ج4 - ف177
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الثاني
177- (لا شيء يضيع في التّدبير المقدّس للحبّ الكَونيّ)
23 / 10 / 1945
لستُ أدري إذا ما كان اليوم ذاته، ولكنّني أتوقّع ذلك، بسبب وجود بطرس على طاولة عائلة الناصرة. تُشارِف وجبة الطعام على الانتهاء، وتَنهَض سِنْتيخي لتضع على الطاولة التفّاح والجوز واللوز والعنب. فقد انتهوا مِن العشاء، فالوقت مساء والمصابيح أُضيئَت.
وعلى ضوء المصابيح يدور الحِوار، بينما تجلب سِنْتيخي الفاكهة. يقول بطرس: «هذا العام، سوف نُضيء واحداً إضافيّاً، وسيظل، بعد ذلك، دائماً، مِن أجلكَ يا بنيّ. ذلك أنّنا نريد أن نضيئه نحن مِن أجلكَ حتّى ولو كنتَ هنا. إنّها المرّة الأولى التي نضيئه فيها مِن أجل وَلَد...» ويتأثّر سمعان قليلاً وهو ينهي كلامه بقوله: «بالتأكيد... لو كنتَ أنتَ هناك، كان سيبدو ذلك أبهى...»
«العام الماضي، كنتُ أنا، يا سمعان، التي كانت تتنهّد مِن أجل الابن البعيد جدّاً، ومعي مريم التي لحلفى وسالومة، وكذلك مريم التي لسمعان، في بيتها في إسخريوط، وأُمّ توما...»
«آه! أُمّ يهوذا! سيكون ابنها معها هذه السنة... ولكنّني لستُ أظنُّها أكثر سعادة... فلا نفكّرنّ بهذا... كنّا عند لعازر. كَم مِن الأنوار!... كانت تبدو وكأنّها سماء مِن الذهب والنار. هذا العام، لعازر لديه أخته... ولكنّني متأكّد مِن أنّهم يتنهّدون لمجرّد تفكيرهم أنّكَ لستَ هناك. وفي العام القادم، أين سنكون؟»
«أنا، سأكون بعيداً جدّاً...» يُتمتِم يوحنّا.
يلتفت بطرس لِيَنظُر إليه، فهو إلى جانبه، ويوشِك أن يَسأَله عن أمر ما، إنّما، لحسن الحظ، يعرف كيف يتوقّف على أَثَر نَظرة مِن يسوع.
يَسأَل مارغزيام: «أين ستكون؟»
«برحمة الربّ، آمُل أن أكون في حضن إبراهيم...»
«آه! تريد أن تموت؟ ألا تريد أن تُبشِّر؟ ألا تتحسّر على الموت قبل التبشير؟»
«يَجِب أن يَخرُج كلام الربّ مِن شفاه مقدّسة. كثير عليَّ أنّه سَمَح لي أن أسمعها وأن أُفتَدى بفضلها. كان سيُسعدني ذلك... إنّما فات الأوان...»
«ومع ذلك ستُبشِّر. ولقد فَعَلتَها، طالما كنتَ تلفت الانتباه إليكَ. لأجل ذلك ستُدعى التلميذ الـمُبشِّر، حتّى ولو لم تسافر لِتَنشُر البُشرى الحَسَنة، فستكون لكَ في الحياة الأخرى المكافأة المحفوظة للمُبشِّرين بي.»
«إنّ وعدكَ يَجعَلني أشتهي الموت... كلّ دقيقة مِن هذه الحياة يمكنها أن تُخبّئ شَركاً، وأنا، على ضعفي، قد لا أتمكن مِن تحاشيه. وإن تَقبَّلَني الله، راضياً عمّا أَنجَزتُ، ألا يكون هذا جُوداً مِن الواجب مباركته؟»
«الحقّ أقول لكَ إنّ الموت سيكون جُوداً فائقاً بالنسبة إلى كثيرين، ممّن سيعرفون بهذه الطريقة إلى أيّة درجة يُصبِح الإنسان وكأنّ به مسّاً شيطانيّاً، للوصول إلى درجة يواسيهم فيها السلام بتلك المعرفة، ويُبدّلونها بأوشعنا، لأنّها سوف تتّحد بالفرح الذي لا يوصف، الناجم عن التحرّر مِن اليمبس.»
