ج5 - ف58

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الثاني

 

58- (الخميس السابق للفصح. /II/: في الهيكل)

 

24 / 01 / 1946

 

لستُ أرى توزيع الطعام على برص حنّون، فقط أسمعهم يتحدثون عن ذلك. إنّما لا يبدو لي أنّ معجزات حصلت فيهم، ذلك أنّ سمعان بطرس يقول: «الوحدة الموحشة لم تمنحهم نعمة الإيمان ومعرفة أين يكمن الخلاص.»

 

بعد ذلك تستقبلهم المدينة عَبْر الباب المؤدّي إلى ضاحية أوفل الصاخبة أو المكتظة.

 

على بعد بضعة أمتار، مِن باب موارب، تقفز أناليا فَرِحَة، وتحيّي المعلّم وهي تقول: «يا ربّ، لقد أَذِنَت لي أُمّي أن أبقى معكَ حتّى المساء.»

 

«ألا يستاء صموئيل مِن ذلك؟»

 

«لم يَعُد صموئيل في حياتي يا ربّ. شكراً لله تعالى على هذا. فليهبني فقط ألاّ يهجركَ كما هَجَرَني، يا إلهي.» ويبتسم الفم الفتيّ ببطولة، بينما تتلألأ دمعة بارقة في عينها العفيفة.

 

يُمعِن يسوع فيها النَّظَر ويقول لها مُجيباً: «الحقي بأخواتكِ التلميذات.» ويُتابع المسير.

 

ولكنّ أُمّ أناليا العجوز، العجوز مِن الهمّ أكثر منها بسبب العمر، تدنو بدورها، وتُحيّي بانحناءة كبيرة، احتراماً إنّما بكآبة، وتقول: «السلام لكَ، يا معلّم. متى يمكنني التحدّث إليكَ؟ لديَّ متاعب كثيرة!...»

 

«في الحال، يا امرأة.» ويتوجه إلى الذين معه آمِراً: «امكثوا هنا خارجاً. سوف أدخل للحظة إلى هذا البيت.» ويمضي مبتعداً خلف المرأة.

 

ولكن أناليا، مِن وسط جماعة النساء التلميذات، تُذكِّره بكلمة وحيدة: «معلّم!» ولكن ما الذي لا تحويه هذه الكلمة! وبينما هي تقولها، تجمع يديها كما لتتوسَّل…

 

«لا تخافي. كوني في سلام. باعِثكِ بين يديّ وكذلك سرّكِ.» يقول يسوع ليُطمئنها. وثمّ، بِهِمّة، يَدخُل عَبْر الباب الموارب.

 

في الخارج يتمّ التعليق على الحدث، وفضول الرجال يُنافِس فضول النساء في الحصول على المعرفة... المعرفة... المعرفة…

 

في الداخل، استماع، وبكاء. يسوع يُنصِت. يَسند كتفيه إلى الباب الذي أَخَذَ على عاتقه إغلاقه مُذ دَخَلَ، ذراعاه متصالبتان على صدره، يَستَمِع إلى أُمّ الصبيّة التي، وهي تبكي، تروي له تَذبذُب خطيب ابنتها الذي استغلّ الفرصة ليتحرّر نهائياً مِن كلّ ارتباط... «بهذا تكون أناليا كالمرأة المطلَّقة، ولن تستطيع الزواج بعد. بالفعل، لقد أَعلَنَت هي أنّكَ لا تقرّ بالزواج بعد الطلاق. ولكنّ هذه ليست حالها. هي ما تزال صبيّة! هي لا تبيع نفسها لرجل آخر لأنّها لم تكن لأيّ رجل. وهو قد اقتَرَفَ فِعلاً وحشيّاً، بل أكثر مِن ذلك. هو يرغب بالفعل بزواج آخر، ولكنّ ابنتي هي التي ستبدو مُذنِبة وسيهزأ بها العالم. اهتمّ بذلك، يا ربّ، لأنّ ذلك حَصَلَ بسببكَ.»

