ج2 - ف88
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الثاني
88- (يسوع في منطقة المياه الحلوة: "لا تتلفّظ باسمي باطلاً")
01 / 03 / 1945
عيد ميلاد لا يُنسى! الوجه الـمُحَجَّب قد كُشِف. ’’المجهول‘‘ أَصبَحَ مَعلوماً. المعلّم دعا "ماريا"، وماريا أَصبَحَت يوحنّا. دموعي مَسَحَتها قُبلتكَ ووَعدكَ!... و’’وُلِدتُ مِن جديد‘‘ روحياً بإرادتكَ. الناس لا يَعلَمون، إنّما أنا فأَعلَم. أنتَ، الأب، تَعلَم. فهل يمكنني ألا أحتفل بهذا التاريخ؟... وأحتفل به في خدمة الله، الـمُبارِك أتعاب ومعاناة هذه الخدمة، إذ... آه! يا لتلك الساعة مِن الأول مِن آذار (مارس) 1943، إنها تبدو وكأن الصليب لا شيء إذا ما قُورِن بها.
التلاميذ في كلّ الاتجاهات، أعلى وأسفل. مثل قَفير النحل، لشدّة اضطرابهم. يتحدّثون، يَرصدون خارجاً وينظرون في كلّ اتجاه... يسوع ليس هناك. أخيراً يَصِلون إلى قرار بخصوص الأمر الذي يجعلهم مُضطَرِبين، وبطرس يَأمر يوحنّا: «اذهب وأَحضِر المعلّم. إنّه في الغابة قرب النهر. قُل له أن يأتي حالاً أو أن يقول لنا ما علينا فِعله.»
يَبتعد يوحنّا وهو يَجري. ويقول الاسخريوطيّ: «أنا لا أفهم لماذا كلّ هذا الاضطراب وقلّة التهذيب. كنتُ سأذهب إليه وأَستَقبِله بكلّ التشريفات اللائقة بِـمَن هو في مستواه. فزيارته شرف لنا. إذن...»
«أنا لا أعرف شيئاً.» يقول بطرس «سيكون مختلفاً عن أخيه بالرضاعة... ولكن... مَن يُعاشِر الضِّباع يأخذ عنهم الرائحة والـمَيل. مِن جهة أخرى، أنتَ تريد لتلك المرأة أن ترحل... احذر! فالمعلّم لا يريد، وأنا تحت إمرته. لو مَسَستَها... فأنا لستُ المعلّم... هذا فقط لتُرتب أموركَ.»
«آه! مَن تكون إذن؟ أفتكون بالصدفة هيروديّا الجميلة؟»
«لا تُحاوِل أن تكون فَكِهاً!»
«أنتَ مَن يدفعني لذلك. تقف لها حارساً مَلَكيّاً كما لو أنّها مَلِكَة...»
«لقد قال لي المعلّم: "اسهر على ألّا يزعجها أحد واحترمها". وهذا ما أفعله.»
«ولكن مَن تكون؟ هل تعرف؟» يَسأَل توما.
«أنا، لا.»
«هيّا، قُل... فأنتَ تَعلَم...» يُلِحّ الكثيرون.
«أُقسِم لكم أنّني لا أعرف. المعلّم يعرف بالتأكيد، أمّا أنا فلا.»
«يجب أن نجعل يوحنّا يَسأَله. فهو يبوح له بكلّ شيء.»
«لماذا؟» يقول يهوذا. «ما الشيء المميّز في يوحنّا؟ هل هو إله، أخوكَ؟»
«لا يا يهوذا، بل هو الأفضل بيننا.»
«تستطيعون أن تُوفّروا على أنفسكم هذا التعب.» يقول يعقوب بن حلفى. «أمس رآها أخي عائدة مِن النهر ومعها السمكة التي أعطاها إيّاها أندراوس، وهو مَن سَأَلَ يسوع وأجابه: "ليس لها وجه. هي روح تبحث عن الله. فهي ليست بالنسبة لي سوى هذا، وأودُّ لو تكون هكذا بالنسبة إلى الجميع". وقد قال هذه الـ "أريد" بنبرة صوت لا أنصحكم معها بالإلحاح.»
«سأذهب أنا لملاقاتها.» يقول يهوذا الاسخريوطيّ.
