ج2 - ف54

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الأول

 

54- (العودة إلى الناصرة بعد فراق يونا)

 

27 / 01 / 1945

 

بالكاد، بالكاد بصيص نور. على باب كوخ بائس، أُسمّيه هكذا لأنّ تسميته بيتاً يُضفي عليه الكثير مِن الفخامة، هناك يوجد يسوع مع أتباعه ويونا وقَرَويّين بائسين آخرين مثله. إنّها ساعة الوداع.

 

يسأله يونا: «سيّدي، ألن أراكَ ثانية؟ لقد حَمَلتَ النور إلى قلوبنا. صلاحكَ حَوَّلَ هذه الأيّام إلى عيد يدوم طوال الحياة. رأيتَ كيف نُعامَل. الحيوانات تُعامَل بأفضل منّا، والأشجار تُعامَل بأكثر إنسانيّة. فهم يُمثّلون المال. ونحن لسنا سوى آلات وأدوات لتأمين المال. ونُستَغَلّ إلى الحدّ الذي نموت فيه مِن شدّة الإنهاك. ولكنّ كلماتكَ لَطَّفَت لنا الجوّ مثل أجنحة ملائكيّة. لقد بدا لنا القُوت أوفَر وأفضَل لأنّكَ تَناولتَه معنا، هذا القُوت الذي لا يُقدّمه حتّى لكلابه. عُد يا سيّدي لتكسره معنا. فقط لأنّكَ أنتَ أجرؤ على قول هذا. على كلّ حال، إن تقديم هكذا مأوى وهكذا طعام يَزدريه حتّى الـمُتسوّل، يُعتَبَر إهانة. أمّا أنتَ...»

 

«أمّا أنا فأجد فيهما عطراً وطَعماً سماويّين لأنّ فيهما الإيمان والحبّ. سوف آتي يا يونا، سوف آتي. ابق أنتَ في مكانكَ كما الحيوان في المربط. وليكن مكانكَ كسُلَّم يعقوب. وفي الحقيقة، إنّ الملائكة تسري مِن السماء إليكَ وهي حريصة على جني استحقاقاتكَ كلّها لِتَحمِلها إلى الله. ولكنّني سوف أعود إليكَ لأنشل روحكَ. ابقوا كلّكم أوفياء لي. آه! أودُّ منحكم سلاماً حتّى بشريّاً، ولكنّني لا أستطيع، إذ عليَّ أن أقول لكم: "تألّموا بعد". وهذا القول يُسبّب الألم لِمَن يحبّ...»

 

«يا سيّد، إذا كنتَ تحبّنا، فلا يعود هناك ألم. سابقاً لم يكن لنا مَن يحبّنا... آه! لو كنتُ أستطيع، أنا على الأقلّ، أن أرى أُمّكَ!»

 

«لا تقلق، سأجلبها إليكَ. عندما يصبح الطقس لطيفاً، سوف أعود معها. لا تُعرّض نفسكَ لعقاب لا إنسانيّ باستعجالكَ لرؤيتها. فلتتعلّم انتظارها مثلما تنتَظِر ظهور نجمة، النجمة الأولى. سوف تَظهَر لكَ بغتة مثل نجمة المساء الأولى التي لم تكن مرئيّة وفجأة تتلألأ في السماء. وفَكِّر أنّها حتّى منذ الآن هي تَسكُب عطايا حبّها عليكَ. الوداع لكم جميعاً. ولِيَحمِكم سلامي مِن الخشونة التي تُقلِقكم. وداعاً يا يونا. لا تبكِ. لقد انتظرتَ سنوات طويلة بإيمان صَبور. أَعِدُكَ الآن بانتظار قصير جدّاً. لا تبكِ. لن أترككَ وحيداً. صلاحكَ، بل طيبتكَ مَسَحَت شقاءات طفولتي. أفلا ينبغي أن يمسح صلاحي شقاءاتكَ؟»

 

«نعم... ولكنّكَ تمضي... وأنا أبقى...»

 

«يا صديقي يونا، لا تَدَعني أمضي مُحبَطاً مِن عدم تمكُّني مِن التخفيف عنكَ...»

