ج8 - ف22

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثامن

 

22- (السافوريم1 صموئيل، مِن قاتل إلى تلميذ)

 

05 / 02 / 1947

 

يسوع وحده ولا يزال في الكهف. نار تتوهّج لتمنح نوراً وحرارة، ورائحة راتنج وحطب قويّة تنبعث في الكهف، وسط فرقعات وشرارات. يسوع قد انسحب إلى العمق، إلى تجويف كانت قد ألقيت فيه أغصان جافّة، ويلبث هناك متأمّلاً. اللهب يتموّج مِن حين لآخر، يخبو ويتّقد بالتعاقب بفعل هَبّات ريح تجري عبر الأحراج، وتتسلّل وهي تئنّ إلى داخل الكهف الّذي يُرَجّع صداها كأنّها بوق. هي ليست ريح متواصلة. إنّها تتوقّف، ثمّ تهبّ مجدّداً كأنّها أمواج بحر في وقت مدّ طويل. وحين تهبّ بقوّة، فإنّ الرماد والأوراق الجافّة تُدفَع صوب الممرّ الصخريّ الضيّق الّذي جاء منه يسوع إلى المغارة الأكبر، واللهب ينحني كلّياً حتّى يلامس الأرض مِن هذا الجانب، ثمّ ينتصب مجدّداً عند توقّف هَبّة الريح، مع بقائه مختلجاً، ثمّ يعاود الاتّقاد باستقامة. يسوع لا يكترث لذلك. إنّه يتأمّل. ثمّ إلى صوت الريح ينضمّ صوت المطر، الّذي يضرب أوراق الأدغال، بدايةً بشكل خفيف ثمّ بأكثر غزارة. إنّها عاصفة حقيقيّة سرعان ما تُحيل مسالك المنحدرات إلى سيول هادرة. والآن صوت الماء هو الّذي يسود، لأنّ الريح تهدأ رويداً رويداً. إنّ النور المتناسب مع الفجر العاصف، وذاك الّذي للنار، الّتي لسوء تغذيتها تحمرّ إنّما لا تعود تضطرم، بالكاد ينيران الكهف، وعند الزوايا ظلام دامس. يسوع، لارتدائه ثياباً داكنة، لم يعد مرئيّاً، وبالكاد، إذا ما رفع وجهه الّذي يبقيه منحنياً على ركبتيه المرفوعتين، يمكن تبيّن ابيضاض يُفلِت مِن الموضع القاتم.

 

وَقْع خطوات وصوت كلام لاهث، كما لشخص متعب ومُرهَق، تتردّد خارج المغارة، على المسلك. ومِن ثمّ خيال قاتم، يقطر منه الماء مِن كلّ الجهات، يتبدّى بشكل جانبيّ في فراغ المدخل. إنّ الرجل، إذ إنّه رجل ذو لحية كثيفة وسوداء، يُطلق «آه!» ارتياح ويلقي على الأرض غطاء الرأس المبلّل تماماً، ينفض رداءه ويناجي نفسه: «همم! نفضتَه جيّداً يا صموئيل! يبدو كما لو أنّه سقط في حوض قَصَّار! والنعلان؟ قاربان! قاربان في قاع النهر! إنّني مبلّل حتّى الجلد! انظر إلى هذه السواقي الّتي تسقط مِن الشعر! إنّني أبدو مثل مزراب مكسور يترك الماء يخرج مِن ألف ثقب. إنّها بداية جيّدة! أهو بعلزبول إلى جانبه يحميه؟ همم! إنّ الرهان جميل… لكن...» يجلس على حجر قرب النار. لم يعد هناك لهب، إنّما هي جمرات حمراء ترسم أشكالاً غريبة هي آخر أثر حياة للخشب المحروق، ويحاول إنعاشها نافخاً عليها. يخلع نعليه ويحاول مسح قدميه الموحلتين بطرف مِن الرداء أقلّ تبلّلاً مِن الباقي. لكنّه يجفّف نفسه بالماء. جهده لا يفيد سوى بإزالة الوحل عن قدميه ليضعه على الرداء. يتابع المناجاة: «ملعونين هم، وهو، والجميع! وقد فقدتُ كيس النقود أيضاً. بالتأكيد! حسن أنّي لم أفقد بعد حياتي… قالوا: "إنّه السبيل الأكثر أماناً". أجل! إنّما هم لا يسلكونه! لو لم أرَ هذه النار! مَن أمكنه إشعالها؟ يا لي مِن تعيس. إنّما أين يكون الآن؟ هناك فجوة… ربّما مغارة أخرى… أليس هناك لصوص، إيه؟ إنّما… كم أنا أحمق! ما الّذي بوسعهم أن يأخذوه منّي إن كنتُ لا أملك ولا حتّى قطعة نقد واحدة؟ إنّما لا يهمّ. هذه النار هي أكثر مِن كنز. لو أمكنني الحصول على بعض الأغصان لتغذيتها! لكنتُ تعرّيت، وكنتُ جفّفتُ ملابسي. أوه، أقول! لا أملك سوى هذا اللباس إلى أن أعود!...»

 

«إن أردتَ أغصاناً أيّها الصديق، فهنا يوجد منها.» يقول يسوع مِن دون أن يبرح مكانه.

