ج3 - ف63

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الثاني

 

63- (عشيّة عيد الفصح في الهيكل)

 

27 / 06 / 1945

 

إنَّها عشيّة الفصح. يسوع مع رُسُله فقط، فالنساء غير متواجدات مع المجموعة، وهو يَنتَظِر عودة بطرس الذي أخَذَ الحَمَل الفصحي إلى الذبيحة. وبينما هُم يَنتَظِرون، ويسوع يتحدّث إلى ابن سليمان، يجتاز يهوذا الساحة الكبيرة. إنّه برفقة شُبّان ويتحدّث مع حركات كبيرة مُفَخَّمة، مُتَّخِذاً وضعيّة الـمُلهَم، ومعطفه دائم التحرك وهو يرتديه بوضعيّة العلماء... لستُ أظنّ أن شيشرون [Marcus Tullius Cicero (كاتب روماني وخطيب روما المميَّز)] كان أكثر فخامة عندما كان يُلقي خطاباته…

 

«انظر، ها هو يهوذا هناك!» يقول تدّاوس.

 

«إنّه مع مجموعة مِن السفوريم.» يقول فليبّس.

 

ويقول توما: «سوف أَستَمِع إلى ما يقول:» ويمضي دون انتظار أن يُعَبِّر يسوع عن رفضه الـمُتَوقَّع.

 

يسوع... آه! يا لوجه يسوع! إنّه يَنمّ عن ألم حقيقيّ ودينونة صارمة. ومارغزيام، الذي كان حينذاك يَنظُر إليه، بينما كان يُحَدِّثه بلطف وحزن خفيف عن مَلِك إسرائيل، يَرَى هذا التَّغيير، ويكاد يخاف منه. يَهزّ يد يسوع ليحدّثه، ويقول له: «لا تَنظُر! لا تَنظُر! لا تَنظُر! بل انظر إليَّ أنا مَن أُحِبُّكَ كثيراً.»…

 

ينجح توما في إدراك يهوذا دون أن يَدَعه يراه، ويتبعه بضعة خطوات. لستُ أدري ماذا سَمِعَه يقول. جُلَّ ما أعرفه هو أنّه أَطلَقَ فجأة صيحة تَعَجُّب كأنّها الرَّعد، جَعَلَت العديد مِن الأشخاص يَلتَفِتون، وخاصّة يهوذا الذي يَمتَقِع مِن الغيظ. «ولكن كَم مِن الرابّيين في إسرائيل! أُهنّئ نفسي معكَ، يا نور الحكمة الجديد!»

 

«أنا لستُ حجراً، بل إسفنجة وأَمتصّ. وعندما تستدعي رغبة الجياع إلى الحكمة، تراني أُسرِع لأَمنَح ذاتي مع كلّ عصاراتي الحيويّة.» كَلِمَة يهوذا طَنَّانة ومُحتَقِرة.

 

«تبدو صدى وفيّاً. إنّما كي يحلّ الصدى محلّ الصوت، عليه أن يمكث إلى جانبه، وإلّا فإنّه يموت، يا صديقي. وأنتَ، يبدو لي أنّكَ تبتعد عنه. إنّه هنا. ألا تأتي؟»

 

تتبدَّل الألوان على وجه يهوذا، مَع كون هذا الوجه الحَقود والبغيض في أسوأ أوقاته. ولكنّه يتمالك نفسه ويقول: «أحيّيكم يا أصدقائي. ها أنذا معكَ يا صديقي العزيز توما. هيّا بنا فوراً إلى المعلّم. لم أكن أَعلَم أنّه في الهيكل. لو كنتُ أَعلَم لبحثتُ عنه.» ويُمرّر ذراعه حول عنق توما كما لو كان يُكِنّ له عاطفة عظيمة.

 

ولكنّ توما، الهادئ، إنّما غير الـمُغَفَّل، لا يترك نفسه يُخدَع بتلك الاعتراضات... ويَسأَل بشيء مِن الـمُراوغَة: «كيف؟ ألا تَعلَم أنّه الفصح؟ وهل تظنّ المعلّم غير وفيّ للشريعة؟»

 

«آه! أبداً! ولكنّه العام الماضي كان يُظهِر ذاته، كان يتحدّث... أتذكّر تماماً ذلك اليوم. لقد تَمَلَّكني بعنفه الـمَلَكيّ... الآن... يبدو لي كَمَن فَقَدَ حَزمه. ألا يبدو لكَ ذلك؟»

 

«لي أنا، لا. بل يبدو لي كَمَن فَقَدَ ثقته.»

 

«برسالته. هو ذاك، حسناً تقول.»

 

«لا. إنّكَ تُسيء الفهم. لقد فَقَدَ ثقته بالناس. وأنتَ واحد مِمَّن يُساهِمون في ذلك. عار عليكَ!» لَم يَعُد توما يضحك! إنّه مُتجَهِّم، وعبارته "عار عليكَ" لاذِعة كَلَسعة سوط.