 

«لستُ أبكي، يا سيّد... ولكن كيف العمل لأعيش دون رؤيتكَ، خاصّة الآن وأنا أَعلَم أنّكَ حيّ؟»

 

يُداعِب يسوع وجه العجوز الشاحب ثمّ يبتعد. ولكنّه يقف عند حدود الساحة البائسة، ويَفتَح ذراعيه مباركاً القرية، ثمّ يبتعد.

 

«ما الذي فعلتَه؟» يَسأل سمعان الذي لاحَظَ الحركة غير الاعتياديّة.

 

«لقد طَبَعتُ سِمَة على كلّ الأشياء، كي لا يتمكّن الشياطين، مِن خلال إساءتهم إليها، الإساءة لهؤلاء المساكين. لم يكن أمامي فِعل أيّ شيء آخر.»

 

«يا معلّم... فلتتقدّم بسرعة. أريد قول شيء لكَ وحدكَ، فلا يَسمَعه أحد.» ويَنفَصِلون عن المجموعة، ويتحدّث سمعان: «أريد أن أقول لكَ إنّ لدى لعازر صلاحية استخدام المبلغ لنجدة كلّ الذين، باسم يسوع، يَلتَجِئون إليه. أفلا نستطيع إعتاق يونا؟ هذا الرجل المنهوك القوى، والذي لم يعد لديه سوى فرح امتلاككَ؟ فلنهبه له. عمله هنا، ماذا تريده أن يكون؟ عندما يكون حرّاً يصبح تلميذكَ في هذا السهل الجميل والـمُنعَزِل. فهنا، الأغنى مِن أبناء إسرائيل يملكون الأراضي الممتازة، ويَستَخدِمون أناساً بأجور مُجحِفة، متطلِّبين عمل مائة مِن واحد. أعرف ذلك منذ سنوات. هنا يمكنكَ الإقامة قليلاً فقط، ذلك أنّ طائفة مِن الفرّيسيّين هي التي تُهيمِن، ولستُ أظنّهم سيكونون أصدقاء لكَ أبداً. وأشقى بني إسرائيل هم هؤلاء العاملون المظلومون والمحرومون مِن النور. لقد سمعتَ ذلك بنفسكَ. حتّى أثناء الفصح لا يَدَعونهم يُصَلّون بسلام، بينما أرباب العمل القُساة، وبحركات فيها الكثير مِن التمثيل، يضعون أنفسهم في صف المؤمنين الأوّل. فعلى الأقلّ سيكون لهم فرح معرفة أنّكَ هنا، سماع كلامكَ يتردّد على لسان مَن لن يُغَيِّر فيها حرفاً. إذا كان هذا رأيكَ أيضاً يا معلّم، فأَصدِر أنتَ أمركَ ولعازر سوف يُنفّذه.»

 

«يا سمعان، أنا أَعلَم لماذا تجرَّدتَ مِن كلّ شيء. أفكار الإنسان لستُ أجهلها، وقد أحببتُكَ أيضاً لهذا السبب. وبجعلكَ يونا سعيداً تُسعِد يسوع. آه! يا للضِيق أن أرى صالحاً يتألّم ويعاني! فَشَرطَيّ الفقر واحتقار العالم لا يضايقني إلّا لهذا. لو كان يهوذا يسمعني لقال: "أولستَ أنتَ كَلِمَة الله؟ قُل كَلِمَة وتصبح الحجارة ذهباً وخبزاً للمساكين". فيُعاوِد نَصب فخّ الشيطان. إنّي أودُّ لو أُشبِع الجّياع، إنّما ليس بالطريقة التي يريدها يهوذا. فإنّكم لستم بَعد على درجة مِن الأهليّة لإدراك عُمق ما أقول. ولكنّني أقول ذلك لكَ: لو كان الله هو الذي يُدبّر كلّ الأمور، لكان ارتَكَبَ عمليّة سَلب تجاه أصدقائه، أي لكان قد حَرَمَهم مِن إمكانيّة أن يكونوا رُحَماء وأن يطيعوا بالتالي وصيّة الحبّ. ينبغي لأصدقائي أن يَتَّسِموا بسِمة الله هذه، التي تُوحّدهم به: سِمة الرحمة المقدّسة التي تتبدّى بالأقوال والأفعال. وبؤس الآخرين يُهيّئ لأصدقائي أسلوباً لممارستها، هل أدركتَ هذه الفكرة؟»