 

الرجل، الّذي كان يدير ظهره ليسوع، ينتفض لدى سماعه هذا الصوت المفاجئ ويهبّ واقفاً ويستدير. يبدو مذعوراً. «مَن أنتَ؟» يقول جاحظاً عينيه في محاولة لأن يرى.

 

«مسافر مثلكَ. أنا مَن أشعل النار، ومسرور لأنّها قد أفادت بإرشادكَ.» يسوع يقترب حاملاً حزمة حطب بين ذراعيه ويلقي بها قرب النار آمراً: «أَعِد تغذية النار قبل أن يغطّي الرماد كلّ شيء. ليس لديَّ صوفان ولا قدّاحة، لأنّ مَن أعارني إيّاهما قد غادر بعد المغيب.» يسوع يتكلّم ودّيّاً، لكنّه لا يتقدّم كي لا تنيره النار. على العكس، إنّه يعود إلى زاويته، لابثاً متدثّراً رداءه أكثر مِن ذي قبل.

 

الرجل، في تلك الأثناء، ينحني كي ينفخ بقوّة على أوراق كان قد رماها فوق النار، ويبقى هكذا، منشغلاً، إلى أن ترتفع النار. إنّه يضحك فيما يلقي أغصاناً أكثر فأكثر ضخامة لتغذّي اللهب. يسوع عاد للجلوس في مكانه، وهو يراقبه.

 

«الآن عليَّ أن أتعرّى كي أجفّف ملابسي. أُفَضّل البقاء عارياً على أن أكون مبلّلاً هكذا. إنّما لا يمكنني حتّى فِعل ذلك. لقد انهار منحدر ووجدتُ نفسي تحت ركام مِن تراب وماء. آه! الآن أنا بحال جيّدة! أُنظر! لقد مزّقتُ ثوبي. رحلة ملعونة! لو أنّني على الأقلّ انتهكتُ السبت! لكن لا. لقد توقّفتُ حتّى المغيب. ثمّ… والآن كيف سأتصرّف؟ كي أنجو بنفسي فقد تركتُ كيس مالي يمضي، وسيكون الآن في الوادي، أو عالقاً بدغل ما مَن يعرف أين...»

 

«هاكَ ثوبي. إنّه جافّ ودافئ. أنا يكفيني المعطف. خذه. إنّني سليم. لا تخف.»

 

«وطيّب. صديق طيّب. كيف أشكركَ؟»

 

«بأن تحبّني كأخ.»

 

«بأن أحبّكَ كأخ! إنّما أنتَ لا تعلم مَن أنا. وإذا ما كنتُ شرّيراً، أتودّ محبّتي؟»

 

«أودّها لأجعلكَ طيّباً.»

 

الرجل، الّذي هو شاب، تقريباً بعمر يسوع، يحني رأسه ويفكّر. ثوب يسوع بين يديه، لكنّه لا يراه. يفكّر. وبشكل عفويّ يلبسه فوق الجسد العاري لأنّه خلع ثيابه تماماً، حتّى الداخليّة منها.

 

يسوع، الّذي كان قد عاد إلى زاويته، يسأله: «متى تناولتَ الطعام؟»

 

«في الساعة السادسة. كان عليَّ أن أتناول الطعام عند وصولي إلى القرية، في الوادي. لكنّني أضعتُ الطريق، كيس المال والمال الّذي لي.»

 

«هاكَ. لا يزال لديَّ هنا بقيّة مِن طعام. كان مِن المفروض أن تعينني للغد. إنّما خذها. إنّ الصيام لا يُثقل عليَّ.»

 

«لكن… إن كان عليكَ السير فستحتاج إلى قوىً...»

 

«آه! لن أذهب بعيداً. فقط إلى أفرايم...»

 

«إلى أفرايم؟ أأنتَ سامريّ؟»

 

«أيزعجكَ ذلك؟ لستُ سامريّاً.»

 

«بالفعل… لديكَ لهجة أهل الجليل. مَن أنتَ؟ لماذا لا تكشف عن وجهكَ؟ يُفتَرض أنّكَ تتخفّى لأنّكَ مذنب؟ أنا لن أبلّغ عنكَ.»

 

«أنا مسافر، لقد قلتُ لكَ ذلك قبلاً. إنّ اسمي لن يعني لكَ شيئاً، أو قد يعني لكَ الكثير. ومع ذلك؟ ما يعني الاسم؟ عندما أقدّم لكَ ثوباً مِن أجل أعضائكَ المتجمّدة، خبزاً لجوعكَ، وفوق ذلك رأفتي لقلبكَ، فهل تحتاج لمعرفة اسمي يا ترى كي تشعر بأنّكَ استعدتَ قواكَ بالثياب الجافّة، بالطعام والمودّة؟ إنّما إن أردتَ أن تعطيني اسماً، فنادني "رأفة". ليس بي شيء مُخجِل يُرغمني على التخفّي. إنّما لن تتخلّى عن الإبلاغ عنّي لأجل ذلكَ. لأنّ في قلبكَ نيّة ليست صالحة. والفكر غير الصالح يثمر أفعالاً غير صالحة.»

 

ينتفض الرجل ويذهب إلى قرب يسوع. إنّما لا يرى مِن يسوع سوى عينيه، وحتّى هاتان محجوبتان بالجفنين الـمُسدَلين.