 

«بسببي أنا، يا امرأة؟ بماذا أخطأتُ؟»

 

«آه! أنتَ لم تخطئ، ولكنّه يقول إنّ أناليا تحبّكَ. ويتصنّع الغيرة. لقد جاء أمس مساء، وكانت عندكَ. فدخل بهياج وهو يُقسِم أنّه لم يَعُد يَقبَل بها زوجة. وأناليا التي وَصَلَت حينذاك أجابته: "حسناً تفعل. وأنا لستُ آسف إلّا على شيء واحد: هو أنّكَ تسعى لإلباس الحقيقة بالكذب والافتراء. أنتَ تَعلَم أنّه لا يمكن أن يُحَبَّ يسوع إلاّ بالنَّفْس. ولكنّ نَفْسكَ قد فَسدت الآن وتهجر النور إلى الطبيعة البشريّة، بينما أنا أهجر الطبيعة البشريّة إلى النور. لم يَعُد بإمكاننا أن نكون فِكر واحد كما ينبغي للعروسين أن يكونا. امضِ إذن، وليسهر الله عليكَ". ولا دمعة، أتُدرِك ذلك؟ ما مِن شيء لَمَسَ قلب الرجل! خابت آمالي! وهي... آه! حتماً بتهوّر، تسبَّبَت بخرابها الشخصيّ. نادِها يا ربّ. تحدَّث إليها. أَعِدها إلى رشدها. اجلب صموئيل. إنّه في بيت إبراهيم قريبه، البيت الثالث بعد نبع التينة. ساعدني! إنّما أوّلاً تحدَّث إليها، في الحال...»

 

«في ما يخصّ الكلام، فسوف أتكلّم. إنّما عليكِ أن تشكري الله الذي فَكَّ رِباطاً بشريّاً، مِن الواضح أنّه لا يستحقّ الثقة. الرجل متقلِّب وجائر تجاه الله وتجاه امرأته...»

 

«نعم، ولكن كم هو فظيع أن يظنّ العالم أنّها مذنبة، وأنّكَ مذنب، فقط لكونها تلميذة لكَ.»

 

«العالم يتّهم ثمّ يَنسَى. السماء، على العكس، أزليّة هي. وابنتكِ سوف تكون زهرة في السماء.»

 

«إذن، لماذا أَحيَيتَها؟ كان مِن الممكن أن تكون زهرة دون وجوب تَلَقّيها رجم الافتراءات. آه! يا مَن أنتَ الله، نَادِها، أَعِدها إلى رشدها، ومِن ثمّ اجعل صموئيل يُفكّر...»

 

«تذكّري، أيّتها المرأة، أنّ الله ذاته لا يمكنه الضغط على حرّيّة الإنسان وإرادته. صموئيل وابنتكِ، لهما كلّ الحقّ في اتّباع ما يظنّانه خيراً لهما. وأناليا بشكل خاص تملك هذا الحقّ...»

 

«ولكن لماذا؟»

 

«لأنّها محبوبة مِن الله أكثر مِن صموئيل. ولأنّها تُقدِّم مِن الحبّ لله أكثر مِن صموئيل. فابنتكِ هي خاصّة الله!»

 

«لا، ففي إسرائيل، هذا لا وجود له. يجب على المرأة أن تتزوّج... فابنتي لي... وزواجها كان سيحمل لي السلام للمستقبل...»

 

«ابنتكِ، منذ سنة، لولا تدخُّلي، لكانت في القبر. فَمَن أكون بالنسبة إليكِ؟»

 

«المعلّم والإله.»

 

«وكإله وكمعلّم أقول إنّ له تعالى حقوقاً على أبنائه أكثر مِن أيٍّ آخر، وإنّ تغييرات كثيرة سوف تحصل في الدِّين، ومِن الآن فصاعداً سيكون مِن الممكن للعذارى أن يبقَين على ما هنّ عليه للأبد حبّاً بالله. لا تبكي أيّتها الأُمّ! اتركي بيتكَ وتعالي معنا، اليوم. تعالي! فخارجاً هي أُمّي والأُمّهات البَطَلات الأُخريات اللواتي أعطين أبناءهنّ للربّ. انضمّي إليهنّ...»

 

«تحدَّث إلى أناليا... حَاوِل، يا رب!» تئنّ المرأة وهي تنتحب.

 

«حسناً. سوف أفعل كما تريدين.» يقول يسوع وهو يفتح الباب وينادي أُمّه مع أناليا.

 

تُقْبِلان بسرعة وتَدخُلان.