«حَاوِل لو كنتَ تستطيع.» يقولها بطرس وقد اصطَبَغَ باللون الأحمر كالديك.
«هل تعمل جاسوساً لحساب يسوع؟»
«أَترك هذه المهنة لِمَن هم في الهيكل. أمّا نحن الذين في البحيرة، فبالعمل نَكسب خبزنا، وليس بالوشاية. لا تَخشَ مِن أن يتجسّس عليكَ سمعان بن يونا. إنّما لا تُغِظني ولا تسمح لنفسكَ بمخالفة أوامر المعلّم، لأنّني أنا هنا...»
«ومَن أنتَ؟ رجل مسكين مثلي.»
«نعم يا سيّد. مسكين أكثر منكَ حتّى، بل أكثر جَهلاً وفَظاظة. أُدرِك ذلك ولا يُحزنني. ولكنّني أغتمّ إذا ما كان قلبي يشبه قلبكَ. إنّما المعلّم كَلَّفَني بهذه المهمة، وأنا أؤدّي واجبي.»
«قلبكَ يشبه قلبي؟ ماذا في قلبي يجعلكَ تمتعض؟ قل، اتَّهِم، هاجِم...»
«وقُصارى القول!» يقول الغيور ومعه برتلماوس. «الخُلاصة، انتهى يا يهوذا. احترم شَيب بطرس.»
«أنا أحترم الجميع، ولكنّني أريد أن أعرف ماذا فيَّ...»
«على الرحب والسّعة... دعني أخبركَ... يوجد مِن الكبرياء ما يملأ هذا المطبخ، ويوجد رِياء كما يوجد فُجور.»
«أنا كاذِب مُرائي؟»
يتدخّل الجميع، وعلى يهوذا أن يصمت.
وبكلّ هدوء، يقول سمعان لبطرس: «اعذرني يا صديقي إذا ما قُلتُ لكَ شيئاً. هو لديه نقائصه وعيوبه. إنّما أنتَ أيضاً لديكَ بعض العيوب. ومنها أنّكَ لا تتفهّم الشباب. لماذا لا تُولي أهميّة للسنّ، لِـمَسقَط الرأس... لأمور كثيرة؟ انظر: إنّكَ تتصرّف بعاطفتكَ تجاه يسوع، ولكن ألا تتنبّه إلى أنّ مثل هذا النقاش يُتعِبه؟ له، أنا لا أقول ذلك (ويشير إلى يهوذا) إنّما لكَ أنتَ، الناضج والنـزيه جدّاً، فأُوَجّه هذا الرجاء. إنّه يعاني الكثير مِن أعدائه، ونحن نزيدها عليه! عَداء كثير يحيط به، ولكن لماذا نَخلق المزيد منه، حتّى في مَخدعه؟»
«صحيح.» يقول يوضاس تدّاوس. «يسوع حزين جدّاً، حتّى إنّه قد أصابه الهُزال. في الليل أَسمَعه يتقلّب على فراشه ويتنهّد. وكثيراً ما نَهَضتُ ليلاً لأجده يبكي وهو يصلّي، فأقول له: "ما بكَ؟" فيعانقني ويقول لي: "أَحِبّني كثيراً. كم هو قاسٍ أن يكون المرء هو’الفادي‘!"»
«أنا أيضاً وَجَدتُه يبكي في الغابة قرب النهر.» يقول فليبّس. «وقد أجاب على نظراتي التساؤليّة: "هل تَعلَم ما الذي يميّز السماء عن الأرض غير ما يَنتج عن وجود الله المنظور؟ إنّه قلّة الحبّ بين الناس. وهذا ما يَجعَلني أُحِسُّ وكأنّ جَبَلاً يخنقني. لقد أتيتُ هنا أرمي الحبوب للعصافير لأحظى بِحُبّ كائنات مُتحابّة فيما بينها.»
ويرتمي يهوذا الاسخريوطيّ أرضاً (وقد اختلّ توازنه قليلاً) ويبكي مثل طفل. وفي تلك اللحظة بالذات، يَدخُل يسوع بصحبة يوحنّا: «ولكن ما الذي يجري؟ وما هذه الدموع؟...»
«إنّها غلطتي يا معلّم.» يقول بطرس بصراحة. «لم أُحسِن التصرّف. فلقد قَرَّعتُ يهوذا بقسوة شديدة.»
