ج4 - ف135

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الثاني

 

135- (أثناء الحديث مع أحد الكَتَبَة)

 

06 / 09 / 1945

 

يَضَع يسوع رِجله على الضفّة اليمنى لنهر الأردن، على بعد ميل أو ربّما أكثر، مِن شِبه جزيرة تريشـة الصغيرة. ريف أخضر تماماً، ذلك أنّ الأرض الجافّة الآن، ولكن الرّطبة في العمق، تُحافِظ على حياة النباتات الأكثر ضعفاً. حينئذ يَجِد يسوع جمعاً مِن الناس ينتظرونه.

 

يُقبِل ابنا عمّه للقائه مع سمعان الغيور: «يا معلّم، لقد فضحت أمرنا الـمَراكِب... وقد يكون مَنَاين أعطاهم إشارة...»

 

«يا معلّم،» يَعتَذِر مَنَاين، «لقد رحلتُ في الليل لكي لا يراني أحد، ولم أتحدّث إلى أحد. ثِق بذلك. كثيرون سألوني أين كنتَ. ولكنّني قلتُ للجميع فقط: "لقد رَحَل". ولكنّي أظنّ أن الأمر ناجم عن صيّاد سمك قال بأنّه أعطاكَ مَركبه...»

 

«يا لِنَسيبـي الأحمق!» يُندِّد بطرس بعنف. «وكنتُ قد قلتُ له ألّا يتكلّم! وكنتُ قد قلتُ له بأنّنا ذاهبون إلى بيت صيدا! وقلتُ له بأنّه إذا تكلّم فسأنتف له لحيته! وسأفعلها! تأكَّد أنّني سأفعلها. والآن؟ وداعاً أيّها السلام والعزلة والراحة!»

 

«هدوءاً يا سمعان! ها قد حَصَلنا على أيّام السلام. فيما عدا ذلك، فقد حصلتُ جزئياً على الهدف الذي كنتُ أصبـو إليه: تثقيفكم وتعزيتكم وتهدئتكم، لِأَحول دون الإهانات والصّدامات بينكم وبين فرّيسيّي كفرناحوم. والآن هيّا بنا لملاقاة هؤلاء الناس الذين ينتظروننا. لنكافئ إيمانهم وحبّهم. وحتّى هذا الحبّ، أليس هو بالنسبة لنا عزاء؟ نحن نتألّم مِن الحقد. وهنا يوجد حُبّ، وإذن الفرح.»

 

يَهدَأ بطرس كالريح التي سَكَنَت فجأة. ويذهب يسوع إلى جمع المرضى الذين ينتظرونه برغبة بادية على وجوههم بوضوح، ويشفيهم الواحد تِلو الآخر بعطف وصبر، حتّى مع أحد الكَتَبَة الذي يُقدِّم له ابنه الصغير مريضاً.

 

إنّه ذاك الكاتب الذي يقول له: «أترى؟ إنكَ تَهرب. ولكن دون جدوى. الحقد والحبّ بارِعان في إيجادكَ. هنا، الحبّ وجدكَ كما يقول النشيد. فإنّكَ بالنسبة لأناس كثيرين مثل عروس النشيد، ويُقْبِل المرء إليكَ كما تَمضي السلميّة (sulamite) إلى عروسها متحدّية حرّاس عمّيناداب وعرباته!»

 

«لماذا تقول هذا؟»

 

«لأنّها الحقيقة. المجيء إليكَ محفوف بالخطر لأنّهم يكرهونكَ ويحقدون عليكَ. ألا تَعلَم أنّ روما تراقبكَ والهيكل يحقد عليكَ؟»

 

«لماذا تُجرّبني أيّها الرجل؟ كلامك فَخّ لأتحامل على روما وعلى الهيكل في إجاباتي. أنا لم أَنصُب لكَ فخّاً عندما شَفيتُ لكَ ابنكَ...»

 

والكاتب، لدى هذا اللوم اللطيف، يَخفض رأسه، وهو مُضطَرِب ويعترف: «أرى أنّكَ بالحقيقة ترى قلوب البشر. سامحني. أرى أنّكَ بالحقيقة قدّيس. سامحني. نعم، كنتُ قد أتيتُ بينما كانت خميرة وَضَعَها فيَّ آخرون تتفاعل...»

 

«وكانت قد وَجَدَت فيكَ الحرارة المناسبة لِتَخمُّرها.»

 

«نعم، هذا صحيح... ولكنّني الآن أمضي بدون خميرة، أو بالأحرى بِخَميرة جديدة.»

 

«أَعلَم ذلك ولا أبطن غلاًّ. كثيرون يخطئون بإرادتهم، وكثيرون بإرادة غيرهم. ومختلفة هي المعايير التي سيستخدمها الله العادل لدينونتهم. أنتَ، أيّها الكاتب، كُن مستقيماً، وفي المستقبل لا تكن مُفسِداً للغير كما أَفسَدَكَ الغير. عندما يُمارِس العالم عليكَ ضغطه، انظر إلى النّعمة الحيّة التي هي ابنكَ الذي أُنقِذ مِن الموت، واعترف لله بهذا الجميل.»