 

«ابنتي، أُمّكِ تريدني أن أقول لكِ أن تُفكّري مرّة أخرى. تريدني أن أتحدّث إلى صموئيل. ماذا ينبغي لي أن أفعل؟ بماذا تُجيبينَني؟»

 

«إذن تحدّث إلى صموئيل، بل حتّى أرجوك أن تفعل. إنّما فقط أودُّ لو يستقيم بإنصاته إليكَ. أمّا بالنسبة إليَّ، فأنتَ تَعلَم. أتوسّل إليكَ أن تُعطي لأُمّي الإجابة الأصحّ.»

 

«هل تسمعين، أيّتها المرأة؟»

 

«ما هي إذن الإجابة؟» بصوتها المتهدّج تَسأَل المرأة التي كانت تظنّ، مع بداية كلام ابنتها، أنّها نَدِمت، إلّا أنّها أَدرَكَت فيما بعد أنّ الأمر ليس كذلك.

 

«الإجابة هي أنّ ابنتكِ أَصبَحَت، منذ سنة، مِلكاً لله، وأن نذرها دائم، مدى الحياة.»

 

«آه! يا لي مِن بائسة! أيّ أُمّ أكثر تعاسة منّي؟!»

 

تترك مريم يد الفتاة لتعانق المرأة وتقول لها بهدوء: «لا تخطئي بفكركِ وأقوالكِ. فليس بؤساً أن يَمنَح المرء ابناً لله، بل هو مجد عظيم. لقد حَدَّثتِني يوماً عن مدى ألمكِ لأنّه ليس لكِ سوى ابنة واحدة، ذلك أنّكِ كنتِ تحبّين أن يكون لكِ ابن مكرّس للربّ. وليس لكِ ابن، بل ملاك، لكِ ملاك يَسبق المخلّص في ظَفَرِه. وتريدين اعتبار نفسكِ تعيسة؟ أُمّي أنا كرَّسَتني للربّ تلقائيّاً منذ أول خفقة لي أَحَسَّت بها في أحشائها، أنا التي وَلَدَتني في وقت متأخّر. ولم تحتفظ بي سوى ثلاثة أعوام. وأنا لم أمتلكها إلّا في قلبي. وآنذاك كان منحها إيّاي لله سلاماً لها ساعة موتها... هيّا بنا، تعالي إلى الهيكل لتنشدي التسابيح للذي أحبّكِ إلى درجة اختيار ابنتكِ عروساً له. ولتكن في قلبكِ حكمة حقيقيّة. والحكمة الحقيقيّة هي في عدم وضع حدود للسخاء الشخصيّ تجاه الربّ.»

 

لم تَعُد المرأة تبكي، بل تُنصِت... ثمّ تُقرّر. بعد ذلك تأخذ معطفها وتلتحف به. لكنّها حين تمرّ أمام ابنتها تتنهّد: «آه! أوّلاً المرض، ثمّ الربّ... آه! لم يكن مِن المفترض أن تكوني لي!...»

 

«لا، يا أُمّي. لا تتكلّمي هكذا! لم أكن لكِ في يوم كما أنا الآن. أنتِ والله. الله وأنتِ. أنتما فقط حتّى الممات...» وتُعانِقها بهدوء سائلة إيّاها: «بَرَكَة منكِ، يا أُمّاه! بَرَكة... لأنّني تألّمتُ كثيراً لوجوب أن أتسبّب لكِ بالألم. ولكنّ الله كان يريدني هكذا...»

 

تتعانقان وهما تبكيان... ثمّ تَخرُجان، يسبقهما يسوع ومريم، وتُغلِقان البيت للّحاق بالنساء التلميذات…

 

...«لماذا ندخل مِن هنا، يا ربّ؟ ألم يكن مِن الأفضل الدخول مِن الجهة الأخرى؟» يَسأَل يعقوب بن زَبْدي.

 

«لأنّنا، بمرورنا مِن هنا نمرّ أمام قلعة أنطونيا.»

 

«وتَأمَل... انتبه يا معلّم!... السنهدرين يتجسّسون عليكَ.» يقول توما.

 

«كيف تعرف ذلك؟» يَسأَل برتلماوس.

 

«يكفي المرء التفكير بمصلحة الفرّيسيّين حتّى يُدرِك. تقولون لي إنّهم، لألف عذر، يأتون باستمرار لمراقبة ما نفعل!... بأيّ هدف يفعلون، إن لم يكن للإمساك بالمعلّم في حالة خطأ؟»

 

«أنتَ على حقّ. إذن، يا معلّم، لا داعي للمرور بقلعة أنطونيا. وإن لم يَرَكَ الرومان، فلا بأس.»