 

«كُل، كُل أيّها الصديق. ما مِن شيء آخر لفِعله.»

 

الرجل يعود إلى قرب النار ويأكل على مهل، مِن دون أن يتكلّم. إنّه مستغرق بالتفكير. يسوع متكوّر تماماً في زاويته.

 

الرجل يجدّد قواه شيئاً فشيئاً. فحرارة اللهب، الخبز واللحم المشويّ اللذين قدّمهما له يسوع، تجعله هانئاً. إنّه ينهض، يتمطّى، يمدّ الحبل، الّذي كان حزامه، مِن شقّ صخرة إلى خطّاف صدئ مَن يعلم مَن ثبّته هناك ومتى، وينشر فوقه الثوب، الرداء، غطاء الرأس، كي يجفّفها، ينفض النعلين، يقرّبهما مِن اللهب الّذي يغذّيه بسخاء.

 

يسوع يبدو غافياً. الرجل يجلس بدوره ويفكّر. ثمّ يلتفت لينظر إلى الرجل المجهول. يَسأَل: «هل تنام؟»

 

يسوع يجيب: «لا. أُفكّر وأصلّي.»

 

«مِن أجل مَن؟»

 

«مِن أجل كلّ التعساء. مِن كلّ الفئات. وهم كُثُر!»

 

«هل أنتَ منذور للتوبة؟»

 

«أنا منذور للتوبة. فالأرض بحاجة ماسّة للتكفير، لمنح الضعفاء الّذين يسكنونها القوّة لنبذ الشيطان.»

 

«لقد أحسنتَ القول. إنّكَ تتكلّم مثل رابّي. إنّ لي خبرة بالأمر لأنّني سافوريم1. إنّني مع الرابّي يوناثان بن عوزيل. تلميذه الأعزّ. والآن، إذا ما أعانني العليّ، فسوف أغدو أعزّ له أكثر بعد. سوف يُعظَّم اسمي في كلّ إسرائيل.»

 

يسوع لا يردّ بشيء.

 

الآخَر، بعد برهة، ينهض ويأتي ليجلس قرب يسوع. يقول، وهو يسرّح شعره الّذي قد جفّ تقريباً بيده، ويسوّي لحيته: «اسمع. لقد قلتَ أنّكَ ذاهب إلى أفرايم. إنّما أتذهب إليها عرضيّاً أم إنّكَ تقيم هناك؟»

 

«إنّني مقيم في أفرايم.»

 

«ولكنّكَ قلتَ بأنّكَ لستَ سامريّاً!»

 

«أكرّر ذلك. لستُ سامريّاً.»

 

«ومَن يمكن أن يقيم هناك إن لم يكن… اسمع: يقال بأنّ رابّي الناصرة المنفيّ، الملعون قد لجأ إلى أفرايم. أهذا صحيح؟»

 

«صحيح. يسوع، مسيح الربّ، هو هناك.»

 

«هو ليس مسيح الربّ! إنّه كاذب! إنّه مجدّف! إنّه شيطان! إنّه سبب كلّ مصائبنا. ولا يقوم مُنتَقِم عن كلّ الشعب كي يقضي عليه!» يصيح، بكراهية متعصّبة.

 

«أربّما قد آذاك كي تتحدّث عنه بهكذا نبرة كراهية؟»

 

«أنا لا. بالكاد رأيتُه مرّة واحدة في عيد المظالّ، وفي صخب بحيث عرفتُه بصعوبة. لأنّني، وإن كنتُ تلميذاً للرابّي العظيم يوناثان بن عوزيل، إلّا أنّني مقيم في الهيكل بشكل دائم منذ فترة قليلة. قبلاً… لم أكن أستطيع لأسباب متعدّدة، وفقط عندما كان الرابّي في منزله، فأنا كنتُ عند قدميه لأتشرّب البرّ والعقيدة. لكن أنتَ… قد سألتَني إذا ما كنتُ أكرههُ، وشعرتُ بلوم مُبَطَّن في كلامكَ. أأنتَ ربّما تابع للناصريّ؟»

 

«لا، لستُ بتابع. وكلّ عادل يدين الكراهية.»

 

«إنّ الكراهية مقدسة عندما تكون ضدّ عدوّ لله والوطن. هذا ما هو عليه الرابّي الناصريّ. ومقدّسة هي محاربته، وكُرهه.»

 

«محاربة الرجل، أم الفكرة الّتي يمثّلها والعقيدة الّتي يعلنها؟»

 

«كلّ شيء! كلّ شيء! لا يمكننا محاربة أمر إن تركنا الآخر. ففي الرجل عقيدته وفِكره. فإمّا ندمّر كلّ شيء، أو لا فائدة مِن ذلك. عندما نتبنّى فكرة، فإنّنا نعانق مَن يمثّلها وعقيدته معاً. أعرف ذلك لأنّني أختبره مع معلّمي. أفكاره هي أفكاري. ورغباته هي شريعة بالنسبة لي.»

 

«بالفعل التلميذ الصالح يفعل ذلك في الواقع. مع ذلك ينبغي للمرء التحقّق ممّا إذا كان المعلّم صالحاً، وألّا يتبع إلّا معلّماً صالحاً. بالفعل ليس مسموحاً أن يخسر نَفْسه لأجل محبّة إنسان.»