 

«بل لكَ أنتَ.»

 

«لله. له كلّ المجد والإكرام. أنا مسيحه، وأنا أوّل مَن يُكرِّمه ويُمجّده. الأوّل في إطاعته. ذلك أنّ الإنسان لا ينحطّ إذا ما كَرَّم الله وخَدَمَه بأمانة، ولكنّه ينحطّ إذا ما خَدَمَ الخطيئة.»

 

«إنّكَ تُحسِن الكلام. أتتحدّث هكذا دائماً وإلى الجميع؟»

 

«إلى الجميع. سواء تحدّثتُ إلى حنّان وغَمَالائيل، أو تحدّثتُ إلى برص متسوّلين على درب ريفيّ، فالكلام ذاته لأنّ الحقيقة واحدة.»

 

«تكلّم إذن، فإنّنا جميعنا هنا لنستجدي واحدة مِن كلّماتكَ، أو واحدة مِن نِعَمكَ.»

 

«سوف أتكلّم، لكيلا يقال إنّني متحامل على النـزيهين في معتقداتهم.»

 

«لقد ماتت تلك التي كانت لديّ. ولكن في الحقيقة كنتُ نزيهاً، كنتُ أظنّني أخدم الله في محاربتكَ.»

 

«إنّكَ صريح صادق، ولذلك تستحقّ إدراك الله الذي ليس كَذِباً مُطلقاً. ولكن معتقداتكَ لم تَمُت بعد. أنا مَن أقول لكَ ذلك. إنّ الأمر كنجيل (عُشب له جذور طويلة وينتشر بسرعة) أُحرِق. يبدو في الظاهر إنّه دمّر، فهو حقّاً قد تلقى هجوماً قاسياً أضعفه. ولكنّ الجذور حيّة، والأرض ما تزال تغذّيها، والندى يدعوها لِتُخرِج سوقاً جديدة وأوراقاً جديدة. يجب التنبّه لكيلا يحصل هذا، وإلّا سوف يجتاحك النجيل مِن جديد. الحياة في إسرائيل قاسية!»

 

«أعلى إسرائيل إذن أن تموت؟ أهي نَبات سيّئ؟»

 

«عليها أن تموت لكي تقوم.»

 

«تَناسُخ روحيّ؟»

 

«ارتقاء روحيّ. فلا يوجد تَناسُخ أو تقمّص مِن أيّ شكل.»

 

«هناك مَن يؤمن بذلك.»

 

«إنّهم على خطأ.»

 

«لقد تَرَكَت فينا الهلّينية كذلك معتقداتها. والعلماء يتعلّلون ويتباهون بها كما بِغِذاء نبيل.»

 

«تناقض غير معقول، للذين ينادون باللعنة مِن أجل إهمال واحدة مِن الشرائع الصغرى الستّمائة والثلاث عشرة.»

 

«صحيح. ولكن... هو هكذا. يستمتع المرء بالاقتداء بما يكره.»

 

«اقتدوا بي إذن، بما أنّكم تكرهونني. هذا سيكون أفضل بالنسبة إليكم.»

 

يبتسم الكاتب رُغماً عنه أمام هذا الـمَخرَج مِن يسوع. والناس مَشدوهون لِما يَسمعون، والبَعيدون يَجعلون الأقرب يُعيدون كلام الاثنين.

 

«ولكن أنتَ، والكلام بيننا، ما رأيكَ بالتقمُّص؟»

 

«خطأ. لقد قلتُ ذلك.»

 

«هناك مَن يتبنّون فكرة أنّ الأحياء يأتون مِن الأموات والأموات مِن الأحياء، لأنّ ما يوجد لا يمكنه أن يَفنى.»

 

«بالفعل، إنّ ما هو أزليّ لا يفنى. إنّما قل لي، حسب رأيكَ أنتَ، هل توجد حدود لِذات الخالق؟»

 

«لا، يا معلّم. فمجرد التفكير في ذلك يَنتَقِص مِن قَدره.»

 

«أنتَ قُلتَها. وهل يمكن إذن التفكير بأنّه هو يَسمح بتقمُّص روح لأنّه لا يمكن أن يوجد سِوى عدد محدّد مِن الأرواح؟»

 

«علينا ألّا نفكّر بذلك، ومع ذلك فهناك مَن يفكّر بذلك.»