 

«والدافع لذلك ليس هو قلقكَ بشأني بقدر ما هو بسبب احتقاركَ لهم، أليس كذلك يا برتلماوس؟ كم ستُصبِح أكثر حكمة لو تُخلي قلبكَ مِن تلك التفاهات! يُجيب يسوع الذي يتابع طريقه دون الإنصات إلى أحد.

 

للذهاب إلى قلعة أنطونيا، كان لا بدّ مِن المرور بالمكان الذي فيه قصر يُوَنّا وقصر هيرودس، والمسافة بينهما لا تبعد كثيراً. ويوناثان على باب قصر خُوزي، وما أن يَرى يسوع، حتّى يُعطي الإشارة للذين في البيت. يَخرُج خُوزي في الحال وينحني. تتبعه يُوَنّا التي أَصبَحَت قريبة لتلحق بجماعة النساء التلميذات.

 

يتكلّم خُوزي: «عَلِمتُ أنّكَ ستكون اليوم في بيت يُوَنّا. فَهَب لخادمكَ أن يستضيفكَ في وليمة.»

 

«نعم. إنّما بشرط أن تسمح لي أن أجعل منها وليمة مَحبّة للمساكين والبؤساء.»

 

«كما تريد، يا ربّ. أَصدِر الأمر وأنا أفعل كما تريد.»

 

«شكراً. وليكن السلام معكَ يا خُوزي.»

 

تَسأَل يُوَنّا: «هل مِن أوامر لديكَ ليوناثان؟ إنّه تحت تصرّفكَ.»

 

«أقولها لكِ بعدما أمرُّ في الهيكل. هيّا بنا لأنّ هناك مَن ينتظرنا.»

 

بعد قليل يمرّون بقصر هيرودس الجميل والرهيب. ولكنّه مُغلَق وكأنّه خال مِن السكّان. يمرّون بالقرب مِن قلعة أنطونيا. يُلاحِظ الجنود الموكب الصغير الذي للناصريّ.

 

يَلِجون الهيكل؛ وبينما تتوقّف النساء في الجزء السفليّ، يتابع الرجال إلى المكان المخصَّص لهم.

 

يَبلُغون المكان الذي يُقَدَّم فيه الأطفال وتُطَهَّر النساء. مجموعة صغيرة مِن الناس يرافِقون أُمّاً شابّة، ويتوقّفون ليشاهدوا الشعائر الطقسيّة.

 

«طفل مكرَّس للربّ، يا معلّم!» يقول أندراوس الذي يُشاهِد الحدث.

 

«إن لم أُخطئ، فهذه هي المرأة التي مِن قيصريّة فليبّس، امرأة القصر. لقد عَبَرَت أمامي بينما كنّا ننتظركَ عند الباب الـمُذهَّب.» يقول يعقوب بن حلفى.

 

«نعم. هناك أيضاً حماتها وقهرمان فليبّس. لم يَرَونا، أمّا نحن فقد رأيناهم.» يضيف تدّاوس. ومتّى يضيف: «ونحن الاثنان، مِن جهة أخرى، قد رأينا مريم التي لسمعان مع رجل عجوز. إنّما يهوذا لم يكن هناك. وكانت المرأة تبدو حزينة جدّاً. وكانت تنظر حولها بقلق.»

 

«سوف نبحث عنها فيما بعد. الآن فلنصلِّ. وأنتَ، يا سمعان، قَدِّم التقدمة إلى بيت المال عن الجميع.»

 

يُصَلّون مطوَّلاً، وقد ميَّزهم الناس جدّاً وهُم يُشيرون إلى المعلّم.

 

مشادّة قصيرة، حيث يهيمن صوت نسائي حادّ، تجعل الذين يُصلّون بأقلّ تخشّعاً يلتفتون.

 

«إن كنتُ قد أتيتُ هنا لأقدّم صبيّاً لله، فيمكنني أن أبقى قليلاً لأقدّمه لِمَن أنقذه للربّ.» يقول الصوت الحادّ.