 

«إنّ يوناثان بن عوزيل صالح هو.»

 

«لا. هو ليس كذلك.»

 

«ماذا تقول؟ ولي أنا تقول ذلك؟ فيما نحن هنا وحدنا وبإمكاني أن أقتلكَ انتقاماً لمعلّمي؟ إنّني قويّ، أتعلم؟»

 

«لستُ خائفاً. لا أخاف مِن العنف. ولستُ خائفاً ولو أنّني أعلم بأنّكَ إن ضربتني، فلن أقاوم.»

 

«آه! لقد فهمتُ! إنّكَ تلميذ للرابّي، "رسول". إنّه يدعو هكذا تلاميذه الأكثر وفاءً. وأنتَ ذاهب للانضمام إليه. ربّما مَن كان برفقتكَ كان واحداً آخر مثلكَ. وتنتظر شخصاً ما مثلكَ.»

 

«أنتظر شخصاً. نعم.»

 

«هل يمكن أن يكون الرابّي؟»

 

«لا حاجة لي كي أنتظره. هو ليس بحاجة لكلمتي كي يُشفى مِن مرضه. نَفْسه ليست مريضة ولا جسده مريض. إنّني أنتظر نَفْساً مسكينة مُسمّمة، تهذي، كي أشفيها.»

 

«أنتَ رسول! إنّه معلوم بالفعل أنّه يرسلهم للتبشير، حيث أنّه يخاف الذهاب بنفسه منذ أن تمّت إدانته مِن قِبَل السنهدرين. لهذا تتبنّى عقائده! عدم مقاومة مَن يسيء هي إحدى تعاليمه.»

 

«هي إحدى تعاليمه لأنّه يُعَلّم المحبّة، المغفرة، البرّ، الوداعة. إنّه يحبّ الأعداء كما الأصدقاء. لأنّه يرى كلّ شيء في الله.»

 

«آه! لو يلقاني، لو ألقاه، كما آمُل، فلا أظنّ بأنّه سيحبّني! سيكون أحمقاً! لكنّني لا أستطيع التحدّث إليكَ، أنتَ رسوله. ويؤسفني أنّني قلتُ ما قلتُه. إنّكَ سوف تبلغه به.»

 

«لا حاجة به إلى ذلك. إنّما الحقّ أقول لكَ بأنّه سيحبّكَ، لا بل إنّه يحبّكَ، على الرغم مِن أنّكَ ذاهب إلى أفرايم كي تقوده إلى فخّ وتُسلّمه للسنهدرين، الّذي وعد بمكافأة سخيّة لِمَن يفعل ذلك.»

 

«أأنتَ… نبيّ أم لديكَ روح تنّين؟ هل نقل إليكَ قدرته؟ هل أنتَ إذن ملعون أيضاً؟ وأنا قد قبلتُ خبزكَ، ثوبكَ، كنتَ لي صديقاً! قد قيل: "لا ترفع اليد على مَن أحسَن إليك." لقد فعلتَ ذلك! لماذا، إذا ما كنتَ تعلم بأنّني… أربّما كي تمنعني مِن التصرّف؟ إنّما إن عفوتُ عنكَ، لأنّكَ منحتني الخبز والملح، النار والثوب، ولأنّني سأفتقر للعدالة بإيذائكَ، فإنّني لن أعفو عن الرابّي خاصّتكَ. فهو لا أعرفه، وهو لم يفعل بي خيراً، بل شرّاً.»

 

«آه! أيّها التعيس! ألا تدرك أنّكَ تهذي؟ كيف يمكن لشخص لا تعرفه أن يفعل بكَ شرّاً؟ كيف يمكنكَ أن تحترم السبت إن لم تحترم وصيّة عدم القتل؟...»

 

«أنا لا أقتل.»

 

«مادّياً لا. لكن ليس هناك فرق بين مَن يقتل ومَن يسلّم الضحيّة ليديّ القاتل. إنّكَ تحترم كلمة إنسان يقول بعدم إيذاء مَن فعل لكَ خيراً، ومِن ثمّ لا تحترم كلمة الله، وبواسطة فخّ، لقاء حفنة مال، لأجل مجدٍ قليل، مجدٍ عفن لأنّكَ أحسنتَ الوشاية ببريء، تتهيّاً لجريمة!...»

 

«إنّني لا أفعل ذلك لأجل المال والمجد فقط، بل لأفعل أمراً مرضيّاً ليهوه ونافعاً للوطن. إنّني أكرّر بادرة ياعيل ويهوديت.» إنّه أكثر تعصّباً مِن أيّ وقت.

