ج3 - ف8
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الأول
8- (يسوع يزور المعمدان قرب عين نون)
27 / 04 / 1945
ليلة مُقمِرة، ضوء القمر فيها صاف لدرجة أنّه يكشف عن تفاصيل الأرض كلّها، ومع سنابل القمح التي ما تزال كالعشب الأخضر، تبدو الحقول سجّادات خضراء مُفضَّضَة ذات وَبَر، تخترقها شرائط قاتمة هي الدُّروب، تحرسها الأشجار الـمُنارة مِن جهة القمر والقاتمة مِن الجهة الأخرى.
يسير يسوع بطمأنينة وحيداً. يَسلك طريقه بسرعة هائلة حتّى يَجِد مَجرى ماء مُنحَدِراً، وهو مُحتَدِم، صوب السهل باتّجاه الجنوب الشرقيّ. ثمّ يَصعَد إلى مكان مُنعَزِل قرب مُنحَدَر مُشجَّر. يدور مرّة أخرى ويَصعَد عَبْر أحد الدُّروب ليَصِل إلى مَلاذ طبيعيّ على جانب الهضبة.
يَدخُل وينحني على إنسان مُمدَّد، بالكاد يمكن تمييزه في ضوء القمر الذي يُنير الدَّرب ولكنّه لا يَلِج المغارة. يناديه: «يوحنّا».
يستيقظ الرجل ويجلس، وما يزال النُّعاس آخذاً به. إلّا أنّه سُرعان ما يُدرِك مَن الذي يناديه فينهض بنشاط، وبعد ذلك يَسجد إلى الأرض قائلاً: «كيف لي أن يأتي ربي إليَّ؟»
«لأمنح السعادة لقلبكَ وقلبي. لقد رَغِبتَ بي يا يوحنّا، فها أنا ذا. قُم ولنخرج إلى ضوء القمر ولنجلس لنتحدّث على تلك الصخرة قرب المغارة.»
يطيع يوحنّا، يَنهَض ويَخرُج. ولكنّه، ما إن يجلس يسوع حتى يجثو على ركبتيه قُبالته وقد كسا جسده الهزيل جِلد الماعز بشكل سيّئ. يَردّ إلى الخلف شعره الأشعث الذي يُعاوِد التدلّي على عينيه، وذلك ليرى ابن الله بشكل أفضل.
تَناقُض كبير بين يسوع الشاحب، الأشقر، ذي الشعر الحريريّ المرتّب واللحية القصيرة في أسفل الوجه، وبين ذاك الذي لا يعدو كونه دَغلاً مِن الشعر الأسود الداكن حيث تَبرز منه فقط عينان غائرتان، بل أقول إنّهما محمومتان لشدّة لمعانهما بلونهما الأسود كالفحم.
«لقد أتيتُ لأشكركَ. فلقد أتممتَ وتُتمّ على أكمل وجه النعمة التي نِلتَها، رسالتكَ كسابق لي. وعندما تأتي الساعة ستَلِج السماء إلى جانبي لأنّكَ ستكون قد استَحقَقتَ كلّ شيء مِن الله. إنّما في انتظار ذلك، فسوف تكون في سلام الربّ، يا صديقي المحبوب.»
«قريباً سوف أَلِج في السلام. فبارك خادمكَ، يا معلّمي وإلهي، لتُشدّد عزيمته في الاختبار الأخير. لستُ أَجهَل أنّه أَصبَحَ قاب قوسين أو أدنى، وأنّه ينبغي لي أن أُقدِّم شهادة: شهادة الدم. وأنتَ أكثر منّي لستَ تجهل أمر ساعتي التي أَزِفَت. وصلاح قلبكَ الإلهيّ الرحيم هو الذي أراد مجيئكَ ليشدّد عزيمة خاتمة شهداء إسرائيل وباكورة شهداء العهد الجديد. إنّما قُل لي فقط: هل سأنتظر قدومكَ طويلاً؟»
«لا يا يوحنّا، ليس أكثر مِن الوقت الذي فَصَلَ ميلادكَ عن ميلادي.»