 

وأصوات أنفيّة لرجال يُصرّون: «غير مسموح لامرأة أن تبقى هنا بعد الاحتفال الطقسيّ. هيّا اذهبي.»

 

«سوف أمضي، إنّما بعده.»

 

«نادِه إذن واذهبي معه.»

 

«مهلاً! مهلاً! دعوا المرأة تتكلّم وتقول كيف يمكنها القول إنّ الناصريّ قد أنقذ الصبيّ لله.» يقول صوت رجوليّ بطيء.

 

«بماذا يُهمّكَ ذلكَ، يا يوناثان بن عوزيل؟»

 

«إذا كان هذا يهمّني؟! بالتأكيد هنا خطيئة جديدة. دليل جديد. أنصتي إليَّ، يا امرأة. كيف خَلَّصَ ذاك الرجل ابنكِ؟ هل تريدين قول ذلك للذين يبحثون عن الحقيقة بإلحاح؟» يَسأَل بصوت معسول ذاك الفرّيسيّ الذي رأيتُه قبلاً.

 

«آه! نعم. إنّي أتحدَّث عن ذلك بعرفان. كنتُ يائسة، لأنّ الطفل كان وليداً-ميتاً. أنا أرملة، وهذا الصبيّ هو كلّ شيء بالنسبة إليَّ. وهو جاء ومَنَحَه الحياة.»

 

«متى؟ أين؟»

 

«في قيصريّة فليبّس. إنّي في قصر القيصريّة.»

 

«الحياة! بلا شك هو إغماء للطفل...»

 

«لا. لقد كان ميتاً. يمكن لأُمّي أن تقول ذلك. ويمكن للقَيِّم على القصر أن يقول ذلك. هو جاء ونَفَخَ في فمه، وتحرّك الطفل ورفع صوته بالبكاء.»

 

«وأنتِ، أين كنتِ؟»

 

«في الفراش يا سيّدي. بالكاد كنتُ قد وَلَدتُه.»

 

«آه! يا للهول!»

 

«آه! ملعون!»

 

«نَجِس!»

 

«تدنيس للقدسيّات!»

 

«أَتَرَون أنّني كنتُ محقّاً في طرح السؤال؟»

 

«أنتَ حكيم، يا يوناثان بن عوزيل! كيف خَمَّنتَ ذلك؟»

 

«أنا أعرف الرجل. لقد رأيتُه ينتهك السبت على أراضيَّ في السهل ليُشبع جوعه.»

 

«فلنطرده مِن هنا!»

 

«فلنبلّغ بذلك رؤساء الكَهَنَة.»

 

«لا. فلنسأله إذا ما كان قد تطهَّرَ. لا يمكننا اتّهامه دون معرفة...»

 

«اصمت يا أليعازر. لا يمكنكَ أن تتنجَّس بدفاع سخيف.»

 

وسط هذا المشهد، تنفجر دوركا الشابّة بالبكاء، وهي سبب تلك المشادّة، وتصيح: «آه! لا تُلحِقوا به سوءاً بسبـبي!»

 

ولكن بعض الهائجين يأتون إلى الربّ ويقولون له بلهجة آمرة: «تعال إلى هنا وأجب.»

 

الرُّسُل والتلاميذ يثورون غضباً وخوفاً. يسوع، بهدوء ومهابة، يتبع الذي ناداه.

 

«هل تعرف هذه المرأة؟» يصيح وهو يدفعه إلى وسط الدائرة التي تشكّلت حول دوركا التي يشيرون إليها بالأصابع كما لو كانت برصاء.

 

«نعم. هي أُمّ شابّة أرملة، مِن قيصريّة فليبّس. وهذه المرأة حماتها، وهذا الرجل هو القَيِّم على القصر. وإذاً؟»

 

«هي تتّهمكَ بأنّكَ دخلتَ إلى بيتها بينما كانت تَلِد.»

 

«هذا ليس صحيحاً، يا ربّ! لم أقل هذا. لقد قلتُ إنّكَ أَقَمتَ ابني. ليس إلاّ! كنتُ أريد الاعتراف بفضلكَ، وقد تسبَّبتُ لكَ بالأذى. آه! سامحني، سامحني!»

 

ويُقبِل قهرمان فليبّس لنجدتها، ويقول: «هذا ليس صحيحاً. أنتم تكذبون. المرأة لم تقل هذا، وأنا شاهد على ذلك. وأنا مستعدّ للقَسَم وكذلك على أنّ الرابّي لم يَلِج الغرفة، بل هو اجترح المعجزة مِن العَتَبَة.»