 

«إنّ سِيسَرَا  وَأَلِيفَانَا كانا عدوّين لوطننا. كانا غازيين. كانا طاغيين. إنّما ما هو رابّي الناصرة؟ ما الّذي يغزوه؟ ما الّذي يغتصبه؟ إنّه فقير ولا يريد ثروات. إنّه متواضع ولا يريد أمجاداً. إنّه طيّب. مع الجميع. آلاف نالوا منه إحساناً. لماذا تكرهونه؟ أنتَ لماذا تكرهه؟ وليس مسموحاً لكَ إيذاء قريبكَ. إنّكَ تخدم السنهدرين. إنّما هل السنهدرين هو مَن سيحاكمكَ في الحياة الأخرى أم سيكون الله؟ وكيف سيحاكمكَ؟ لا أقول: كيف سيحاكمكَ لأنّكَ قتلتَ المسيح؛ بل أقول لكَ: كيف سيحاكمكَ لأنّكَ قاتل لبريء. أنتَ لا تؤمن بأنّ رابّي الناصرة هو المسيح، وبالتالي، بسبب فكرتكَ بأنّه ليس كذلك، فلن تتمّ إدانتكَ بهذه الجريمة. إنّ الله عادل ولا يحسب الفعل المنفّذ دون إحاطة كاملة بأنّه خطيئة. وعليه، هو لن يدينكَ لأنّكَ قتلتَ المسيح، لأنّ يسوع الناصري هو بالنسبة لكَ ليس المسيح. إنّما لكونكَ قتلتَ بريئاً فهو سوف يدينكَ. لأنّكَ تعلم بأنّه بريء. لقد سمّموكَ، جعلوكَ مخموراً بكلمات كراهيتهم. لكنّكَ لستَ كذلك لدرجة ألّا تُدرك أنّه بريء. إنّ أعماله تتحدّث لصالحه. إنّ خوفكم، بالأحرى ذاك الّذي للمعلّمين أكثر منه للّذي لكم أنتم التلاميذ، يخشى ويرى أموراً لا وجود لها. خوف الّذين يخشون أن يحلّ محلّهم. لا تخافوا. إنّه يفتح لكم ذراعيه ليقول لكم: "يا إخوتي!" إنّه لا يُرسِل أفواجاً ضدّكم. إنّه لا يلعنكم. إنّه يودّ فقط أن يخلّصكم. أنتم، العظماء وتلاميذ العظماء، مثلما يودّ أن يُخلّص الأخير مِن إسرائيل. أنتم أكثر مِن الأصغر في إسرائيل، أكثر مِن الطفل الّذي لا يعلم بعد ما هما الكراهية والمحبّة، لأنّكم بحاجة لذلك أكثر مِن الجَهَلَة والأطفال، لأنّكم تعلمون، وتخطئون وأنتم عالمون. هل ضميركَ الإنسانيّ، إذا ما جرّدتَه مِن الأفكار الّتي وضعوها فيه، إذا ما طَهَّرتَه مِن السموم الّتي تجعلكَ تهذي، يمكن أن يقول لكَ بأنّه مذنب؟ قُل! كًن صادقاً. أربّما رأيتَه يوماً يخالف الشريعة، أو يوصي بمخالفة الشريعة؟ أرأيتَه مشاغباً، جَشِعاً، شهوانياً، نَـمّاماً، قاسي القلب؟ تكلّم! أربّما رأيتَه وَقِحاً تجاه السنهدرين؟ هو بمثابة منفيّ كي يطيع قرار السنهدرين. كان بإمكانه إطلاق نداء، وكلّ فلسطين كانت لتتبعه للزحف ضدّ القلّة الّذين يكرهونه. وهو، على العكس، ينصح تلاميذه بالسلام والمغفرة. كان بإمكانه -كما يعيد الحياة للأموات، البصر للمكفوفين، الحركة للمشلولين، السمع للصمّ، الانعتاق للممسوسين، لأنّ لا السماء ولا الجحيم عَصِيَّتان على مشيئته- كان بإمكانه أن يصعقكم بالصواعق الإلهيّة ويتحرّر بذلك مِن أعدائه. وهو على العكس يصلّي لأجلكم ويشفي أقاربكم، يشفي قلوبكم، يعطيكم الخبز، اللباس، النار. لأنّني أنا يسوع الناصري، المسيح، الّذي تبحث عنه كي تفوز بالمكافأة الموعودة لِمَن يسلّمه للسنهدرين وبالتمجيد لـمُحرّر إسرائيل. أنا يسوع الناصريّ، المسيح. ها أنا ذا. أُقبض عليَّ إذن. إنّني كمعلّم وكابن الله أحرّركَ وأُبرئكَ مِن المسؤوليّة ومِن خطيئة أن ترفع أو أنّكَ رفعتَ يدكَ على مَن عمل لكَ خيراً.»

 

ينهض يسوع، محرّراً رأسه مِن معطفه، ويمدّ يديه كما كي يُقبَض عليه ويُقيَّد. إنّما طويل القامة هكذا -ويبدو ممشوقاً أكثر بعد، كونه بقي فقط بلباس تحتيّ قصير وضيّق، بردائه الغامق الّذي يتدلّى مِن كتفيه، مستقيماً تماماً، عيناه تحدّقان بوجه مُضطَهِده، في الانعكاس المتراقص لألسنة اللّهب الّتي تنير نقاطاً في شعره المنسدل، والّتي تجعل حدقتيه الواسعتين تلتمعان وسط دائرة القزحيّتين الزرقاوين السفيريّتين- مهيباً هكذا، صريحاً، غير خائف، فإنّه يفرض احتراماً أكثر ممّا لو كان محاطاً بجيش يحميه.