«لا... بل أنا... أنا... أنا الـمُذنِب. إنّني أُسبّب لكَ الألم... أنا لستُ صالحاً... إنّني أُسبّب الفوضى وسوء التفاهم والعصيان، إنّني... بطرس على حقّ. إنّما ساعدني لأكون صالحاً! فلديَّ شيء هنا، هنا في القلب، يجعلني أفعل ما لا أريد. إنّه أقوى منّي. ولا أُسبّب لكَ سوى الآلام، لكَ، لكَ يا معلّم، لِمَن أريد ألّا أحمل إلّا الفرح...كن على ثقة! فهذا ليس رِياء...»
«ولكن، بالطبع يا يهوذا. أنا لا أشكّ بذلك. لقد أتيتَ إليَّ بقلب مُفعَم خُلوص نيّة. باندفاع حقيقيّ. ولكنّكَ شاب صغير... ولا أحد، ولا حتّى أنتَ، تعرف نفسكَ أكثر مما أعرفكَ أنا. هيّا انهض وتعال هنا. سوف نتحدّث معاً على انفراد. في انتظار ذلك، فلنتحدّث عن الذي طلبتُموني مِن أجله. فماذا يُضِير لو أتى منّان Mannanen أيضاً؟ إلا يمكن للمرء، حتّى ولو كان قريباً لهيرودس، أن يكون متعطّشاً للإله الحقيقيّ؟ هل تَخشون عليَّ؟ ولكن لا. ثِقوا بكلامي. هذا الرجل لم يأت إلّا بِنِيّة شريفة.»
«إذن لماذا لم يُعَرِّف عن نفسه؟» يَسأَل التلاميذ.
«لأنّه يأتي تماماً "كنَفْس"، وليس كأخ لهيرودس بالرضاعة. فإذا كان مُحاطاً بالصمت، فهذا لأنّه يعتقد أنّ، أمام كلمة الله، لا أهميّة لِصِلَة القُربى مع الـمَلِك... وسوف نحترم صمته.»
«ولكن ماذا لو كان الأمر على عكس ذلك، لو كان هو مَن أَرسَلَه؟»
«مَن؟ هيرودس؟ لا، لا تخافوا.»
«ولكن مَن الذي أَرسَلَه؟ كيف يعرفكَ؟»
«عن طريق قريبي يوحنّا نفسه. أتظنّون أنّه لم يُبَشِّر بي في السجن؟ وأيضاً عن طريق خُوزي... وصوت الجمهور... وحتّى حقد الفرّيسيّين.. فحتّى الأوراق والهواء تتحدّث عنّي الآن. لقد سَقَطَت الحصاة في الماء الساكِن، والعصا قد ضَرَبَت البرونز. الموجات تتراكض بدوائر متزايدة في الاتّساع، حامِلة للمياه البعيدة التجلّي، والصوت يُسلّمها للمَدى... لقد تَعَلَّمَت الأرض أن تقول "يسوع"، ولن تَصمت أبداً. اذهبوا، وكونوا مُهذَّبين معه، كما مع أيّ إنسان غيره. اذهبوا، وأنا باقٍ مع يهوذا.»
يَمضي التلاميذ.
يَنظُر يسوع إلى يهوذا الذي ما زالت الدموع تملأ عينيه ويَسأَله: «وإذن! أليس لديكَ ما تقوله لي؟ أَعرِف كلّ ما يخصّكَ، ولكنّني أودُّ لو أَعرِفه منكَ. لماذا هذه الدموع؟ وبشكل خاصّ لماذا هذا الاضطراب الذي يجعلكَ متكدّراً على الدوام؟»
«آه! نعم يا معلّم. لقد أَصَبتَ. إنّني غَيُور بطبيعتي. وأنتَ تعرف ذلك بكلّ تأكيد. وأُعاني مِن رؤيتي... مِن رؤيتي أشياء كثيرة. هذا ما يجعلني مُضطَرِباً و... غير عادل. وأُصبِح سيّئاً، بينما أنا لا أريد ذلك. لا...»