 

«إنّها فكرة عميقة، أتأمّل بها وأَتواضَع لإدراكي كم أنا غليظ الفهم وكم الله عظيم، هذا الذي يريدنا، مع كلّ صفاته الأكثر وداعة، فيدعونا أبناءه. يتكشّف الله لي بكمالاته العديدة مِن خلال كلّ هذا النور الذي تَضَعه في قلبي. ويوماً إثر يوم، كَمَن يتقدّم في مكان مجهول، أتوسّع في معرفة هذه الحقيقة العظيمة التي هي الكمال الذي يريد أن يدعونا "أبناء". يبدو أنّني أرتفع مثل نسر أو أغوص مثل سمكة في عُمقَين بلا نهاية مثل السماء والبحر، ومهما ارتَفَعتُ أكثر أو غُصتُ أكثر، فلا ألمس الحدود أبداً. ولكن ما يكون الله إذن؟»

 

«الله هو الكمال بعيد الـمَنال، الله هو البهاء الأَكمَل، الله هو القُدرة اللامتناهية، الله هو الجَّوهَر غير الـمُدرَك، الله هو الصَّلاح الذي لا يمكن تجاوزه، الله هو الرحمة التي لا تَفنَى، الله هو الحكمة التي لا تُقاس، الله هو الحبّ الذي أَضحَى الله. إنّه الحبّ! إنّه الحبّ! أنتَ قلتَ إنّكَ كلّما عرفتَ الله أكثر في كماله، كلّما بدا لكَ أنّكَ ترتفع أو تغوص في عُمقَين لا نهاية لهما، للازورد لا ظلّ له... ولكن عندما ستُدرِك ماذا يعني أنّ الحبّ أضحى الله، لا تعود ترتفع أو تغوص في اللازورد، إنّما في زوبعة مُبهِرَة مِن اللَّهَب، وسوف تُسحَب بغبطة تكون لكَ موتاً وحياة. سوف تمتَلِك الله امتلاكاً كاملاً، عندما تصل بإرادتكَ إلى إدراكه واستحقاقه. عندئذ سوف تَثبت في كماله.»

 

«ربّي!» سمعان مُنسَحِق.

 

فترة صمت ويَبلُغان الطريق. يقف يسوع في انتظار الآخرين. وعندما يتجمّعون يجثو لاوي: «مِن المفروض أن أترككَ يا معلّم، إنّما خادمكَ يرجوكَ: خذني إلى أُمّكَ. هذا يتيم مثلي، فلا ترفض لي ما تَهبه إيّاه. دعني أرى وجه أُمّ...»

 

«تعال، فكل ما يُطلَب باسم أُمّي أعطيه باسم أُمّي...»

 

يسوع وحيد، يسير مُسرِعاً بين أشجار الزيتون الـمُحمَّلة بحبّات زيتون صغيرة كاملة الشكل. الشمس التي تميل إلى الغروب ترشق أوراق الأشجار الثمينة والمسالمة بأشعّتها التي لا تصل إلّا إلى جعل القليل منها يَختَرِق الأغصان المتراصّة. بينما الطريق الرئيسيّة على العكس مِن ذلك، فهي محصورة بين مُنحَدَرَين، وهي كالشريط الترابيّ ذي النور الـمُبهِر.

 

يتقدّم يسوع ويبتسم. يَصِل إلى مكان شديد الانحدار... ويبتسم ابتسامة أكثر حيويّة. ها هي ذي الناصرة... تبدو وكأنّها ترقص للشمس بقدر ما يُغلّفها نورها. يَنزِل يسوع بسرعة أكبر. يَصِل الآن إلى الطريق، دون أن يُعير للشمس اهتماماً. تَحسَبه، لسرعته، يطير، ومعطفه الذي يحمي رأسه يَنتَفِخ ويُرَفرِف على جانبيه وخلفه. الدرب صحراويّ وصامت حتّى يَصِل إلى مَشارِف البيوت. وهنا يُسمَع صوت وَلَد أو امرأة صادراً مِن داخل البيوت أو الحدائق التي ترمي ظلالها حتّى على الطريق. يستغلّ يسوع بُقَع الظلّ هذه لتفادي الشمس الحارقة. ينعطف على درب شبه ظليل، حيث تُوجَد نساء قد اجتمعن حول ماء بئر؛ فيحيّينه كلهنّ تقريباً بأصواتهن الحادّة لعودته الميمونة.