 

الرجل كالمسحور… يشلّه الذهول. وفقط بعد مضيّ برهة يتمكّن مِن أن يُتمتم: «أنتَ! أنتَ! أنتَ!» يبدو كأنّه لا يُحسِن قول شيء آخر.

 

يسوع يصرّ: «أُقبض عليَّ إذن! انزع هذا الحبل غير المجدي، المشدود ليحمل ثوباً متّسخاً وممزّقاً، وقَيّد يديّ. سوف أتبعكَ كحَمَل يتبع الجزّار. ولن أكرهكَ لاقتيادي إلى الموت. لقد قلتُ لكَ ذلك. إنّ الخاتمة هي الّتي تبرّر الفعل وتُغيّر طبيعته. بالنسبة لكَ أنا خراب إسرائيل، وتظنّ بأنّكَ تخلّص إسرائيل بقتلي. بالنسبة لكَ إنّني المذنب بكلّ الجرائم، ولذلك فإنّكَ تخدم العدالة بالقضاء على مجرم. وبالتالي فإنّكَ لستَ أكثر ذنباً مِن الجلّاد الّذي ينفّذ أمراً تَلقّاه. أتريد أن تضحّي بي هنا، في المكان؟ هنا، عند قدميّ، تجد السكّين الّتي قطعتُ لكَ بها الطعام. التقطها. إنّ النصل الّذي أفاد لمحبّة قريبي، يمكن أن يستحيل سكيّن مُقدِّم ذبائح. لحمي ليس أقسى مِن لحم الحَمَل المشويّ الّذي تركه صديقي لجوعي، والّذي قدّمتُه كي أسدّ جوعكَ، أنتَ عدوّي. إنّما أنتَ تخشى الدوريّات الرومانيّة. إنّها تقبض على مَن يقتلون بريئاً، ولا تسمح بأن نحقّق العدالة بأنفسنا، لأنّنا الرعايا وهم الأسياد. كذلك أنتَ لا تجرؤ على قتلي والذهاب إلى مَن أرسلوكَ والحَمَل المذبوح على كتفيكَ، مثل بضاعة تُكسِب المال. حسناً، أُترك جثّتي هنا واذهب لإعلام أسيادكَ، لأنّكَ لستَ تلميذاً، إنّما أنتَ عبد، مِن فرط ما تنازلتَ عن حرّية التفكير والإرادة السياديّتين اللتين تركهما الله بذاته للبشر. وتخدم، تخدم بخنوع، أسيادكَ. تخدمهم وصولاً إلى الجريمة. لكنّكَ لستَ مذنباً. إنّكَ "مُسمَّم". أنتَ النَّفْس الـمُسمَّمة الّتي كنتُ أنتظرها. هيّا بنا إذن! إنّ الليل والموضع ملائمان للجريمة. أُسيء القول: لفداء إسرائيل! آه! أيّها الولد المسكين! إنّكَ تقول كلاماً نبويّاً دون أن تدري! إنّ موتي سيكون حقّاً فداء، وليس لإسرائيل فقط، إنّما لكلّ البشريّة. وأنا قد أتيتُ كي يُضحّى بي. إنّني أتحرّق لذلك كي أكون المخلّص. للجميع. أنتَ، سافوريم1 العَلاّمة يوناثان بن عوزيل، تعرف بالتأكيد إشَعياء. هو ذا: إنّ رجل الأوجاع أمامكَ. وإن كنتُ لا أبدو كذلك، إذا كنتُ لا أبدو ذاك الّذي رآه أيضاً داود، بعظام عارية ومفكّكة، إن لم أكن مثل الأبرص الّذي رآه إشَعياء، فهذا لأنّكم لا ترون قلبي. أنا لستُ سوى جرح. إنّ انعدام محبّتكم، كراهيّتكم، قسوتكم، قد جرحتني ورضرضتني في كلّ جزء منّي. ألم أُبقِ وجهي محجوباً عندما كنتَ تحتقرني لما أنا عليه فعلاً: كلمة الله، المسيح؟ لكنّني الإنسان المعتاد على العذاب! وألم تحكموا عليَّ كأنّي شخص ضربه الله؟ ألا أضحّي بنفسي لأنّني أريد أن أضحّي بنفسي كي أشفيكم بتضحيتي؟ هيّا! أُضرب! أُنظر: إنّني لستُ خائفاً وأنتَ يجب ألّا تخاف. أنا لأنّني البريء ولا أخشى حكم الله، أنا لأنّني بتقديم عنقي لسكّينكَ، أتصرّف بحيث تتمّ مشيئة الله، مستبقاً لبعض الوقت ساعتي لخيركم. حتّى حين ولدتُ قد استَبَقتُ الساعة حبّاً بكم، كي أمنحكم السلام قبل الأوان. إنّما أنتم، تجعلون مِن لهفة محبّتي هذه، سلاح رفض… لا تخف! لن أدعو عليكَ بعقاب قايين، ولا بصواعق الله. إنّني أصلّي لأجلكَ. أحبّكَ. لا شيء أكثر. إنّني طويل القامة جدّاً بالنسبة ليدكَ البشريّة؟ هذا صحيح! بالفعل، لن يستطيع الإنسان ضرب الله إن لم يضع الله نفسه إراديّاً بين يديّ الإنسان. فإذن، أركع أمامكَ. إنّ ابن الإنسان هو أمامكَ، عند قدميكَ. أُضرب إذاً!»

