ج4 - ف133
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الثاني
133- (موت يوحنّا المعمدان)
04 / 09 / 1945
يسوع يشفي المرضى، ولا يوجد سِوى مَنَاين. إنّهم في بيت كفرناحوم، في الحديقة الظليلة في تلك الساعة الصباحيّة. ولقد تخلّى مَنَاين عن حِزامه الثمين وصفيحة الذهب التي على جَبينه. وقد حَبَسَ ثوبه بحزام صوفي، وقلنسوته بشريطة رفيعة مِن الكتان. يسوع عاري الرأس كما هو دائماً عندما يكون في البيت.
بعد الانتهاء مِن الشِّفاءات ومواساة المرضى، يَصعَد يسوع بصحبة مَنَاين إلى الغرفة العلويّة، ويجلسـان كلّاهما على حافة النافذة الـمُطلّة على الرابية، لأن جهة البحيرة تغطيها الشمس مرتفعة الحرارة رغم أنّ فترة القَيظ مَضَت منذ مدة.
«موسم قِطاف العنب على وشك أن يَبدأ.» يقول مَنَاين.
«نعم، ثمّ يوشِك عيد المظال أن يأتي... وسـوف يَحلّ الشتاء سريعاً. أنتَ، متى تفكّر بالرحيل؟»
«هوم!... أنا لن أرحل أبداً... ولكنّني أُفكِّر بالمعمدان. هيرودس ضعيف. عندما يتمّ التأثير عليه بالخير، لا يُصبح صالحاً، بل يبقى على الأقل غير دموي. ولكن الذين يُسدون إليه النصـائح الخيِّرة قليلون. وتلك المرأة!... تلك المرأة!... ولكنّني أودُّ البقاء هنا حتّى عودة رُسُلكَ. ليس لأنّني أعتدُّ كثيراً بنفسي... ولكنّني ما زلتُ أحتفظ ببعض القَدر... رغم أنّ رصيدي قد تضـاءَلَ منذ عَرِفوا أنّني أتبَع دروب الخير. إنّما هذا لا يهمني. أودُّ لو تكون لي الشجاعة الحقيقيّة لأترك كلّ شيء وأتبعكَ بشكل كامل، مثل هؤلاء التلاميذ الذين تنتظرهم. ولكن هل سأنجح يا تُرى؟ نحن الذين لسنا مِن عامّة الناس نتردد كثيراً في اتّباعكَ؟ لماذا؟»
«لأنّ لديكم مخالب الثروات التافهة تُمسِك بكم.»
«الحقّ يقال، أَعرِف كذلك كثيرين مِمّن ليسوا أغنياء، ويعرفون الطريق إليه، إنَّما هُم كذلك لا يأتون.»
«هُم كذلك لديهم مخالب الثروات التافهة التي تُمسِك بهم. فالغنى ليس فقط بالمال. هناك كذلك غنى المعرفة. قليلون هُم الذين يتوصّلون إلى أن يَعلَموا مثل سـليمان: "باطل الأباطيل،كلّ شيء باطل"، مأخوذة مِن جديد ومضخَّمة، ليس فقط مادّيّاً، بل إنّما في العمق. هل هذه الفكرة حاضِرة في ذهنكَ؟ العلوم البشريّة باطِلة، إذ إنّ زيادة المعرفة البشريّة فقط "هي تَعَب وتَبريح للروح، والذي يطوّر العِلم يُطوِّر كذلك المتاعب". الحقّ أقول لكَ إنّ الأمر هو كذلك. وأقول أيضاً إنّ الأمر لا يكون كذلك إذا كانت العلوم البشريّة مُدعَّمة ومُرسَّخة على الحكمة فائقة الطبيعة وحُبّ الله المقدّس. اللّذة باطلة لأنّها لا تَدوم، ولكنّها تتبدّد بسرعة بعد أن تَحرِق تاركة وراءها رماداً وفراغاً. الخيرات المكدَّسَة مِن مصانع مختلفة، باطلة هي بالنسبة إلى الإنسان الذي يموت ويتركها لآخرين، والذي لا يتمكّن بخيراته دفع الموت؛ المرأة، كامرأة بحدّ ذاتها، والمشتهاة كما هي، باطلة. وبالنتيجة فإنّ الشيء الوحيد الذي ليس باطلاً، هي مخافة الله المقدّسة والطاعة لوصاياه، أي حكمة الإنسان الذي ليس جسداً فقط، ولكنّه يمتلك الطبيعة الثانية: الروحيّة. الذي يَعرِف أن يستنتج هكذا ويريد، يَعرِف التخلّص من كلّ المخالب التي للتملّك الوضيع، ويمضي حرّاً للقاء الشمس.»