 

«اصمت أيّها الخادم.»

 

«لا. لن أصمت. وسوف أقول ذلك لفليبّس الذي يجلّ الرابّي أكثر منكم، يا منافقي الله تعالى.»

 

تتحوّل المشادّة مِن المرأة إلى الأرضيّة الدينيّة والسياسيّة. يسوع يصمت. دوركا تبكي.

 

أليعازر، الضّيف المستقيم في الوليمة المقامة في بيت إسماعيل، يقول: «أظنُّ أنّ الشكّ قد توضَّح وسقطت التهمة، والرابّي، وقد بُرِّر، يمكنه أن يكون حرّاً في الذهاب.»

 

«لا. أريد أن أعرف إذا ما كان قد تطهَّرَ مِن لمس الميت. فليُقسم بيهوه.» يصيح يوناثان بن عوزيل.

 

«لم أتطهَّر لأنّ الطفل لم يكن ميتاً، ولكنّه كان يتنفّس بصعوبة.»

 

«آه! يناسبكَ الآن أن تقول إنّه لم يُقَم مِن الموت؟» يصيح أحد الفرّيسيّين.

 

«لماذا لا تتفاخر كما فَعَلتَ في قادش؟» يَسأَل آخر.

 

«ولكن لا نهدرنّ وقتنا في الكلام! فلنطردنّه ونحمل التهمة الجديدة إلى السنهدرين. حُزمة مِن التهمّ!»

 

«أيّة تهمة أخرى؟» يَسأَل يسوع.

 

«أيّة تهمة أخرى؟ ولمسكَ لِبَرصاء دون التطهّر؟ هل يمكنكَ الإنكار؟ وتجديفكَ في كفرناحوم لدرجة أنّ الأكثر استقامة تركوكَ؟ هل يمكنكَ إنكار ذلك؟»

 

«أنا لا أُنكِر شيئاً. ولكنّني بلا خطيئة. بالفعل، يا صادوق، أنتَ يا مَن تتّهمني، أنتَ تَعلَم مِن زوج أنستاسيا أنّها لم تكن برصاء، أنتَ تعلم ذلك، يا مَن أنتَ سمسار زنى صموئيل، أنتَ يا مَن كذبتَ معه على الناس، لِتُسَهّل شهوة رجل مقيت بإطلاقكَ صفة البرص على التي لم تكن برصاء، وبالحكم على امرأة بذاك العذاب المتمثّل بتسميتها برصاء في إسرائيل، فقط لكونكَ شريك الزوج المذنب في ذنبه.»

 

الكاتب صادوق، أحد الذين كانوا في جيسكالا ثمّ في قادش، وقد صُعِقَ، يَنسَلّ دون أن ينبس ببنت شفة. ويتبعه الناس بسخرياتهم.

 

«صمتاً! فالمكان مقدَّس.» ويأمر المرأة ومرافقيها: «هيّا، تعالوا معي إلى حيث ينتظرونني.» ويبتعد صارماً ومهيباً، وأَتباعه في إثره.

 

في هذه الأثناء، لا تتوقّف المرأة، التي يَسأَلها الكثيرون، عن رواية القصّة، مُكَرِّرة في كلّ مرة: «ابني يخصّه، وأنا أكرّسه له.»

 

ويدنو القهرمان مِن يسوع ويقول: «يا معلّم، لقد حَدَّثتُ فليبّس عن المعجزة. وقد أَرسَلَني لأقول لكَ إنّه يحبّكَ. الجأ إليه، في مكائد هيرودس... والآخرين. إنّما، هو الآخر، يريد أن يرى ويسمعكَ. ألا تأتي اليوم إلى بيته؟ هو يعتني بكَ عن طيب خاطر، حتّى في الربع.»

 

«أنا لستُ مشعوذاً، ولا مجوسيّاً. أنا معلّم الحقّ. فليأتِ إلى الحقّ، وأنا لن أردّه.»

 

إنهم الآن في فسحة النساء.

 

«ها هو ذا! ها هو ذا!» تقول النساء التلميذات لمريم القَلِقة مِن التأخّر.