«تَبارَكَ تعالى. يسوع... هل يمكنني مناداتكَ هكذا؟»
«يمكنكَ، بسبب رابطة الدم وقداستكَ. هذا الاسم يتلفّظ به الخَطَأَة، فبالأحرى يمكن لقدّيس إسرائيل أن يَنطقه. إنّه بالنسبة لهم خَلاص، أمّا بالنسبة لكَ فعذوبة. ماذا تبغي مِن يسوع معلّمكَ وقريبكَ؟»
«إنّي مُزمِع أن أموت. إنما كما يهتمّ الأب بأبنائه، كذلك أَهتَمُّ أنا بتلاميذي. تلاميذي... أنتَ معلّم، وتعرف كم حبّنا لهم مُضطَرِم. والقلق الوحيد المتأتّي مِن فكرة موتي هو الخوف مِن أن يَضِلّوا مثل نِعاج دون راعٍ. ضُمَّهم أنتَ إليكَ. أَرُدُّ لكَ الثلاثة وهُم لكَ أصلاً، وقد كانوا مِن أروع تلاميذي، إنّما في انتظار قدومكَ. وجميعهم، خصوصاً متّياس، تحضرهم الحكمة بشكل فعليّ. لديَّ آخرون وسَيُقبِلون إليكَ. إنما اسمح لي أن أَعهَد إليكَ بهؤلاء بشكل خاصّ، فإنّهم أغلى ثلاثة على قلبي.»
«وهُم أَعِزّاء على قلبي أنا كذلك. امض مطمئنّاً يا يوحنّا. لن يَضِلّوا. لا هؤلاء ولا أولئك الذين هُم تلاميذكَ الحقيقيّون. إنّني أَتقَبَّل إرثكَ وسأسهر عليه كما على كنـز ثمين جدّاً أهداني إيّاه صديقي الحميم وخادم الربّ.»
ينحني يوحنّا حتّى يُلامِس الأرض، وهو أمر يبدو مستحيلاً مِن إنسان على تلك الدرجة مِن الصرامة، إنّه يبكي، ويهزّه نشيج قويّ مِن الفرح الروحيّ.»
يَضَع يسوع يده على رأسه: «بكاؤكَ الذي هو فَرَح وتَواضُع، يتلاقى مع نشيد بعيد يرتعش قلبكَ طَرَبَاً لصوته. هذا النشيد وهذا البكاء هما ترتيلة التمجيد ذاتها للأزليّ "الذي صَنَعَ العَظائِم، وهو القَدير، لدى الأرواح الـمُتواضِعة". كذلك أُمّي، سوف تُرتِّل مِن جديد الترتيلة التي كانت تُرنّمها آنذاك. إنّما بعد ذلك، بالنسبة لها كذلك، سيأتي المجد الأعظم، مثلكَ، بعد الاستشهاد. أَحمِل لكَ سلامها أيضاً، وكلّ الأمنيات وكلّ التشجيع. إنّكَ تستحقّها. هنا ليس سوى يد ابن الإنسان على رأسكَ، إنّما مِن السماء المفتوحة فيهبط النُّور والحبّ لتحلّ عليكَ البَرَكَة يا يوحنّا.»
«أنا لا أستحقّ كلّ هذا، فأنا خادمكَ.»
«إنّكَ يوحنّاي. في ذاك اليوم، في الأردن، كنتُ مَسيّا الذي يَظهَر، أمّا الآن، هنا، فأنا القريب والإله الذي يريد أن يَهِبكَ زاد حبّه كإله وكقريب. انهض يا يوحنّا، وليُقبِّل واحدنا الآخر قُبلة الوداع.»
«أنا لا أستحقّ كلّ هذا... لقد تَمنّيتُـه طوال حياتي، ولكنّني لا أجرؤ على فِعل هذا معكَ. فأنتَ إلهيّ.»
«أنا يسوعكَ. وداعاً. سوف تكون نفسي قريبة مِن نفسكَ، حتّى السلام. عِش ومُت بسلام مِن أجل تلاميذكَ. لا يَسَعني أن أمنحكَ سِوى هذا حاليّاً، إنّما في السماء، فسأعطيكَ المائة ضِعف. ذلك أنّكَ نِلتَ كلّ الحُظوة في عينيّ الله.»
أَنهَضَهُ وعانَقَهُ مُقبِّلاً إيّاه على وجنتيه ومُتلقِّياً منه قُبلاته. ثمّ يعود يوحنّا فيجثو ويضع يسوع يديه على رأسه ويصلّي وقد تَوجَّهَ بعينيه إلى السماء. يبدو أنّه يُكَرِّسه. إنّه مَهيب. ويدوم الصمت هكذا بعض الوقت. ثمّ يُودّعه يسوع بسلامه العَذب: «فليكن سلامي معكَ على الدوام.» ويَسلك طريق العَودة.