«أريد تَذكُّر هذه الكلّمات. كم مَنَحَتني هذه الأيّام! الآن يمكنني المضيّ إلى بشاعات القصر الذي لا يبدو مُشرِقاً إلّا للحمقى، الذي يبدو ذا سلطان وحرّية، وهو ليس سوى بؤس وسجن وظُلمة، والمضيّ إلى هناك مع كنـز سيسمح لي أن أحيا فيه بشكل أفضل، في انتظار ما هو أفضل. ولكن هل سأتوصل إلى هذا الأفضل المتمثّل في أن أكون بكلّيتي مِلكاً لكَ؟»
«سوف تتوصّل.»
«متى؟ في العام القادم؟ أو فيما بعد؟ عندما تجعلني الشيخوخة حكيماً؟»
«سوف تتوصّل ببلوغكَ نضوج الروح وكمال الإرادة في خلال بضع ساعات.»
يَنظُر مَنَاين نظرة المفكِّر المتسائِل... ولكنّه لا يَسأَل عن أيّ شيء آخر.
صَمت. ثمّ يقول يَسوع: «هل حاولتَ يوماً التقرّب مِن لعازر بيت عنيا؟»
«لا يا معلّم. أستطيع القول لا. إلّا اللّهم مِن بعض اللّقاءات، وهذا لا يُسمّى صداقة. أنتَ تَعلَم... هيرودس معي، وهيرودس ضدّه... إذن...»
«لعازر يراكَ الآن فيما وراء الأشياء، في الله. عليكَ التَّقرُّب منه كتلميذ.»
«سوف أفعل، إذا شئتَ أنتَ ذلك...»
تُسمَع مِن الحديقة أصوات أُناس مُضطَرِبين. يَسأَلون بقلق: «المعلّم! المعلّم! هل هو هنا؟»
صوت ربّة البيت الرخيم يُجيبهم: «إنّه في الغرفة العلويّة. مَن أنتم؟ مَرضى؟»
«لا، تلاميذ ليوحنّا ونريد يسوع الناصريّ.»
يُقبِل يسوع إلى النافذة قائلاً: «السلام لكم... آه! هذا أنتم؟ تعالوا! تعالوا!»
إنّهم الرُّعاة الثلاثة: يوحنّا ومتّياس وشمعون. «آه! يا معلّم!» يقولون وهُم يَرفَعون رؤوسهم لِتَظهَر وجوههم الحزينة. حتّى رؤية يسوع لم تُعِد لهم الطمأنينة.
يَخرج يسوع مِن الغرفة ويمضي للقائهم على الشُّرفة. يتبعه مَنَاين. يلتقون عند حافة السلّم على الشُّرفة المضاءة بنور الشمس.
يجثو الثلاثة مُقبِّلين الأرض. ثمّ يقول يوحنّا، باسم الجميع: «لقد آن الأوان لتستقبلنا، يا سيّد. لأنّنا إرثكَ.» وتنهمر الدموع على خدّ التلميذ ورفاقه.
يُطلِق يسوع ومَنَاين صرخة واحدة: «يوحنّا!؟»
«لقد قتلوه...»
تقع الكلمة كما لو كانت صَخَباً يَربو على كلّ ضجيج العـالم. ومع أنّها قيلت ببالغ الهدوء. ولكنّها تجعل الذي قالها والذين يَسمَعونها جامِدين كالحجر. يبدو أنّ الأرض، لكي تتقبّلها وترتعد هلعاً، تُوقِف كلّ ضجيج، فقد كانت لحظة صمت عميق وجمود كامل لدى الحيوانات وفي الأوراق وفي الهواء. توقَّفَ هديل الحمام، وانقَطَعَ مِزمار شحرور، وخَرست جوقة الدوري، وصَمَتَ زيز الحصاد فجأة كما لو كان جهازه قد تحطَّمَ، بينما يتوقّف الهواء الذي كان يداعب أغصان الكرمة وأوراقها، مُصدِراً صوتاً يُشبه تَصادُم الحرير وصرير الأوتاد.
يُصبِح يسوع شاحباً بلون العاج، بينما تتوسّع عيناه وهما تغرورقان بالدموع. يفتح ذراعيه وهو يتكلّم، وصوته عميق، للجهد الذي يبذله ليجعله ثابتاً: «السلام لشهيد العدالة وسابِقي.» ثمّ يُصالِب ذراعيه ويستجمع أفكاره وبالتأكيد يصلّي، متّحداً بروح الله وروح المعمدان.
