ج2 - ف52

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الأول

 

52- (يسوع وإسحاق قرب دوكو. الذهاب إلى مرج ابن عامر.)

 

25 / 01 / 1945

 

«وأنا أقول لكَ يا معلّم إنّ المتواضعين هم الأفضل. فالذين توجَّهتُ إليهم لم يبدر منهم سوى الاحتقار واللامبالاة. آه! يا لصغار يافا!» إنَّه إسحاق يتحدّث إلى يسوع، وقد اجتمع الكلّ على العشب قرب حافّة النهر. ويبدو إسحاق وكأنّه يُدلي بتقرير عن نشاطاته.

 

يتدخّل يهوذا. والأمر الغريب أنّه ينادي الرَّاعي باسمه: «أنا أفكّر مثلكَ يا إسحاق. فباتّصالنا بهم نضيع الوقت والإيمان. ولقد عَدلتُ أنا عن هذا.»

 

«أمّا أنا فلا، مع أنّي أعاني منه. ولن أَعدل عنه إلّا إذا طَلَبَ منّي المعلّم ذلك. لقد تعوَّدتُ منذ سنوات أن أعاني لأبقى أميناً للحقّ. لا يمكنني الكذب لإرضاء ذوي السُّلطة. هل تَعلَم كم مرّة أتوا ليهزؤوا بي، في عزلتي؟ واعدين إيّاي -بكلّ تأكيد هي وعود خَدّاعة- بمدّ يد العون لي، لو قلتُ إنّي كنتُ أكذب، وإنّكَ، أنتَ يا يسوع، لم تكن أنتَ، الـمُخَلِّص المولود حديثاً؟! ولكنّني لم أكن لأستطيع الكذب. فالكذب هو ما كان يُفسِد فَرَحي، وهذا ما كان سيقتل أملي الوحيد، هذا ما كان سيقصيكَ، يا ربّي! يقصيكَ، أنتَ! في ليل بؤسي، في حزن عجزي، كنتُ دائماً أفرح بسماء مزروعة بالنجوم: وجه أُمّي، فرح حياتي الوحيد كيتيم، ووجه زوجة لم تَصِر لي أبداً وكنتُ أحتفظ لها بحبّي حتّى بعد الممات، كانتا النجمتين الصغيرتين. وثمّ هناك نجمتان أكبر، يشبهان أقماراً صافية نقيّة للغاية: يوسف ومريم يبتسمان للمولود الجديد ولنا، نحن الرُّعاة المساكين، ووجهكَ البريء العَذب، القدّيس القدّيس القدّيس اللّامع وسط سماء قلبي. لم يكن بوسعي إقصاء هذه السماء التي كانت لي أنا! لم يكن بوسعي التخلّي عن نورها، النور الأكثر نقاء والممكن أن يُوجَد. كنتُ بالأحرى مستعدّاً أن أُقصِي الحياة وسط المتاعب مِن أن أقصيكَ، يا ذكراي المباركة، يا يسوع الطفل الوليد.»

 

يضع يسوع يده على كتف إسحاق ويبتسم.

 

ويتكلّم يهوذا أيضاً: «ومع ذلك تُصرّ؟»

 

«أُصرّ اليوم، وأُصرّ غداً وعلى الدوام، سوف يأتي أحدهم.»

 

«كم سيدوم ذلك؟»

 

«لستُ أدري. إنّما صدّقني، يكفي ألّا تنظُر إلى الأمام ولا إلى الوراء. اعمَل يوماً بيوم، وإذا ما كان النجاح حليفكَ عند المساء فقُل: "شكراً لكَ يا إلهي"؛ وإلّا فقُل "آمل الحصول على معونتكَ غداً".»

 

«إنّكَ حكيم.»

 

«لا أعرف حتّى ماذا يعني هذا. ولكنّني أعمل في رسالتي ما عَمِلتُه أثناء مرضي. حوالي الثلاثين عاماً مِن العجز، وليس يوماً واحداً!»

 

«أصدّق! لم أكن قد ولدتُ أنا بعد عندما كنتَ أنتَ عاجزاً.»