«لا تَعُد إلى البكاء! ممّن تغار؟ تَعَوَّد التحدّث إلى نفسكَ الحقيقيّة. إنّكَ تتحدّث كثيراً، وحتّى كثيراً جدّاً. ولكن مع ماذا؟ مع الغَريزة والفِكر. إنّكَ تُمارِس عملاً مستمرّاً ومُتعِباً لتُعَبِّر عما تريد قوله: إنّني أتحدّث عنكَ وعن الأنا التي فيكَ، إذ لا شيء يضبطكَ أو يوقفكَ عمّا ينبغي لكَ قوله عن الآخرين أو للآخرين. وكذلك الأمر بالنسبة للجَسَد، فهو حصانكَ الجامح. تبدو مثل فارس سباق (جوكي) أعطاه المدير حصانَين جامحَين. الأوّل هو الأحاسيس. والآخر... هل تريد أن تعرف ما هو الآخر؟ نعم؟ إنّه الطَّيش الذي لا تَبغي ترويضه. إنّكَ فارس ماهِر، ولكنّكَ مُتَهَوِّر، تثق بِحُسن تدبيركَ، وتظنّ أنّ هذا يكفي. تريد أن تَصِل أوّلاً... لا تُضيّع الوقت، ولو في تبديل حصان على الأقلّ. بل على العكس، إنّكَ تُحَرّضهما وتضربهما بالسّوط. تريد أن تكون "الـمُنتَصِر". تريد أن تَحظَى بالتصفيق... ألا تَعلَم أنّ كلّ نصر يكون أكيداً عندما نستولي عليه بالعمل الدَّؤوب والصَّبور وبالحَذَر؟ تحدّث مع نفسكَ. أودُّ لو يأتي الاعتراف منها. هل ينبغي لي أن أقول لكَ، أنا، ماذا في داخلكَ؟»
«إنّني أعاني مِن كونكَ، حتّى أنتَ، لستَ عادِلاً ولا مُنصِفاً، ولستَ على وِفاق مع ذاتكَ، وأتألّم لذلك.»
«لماذا تتّهمني؟ وبماذا قَصَّرتُ في نظركَ؟»
«عندما أَرَدتُ أخذكَ إلى أصدقائي، رَفَضتَ قائلاً: "أُفَضِّل البقاء مع الـمُتواضِعين". وبعد ذلك قال لكَ سمعان ولعازر إنّه يُفَضَّل أن تضع نفسكَ تحت حماية رجل ذي نُفوذ، فَوافَقتَ. فالأفضليّة عندكَ لبطرس وسمعان ويوحنّا... أنتَ...»
«ماذا أيضاً؟»
«لا شيء آخر يا يسوع.»
«غيوم!... فُقاعات في زَبَد الماء. إنّكَ تُسبّب لي الألم، ذلك أنّكَ كائن مسكين، يتعذّب في الوقت الذي يمكنه أن يكون سعيداً. هل يمكنكَ القول إنّ هذا الـمَسكَن مُترَف؟ هل تستطيع القول بأنّ ليس هناك سبب هامّ يدفعني للقبول به؟ لو كانت صهيون أقلّ جفاء تجاه أنبيائها، هل كنتُ أنا هنا كرجل يَخشَى العَدل البشريّ ويَلجأ إلى مَلاذ؟»
«لا.»
«وإذن؟ هل يمكنكَ القول إنّني لم أكلّفكَ بمهمّات كما الآخرين؟ هل يمكنكَ القول إنّني كنتُ قاسياً معكَ عندما كان يَبدُر منكَ بعض التقصير؟ لم تكن صريحاً... الكُروم... آه! الكُروم! بماذا كانت تسمّى تلك الكُروم؟ لم تكن لَبِقاً مع مَن يتألّم أو يفتدي نفسه. ولم تحترمني كذلك. ولقد كان ذلك على مرأى مِن الآخرين... ومع كلّ هذا، فإنّ صوتاً واحداً فقط ارتَفَعَ ليُدافع عنكَ، وعلى الدوام. إنّه صوتي. كان مِن حقّ الآخرين أن يَغاروا، لأنّه إذا كان هناك مَن مَنَحتُه الحماية فهو أنتَ.»
ويبكي يهوذا مُتواضِعاً ومُتأثّراً.
«أنا ذاهب، فلقد حان الوقت الذي أكون فيه مُلكاً للجميع. أمّا أنتَ فابقَ وفَكِّر.»
