ج6 - ف100

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السادس/ القسم الأول

 

100- (معجزة التقاط السنابل في السهل)

 

27 / 09 / 1944

 

يمرّ يسوع مع تلاميذه عبر ريف جعلته المحاصيل أشقراً. الطقس حارّ جدّاً رغم أنّ اليوم ما يزال في أوّله. الحاصدون يحصدون الأثلام المليئة بالسنابل، جاعلين فراغات في ذهب القمح. المناجل تلمع لحظة في الشمس، ثمّ تغيب في السنابل، لتعود فتظهر للحظة أخرى مِن الطرف الآخر ليلتوي الحصيد وينام كما لو كان قد تَعِب مِن الوقوف لعدّة أشهر على الأرض التي ألهَبَتها الشمس.

 

تمرّ نساء تضمّ الحِزَم خلف الحاصدين، والريف منشغل كلّه في هذا العمل. الحصاد كان جيّداً والحاصدون مسرورون.

 

عندما تمرّ الجماعة الرسوليّة على مدى الطريق، وعندما يصبح الحاصدون قريبين، يقطع البعض عملهم للحظة. يستندون على مناجلهم، يمسحون عرقهم وينظرون، كذلك النساء اللواتي يجمعن الحِزَم. في ثيابهنّ الفاتحة، والرأس مغطى بنسيج أبيض، يَظهَرن كالزهور التي تموج على الأرض المجرّدة مِن القمح، خشخاشاً وترنجاناً وأقحواناً. والرجال بالجلابيب القصيرة، القاتمة أو المصفرّة، أقلّ لفتاً للانتباه. فليس لديهم مِن اللون الفاتح سوى نسيج معقود بخيط على الرأس ويتدلّى على العنق والخدّين. وفي هذا البياض تبدو الوجوه التي سَمَّرتها الشمس أكثر سواداً.

 

عندما يَرى يسوع أنّهم لاحظوا وجوده، يمرّ محيّياً: «سلام وبركة الله معكم.» ويجيب الآخرون: «ولتحلّ عليكَ بركة الله.» أو ببساطة: «ولتكن معكَ كذلك.»

 

البعض، الأكثر ثرثرة، يجذبون انتباه يسوع إلى المحاصيل قائلين: «كان المحصول جيّداً هذا العام، انظر إلى هذه السنابل الممتلئة حَبّاً، وكم هي كثيفة في الأثلام، نتعب في جنيها، ولكنّه الخبز!...»

 

«اشكروا الربّ على ذلك. وتَعلَمون أنّ ليس بالكلام، بل بالأفعال، ينبغي أن يكون الشكر. كونوا رحماء مع هذا المحصول، مفكّرين أنّ الكلّيّ القدرة كان رحيماً بمنح الندى وشمسه لحقولكم، ليكون لكم الكثير مِن الحبوب. تذكّروا وصيّة تثنية الاشتراع. لدى جني الخيرات التي وهبكم إيّاها الله، فكّروا بمن ليس لديه شيء، واتركوا له بعضاً ممّا هو لكم. وهو فِعل مقدّس هذا الذي هو محبّة لقريبكم، والذي يراه الله. يَجدُر ترك بعض منه مِن أن يُلمَّ جميعه بِنَهَم. فالله يُبارِك الكرماء. العطاء أفضل مِن التلقّي لأنّ ذلك يُرغِم الله العادل على منح الذي رَحَم مكافأة أكثر وفرة.»

 

يَمرّ يسوع ويُكرّر نصائحه في المحبّة.

 

تُصبح الشمس أكثر حرارة. يتوقّف الحصّادون عن العمل. القريبون منهم مِن بيوتهم يدخلونها، والآخرون يستظلّون الشجر، حيث يستريحون ويأكلون وينامون.

 

يسوع كذلك يحتمي بِغَيضة كثيفة للغاية داخل الضيعة، ويجلس على العشب بعد الصلاة وتقديم الطعام البسيط مِن خبز وجبن وزيتون، فيوزِّع الحصص وهو يتحدّث إلى أتباعه.