 

«كنتُ عاجزاً، ولكنّني لم أَعُدَّ تلك السنوات قطّ. ولم أقل أبداً: "ها إنّ نيسان (أبريل) يعود وأنا ما زلتُ سقيماً لا أُزهِر مِن جديد أبداً مع الورود. ها إنّ تشرين (سبتمبر-أكتوبر) يعود وأنا كما أنا". ولقد كنتُ أسير قُدُماً في التحدّث إلى نفسي وإلى الطيّبين عنه. وكنتُ أتنبّه إلى السنين تمرّ مِن خلال الذين كانوا يوماً صغاراً ثمّ يأتون إليَّ بحلوى العرس وحلوى مَولِد أطفال لهم. والآن، إذا ما نظرتُ إلى الوراء، أنا العجوز وقد عُدتُ الآن شاباً، فماذا أرى مِن الماضي؟ لا شيء، إنّه الماضي.»

 

«لا شيء هنا. إنّما هناك، في السماء، "فكلّ شيء" لكَ يا إسحاق، وهذا الكلّ شيء ينتظركَ هناك.» يقولها يسوع ثمّ يتحدّث إلى الجميع: «هكذا ينبغي التصرُّف. أنا أيضاً أفعل هذا. السّير قُدُماً وبدون كَلَل. فالكَلَل هو أيضاً أحد جذور الكبرياء الإنسانيّ. وكذلك الاستعجال. لماذا الاشمئزاز مِن الانهزام؟ لماذا الاضطراب مِن التأخّر؟ لأنّ الكبرياء يقول: "رفضي أنا؟ جَعَلني أنتظر طويلاً جدّاً؟ إنّه لَقلّة احترام تجاه رسول الله". لا يا أصدقاء. انظروا إلى الخليقة وفكّروا بمن أبدَعَها. تأمّلوا في تطوّر الإنسان وفكّروا بأصله. فكّروا بهذه الساعة التي نحن فيها، واحسبوا كم مِن القرون سَبَقَتها. العالم المخلوق هو صنيعة عمليّة خَلق هادئة. فلم يَخلق الآب الكون بطريقة عشوائيّة. لقد عَمل ذلك على مراحل. والإنسان الحاليّ هو صنيعة تقدُّم متأنٍّ، وسوف يتقدّم باستمرار بالعلم والمقدرة، اللّذيَن سيصبحان مقدّسين أو غير مقدّسين، حسب إرادة البشر. بينما الإنسان لم يصبح عالِماً في خلال يوم واحد. وقد كان للأوَّلين المطرودين مِن الجنّة كلّ شيء ليتعلّموا، بهدوء وبالتدريج. ليتعلّموا حتّى الأشياء الأكثر بساطة: كيف تتحوّل حبّة الحنطة إلى طحين، ثمّ إلى عجين، ثمّ تُخبَز. ليتعلّموا كيفيّة تحويلها إلى طحين وكيفيّة خَبزها. ليتعلّموا كيفيّة إشعال النار مِن الحطب. ليتعلّموا كيفيّة صُنع الثياب بنظرهما إلى فراء الحيوانات. كيفيّة صُنع مأوى بمراقبة الحيوانات البريّة، كيفيّة صُنع السرير بمراقبة الأعشاش. ليتعلّموا كيفيّة العناية بالذات بواسطة الأعشاب والمياه مِن خلال مراقبة الحيوانات المدفوعة بالغريزة. ليتعلّموا السفر عبر الصحارى والبحار عن طريق دراسة النجوم، وبتدجين الخيل. وتوازن القوارب مِن قشرة جوز عائمة على سطح ماء النهر. كَم مِن الفشل قبل النجاح! ولكنّ النجاح يأتي ونتجاوزه. والإنسان لا يصبح أكثر سعادة في ذلك، لأنّه يُصبح أكثر براعة في الشرّ منه في الخير. إلّا أنّه يتطوّر. أليس الفداء عملاً يتطلّب الصَّبر؟ هو مُقَرَّر منذ دهور الدهور، وحتّى مِن خارج حدود الزمن، ها هي ذي الساعة التي هَيَّأَتها الدهور قد حانت الآن. كلّ هذا العمل بفضل الصبر. لماذا إذن عدم الصبر؟ ألم يكن بمقدور الله أن يفعل كلّ هذا بمثل لمح البصر؟ والإنسان، بتمتّعه بـمَلَكة العقل، خارِجاً مِن بين يديّ الله، ألم يكن باستطاعته معرفة كلّ شيء بمثل لمح البصر؟ أولم يكن بمقدوري أنا المجيء منذ بدء الدهور؟ كان يمكن أن يَحدث كلّ شيء هكذا. إنّما ينبغي ألّا يكون شيء بالعنف. لا شيء. فالعنف مُنافٍ للنظام على الدوام. والله وما يأتي مِن الله هو نظام. فلا تَطمَحوا بأن تكونوا أكثر مِن الله.»