 

يجثو يسوع بالفعل، ويقدّم السكين، ممسكاً إيّاها مِن نصلها، إلى مُضطَّهِده الّذي يرجع متمتماً: «لا! لا!»

 

«هيّا! لحظة شجاعة… وستكون أكثر شُهرة مِن ياعيل ويهوديت! أُنظر! إنّني أصلّي لأجلكَ. إشَعياء يقول ذلك: "وصلّى لأجل الخطأة". ألا تأتي بعد؟ لماذا تبتعد؟ آه! ربّما تخشى مِن عدم رؤية كيف يموت إله. هاك، سآتي إلى هناك، قرب النار. إنّ النار لا تغيب أبداً وقت الأضاحي، هي جزء منها. هو ذا. الآن تراني جيّداً.» لقد جثا قرب النار.

 

«لكن، لا تنظر إليَّ! لا تنظر إليَّ! آه! إلى أين أهرب كي لا أرى نظرتكَ؟» يقول الرجل.

 

«مَن؟ مَن الّذي لا تريد أن تراه؟»

 

«أنتَ… وجريمتي. إنّ خطيئتي هي أمامي حقّاً! إلى أين، إلى أين الهروب!» الرجل مُرَوَّع…

 

«إلى قلبي يا بنيّ! هنا، بين ذراعيّ تتوقّف الكوابيس والمخاوف. هنا السلام. تعال! تعال! اجعلني سعيداً!» نهض يسوع باسطاً ذراعيه. النار بينهما. يتألّق يسوع في انعكاس ألسنة اللّهب.

 

يخرّ الرجل على ركبتيه مغطّياً وجهه وصارخاً: «ارحمني يا الله! ارحمني! أُمْحُ خطيئتي! كنتُ أريد ضرب مسيحكَ! الرحمة! آه! لا يمكن أن تكون هناك مغفرة لهكذا جريمة! إنّني هالك!» يبكي ووجهه إلى الأرض، تهزّه الشهقات، وينوح: «الرحمة.»، ويُطلِق الدعاء بالشرّ: «ملعونون!»…

 

يسوع يدور حول الشعلة ويذهب صوبه، ينحني، يلمس رأسه، يقول له: «لا تلعن مَن ضلّلوكَ. لقد جلبوا لكَ أعظم خير، خير أنّني أكلّمكَ. هكذا. وأن أضمّكَ هكذا بين ذراعيّ.»

 

لقد أَمسَكَه مِن كتفيه ورفعه، ويضمّه إلى قلبه، وقد جلس أرضاً، والرجل يستسلم على ركبتيه ببكاء أقلّ حدّة، إنّما مُطهِّراً جدّاً! يسوع يلامس رأسه الأسمر، تاركاً إيّاه يهدأ.

 

أخيراً يرفع الرجل رأسه، وبوجهه المتبدّل ينوح: «مغفرتكَ!»

 

ينحني يسوع ويُقبّل جبهته. الرجل يلقي بذراعيه حول عنقه، وبرأس متّكئ على كتف يسوع، يبكي ويروي، يودّ أن يروي كيف أوحوا إليه لدفعه إلى الجريمة. لكنّ يسوع يمنعه مِن ذلك قائلاً: «أصمت! أصمت! إنّني لا أجهل شيئاً. حين دخلتَ عرفتُكَ، لما كنتَ عليه وما كنتَ تريد فِعله. كان بإمكاني الابتعاد عن هنا والهروب. لقد بقيتُ كي أخلّصكَ. لقد خُلِّصتَ. الماضي قد مات. لا تعد تتذكّره بعد.»

 

«إنّما… أتثق هكذا؟ وإن أنا خطئتُ مجدّداً؟»

 

«لا. أنتَ لن تخطئ مجدّداً. أعلم ذلك. لقد شُفيتَ.»

 

«نعم. إنّني كذلك. إنّما هم بغاية الدهاء. لا تعاود إرسالي إليهم.»

 

«وإلى أين تريد الذهاب، بحيث لا يكون لهم وجود؟»

 

«معكَ. إلى أفرايم. إن كنتَ ترى قلبي، فسترى بأنّ هذا ليس فخّاً أنصبه لكَ، إنّما هو فقط رجاء كي تحميني.»

 

«أعلم ذلك. تعال. لكنّني أحذّركَ، فهناك يهوذا الإسخريوطيّ، المباع للسنهدرين وخائن المسيح.»

 

«أيّتها الرحمة الإلهيّة! أتعلم هذا أيضاً؟!» ذهوله في ذروته.

 

«أعلم كلّ شيء. هو يظنّ بأنّني لا أعلم. لكنّني أعلم كلّ شيء. وأعلم أيضاً بأنّكَ اهتديتَ بشكل جيّد بحيث لن تتكلّم مع يهوذا ولا مع أيّ أحد آخر عن هذا. إنّما، فَكّر، إذا كان يهوذا قادراً على خيانة معلّمه، فما الّذي لن يقدر على فِعله لإيذائكَ؟»

 

الرجل يفكّر مطوّلاً، ثمّ يقول: «لا يهمّ! إن لم تصرفني أنتَ، فإنّني أبقى معكَ. أقلّه لبعض الوقت. حتّى الفصح. إلى أن تجتمع مع تلاميذكَ. سوف أنضمّ إليهم. آه! إن كان صحيحاً أنّكَ غفرتَ لي، فلا تصرفني!»