 

«انتبه إلى كلامكَ!» يقول يهوذا مُهَدِّداً.

 

«أنتَ انتبه لتصرّفكَ. نحن هنا يهوديّان، دون شهود. ولذلك أتكلّم وأُكَرِّر القول: "عار عليكَ!" والآن اصمت، ولا تتظاهر بالمتأسّي ولا الـمُتباكي، وإلّا فسأتكلّم أمام الجميع. هو ذا المعلّم هناك، وكذلك الرفاق. هَدِّئ مِن روعكَ.»

 

«السلام لكَ يا معلّم...»

 

«السلام لكَ يا يهوذا بن سمعان.»

 

«لطيف جدّاً أن ألقاكَ هنا... لديَّ ما أقوله لكَ...»

 

«تكلّم.»

 

«تَعلَم... كنتُ أريد أن أقول لكَ... ألا يمكنكَ الاستماع إليَّ على انفراد؟»

 

«أنتَ وسط رفاقكَ.»

 

«ولكنّني أودُّ التحدّث إليكَ وحدكَ.»

 

«في بيت عنيا أنا وحدي مع مَن يريدني ومَن يبحث عنّي، ولكنّكَ لا تبحث عنّي. بل أنتَ تتهرّب منّي...»

 

«لا يا معلّم، لا يمكنكَ قول ذلك.»

 

«لماذا أَسَأتَ بالأمس إلى سمعان وإليَّ أنا معه، ومعنا إلى يوسف الذي مِن الرّامة ورفاقكَ وأُمّي والآخرين؟»

 

«أنا؟ ولكنّني لَم أَرَكُم!»

 

«لَم تَشأ أن ترانا. لماذا لم تأتِ، كما كان مُتَّفَقاً عليه، لنُبارك الربّ ونشكره مِن أجل بريء قُبِلَ في الشريعة؟ أَجِب! بل حتّى لَم تَجِد أنّه مِن الضروريّ إخطارنا بأنّكَ لن تأتي.»

 

«ها هو ذا أبي!» يَهتف مارغزيام الذي يَلمَح بطرس عائداً مع حَمَله المذبوح، والـمُفرَغة أحشاؤه والـمُجَلَّل بِجِلده. «آه! معه ميخا والآخرون! أنا ذاهب إليهم. هل يمكنني الذهاب للقائهم وَلِأَستَعلِم عن أخبار جدّي؟»

 

«اذهب يا بنيّ.» يقول يسوع مُداعِباً إيّاه، ويُضيف وهو يضع يده على كتف يوحنّا الذي مِن عين دور: «أرجوكَ رافِقه... اجعَلهُم يتأخّرون قليلاً.» ويَلتَفِت إلى يهوذا مُجَدَّداً: «أَجِب إذن! إنّني أنتَظِر.»

 

«يا معلّم، ظرف ضروريّ لم يكن بالحسبان... ولا مَفرَّ منه... تألَّمتُ لذلك... ولكن...»

 

«ولكن أَلَم يكن في أورشليم كلّها مَن يَنقل إلينا عذركَ، هذا إذا افترضنا جَدَلاً أنّ لكَ عذراً؟ وكان خطأ. أُذَكِّركَ أنّ رجلاً تخلّى سابقاً عن دفن أبيه لِيَتبَعني، وأَنَّ أَخَوَيَّ، رغم اللَّعنات، تَرَكَا البيت الوالديّ لِيَتبَعاني، وأنّ سمعان وتوما ومعهما أندراوس ويعقوب ويوحنّا وفليبّس ونثنائيل قد تَرَكوا عائلاتهم، وسمعان الكنعانيّ قد تخلّى عن ثروته لِيَهبها لي، ومتّى تَرَكَ الخطيئة لِيَتبَعني. ويمكنني الاستمرار في سرد مائة اسم لكَ. وهناك مَن تخلّوا عن حياتهم، حياتهم ذاتها، لِيَتبَعوني إلى ملكوت السماوات. ولكن بما أنّكَ مُقَصِّر في الكَرَم إلى هذه الدرجة، فكن على الأقلّ مُهَذَّباً. ليست لديكَ المحبّة، إنّما احتَرِم على الأقلّ آداب السلوك. اقتدِ بالفرّيسيّين المزيَّفين، طالما هُم يعجبونكَ، وهُم الذين يكرهونني، بل يكرهوننا ويَظهَرون بمظهر الـمُهَذَّبين. كان مِن واجبكَ التفرُّغ لنا بالأمس لكي لا تُسيء إلى بطرس، وأنا أُشَدِّد على أن يحترمه الجميع. ولكن أَقَلَّه كان يُفتَرَض فيكَ إخطارنا.»

