً ومُحزِناً؟»

 

«يمكنكَ قوله يا سمعان. إنّها الحقيقة. الألم ليس عقاباً، عندما نُحسِن تقبّله والاستفادة منه باستقامة. إنّ الألم مثل كَهَنوت يا سمعان. كَهَنوت مفتوح للجميع. كَهَنوت يمنح قُدرة كبيرة على قلب الله، واستحقاق عظيم. إنّه مولود مع الخطيئة، ويُحسِن تسكين العدل. بالفعل إنّ الله يُحسِن كذلك استخدام ما خلقته الكراهية للتسبّب بالألم مِن أجل الخير. وأنا لم أشأ وسيلة أخرى لمحو الخطيئة. لأنّه ما مِن وسيلة أعظم مِن هذه.

----------

1- [مولوخ: كان إلهاً لدى الفينيقيين، ذا نزعة شريرة، لا يرضيه شيء سوى قرابين الأطفال].