«سامِحني يا معلّم. لا يمكنني الحصول على السلام إذا لم تسامحني. لا تحزن بسببي. إنّني وَلَد سيّئ... أُحبّ وأُسبّب الألم... كما مع أُمّي... كذلك معكَ... وسوف يكون الأمر كذلك مع زوجتي، لو أَصبَحَ لي غداً زوجة... فَمِن الأفضل لي أن أموت!»
«بل مِن الأفضل أن تندم. أمّا الصَّفح فقد نِلتَه. وداعاً.»
يَخرُج يسوع ويَدنو مِن الباب. بطرس خارجاً: «تعال يا معلّم. لقد تأخّرتَ، ويوجد أناس كثيرون. وقَرُبَ هبوط الليل. وأنتَ لم تأكل حتّى... إنّه هو، هذا الوَلَد، السبب في كلّ شيء.»
«هذا "الوَلَد" بحاجة إليكم جميعاً لكي لا يَعود سَبَباً لكلّ هذه الأمور. حاول أن تتذكّر ذلك يا بطرس. فلو كان ابنكَ، هل كنتَ تُشفِق عليه؟...»
«هوم! نعم ولا. أُشفِق عليه... إنّما... كنتُ أُلَقّنه أيضاً بعض الأمور، حتّى ولو كان أَصبَحَ رجلاً، كما لطفل شقيّ. ولكنّه لو كان ابني، لما كان على هذا الشكل...»
«يكفي...»
«نعم، هذا كافٍ يا ربّ. هو ذا منّان. إنّه ذاك الذي يرتدي معطفاً يُقارِب لونه اللون الأسود، بقدر ما لونه الأحمر هو داكن. ولقد أعطاني هذه للمساكين، وسَأَلَني عن إمكانيّة بقائه لينام.»
«وبماذا أَجَبتَ؟»
«بالحقيقة: "ليس لدينا مِن الأسرّة إلّا ما يكفي عددنا. فاذهَب إلى البلدة".»
لا يقول يسوع شيئاً. بل يترك حينذاك الحديث مع بطرس مُعَلّقاً، ويذهب للقاء يوحنّا، ويهمس له بشيء ما، ثمّ يأخذ مكانه ويبدأ الحديث.
«السلام معكم جميعاً، ومع السلام النّور والقَداسة. قيل "لا تلفظ اسمي باطلاً".
متى ننطق اسمه باطلاً ومَن الذي يفعل ذلك؟ هل يكون ذلك فقط حينما نتحدّث عنه باحتقار أو نُجدِّف؟ لا. بل إنّما يكون ذلك حينما نذكره ونحن غير جديرين بالله. هل يمكن لابن أن يقول: "إنّني أحبّ أبي وأُوقّره" إذا ما كان بعد ذلك يَفعَل كلّ ما يُعارِض ويُنافي رغبات أبيه؟ فليس بقولنا "أبي، أبي" نكون نحبّه حقّاً. كما وليس بقولنا "الله، الله" نكون نحبّ الربّ.
لقد شَرَحتُ ذلك في إسرائيل أوّل أمس، أصنام كثيرة تَكمن في خفايا القلوب، وهنا كذلك يوجد تسبيح لله ينطوي على رِياء، تسبيح لا يَتوافَق مع أفعال الذين يُسبِّحونه. في إسرائيل يوجد كذلك مَيل إلى إيجاد الكثير مِن الخطايا في الأمور الظاهريّة، وعدم الرغبة في إيجادها حيث هي في الحقيقة، في الداخل. في إسرائيل يوجد كبرياء أَبلَه، عادة مُنافِية للبشريّة، ومُنافِية للروحانيّة: تلك التي تَعتَبِر اسم إلهنا على شِفاه الوثنيّين تجديفاً، ويُضاف إليها منع غير العبراني مِن الاقتراب مِن الإله الحقيقيّ، مُعتَبِرين ذلك تدنيساً للمُقدّسات.
هذا حتّى الآن. أمّا الآن فلم يَعُد كذلك.