 

«ولكن متى ستُصبِح مَعروفاً؟»

 

«ممّن يا يهوذا؟»

 

«ولكن، مِن العالم!»

 

«أبداً.»

 

«أبداً؟ ولكن ألستَ الـمُخَلِّص؟»

 

«أنا هو، إنّما العالم يرفض الخلاص. وليس أكثر مِن نسبة واحد إلى ألف يريد أن يعرفني، ونسبة واحد إلى عشرة آلاف يتبعني بحقّ. وأيضاً، ولا أُبالِغ، لن أكون معروفاً حتّى مِن قِبل أقرب المقرَّبين.»

 

«ولكنّهم لو كانوا مقرّبين إليكَ لعرفوكَ.»

 

«نعم يا يهوذا، سيَعرفون فيَّ أنا يسوع، يسوع الإسرائيليّ. ولكنّهم لن يَعرفوا مَن أكون. الحقّ أقول لكم، لن يعرفني كلّ المقرّبين إليَّ. فالمعرفة تعني الحبّ بإخلاص وبَسالة. بل وسوف يكون هناك مَن يتنكَّر لي.» يقوم يسوع بحركة كَمَن أَذعَنَ وهو مُثبَط العزيمة، حركة يقوم بها دائماً، كلّما تَذَكَّرَ الخيانة المستقبليّة: يفتح يديه ويبقيهما هكذا موجَّهَتَين صوب الخارج، مع وجه حزين لا يَنظر إلى البشر ولا إلى السماء، إنّما فقط إلى مستقبله المحتوم بالخيانة.

 

ويقول له يوحنّا بلهجة المتوسِّل: «لا تقل هذا يا معلّم.»

 

ويقول لـه سمعان، والرُّعاة معه: «إنّنا نتبعكَ كي تكون معرفتنا بكَ دائماً أفضل.»

 

«كعروس نتبعكَ، وأنتَ أَحَبّ إلينا منها. فنحن أكثر حرصاً عليكَ منّا على امرأة. آه! لا. إنّنا نعرفكَ الآن لدرجة لا يمكننا معها التنكّر لكَ. هو (ويشير يهوذا إلى إسحاق) يقول إنّ إنكار ذكراكَ كمولود جديد أفظع، بالنسبة إليه، مِن فقدان حياته. ولم تَكن بعد سوى مولود جديد. وأنتَ الآن الرجل والمعلّم. نسمعكَ ونرى أفعالكَ، تَواصُلكَ، تنفّسكَ، قُبلتكَ. هي لنا تكريس مستمرّ وتطهير مُتواصِل، وحده إبليس يمكنه إنكاركَ بعد كونه مُقرَّباً إليكَ.»

 

«صحيح يا يهوذا، ولكنّه سيكون.»

 

«الويل له: سوف أكون له حَسيباً.»

 

«لا، دع العدالة للآب وكُن لـه الـمُخَلِّص، مُخَلِّص هذه النَّفْس المتّجهة إلى الشيطان. ولكن فلنلق التحيّة على إسحاق. لقد هَبَطَ الليل. أبارككَ أيّها الخادم الأمين. تَعرِف أن لعازر بيت عنيا هو الآن صديقنا وأنّه يريد مساعدة أصدقائي. أنا ذاهب. ابق أنتَ. افلح أرض يهوذا القاحلة. ومِن ثمّ سوف أعود. أنتَ تعرف أين تجدني عند الضرورة. سلامي معكَ.»

 

ويُبارِك يسوع تلميذه ويُقَبِّله.