 

يَجتَمِعون ويريد يسوع أن يصرف الناس الذين مِن القيصريّة ليمضي للبحث عن مريم أُمّ يهوذا، ولكنّ دوركا تجثو وتقول له: «لقد بحثتُ عنكَ قبلها، قبل التي تبحث عنها وهي أُمّ لأحد التلاميذ. لقد بحثتُ عنكَ لأقول لكَ: "هذا الابن يخصّكَ. ابن وحيد، أُكرِّسه لكَ. أنتَ الإله الحي. فليكن خادماً لكَ".»

 

«هل تعلمين ما معنى هذا؟ هذا يعني تكريس ابنكِ للألم، أن تخسريه كأُمّ وأن تحصلي عليه كشهيد في السماء. هل باستطاعتكِ أن تكوني شهيدة بابنكِ؟»

 

«نعم، يا ربّي. موته كان سيجعلني شهيدة، شهادة أُمّ مسكينة. وسأكونها مِن أجلكَ، بطريقة كاملة، ومقبولة لدى الربّ.»

 

«وليكن كذلك!... آه! مريم التي لسمعان، متى أتيتِ؟»

 

«الآن. مع حنانيا، قريبي... أنا أيضاً كنتُ أبحث عنكَ، يا ربّ...»

 

«أَعلَم. وقد أرسلتُ يهوذا ليقول لكِ أن تأتي. ألم يأتِ؟»

 

تَخفض أُمّ يهوذا رأسها وتتمتم: «لقد خرجتُ بعده مباشرة كي آتي إلى جَثْسَيْماني. ولكنّكَ كنتَ قد ذهبتَ مِن هناك!... وهرعتُ إلى الهيكل... الآن وجدتُكَ... في الوقت المناسب لأسمع هذه الصبيّة، وهي الآن أُمّ، وسعيدة للغاية!... آه! كم أتمنّى الكلام هكذا، يا ربّ، وعن يهوذا مولود حديثاً... لطيف، لطيف... كواحد مِن هذه الحِملان...» وتُشير باكية إلى الحِملان التي تثغو وهي ماضية إلى مُقدِّم الأضاحي. وتلتحف بمعطفها لتخفي دموعها.

 

«تعالي معي، أيّتها الأُمّ. سنتكلّم في بيت يُوَنّا. فهنا ليس المكان المناسب.»

 

تضمّ النساء إليهنّ مريم أُمّ يهوذا، بينما قريبها حنانيا ينضم إلى التلاميذ. وكذلك دوركا وحماتها تنضمان إلى النساء، ومريم التي لحلفى وسالومة المفتونتان تُلاطِفان الطفل.

 

يتوجّهون صوب الباب. إنما قبل بلوغه، خادم رومانيّ يحمل ليُوَنّا لوحاً مطليّاً بالشمع. تقرأ المكتوب وتُجيب: «قُل بأنّني موافقة. بعد الظُّهر، في بيتي، في القصر.»

 

ثمّ يرتفع هتاف جايا وأُمّه لدى رؤيتهما الـمُخلِّص: «ها هو ذا، ها هو ذا، الذي يمنح النور! لتكن مباركاً، يا نور الله!» وهما سعيدان وجبهتاهما تُلامِسان الأرض.

 

يتزاحم الناس، يَسأَلون، يُدرِكون، ويهتفون هوشعنا.

 

ثمّ ها هو متّيا العجوز، الرجل الذي آوى يسوع وأتباعه في ليلة عاصفة قرب يابيش جلعاد، يُبجِّل ويُبارِك يسوع.

 

ومِن ثُمّ جدّ مارغزيام والفلاحون الآخرون الذين يتوجّه إليهم يسوع بالقول، بعد حديثه مع يُوَنّا: «تعالوا معي»، كما قال ذلك لدوركا، ومتّيا.

 

ولكن قُرب الباب الذهبيّ، ها هو مرقس بن يوزي، التلميذ الغَدَّار الذي يتحدّث بحماس إلى يهوذا الاسخريوطيّ. يَرَى يهوذا المعلّم قادماً ويقول ذلك لمحدّثه. وهذا يلتَفِت عندما يُصبح يسوع خلفه. وتتقاطع النَّظَرات. يا لنظرة يسوع! ولكنّ الآخر قد صمّ عن كلّ سلطان مقدّس. ولكي يُسرِع في الفرار، يَدفَع يسوع إلى عامود، ويسوع يقول: «مرقس، توقّف. رحمة بالنَّفْس التي فيكَ وبأُمّكَ!»