إنّ إله إسرائيل هو الإله ذاته الذي خَلَقَ جميع الناس. فلماذا مَنْع المخلوقين مِن الإحساس بجاذبيّة خالِقهم؟ هل تظنّون أنّ الوثنيّين لا يَختَبِرون شيئاً في أعماق قلوبهم، شيئاً مِن عدم الرضى، يَصرخ ويَضطرب ويَبحث؟ عَمَّن؟ عَمّا؟ عن الإله المجهول. وهل تعتقدون أنّه إذا ما نَزَعَ وثنيّ مِن كلّ نفسه إلى مذبح الإله المجهول، إلى ذلك المذبح غير المادّيّ الذي هو النَّفْس، حيث يُوجَد ما يُذَكِّره بخالقه على الدوام، النَّفْس التي تنتظر أن تصبح مِلكاً لمجد الله، كما هو الحال في مظلّة تابوت العهد التي نَصَبَها موسى، حسب الأمر الذي تلقّاه، فالوثنيّ الذي يَذرف الدّمع حتّى يحصل عليها، هل تعتقدون أنّ الله يرفض تقدمته، وكأنّها انتهاك للحُرُمات أو تدنيس للمُقدّسات؟ هل تظنّون هذا الفِعل خطيئة وهو النّابع مِن رغبة شريفة نزيهة مِن نَفْس أَيقَظَتها نداءات سماويّة، فقالت: "ها أنا ذا آتية" إلى الله الذي يقول لها: "هلمّي". وهل تظنّونها مقدّسة تلك العبادة الـمُفْسَدَة لإسرائيليّ يقدّم للهيكل بقايا شهواته، ويَدخُل في حضرة الله، ويدعوه، وهو الفائق الطُّهر، بنفس وجسد تعجّ فيهما الخطايا مثل الدود؟
لا. الحقّ أقول لكم، إنّ التدنيس التامّ للمقدّسات هو في ذلك الإسرائيليّ ذي النَّفْس الدَّنِسة. التلفّظ باسم الله يكون باطلاً حينما، وأنتم لستم بالبُلَهاء، بسبب حالة نفسكم، يكون مِن غير الـمُجدي التلفّظ به. آه! إنّني أرى وجه الله الساخط الذي يُشيح بوجهه بامتعاض إلى جهة أخرى، حينما يناديه أحد الـمُنافِقين، عندما يَذكره امرؤ دونما نَدامة! وأَجِد في ذلك رُعباً، أنا الذي، مع ذلك لا يمسّني الغضب الإلهيّ.
أَقرَأ في أكثر مِن قلب هذه الفِكرة: "ولكن إذن، فَما مَن يستطيع ذِكر اسم الله سوى الأطفال الصغار، حيث لا يوجد في الإنسان سوى الفساد والخطايا". لا. لا تقولوا هذا. فالخَطَأة هُم الذين يُناشِدون هذا الاسم، وكذلك كلّ الذين يشعرون بأنفسهم يخنقهم الشيطان، والذين يريدون التحرّر مِن الخطيئة ومِن الـمُغوي الـمُضَلِّل. يريدون. وهذا ما يُحوّل تدنيس المقدّسات إلى طقس. إرادة الشفاء. مُناشَدَة القَدير لنيل المغفرة والشفاء. التضرّع إليه لطرد الـمُغوي الـمُضَلِّل.
قيل في سِفر التكوين إنّ الحيّة جَرَّبَت حوّاء، في الوقت الذي لم يكن الله يمرّ في جنّة عدن. فلو كان الله في جنّة عدن لما تجرّأ الشيطان على أن يكون فيها. لو نادت حوّاء آنذاك الله لهَرَب الشيطان. فلتكن هذه الفكرة في قلوبكم على الدوام. واطلبوا الله بكلّ صدق. فهذا الاسم خَلاص هو. كثيرون منكم يريدون النـزول إلى النهر ليتطهّروا. ولكن طَهِّروا قلوبكم بلا انقطاع بأن تكتبوا فيها بالحبّ كلمة: الله. فلا صلوات كاذِبة ولا ممارسات روتينيّة. بل إنّما بقلبكم وفكركم وبأفعالكم وبكلّ ذواتكم قولوا هذا الاسم: الله. قولوه لكي لا تبقوا وحيدين. قولوه لِتَلقوا الدّعم والـمُسانَدة. قولوه لتنالوا الغفران.
افهَموا معنى كلمة إله سيناء: "باطلاً" نلفظ اسم "الله" إن لم يرافقه تَغيُّر أو تَبدُّل نحو الخير. وهذه هي الخطيئة. وليس "باطلاً" حينما تَحمل ضربات قلوبكم إلى شفاهكم في كلّ دقيقة مِن اليوم، في كلّ أعمالكم النـزيهة، حين الحاجة والتجربة والألم، كلمة الحُبّ البنويّة، فتقولون: "هلمّ يا إلهي"! حينئذ، في الحقيقة، لا خطيئة بذكركم اسم الله القدّوس.