 

«السلام لكنّ جميعاً... إنّما اصمتن لأنّني أودُّ مفاجأة أُمّي.»

 

«لقد ذَهَبَت أخت زوجها لإيصال إناء ماء عذب، إنّما عليها أن تعود، فلقد باتتا دون ماء. ذلك أنّ النبع قد جفّ أو إنّ المياه تضيع في الأرض المحروقة قبل وصولها إلى حديقتكَ. لا ندري. فمريم التي لحلفى كانت تقول ذلك للتوّ. ها هي ذي تأتي.»

 

تأتي أُمّ يوضاس ويعقوب حاملة جرّة على رأسها وواحدة في كلّ يد. وتَصيح وهي لم تَرَ يسوع بعد: «هكذا تسير الأمور بشكل أسرع، فمريم حزينة جدّاً لأنّ غِراسها تموت مِن العطش. فهي كذلك غِراس يوسف ويسوع، ويكاد قلبها يُنزَع منها لرؤيتها إيّاها تَذوي.»

 

«أمّا الآن وحينما تراني...» يقولها يسوع وهو يَظهَر مِن خلف الجمع.

 

«آه! يا يسوعي! مبارك أنتَ! سأقول لها ذلك...»

 

«لا، أنا ذاهب إليها بنفسي. أعطِني الجِّرار.»

 

«الباب نصف مفتوح. مريم في الحديقة. آه! كم ستكون سعيدة! كانت تتحدّث عنكَ هذا الصباح. إنّما أن تأتي تحت الشمس هكذا! إنّكَ تتصبّب عَرَقاً! أأنتَ وحدكَ؟»

 

«لا، معي أصدقاء. ولكنّي سبقتُهم لأرى أُمّي أوّلاً. ويوضاس؟»

 

«إنّه في كفرناحوم. وهو يذهب إليها كثيراً...» ولا تضيف مريم أيّ شيء. ولكنّها تبتسم وهي تمسح بمنديلها وجه يسوع الذي يتصبّب عَرَقاً.

 

الجِّرار جاهزة. يحمل يسوع اثنتين على كتفيه بشكل مُتَوازِن، مُستَخدِماً حِزامه، ويحمل الثالثة بيده. يمضي مسرعاً. يَصِل إلى البيت، يَدفَع الباب، يَلِج الغرفة الصغيرة التي تبدو مظلمة لدى الدخول إليها بسبب الشمس. يَرفَع رويداً رويداً الحجاب الذي يُغلِق مدخل الحديقة ويُراقِب. مريم واقفة قرب وردة وهي تدير ظهرها للبيت، وتَرثي للغرسة العطشى. يضع يسوع الجِّرار أرضاً، ويرن النحاس بارتطامه بحصاة.

 

«هل عُدتِ يا مريم؟» تقولها الأُمّ دون أن تلتَفِت. «تعالي، تعالي وانظري هذه الوردة! وهذه الزنابق المسكينة! سوف تموت كلّها إذا لم نسعفها. هاتِ أيضاً الدَّعامات لِنَصب هذا الساق الذي يهوي.»

 

«سأجلب لكِ كلّ شيء يا أُمّي.»

 

تَلتَفِت مريم فجأة. تبقى عيناها لبرهة مُحَملِقَتَين، ثمّ تَهرَع مُطلِقَة صرخة وهي تمدّ ذراعيها صوب ابنها الذي يَفتَح، هو الآخر، ذراعيه، وينتظرها بابتسامة مِلؤها الحبّ.

 

«آه! يا بنيّ!»

 

«أُمّي! حبيبتي!»