 

«لن أصرفكَ. الآن لنذهب إلى هناك، فوق هذه الأوراق لانتظار الصباح، وعند الفجر نمضي إلى أفرايم. سنقول بأنّ الصدفة قد جمعتنا، وأنتَ انضممت إلينا. إنّها الحقيقة.»

 

«نعم. إنّها الحقيقة. عند الفجر تكون ملابسي قد جفّت وأعيد لكَ ملابسكَ...»

 

«لا. دع هذه الملابس هنا. كرمز. الإنسان الّذي يتجرّد مِن ماضيه ويرتدي لباساً جديداً. إنّ أُمّ صموئيل، العتيق، قد أنشدت في غبطتها: "الربّ يُميت ويُحيي، يقود إلى مقام الأموات ويُعيد منه". أنتَ مُتَّ ووُلدتَ مِن جديد. إنّكَ تأتي مِن مسكن الأموات إلى الحياة الحقّة. دع الملابس الّتي تعرّضت لملامسة قبور ملأى نتانة. وعِش! عِش لمجدكَ الحقّ: أن تخدم الله ببرّ، أن تنعم به للأبد.»

 

يجلسان في التجويف حيث تكدّست الأوراق، وسرعان ما يخيّم الصمت، لأنّ الرجل، المتعب، قد غطّ في النوم ورأسه متّكئ على كتف يسوع الّذي لا يزال يصلّي.

 

هو صباح ربيعيّ جميل عندما يصلان، عبر مَسلَك السيل -الّذي يعود صافياً بعد زخّة المطر، والّذي يهدر بقوّة بفعل المياه المتزايدة، ويسطع تحت الشمس وسط ضفّتيه اللتين لا تزالان لامعتين بفعل المطر- إلى أمام منزل مريم الّتي ليعقوب.

 

بطرس، المتواجد عند المدخل، يُطلق صيحة ويهرع لملاقاتهما، يحثّ الخطى لمعانقة يسوع الملتفّ بردائه، ويقول: «آه! يا معلّمي المبارك! أيّ سبت حزين جعلتَني أُمضيه! لم أكن أعتزم الرحيل مِن دون أن أراك. كنتُ لأغدو ضائعاً طوال الأسبوع لو كنتُ رحلتُ والريبة في قلبي، ومِن دون وداعكَ!»

 

يعانقه يسوع دون أن يخلع رداءه. بطرس مأخوذ جدّاً بتأمّل معلّمه بحيث لا يلاحظ الغريب الّذي معه. إنّما في تلك الأثناء هرع الآخرون أيضاً، ويهوذا الاسخريوطيّ يُطلق صيحة: «أنتَ، صموئيل!»

 

«أنا. إنّ ملكوت الله مفتوح للجميع في إسرائيل. وأنا قد دخلتُ إليه.» يجيب الرجل، بثقة.

 

ليهوذا ابتسامة غريبة، إنّما لا يردّ بشيء.

 

انتباه الجميع ينصرف إلى القادم الجديد، وبطرس يَسأَل: «مَن هو؟»

 

«تلميذ جديد. الصدفة قد جمعتنا. أو بالأحرى، الله جعلنا نلتقي، وحيث أنّه شخص كان أبي قد أرسله لي فقد قبلتُه، وأقول لكم أنتم أن هكذا يجب أن تفعلوا. وحيث أنّه عيد عظيم حينما يدخل شخص كي يصير واحداً مِن ملكوت السماوات، فضعوا أكياسكم ومعاطفكم، أنتم الّذين كنتم على وشك الرحيل، ولنبقَ مجتمعين حتّى الغد. والآن دعني أذهب يا سمعان، لأنّني أعطيتُه ثوبي، وهواء الصباح يقرص جسدي إذا بقيتُ واقفاً هنا.»

 

«آه! كان يبدو لي ذلك! لكنّكَ ستمرض يا معلّم، إذا ما تصرّفتَ هكذا!»

 

«أنا لم أكن أريد. إنّما هو أراد ذلك.» يعتذر الرجل.

 

«نعم. لقد جرفه فيضان، وقد نجا بفضل إرادته. وكي لا يبقى عليه شيء مِن تلك اللحظة المؤلمة، وكي لا يأتي إلينا متّسخاً، فقد جعلتُه يترك ثوبه الممزّق والقذر هناك حيث التقينا، وألبستُه ثوبي.» يقول يسوع، وينظر إلى يهوذا الاسخريوطيّ، الّذي يكرّر ضحكته الغريبة كما في البداية، وكما حين قال يسوع بأنّه عيد عظيم حينما يدخل شخص كي يصير واحداً مِن ملكوت السماوات. ثمّ يدخل إلى المنزل بسرعة، كي يمضي ويلبس.

 

يقترب الآخرون مِن القادم الجديد كي يلقوا عليه تحيّة السلام.

----------

1 – السافوريم: هم إحدى مجموعات السنهدرين، وهم متخصّصون بالأسفار والشريعة ومكرّسون، وقد كان الرابّي العظيم غَمَالائيل أحدهم.