«وفي الأعوام القادمة، أين سنكون يا سيّدي؟» يَسأَل الغيور باهتمام.
«حيث يشاء الأزليّ. هل تريد أن تعرف مُسبقاً الأزمنة المتقدّمة جدّاً، عندما لا نكون أكيدين مِن اللحظة التي نعيشها، وإذا ما سيُقَدَّر لنا أن نُكملها؟ عدا ذلك، مهما يكن المكان الذي ستقام فيه أعياد الأنوار القادمة، فإنّه سيكون مقدّساً دائماً، إذا كنتم فيه لإتمام مشيئة الله.»
«إذا كنّا؟ وأنتَ؟» يَسأَل بطرس.
«أنا سأكون على الدوام حيث يكون الذين أحبّهم.»
لم تتكلّم مريم أبداً، ولكنّ عينيها لم تتوقّفا لحظة عن التحديق في وجه الابن... تلتفت لدى ملاحظة مارغزيام الذي يقول: «أُمّاه، لماذا لم تَضَعي فطائر العسل على الطاولة؟ يسوع يُحبّها، وهي مفيدة ليوحنّا مِن أجل بلعومه. ثمّ أبي كذلك يحبّها...»
«وكذلك أنتَ.» يُكمِل بطرس.
«بالنسبة إليَّ... هي كأنّها لم تَكُن. لقد وَعَدتُ...»
«ولهذا، يا حبيبي لم أضعها...» تقول مريم وهي تلاطفه، فمارغزيام بينها هي وسِنْتيخي في طرف الطاولة، بينما الرجال الأربعة في الجهة المقابلة.
«لا، لا. يمكنكِ أن تأتي بها مِن أجل الجميع. بل عليكِ أن تجلبيها، وأنا سوف أُقدِّمها للجميع.»
تأخذ سِنْتيخي مصباحاً، تَخرُج وتعود حاملة الفطائر. يأخذ مارغزيام الوعاء، ويبدأ بالتوزيع. الفطيرة الأجمل، مُذهَّبة، مُنتَفِخة، وكأنّ معلّم حلويات قد صَنَعَها، هذه يُقدِّمها ليسوع. أُخرى، تامّة الصنع كذلك، يُقدِّمها إلى مريم. ثمّ يأتي دور بطرس، سمعان، وسِنْتيخي. أَمّا كي يُقدِّمها إلى يوحنّا، فإنّ الصبيّ يَنهَض ويمضي إلى جانب المربّي العجوز والمريض، ويقول له: «لكَ حصّتكَ وحصّتي، وفوقها قُبلة مِن أجل كلّ ما تُعلِّمني.» ثمّ يعود إلى مكانه واضعاً الوعاء في منتصف الطاولة، ويتكتّف.
«إنّكَ تجعلني أغُصّ في بَلع هذه الفطائر الممتعة.» يقول بطرس وهو يَرى مارغزيام يمتنع بحقّ عن تناولها. ويُضيف: «أقلّه قطعة صغيرة. خُذ، مِن حصّتي، فقط كي لا تموت مِن الاشتهاء. إنّكَ تُعاني كثيراً... يسوع يَسمَح لكَ بذلك.»
«ولكنّي إن لم أكن أعاني، فلا يكون لي أيّ استحقاق، يا أبي. بالضبط لأنّني كنتُ أَعلَم أنّ هذا سيجعلني أعاني، ارتضيتُ هذه التضحية... فيما عدا ذلك... أنا مسرور جدّاً لِفِعلي إيّاها، رغم أنّ الفطائر تبدو لي مليئة عسلاً. أشعُر بطعمها في كلّ مكان، يبدو أنّني أتنفّسه مع الهواء...»
«ذلك لأنّكَ تموت مِن الاشتهاء.»
«لا، بل لأنّني أَعلَم أنّ الله يقول لي: "أَحسَنتَ يا بنيّ".»