 

يَفتَحَان قلبيهما طويلاً وبهدوء، مريم سعيدة للغاية، لدرجة أنّها لم ترَ ولم تتحقّق بأنّ يسوع يتصبّب عَرَقاً. ولكنّها تُلاحِظ ذلك بعدئذ: «لماذا يا بُنيّ في مثل هذه الساعة؟ إنّكَ أحمر كالأرجوان، ويقطر منكَ العَرَق مثل إسفنجة. تعالَ، تعالَ إلى الداخل. لتجفّفكَ أُمّكَ وتجعلكَ تَغتَسِل. وسأجلب لكَ بعدها ثياباً جديدة وحذاء نظيفاً. ولكن بُنيّ! بُنيّ! لماذا تسير هكذا تحت الشمس؟ الغِراس تموت مِن شدّة الحرارة، وأنتَ، يا زهرتي، على الطرقات؟»

 

«لِأَصِل إليكِ بأسرع وقت، يا أُمّاه!»

 

«آه! بُنيّ! عزيزي! هل أنتَ عطشان؟ آه! طبعاً. سأُحضِر لكَ...»

 

«عَطَشي هو لِقُبلَتكِ يا أُمّي، لملاطفتكِ. دعيني أُبقي رأسي هكذا على كتفكِ، كما عندما كنتُ طفلاً... آه! يا أُمّي! كم أنا مشتاق إليكِ!»

 

«ولكن قُل لي أن آتي إليكَ، يا بُنيّ، وأنا آتي. ماذا نَقَصَكَ أثناء غيابي؟ أهي أكلة مُفضّلة؟ ثياب نظيفة؟ سرير مرتّب؟ آه! قل لي يا فَرَحَي، ماذا نَقَصَكَ؟ خادمتكَ، ربّي، ستعمل على تَدَبُّر الأمر هناك.»

 

«لا شيء سِواكِ...»

 

يسوع الذي دَخَلَ، وقد أمسَكَت أُمّه بيده، يَجلس على صندوق قُرب الجدار، في مواجهة مريم التي يضمّها بذراعيه مُسنِداً رأسه على صدرها، ويُقَبِّلها بين الفينة والفينة. وهو يَنظُر إليها الآن بإمعان. «دعيني أَنظُر إليكِ، وليمتلئ ناظِري منكِ يا أُمّي القدّيسة!»

 

«الثوب أوّلاً. أن تبقى هكذا وهو يَعتَصِر عَرَقاً، يؤذيكَ. هلمّ.»

 

يسوع يطيع. وعندما يعود بثياب نظيفة يُعاوِد النِّقاش الـمُفعَم عذوبة.

 

«أتيتُ مع تلاميذ وأصدقاء، وقد تركتُهم في غابة ملقا. سوف يأتون غداً عند الفجر. أنا... لم أكن أستطيع الانتظار. أٌمّي!...» ويُقَبِّل يديها.

 

«مريم التي لحلفى قد انسَحَبَت لتتركنا وحدنا. هي أيضاً أدرَكَت مدى عطشي إليكِ. غداً... غداً، ستكونين لأصدقائي، وأنا لأهل الناصرة. إنّما هذا المساء فأنتِ لي الصديقة وأنا لكِ كذلك. لقد جَلَبتُ لكِ... آه! يا أُمّي: لقد وَجَدتُ رُعاة بيت لحم، وجَلَبتُ لكِ اثنين منهم. إنّهما يتيمان وأنتِ أُمّهما! أُمّ الجميع؛ وبالأخصّ الأيتام. وجَلَبتُ لكِ أيضاً واحداً، هو في حاجة إليكِ ليتمالك نفسه. وآخر، بارّ هو وقد عانى كثيراً. وثمّ يوحنّا... أحمِل لكِ ذكرى مِن إيلي وإسحاق وطوبيّا، الآن يُدعَون متّياس ويوحنّا وشمعون. يونا هو الأكثر بؤساً. سوف آخذكِ إليه. لقد وَعَدتُه بذلك. أمّا الآخرون فإنّي ما زِلتُ أبحث عنهم. صموئيل ويوسف هُما في سلام الله.»

 

«هل كنتَ في بيت لحم؟»

 

«نعم يا أُمّي، وقد أَخَذتُ التلاميذ الذين كانوا معي إلى هناك. ولقد جلبتُ لكِ هذه الزهرات الصغيرة التي نَبَتَت بين أحجار مدخل البيت.»