 

هناك ظلّ، إنعاش وصمت عميق. صمت أوقات الصيف المشمسة. صمت يدعو إلى النُّعاس، وبالفعل الغالبيّة ينامون بعد الطعام.

 

يسوع، لا. يأخذ قسطاً مِن الراحة مُسنِداً كتفيه إلى شجرة، بينما هو مهتمّ بعمل بعض الحشرات على الزهور. في لحظة ما يشير إلى يوحنّا ويهوذا الاسخريوطيّ وواحد مِن الأكبر سنّاً يناديه باسم برتلماوس، فيحيطون به، ويقول: «انظروا إلى هذه الحشرة الصغيرة، إلى العمل الذي تقوم به. انظروا: أنا أراقبها منذ برهة. غايتها انتزاع العسل الذي يملأ كأس الزهرة الصغير للغاية، وإذ لم تستطع إلى ذلك سبيلاً فإنّها تمدّ إحدى قوائمها ثمّ الأخرى تغمسها في العسل ثمّ تتناوله. وفي خلال برهة أفرَغَته. انظروا كم العناية الإلهيّة مذهلة! غير جاهلة أنّ بغير بعض الأعضاء، لا يمكن للحشرة، المخلوقة لتكون زبرجداً طائراً فوق خُضرة الحقول، أن تتغذّى، وها هي قد تزوّدت بوبر صغير على قوائمها. هل ترونها؟ أنتَ يا برتلماوس؟ لا؟ انظر. الآن سأُمسِك بها لأريكَ إيّاها بعكس الضوء.» وبنعومة يُمسِك بالخنفساء التي تبدو مِن الذهب المصبوغ بالبنّي ويقلبها على يده. تتظاهر الخنفساء بالموت ويلاحظ الثلاثة قوائمها. ثمّ تُحرّك قوائمها لتهرب. بالطبع لم تستطع. لكنّ يسوع يساعدها ويضعها على قوائمها. فتسير على كفّه لتصل إلى أطراف أصابعه، تتدلّى، تفتح أجنحتها، ولكنّها حَذِرة. «هي لا تعرف أنّي، أنا، لا أريد إلاّ خير كلّ كائن. لا تملك إلاّ غريزتها، الكاملة إذا ما قورِنَت بطبيعتها، الكافية لما تحتاج إليه، ولكنّها أدنى مستوى مِن الفِكر الإنسانيّ. كذلك الحشرة ليست مسؤولة عمّا تقوم به مِن الأفعال السيّئة. الإنسان، لا. فللإنسان في ذاته نور للفِكر السامي، ويكون له أكثر فأكثر بقدر ما يتثقّف بأمور الله. حينئذ يصبح مسؤولاً عن أفعاله.»

 

«إذن، يا معلّم» يقول برتلماوس «نحن الذين تُثقّفهم، تقع على كاهلنا مسؤوليّة عظيمة؟»

 

«عظيمة. وفي المستقبل، ستزداد، عندما تتمّ التضحية ويُقبَل الفِداء، ومعه النعمة التي هي قوّة ونور. وبعده يأتي ما سوف يجعلكم أكثر أهليّة للإرادة. والذي، بعد ذلك، لا يريد، سيكون مسؤولاً للغاية.»

 

«إذن، قليلون جدّاً هُم الذين سيخلصون.»

 

«لماذا يا برتلماوس؟»

 

«لأنّ الإنسان ضعيف جدّاً!»

 

«ولكن لو قوَّى ضعفه بثقته فيَّ، يُصبِح قوّياً. أتظنّون أنّني لا أدرك معارككم؟ ولا أُشفِق على ضعفاتكم؟ أترون؟ الشيطان كهذا العنكبوت الذي يَنصب فخّه، مِن هذا الغصن إلى ذاك الساق. إنّه دقيق جدّاً وغادر للغاية! انظروا إلى هذا الخيط كيف يتلألأ. يبدو وكأنّه مَصاغ فِضّة دقيق جدّاً. لن يكون مرئيّاً في الليل، وغداً، عند الفجر، سيكون مكسوّاً بجواهر رائعة، والذبابات الطائشة، التي تدور أثناء الليل بحثاً عن غذاء كثير النقاء أو قليله، ستقع داخله، وكذلك الفراشات الخفيفة المنجذبة بما يلمع...»