«كان المعلّم سيرضيكَ، حتّى بدون هذه التضحية. إنّه يحبّكَ كثيراً!»
«نعم، إنّما ليس مِن العدل، إذا كنتُ محبوباً، أن أستغلّ هذا الحبّ. هو يقول ذلك، فضلاً عن أنّ أجراً عظيماً في السماء هو، مِن أجل كأس ماء يُمنح باسمه. أظنُّ أنّه إذا كان عظيماً مِن أجل كأس ماء يُعطى لآخر باسمه، فسيكون كذلك مِن أجل فطيرة عسل نأباها حُبّاً بأخ. هل أنا على خطأ يا معلّم؟»
«بل إنّكَ بحكمة تتكلّم. كان بإمكاني أن أهبكَ ما كنتَ تطلب منّي مِن أجل راحيل الصغيرة، حتّى بدون تضحيتكَ، لأنّ ذلك فِعل حَسَن هو، وكان قلبي يريده. ولكنّني فعلتُهُ بمزيد مِن الفرح، لأنّكَ ساعَدتَني. حبّ إخوتنا لا يقف عند حدّ الوسائل والحدود البشريّة، ولكنّه يَرقى ويَسمو أكثر بكثير. وعندما يكون كاملاً، فإنّه يُلامِس عرش الله، ويَذوب في محبّته اللامتناهية وصلاحه. اتّحاد القدّيسين هو بالضبط هذا العمل المتواصل، وكما هو متواصل، وبطرق شتّى، هكذا يَعمَل الله، لِيَمنَح العَون للإخوة، إنْ لاحتياجاتهم المادّيّة، أو الروحيّة، أو للاثنين معاً، كما هو الحال بالنسبة إلى مارغزيام الذي، بحصوله على شفاء راحيل، يُداوي مرضها، وفي الوقت ذاته يُداوي روح العجوز يُوَنّا المنهار، ويؤجّج ثقة بالربّ في قلبيهما تتعاظم باستمرار. فحتّى ملعقة عسل نضحي بها، يمكنها أن تُساعِد في إعادة السلام والرجاء لمحزون، كالفطيرة أو طعام آخر، يَحرُم المرء نفسه منه بهدف الحبّ، يمكنه أن يؤمّن رغيفاً، ممنوحاً بصورة معجزة، لجائع بعيد، سيبقى على الدوام مجهولاً بالنسبة إلينا؛ وكلمة غضب، حتّى ولو كان الغضب عادلاً، إذا ما ضُبِطَت بروح التضحية، يمكنها أن تَمنَع جريمة بعيدة، والامتناع عن قطف فاكهة، بفعل الحبّ، يمكنها المساهمة في مَنح فكرة نَدَم وتوبة لسارق، وتمنع بذلك حدوث سرقة. لا شيء يضيع في حساب الحبّ الكونيّ المقدّس. إنّ إحراق شهيد في مِحرقة ليس أعظم مِن تضحية طفل بطوليّة أمام صحفة فطائر. أقول لكم إنّ محرقة الشهيد أساسها في الغالب التربية البطوليّة التي تلقّاها منذ الطفولة مِن أجل حبّ الله والقريب.»
«إذن، هو حقّاً مفيد أن أعمل دائماً التضحيات، مِن أجل الزمن الذي نكون فيه مُضطَهَدين.» يقول مارغزيام بيقين.
«مُضطَهَدين؟» يَسأَل بطرس.
«نعم. ألا تتذكّر أنّه قال ذلك؟ "سوف تكونون مُضطَهَدين مِن أجلي". أنتَ قلتَها لي، عندما أتيتَ للمرّة الأولى وحيداً، لتبشّر في بيت صيدا، أثناء الصيف.»
«إنّ هذا الصبيّ يتذكّر كلّ شيء.» يقول بطرس ممتلئاً إعجاباً.
يَنتَهي العشاء. يَنهَض يسوع، يُصلّي للجميع ويُبارِك. ثمّ، بينما تذهب النساء لجلي الأواني، يَجلس يسوع مع الرجال في إحدى زوايا الغرفة، وينحت قطعة خشب، لتصبح تحت نظر مارغزيام المتعجّب نَعجَة...