 

«آه!» وتأخذ مريم السُّوق اليابسة وتُقَبِّلها. «وحنّة؟»

 

«لقد قُتِلَت أثناء مذبحة هيرودس.»

 

«آه! المسكينة! لقد كانت تحبّكَ كثيراً!»

 

«سكّان بيت لحم عانوا كثيراً، ولم يكونوا كما ينبغي مع الرُّعاة. إلاّ أنّهم عانوا الكثير...»

 

«ولكن هل كانوا طيّبين معكَ؟»

 

«نعم، لذا ينبغي الإشفاق عليهم. فالشيطان يحسدهم على صلاحهم ويدفعهم إلى الشرّ. وقد كنتُ أيضاً في الخليل. الرُّعاة مُضطَهَدون...»

 

«آه! أإلى هذه الدرجة؟»

 

«نعم. ولقد ساعَدَهم زكريّا، وبمساعدته حَصَلوا على عمل وقُوت. حتّى ولو كان أرباب عملهم قُساة. ولكنّهم نفوس بَرَرَة، ولقد جَعَلوا مِن الاضطهادات والجِّراح صَرح قداسة. لقد جَمَعتُهم وشَفَيتُ إسحاق و... مَنَحتُ اسمي لمولود جديد... في يافا، حيث يَقطن إسحاق مريضاً وحيث عاد إلى الحياة، هنالك الآن مجموعة مِن البَرَرَة يُدعَون مريم ويوسف ويسّى...»

 

«آه! اسمكَ!»

 

«واسمكِ واسم الصَّالح البارّ. وفي اسخريوط، مَوطِن أحد التلاميذ، مات على صدري إسرائيليّ مؤمن... مِن فرحه بامتلاكي... وثمّ... آه! كَم مِن الأشياء لديَّ أُخبِركِ بها يا صديقتي العظيمة، يا أُمّي اللطيفة! إنّما في البداية أرجوكِ الرأفة كثيراً بالذين سيأتون غداً. اسمعي: إنّهم يحبّونني... ولكنّهم ليسوا كامِلين. أنتِ معلّمة الفضيلة... آه! أُمّي، ساعِديني في جعلهم صالحين... أريد أن أُخَلِّصهم جميعاً...» ويترك يسوع نفسه ينزلق عند قدمي مريم. وتبدو هي الآن في عَظَمَتها كأُمّ.

 

«وَلَدي! ماذا تريد أن تفعل أُمّكَ المسكينة أكثر منكَ؟»

 

«تَقديسهم... فضيلتكِ تُقَدِّس. لقد تَعَمَّدتُ أن أجلُبهم إليكِ أُمّي... يوماً ما، سوف أقول لكِ: "تعالي". لأنّه حينئذ سيكون مِن الضروريّ تقديس النُّفوس، لكي أستطيع أن أَجِد فيهم إرادة الفِداء. وأنا وحدي لن أتمكّن... إنّما صمتكِ سوف يكون فَعّالاً مثل كلامي. وسيكون طُهركِ داعماً لقُدرتي وسلطاني... وجودكِ سيُبعِد الشيطان... وابنكِ، يا أُمّي يَجِد القوّة بعلمه أنّكِ قريبة منه. سوف تأتين، أليس كذلك أيتّها الأُمّ العَذبَة؟»

 

«يسوع! يا ابني الحبيب! لا أُحِسُّ بأنّكَ سعيد... ما بكَ يا وَليد قلبي؟ العالم يقسو عليكَ؟ لا؟ عزائي بأن أُصدّق ذلك... ولكن... آه! نعم، سوف آتي. حيثما تريد، كما تريد، ومتى تريد. حتّى الآن، تحت الشمس، تحت النجوم، وكذلك في الصقيع وفي العواصف. هل تريدني؟ ها أنا ذا.»

 

«لا، ليس الآن. إنّما يوماً ما... كَم البيت لطيف! ومداعبتكِ! دعيني أنام هكذا، رأسي على ركبتيكِ. إنّني تَعِب جدّاً! إنّني ما زلتُ ابنكِ الصغير...» وبالفعل ينام يسوع، فهو تَعِب ومُنهَك، وهو جالس على الحصيرة ورأسه على ركبتي أُمّه التي تُداعِب شعره وهي في غاية السعادة.