 

يقترب الرُّسُل الآخرون، ويُنصِتون إلى الأمثولة المستخرجة مِن مملكة الخُضرة ومملكة الحيوان.

 

«... وإذاً، فمحبّتي تفعل في الشيطان ما تفعله يدي الآن. تُخرّب النسيج. انظروا إلى العنكبوت يهرب ويختبئ. هو خائف مِن الأقوى منه. كذلك هو الشيطان يخاف مِن الأقوى منه، والأقوى منه هو الحبّ.»

 

«أليس مِن الأفضل القضاء على العنكبوت؟» يقول بطرس، العمليّ جدّاً في استنتاجاته.

 

«هذا هو الأفضل. ولكنّ هذا العنكبوت يقوم بواجبه. صحيح أنّه يقتل الفراشات الصغيرة الجميلة للغاية، ولكنّه يقضي كذلك على عدد كبير مِن الذباب الذي يحمل جراثيم المرض مِن المرضى للأصحّاء، مِن الأموات للأحياء.»

 

«ولكن في حالتنا نحن، ماذا يفعل العنكبوت؟»

 

«ماذا يفعل يا سمعان؟ (سمعان كذلك متقدّم في السنّ، وهو الذي كان يشكو مِن الروماتيزم.) يفعل ما تفعله الإرادة الصالحة فيكَ. تُقوّض الفتور، البلادة، الشبهات الباطلة. تُرغِمكم على البقاء يقظين. ما الذي يجعلكم أهلاً للمكافأة؟ الصراع والانتصار. هل يمكنكم الانتصار دون صراع؟ تَواجُد الشيطان يتطلّب يقظة مستمرّة. بعدئذ، الحبّ الذي يحبّكم يجعل مضارّ هذا التواجد واهية. إذا ما ظللتم قريبين مِن الحبّ، الشيطان يُجرِّب، ولكنّه يصبح عاجزاً عن الإساءة بحقّ.»

 

«على الدوام؟»

 

«على الدوام، في الأمور الصغيرة والعظيمة. مثلاً: أمر صغير. ينصحكَ عبثاً أن تعتني بصحّتكَ. نصيحة ماكرة لينتزعكَ منّي. الحبّ تثبّتكَ، يا سمعان، وتفقد آلامكَ أهميّتها حتّى في نظركَ أنتَ.»

 

«آه! ربّي، أنتَ تعلم؟»

 

«نعم. ولكن لا تُتعِب نفسكَ بذلك. هيّا، هيّا بنا! سيمنحكَ الحبّ الكثير مِن الشجاعة، بحيث هو أوّل مَن يبتسم الآن لبشريّتكَ المضطربة بسبب الروماتيزم الذي لديكَ...» يضحك يسوع مِن خجل التلميذ ويضمّه إليه ليواسيه. حتّى وهو يضحك، هو مفعم وقاراً. يضحك الآخرون كذلك.

 

«مَن يأتي لمساعدة هذه العجوز المسكينة؟» يقول يسوع مشيراً إلى عجوز تلتقط السنابل مِن الأثلام المفلوحة، متحدّية القيظ.

 

«أنا» يقول يوحنّا ومعه توما ويعقوب.

 

ولكنّ بطرس يشدّ يوحنّا مِن كُمّه، ويأخذه جانباً، ويقول له: «سَل المعلّم ما الذي يجعله بهذه السعادة. لقد سألتُهُ ولكنّه اكتفى بالقول لي: "سعادتي هي في رؤية نَفْس تبحث عن النور." ولكن لو تسأله أنتَ... فلكَ يبوح بكلّ شيء.»