 

«شيطان.» يَصيح الآخر، ويَمضي.

 

«فظاعة!» يهتف التلاميذ. «ولكن، العنه، يا ربّ!» والأوّل الذي قال ذلك هو الاسخريوطيّ.

 

«لا. إن فعلتُ ذلك فلا أعود يسوع... هيّا بنا.»

 

«ولكن كيف، كيف أَمكَنَه أن يُصبح هكذا. لقد كان طيّباً للغاية!» يقول إسحاق الذي يبدو وكأنّ سهماً اخترقه، لشدّة حزنه مِن تبدُّل مرقس.

 

«هذا سرّ. أمر لا تفسير له!» يقول البعض.

 

ويهوذا الاسخريوطيّ يقول: «نعم. كنتُ أجعله يتكلّم. هرطقة بحقّ. ولكن كيف يمكن تفسيرها! يكاد يُقنِعكم. لم يكن بهذه الحكمة عندما كان مستقيماً.»

 

«ينبغي لكَ القول إنّه لم يكن على تلك الدرجة مِن الجنون عندما كان مُستَحوَذاً عليه بالقرب مِن جَمَلا!» يقول يعقوب بن زَبْدي.

 

ويَسأَل يوحنّا: «لماذا، يا ربّ، عندما كان مستحوذاً عليه، كان ضرره بالنسبة إليكَ أقلّ مِن الآن؟ ألا يمكنكَ أن تُشفيه لكي لا يؤذيكَ؟»

 

«لأنّه الآن قد استقبَلَ في داخله شيطاناً ذكيّاً. سابقاً كان نَزْلاً استولت عليه فرقة مِن الشياطين، ولكنّه لم يكن راضياً عن إقامتهم. الآن ذكاؤه أراد شيطاناً، والشيطان قد أقام فيه قوّة شيطانيّة ذكيّة. وأنا لا أستطيع شيئاً مقابل هذا الاستحواذ الثاني. ذلك أنّه ينبغي لي أن أقسر إرادة الإنسان الحرّة.»

 

«أتتألّم يا معلّم؟»

 

«نعم. إنّها ضيقاتي.. إنكساراتي... وأنا أغتمّ منها، لأنّها نفوس تضلّ. فقط مِن أجل هذا، وليس مِن أجل السوء الذي يَلحق بي منهم.»

 

توقّفوا في انتظار فراغ الدّرب مِن زحمة الناس والمطايا، وقد تجمّعوا كلّهم. نظرة أُمّ يهوذا حادّة جدّاً حتّى إنّ ابنها يَسأَلها: «ماذا هناك؟ ما الذي أصابكِ؟ أهي المرّة الأولى التي تَرَين فيها وجهي؟ أنتِ مريضة بحقّ وعليَّ أن أجعلكِ تتلقّين العلاج...»

 

«أنا لستُ مريضة يا بنيّ! وليست المرّة الأولى التي أراكَ فيها!»

 

«وإذن؟»

 

«وإذن... لا شيء. أودُّ فقط ألاّ تستحقّ هذه الكلمات مِن المعلّم.»

 

«أنا لا أتركه ولا أتّهمه. أنا رسوله، أنا!»

 

يُعاوِدون المسير إلى أن يتوقّف يسوع لِيُسلِّم على يُوَنّا والنساء التلميذات الماضيات معها إلى بيتها. الرجال، مِن جهتهم، ماضون جميعاً إلى جَثْسَيْماني.

 

«كان بإمكاننا الذهاب جميعنا إلى هناك. كنتُ أودّ سماع ما ستقول إليز.»

 

«سوف تسمعه. فهي اليوم بالذات ستعرف، وأنا مَن سيعهد إليها بأنستاسيا.»

 

«والطعام الليلة؟»

 

«نعم. لقد قلتُ ليُوَنّا ما ينبغي عليها فِعله.»

 

«ماذا ينبغي لها أن تفعل؟ متى قلتَ لها ذلك؟»

 

«سوف تَرَون ذلك. قبل أن نتركها، بينما كنتُ أُسلِّم عليها. هيّا بنا بسرعة لنكون باكراً في حديقة يُوَنّا.»