امضوا. السلام معكم.»
لا يوجد مرضى. يبقى يسوع، وذراعاه متصالبتان، وظهره مُستَنِد إلى الجدار، تحت العنبر، حيث هَبَطَ الظلّ. يَنظر يسوع إلى الذين يمضون على ظهور حميرهم، والذين يتزاحمون صوب النهر، رغبة منهم في التطهّر، وأولئك الذين يتوجّهون إلى البلدة عبر الحقول.
الرجل ذو اللباس الأحمر الداكن جدّاً يبدو متردّداً في قراره. يَرمقه يسوع بنظرة. أخيراً يتّجه صوب جَواده. فلديه جَواد رائع أبيض مُجلّل بالأحمر تحت السرج المغطّى بمسامير الزخرفة.
«انتظرني أيّها الرجل.» يقول يسوع الذي يَلحق به. «لقد هَبَطَ الليل. هل لديكَ مكان تأوي إليه؟ هل أنتَ آتٍ مِن بعيد؟ هل أنتَ وحيد؟»
يُجيب الرجل: «مِن البعيد... البعيد.. وسأذهب... لستُ أدري... إذا ما كنتُ سأجد في البلدة... وإلّا ففي أريحا... لقد تركتُ فيها حَرَسي، ذلك أنّني لم أكن أثق بهم.»
«لا. أُعطيكَ سريري، وهو جاهز. هل لديكَ طعام؟»
«ليس لديَّ شيء. كنتُ أظنّني سأجد بلدة مِضيافة أكثر...»
«لا ينقص فيها شيء.»
«لا شيء. ولا حتّى الحقد على هيرودس. هل تَعلَم مَن أكون؟»
«كلّ الذين يبحثون عنّي ويطلبونني، ليس لهم سوى اسم واحد: إخوة باسم الله. هيّا بنا لنكسر الخبز معاً. يمكنكَ أن تبيت جوادكَ تحت هذا العنبر. سوف أنام أنا هنا، وسأحرسه لكَ...»
«لا، هذا أبداً. بل أنا مَن سينام هنا. إنّني أَقبَل الخبز، ولا شيء سواه. ولن أضع جسدي الـمُدَنَّس حيث تُمدّد أنتَ جسدكَ المقدَّس.»
«هل تؤمن بي قدّيساً؟»
«أعلَم أنّكَ قدّيس. فيوحنّا، خُوزي... أعمالكَ... أقوالكَ... حتّى البَلاط الـمَلكيّ يردّد صدى ذلك مثل الصَّدَفة التي تحتفظ بهدير البحر. كنتُ أنزل إلى يوحنّا... ثمّ أَضَعتُ أَثَره. ولكنّه كان قد قال لي: "هناك مَن هو أعظم منّي، وهو سيستقبلكَ ويَرقَى بكَ". ولا يمكن لهذا أن يكون أحداً سواكَ. وقد أتيتُ إليكَ عندما عرفتُ مكان وجودكَ.»
مَكَثا وَحيدَين تحت العنبر. التلاميذ يتحدّثون فيما بينهم قرب المطبخ ويُراقِبون.
الغيور الذي كان اليوم مُنشَغِلاً بالعِماد، يعود مِن النهر مع الأخيرين مِن الذين نالوا العِماد. يباركهم يسوع، ثمّ يقول لسمعان: «هذا الرجل مسافر يبحث عن مأوى باسم الله. وباسم الله نحيّيه كصديق.»
ينحني سمعان، وكذلك الرجل. يَدخُلان إلى الغرفة حيث يَربِط منّان الجّواد إلى الـمِذوَد. ويوحنّا، بعد أن أومَأَ يسوع إليه، يحمل العشب ودلو ماء مُسرِعاً. وبطرس يركض حاملاً مصباح زيت، إذ قد حَلَّ الظلام.
«سوف أكون على ما يرام هنا. فليكافئكم الله.» يقول الفارس الذي يَدخُل بعدئذ، بين يسوع وسمعان، إلى المطبخ الـمُضاء بنار عيدان صغيرة أُضرِمت فيه.
وينتهي كلّ شيء.