 

يؤخَذ يوحنّا ما بين الإحجام مِن جهة، والرغبة في المعرفة وإرضاء بطرس مِن جهة أخرى. يَلحَق على مهل بيسوع الذي أَصبَحَ في الحقل يلتقط السنابل. العجوز، وهي ترى هذا العدد مِن الشباب، تقوم بحركة تُنبِئ عن أسى، وتُرهِق نفسها في النشاط.

 

يهتف يسوع: «يا امرأة! يا امرأة! ألتقط السنابل مِن أجلكِ. لا تبقي تحت الشمس، أيّتها الأُمّ. سوف آتي.»

 

تُمعِن العجوز النَّظر فيه، مذهولة بالطيبة الهائلة، ثمّ تطيع، وتتوجّه بقامتها النحيلة المقوّسة والمرتعشة قليلاً عبر خطّ ظلّ المنحدر الذي يحدّ الحقل. يسير يسوع بسرعة وهو يلتقط السنابل. يتبعه يوحنّا، وأبعد منه قليلاً توما ويعقوب.

 

«يا معلّم» يقول يوحنّا وهو يلهث «كيف بكَ تجد سنابل كثيرة؟ وأنا، في الثلم المحاذي أجد منها القليل القليل!»

 

يبتسم يسوع ولا يتكلّم. لا يمكنني التأكّد، إنّما يبدو لي أنّ السنابل المحصودة تنتصب حيث تقع العين الإلهيّة. يلتقط يسوع ويبتسم. بين ذراعيه حزمة سنابل حقيقيّة.

 

«هاكَ، يا يوحنّا، خُذ حُزمَتي. لديكَ كمّية أنتَ كذلك، وهكذا ستُسعِد الأُمّ صغيرة القدّ.»

 

«ولكن، يا معلّم... هل تجترح معجزة؟ مستحيل أن تجد هذا القدر!»

 

«صه! هذا للأُمّ صغيرة القدّ... مُفكّراً بأُمّي وأُمّكَ. انظر كم هي عجوز صغيرة القدّ!... والله الذي يقيت العصفور الذي يكون بالكاد قد خُلِق، يشاء أن يملأ مخزن هذه الجدّة الصغير. هذا يؤمّن لها الخبز للأشهر الباقية لها. فهي لن ترى الموسم المقبل. ولكنّني لا أريدها أن تجوع في شتائها الأخير. الآن سوف تَسمَع صيحات تَعَجُّبها. جهّز نفسكَ، يا يوحنّا، لِما يخزق أذنيكَ، كما أنا أتهيّأ للغرق في الدموع والقُبَل...»

 

«كم أنتَ مَرِح، يا يسوع، منذ بضعة أيّام! لماذا؟»

 

«أأنتَ مَن تريد معرفة ذلك أم إنّ أحداً قد أرسلكَ؟»

 

يوحنّا، الذي اعتلاه الاحمرار مِن التعب، يُصبح قرمزيّاً.

 

يُدرِك يسوع: «قُل لِمَن أرسلكَ إنّ أحد إخوتي وهو مريض ويبحث عن الشفاء. وإرادته بأن يُشفى تملأني فَرَحاً.»

 

«مَن هو يا معلّم؟»

 

«أحد إخوتكَ. أحد الذين يحبّهم يسوع. أحد الخَطَأة.»

 

«إذن، هو ليس واحداً منّا.»

 

«يا يوحنّا، أتظنّ أنّ ما مِن خطيئة فيما بينكم؟ أتظنّ أنّ لا فرح إلاّ بسببكم؟»

 

«لا، يا معلّم. أعرف أنّنا نحن كذلك خَطَأة، وأنّكَ تريد خلاص كلّ الناس.»

 

«وإذن؟ لقد قلتُ لكَ: "لا تحاول أن تعرف!" عندما كان الأمر يتعلّق باكتشاف الشرّ. أقول لكَ الشيء ذاته الآن والأمر يتعلّق بفجر خير... السلام لكِ، أيّتها الأُمّ! هي ذي سنابلنا. وسيأتي رفاقي بسنابلهم.»