 

«لقد أخطأتُ، إنّما الآن فقد تَعَمَّدتُ المجيء والبحث عنكَ لأقول لكَ إنّني، ولذات السبب، لن أتمكّن مِن المجيء غداً. تَعلَم... لديَّ أصدقاء أبي وأنا...»

 

«يكفي. اذهَب معهم إذن. وداعاً.»

 

«يا معلّم، هل أنتَ غاضب مِنّي؟ لقد قُلتَ إنّكَ ستكون لي الأب... إنّني طائش، ولكنّ الأب يُسامِح...»

 

«أسامحكَ، نعم. ولكن هيّا اذهب. لا تجعل أصدقاء أبيكَ يَنتَظِرون طويلاً، كما أنّني لن أجعل أصدقاء يونا القدّيس يَنتَظِرون أكثر.»

 

«متى سترحل عن بيت عنيا؟»

 

«في نهاية الفطير. وداعاً.»

 

يُدير يسوع ظَهره ويمضي صوب الفلّاحين الـمُنبَهِرين أمام مارغزيام الـمُختَلِف للغاية. يسير بضعة خطوات ثمّ يتوقَّف بسبب تعليق صَدَرَ عن توما: «بِيَهوه! كان يودّ رؤيتكَ في عنفكَ الملكيّ! ولقد خدمتَه!...»

 

«أرجوكَ نسيان الواقعة كلّها، كما أَجهَد أنا نفسي في فِعل ذلك. وآمُركَ بالصمت مع سمعان بن يونا ويوحنّا الذي مِن عين دور والصغير للأسباب التي يُدرِكها ذكاؤكَ. فَمِن الأفضل ألّا نُحزِنهم ونُعَثّرهم. وصمتاً في بيت عنيا مع النساء. فهناك أُمّي. تذكّر ذلك.»

 

«اطمئنّ يا معلّم.»

 

«سنفعل كلّ ما في وِسعنا للإصلاح.»

 

«ولتعزيتكَ، نعم.» يقول جميع المتواجدين هناك.

 

«شكراً... آه! السلام لكم جميعاً. لقد وَجَدَكم إسحاق. أنا سعيد لأجل ذلك. تمتّعوا بفصحكم بسلام. سيكون رُعاتي معكم أكثر مِن إخوة طيِّبين. إسحاق، قبل أن يَذهَبوا، هاتهم إليَّ. أريد أن أُبارِكهم مَرّة أخرى. هل رأيتم الصبيّ؟»

 

«آه! يا معلّم، كم هو حَسَن مَظهَرهُ! وصحّته أَصبَحَت ممتازة! آه! سوف نقول ذلك لِجدّه. وكم سَيَسعد! ولقد قال لنا هذا البارّ إنّ يَعْبيص أَصبَحَ ابنه الآن... إنّها العناية الإلهيّة! سوف نقول له كلّ شيء، كلّ شيء.»

 

«وكذلك إنّني أَصبَحتُ ابناً للشريعة. وإنّني سعيد لذلك. وإنّني أُفكّر به على الدوام. وألّا يبكي لأجلي ولا لأجل أُمّي. فإنّها قريبة منّي جدّاً، وهي ملاك، وقريبة منه كذلك، وإنّها ستكون لنا ساعة نموت كذلك. إذا ما فَتَحَ يسوع أبواب السماوات، فإنّ أُمّي حينذاك، أبهى مِن ملاك، ستأتي لملاقاة جدّي، وستقوده إلى يسوع. فهو الذي قالها. هل ستقولون له ذلك؟ هل سَتَعرفون أن تقولوا له ذلك جيّداً؟»

 

«نعم يا يَعْبيص.»

 

«لا، لقد أَصبَحَ اسمي الآن مارغزيام. هذا الاسم أَطلَقَتهُ عليَّ أُمّ السيّد. إنّه يُشبه اسمها. وهي تحبّني كثيراً. وتَضَعني في السرير وتَجعَلني أتلو الصلوات التي كانت تجعل ابنها يَتلوها. وهي كذلك توقظني بقبلة، وتُلبِسني ثيابي، وتُعَلِّمني أموراً كثيرة. وهو كذلك. وتلك الأمور تَلِج إلى القلب بعذوبة لدرجة أنّني أَتَعَلَّمها دونما عناء. يا معلّمي!!!» ويَلتَصِق الصبيّ بيسوع بحركة هيام، بحيث يصبح التعبير مؤثِّراً.

 

«نعم، تقولون كلّ هذا، وكذلك أنّ على العجوز ألّا يَفقد الرجاء. فهذا الملاك يصلّي مِن أجله، وأنا أباركه. وأبارككم أنتم أيضاً. امضوا وليرافقكم السلام.»

 

وتتفرّق الجموع. كلّ مجموعة تمضي في اتّجاه.