 

«والأسوأ هو أن التفكير بذلك يتمّ في إسرائيل. ففكرة خلود الروح تلك، التي هي عظيمة بحدّ ذاتها، حتّى ولو اقترنت لدى وثنيّ بخطأ في تَقييم غير صحيح حول كيفيّة حصول هذا الخلود، ينبغي أن تكون كاملة في إسرائيل. على العكس، لدى أولئك الذين يتقبّلونها بموجب تعابير الحجّة الوثنيّة، تصبح فكرة مُنتَقَصة، مُنحطّة، مُخطِئة. فهي ليست عَظَمَة فكرة ما تَظهَر أهلاً للإعجاب لمجرّد ملامستها الحقيقة، وبالنتيجة تشهد لطبيعة الإنسان المعقّدة، كما هي لدى الوثنيّ بسبب حسّه الداخليّ بحياة خالدة لشيء مُبهَم يسمّى النَّفْس، وهي التي تميّزنا عن الحيوانات البرّية. ولكنّها انحطاط لِفِكر، إذ لطالما يَعرف الحكمة الإلهيّة والإله الحقّ، يُصبح مادّيّاً، حتّى في أمر روحيّ بهذا العمق. فليس هناك انتقال للروح سِوى مِن الخالق للكائن، ومِن الكائن للخالق، الـذي نَمثُل لديه بعد الحياة لتلقّي حكم حياة أو موت. تلك هي الحقيقة. وحيث يُرسَل الروح يبقى إلى الأبد.»

 

«ألا تعتقد بالـمَطهَر؟»

 

«نعم. لماذا تَسأَل عن هذا؟»

 

«لأنّكَ تقول: "حيثُ يُرسَل يَبقى". والـمَطهر مؤقت.»

 

«ذلك أنّني في ذهني كنتُ أُشبِّهه بالحياة الأبديّة. فالـمَطهر هو "حياة". مُصغّرة، مُرتَبِطة، ولكنّها تبقى حياة. وحالما تنتهي الإقامة المؤقّتة في الـمَطهر، يكتَسِب الروح ملء الحياة، يَصِل إليها دون حدود ولا روابط. شيئان يدومان: السماء، الهوّة. الجنّة، جهنّم. وهناك فِئَتان: المغبوطون، والـمُدانون. ولكن، مِن الممالك الثلاث الموجودة الآن، لن يعود روح أبداً لِيَلبس جسداً مِن جديد. وذلك حتّى القيامة الأخيرة التي تضع حدّاً للأبد لِتَجسُّد الأرواح في الجسد، الخالد في الخَاضِع للموت.»

 

«والأبديّ، لا؟»

 

«الله أبديّ. الأبديّة تعني عدم وجود بداية ولا نهاية. وهذا هو الله. الخلود هو استمرار الحياة منذ اللحظة التي تبدأ منها الحياة. وذلك هو حال روح الإنسان. هاك هو الفرق.»

 

«تقول: "حياة أبديّة".»

 

«نعم. منذ اللحظة التي يُخلَق فيها المرء ليعيش، يمكنه، بواسطة الروح والنّعمة وإرادته، الوصول إلى الحياة الأبديّة وليس إلى الأبديّة. الحياة تَفتَرِض بداية. فلا يقال "حياة الله" لأنّ الله لا بداية له.»

 

«وأنتَ؟»

 

«أنا، سأحيا لأنّني جسـد كذلك، ولقد وُحِّدَت نَفْس المسيح بالروح الإلهيّ في جسد إنسان.»

 

«يقال عن الله "الحيّ".»

 

«بالفعل إنّه لا يعرف الموت. هو الحياة. الحياة التي لا تَفنى. لا ليس حياة الله، بل الحياة. هذا فقط. إنّها فروق طفيفة، أيّها الكاتب، ولكنّها فروق تَلبَسها الحكمة والحقّ.»

 

«هل تتحدّث هكذا إلى الوثنيّين؟»

 

«ليس هكذا. فلن يُدرِكوا، ولكنّني أُظهِر لهم الشمس. إنّما كأنّني أُظهِرها لصبيّ هو حتّى ذلك الحين أعمى وأبله، وقد وَصَلَ بمعجزة إلى الرؤيـة والذكاء. هكـذا ككوكَب، دون الوصول إلى شرح تركيبه. إنّما أنتم أيّها الإسرائيليّون، فإنّكم لستم عمياناً ولا بُلَهاء. منذ دهور، فتَحَتْ إصبعُ الله لكم عيونَكم وأنارت لكم الروح...»

 

«هذا صحيح، يا معلّم . ومع ذلك نحن عميان وبُلَهاء.»

 

«أنتم جعلتم أنفسكم هكذا. ولا تريدون معجزة ممّن يحبّكم.»

 

«يا معلّم...»

 

«إنّها الحقيقة أيّها الكاتب.»

 

ويَخفض ذاك رأسه ويصمت، ويتركه يسوع ويمضي بعيداً. وأثناء مروره يُلاطِف مارغزيام وابن الكاتب الصغير اللذين شَرَعا يلعبان بحصى متعدّدة الألوان. موعظته هي بالأحرى حِوار مع هذه المجموعة أو تلك. ولكنّها موعظة متواصِلة لأنّها تُزيل كلّ الشكوك، وتُنير كلّ فِكر، تَختَصِر أو تتوسّع في أمور قيلت أو أفكار حَفِظَها أحدهم بشكل جزئي. وهكـذا تمضي الساعات...