 

«بارَكَكَ الله، يا بني. كيف وجدتَ هذا القدر؟ صحيح أنّني لا أرى بشكل واضح، ولكنّهما حزمتان ضخمتان، ضخمتان...» تلمسهما العجوز بيدها المرتجفة، تدغدغهما، تريد رفعهما... ولكنّها لا تستطيع.

 

«سوف نساعدكِ. أين يقع بيتكِ؟»

 

«هذا هو.» وتشير إلى بيت صغير فيما وراء الحقول.

 

«أنتِ وحيدة، أليس كذلك؟»

 

«نعم. كيف عرفتَ ذلك؟ وأنتَ، مَن تكون؟»

 

«أنا واحد له أُمّ.»

 

«وهذا أخوكَ؟»

 

«إنّه صديقي.»

 

خلف يسوع، يشوّر الصديق للعجوز، ولكنّ غشاوة تُسدَل على عينيها فلا ترى إشاراته، ومِن جهة أخرى هي منشغلة جدّاً بالنَّظَر إلى يسوع. فقلبها كأُمّ عجوز متأثّر جدّاً.

 

«أنتَ تتصبّب عرقاً، يا بنيّ، تعال هنا، في ظلّ هذه الشجرة. اجلس. انظر كم يتصبّب العرق! امسحه بمنديلي. هو رثّ ولكنّه نظيف. خذ، خذ، يا ولدي.»

 

«شكراً، يا أُمّاه.»

 

«مُباركة هي أُمّكَ، أنتَ الطيّب للغاية. قل لي ما اسمكَ واسمها، لكي أقولهما بدوري لله كي يبارككما.»

 

«مريم ويسوع.»

 

«مريم ويسوع... مريم ويسوع... انتظر. بكيتُ يوماً كثيراً... ابن ابني قُتِل وهو يدافع عن غلامه ممّا جَعَلَ ابني يموت حزناً... كان يقال إنّ البريء قُتِل لأنّ البحث كان عن شخص يُدعى يسوع... الآن أنا على عتبة الموت، ويعود هذا الاسم...»

 

«حينذاك، كنتِ تبكين بسبب هذا الاسم، يا أُمّاه. وليبارككِ هذا الاسم الآن...»

 

«أنتَ هذا اليسوع... قُلها لامرأة مُشرِفة على الموت، والتي عاشت دون أن تَلعَن، لأنّه قيل لها إنّ ألمها كان يفيد في إنقاذ مَسيّا إسرائيل.»

 

يُكرّر يوحنّا إشاراته، يسوع يصمت.

 

«آه! قل لي، أهو أنتَ؟ أنتَ يا مَن تباركني في نهاية حياتي؟ استحلفكَ بالله، تكلّم.»

 

«أنا هو.»

 

«آه!» وتجثو العجوز إلى الأرض. «يا مخلّصي! عشتُ في الانتظار ولم أكن آمل رؤيتكَ. هل سأرى انتصاركَ؟»

 

«لا، يا أُمّاه. مثل موسى، ستموتين دون بلوغ ذلك اليوم. ولكنّي أمنحكِ مسبقاً سلام الله. أنا السلام. أنا الطريق. أنا الحياة. أنتِ، أُمّ وجدّة أبرار، سترينني في انتصار آخر يكون أبديّاً، وأنا مَن سيفتح لكِ الأبواب، لكِ ولابنكِ ولحفيدكِ وغلامه. مُكرَّس للربّ هو هذا الغلام الذي مات مِن أجلي! لا تبكي، أيّتها الأُمّ...»

 

«وأنا، لَـمَستُكَ! وأنتَ، جمعتَ لي السنابل! آه! كيف أستحقّ هذا الشرف؟!»

 

«بسبب خضوعكِ المقدّس. تعالي، أيّتها الأُمّ، إلى بيتكِ. وليمنحكَ هذا الحَبّ الخُبز للنَّفْس أكثر ممّا هو للجسد. أنا هو الخبز الحقيقيّ النازل مِن السماء لإشباع جوع كلّ القلوب. أنتما (توما ويعقوب قد لحقا بهم) احملا هذه الحِزَم. وهيّا بنا.»

 

يمضي الثلاثة مع ما يحملون مِن السنابل. يتبعهم يسوع والجدّة العجوز التي تبكي وتتمتم بعض الصلوات. يبلغون البيت الصغير: عبارة عن غرفتين صغيرتين، فرن صغير، شجرة تين، كرمة صغيرة. نظافة وفقر.

 

«هل هذا هو ملاذكِ؟»

 

«نعم. باركه يا ربّ!»

 

«نادِني: بنيّ. وصلّي لأُمّي كي تحصل على التعزية في ألمها، أنتِ التي تعلمين ما هو ألم الأُمّ. وداعاً يا أُمّاه. أبارككِ باسم الله الحقّ.»

 

ويرفع يسوع يده ويبارك المسكن الصغير، ثمّ ينحني ويعانق العجوز ويضمّها إلى قلبه ويُقبّل شعرها الذي اعتلاه بعض الشيب. تبكي وتلامس يديّ يسوع بشفتيها، تبجّله، تحبّه…

 

يقول يسوع:

 

«تساؤلات كثيرة في قلبكِ بعد هذا الإملاء.

 

تساؤل في قلبكِ، هو إذا ما كنتُ أعلم أنّ يهوذا لن يخلص رغم هذا الجهد مِن أجل الخلاص.

 

كنتُ أَعلَم.

 

وإذاً لماذا كنتُ سعيداً؟

 

لأنّ مجرّد هذه الرغبة الحاضرة، الزهرة في بور قلب يهوذا، كانت تجعل أبي يَنظُر بعطف إلى تلميذي الذي كنتُ أحبّه، والذي لم أستطع إنقاذه. عين الله على قلب! ما الذي أريده إن لم يكن أن ينظر الله إليكم جميعاً بحبّ؟

 

كان عليَّ أن أكون سعيداً كي أمنح هذا البائس حتّى هذه الوسيلة للنهوض. حافز فرحي لرؤيته عائداً إليَّ.

 

ففي يوم، بعد موتي، عَرف يوحنّا هذه الحقيقة وقال لبطرس ويعقوب وأندراوس والآخرين، ذلك أنّني أمرتُ المفضّل الذي لم يكن سرّ لقلبي مخفيّاً عنه. عَرف ذلك وقاله ليكون للجميع بمثابة قاعدة سلوك لتوجيه التلاميذ والمؤمنين.

 

للنّفْس التي، بعد سقطة ما، تأتي إلى كاهن الله وتقرّ بزلّتها تجاه الصديق أو الابن، تجاه الزوجة أو الأخ، والتي بعد أن أنخدعت تأتي لتقول: "احتفظ بي معكَ، فلا أريد أن أخطئ بعد كي لا أُسبّب الألم لله ولكَ"، وينبغي لنا، وسط أمور أخرى، عدم رفض الرضى عن رؤية سعادتنا ورؤيتها راغبة في جعلنا فرحين.

 

يجب أن تكون هناك حساسيّة لا نهائيّة في العناية بالقلوب. فأنا، الحكمة، رغم معرفتي بأنّ ذلك كان عبثاً في حالة يهوذا، فكان ذلك لتعليم الجميع فنّ الافتداء، وفنّ مساعدة الذي يُفتدى.

 

والآن أقول لكِ، لكِ كذلك كما لسمعان الكنعاني: "هيّا بنا، هيّا بنا!" وأضمّكِ إليَّ، لأُشعِركِ بأنّ هناك مَن يحبّكِ.

 

مِن هاتين اليدين تنـزل العقوبات، ولكن أيضاً الملاطفات، مِن شفتيّ، كلمات صارمة، ولكن كذلك، وبالأكثر، وتُقال بفرح أكبر، كلمات مجاملة.

 

اذهبي بسلام، يا ماري. لم تُسبّبي الألم ليسوعكِ، وليكن هذا عزاءكِ.»