لا يَجرؤ مَنَاين على الإتيان بحركة. على عكس يسوع، فقد علاه احمرار شديد وفورة غَضَب. ثمّ تصلَّبَ، وقد تبدّى اضطرابه كلّه بالحركة الآليّة ليده اليمنى التي تسحب حِزام ثوبه، ويده اليسرى التي، بحركة لا واعية، تبحث عن الخنجر... ويهزّ مَنَاين رأسه وهو يشتكي مِن ضعف روحه الذي ينسى أنّه تخلّى عن السلاح لِيُصبح: « تلميذ مَن هو وديع، إلى جانب مَن هُم وُدعاء».
يعود يسوع ليفتح فمه وعينيه. وقد استعاد وجهُه ونظرتُه وصوتُه العظمةَ الإلهيّة كما هي عادته. لم يبق سوى حزن كبير يُلطِّفه السلام. «تعالوا. سـوف تَروُون لي. منذ اليوم أنتم أتباعي.»
ويقودهم إلى الغرفة، حيث يُغلِق الباب تاركاً الستائر نصف منسدلة، ليخفِّف النور، ويَخلق جوّ خُلوة حول ألمهم، وبهاء مِيتة المعمدان، لِيُفرِّق بين كمال الحياة هذا، والعالم الفاسـد. «تكلّموا» يأمرهم.
يبدو مَنَاين مُجمَّداً. إنّه قُرب المجموعة ولكنّه لا ينبس ببنت شفة.
«كان ذلك عشيّة العيد... كان الحَدَث غير متوقَّع... قبل ذلك بساعتين فقط، كان هيرودس قد تحاور مع يوحنّا وصَرَفَه بكلّ عناية... وقليلاً، قليلاً قبل أن يَحصل... القَتل، الشهادة، الجريمة، الارتقاء إلى المجد الأبديّ، كان قد أَرسَلَ للسجين خادماً يَحمل فاكهة باردة وخموراً نادرة. وقد وزَّعَ علينا يوحنّا تلك الأشياء... فهو لم يُغيِّر تقشّفه قط...لم يكن أحد سِوانا، لأنّه، بفضل مَنَاين، كنّا في القصر للخدمة في المطابخ وفي الإسطبلات. وكان ذلك معروفاً، وبفضله كنّا نرى يوحنّا الذي لنا على الدوام... كنّا في المطابخ، يوحنّا وأنا، بينما كان شمعون يُراقِب العاملين في الإسطبل كي يَعتنوا بِرَكائب الضيوف... كان القصر مليئاً بالرجال العِظام، بالقادة العسكريين وبسادة الجليل. وكانت هيروديّا حبيسة جناحها على أثر مشادّة عنيفة حَصَلَت بينها وبين هيرودس صباحاً...»
يُقاطِع مَنَاين: «ولكن تلك الضَّبع متى جاءت؟»
«قبل يومين. لم يكن مَجيئها مُنتَظَراً... قالت للمَلِك إنّها لم تكن تستطيع العيش بعيداً عنه، ولا أن تكون غائبة في يوم عيده. أفعى وبارعة كالعادة، جَعَلَت مِن هيرودس ألعوبة... ولكن في صبيحة ذلك اليوم، رُغم سُكر هيرودس مِن الخمرة والعربدة، رَفَضَ الاستجابة لما كانت تطلبه امرأته بأعلى صوتها... ولم يكن أحد يَعلَم أنّها كانت تطلب حياة يوحنّا!...
كانت قد مَكَثَت في جناحهـا مُحتَقَـرة. وكانت قد أعـادت الطعـام الملكيّ الذي أَرسَلَه هيرودس في أواني نفيسة. واحتَفَظَت فقط بطبق ثمين مليء بالفواكه، وبالمقابل كانت قد أَرسَلَت إلى هيرودس جرَّة خَمر ممزوج بالمخدِّر... ممزوج بالمخدِّر... آه! حالـة السُّكر التي كان فيها، كانت تكفي معها طبيعته الفاسقة لدفعه إلى ارتكاب الجريمة!
عَلِمنا مِن أولئك الذين كانوا يَخدمون على المائدة، إنّه بعد رقص المقلِّدين الذين في القصر، أو بالأحرى في الوسط، كانت سالومة قد دَخَلَت فجأة وهي تَرقُص في قاعة المدعوّين، وكان الـمُقلِّدون قد تسمّروا أمام الأميرة مُلتَصِقين بالجدران. الرقص كان مُتقَناً، هكذا قيل لنا، خَليعاً ومُتقَناً. يليق بالضيوف... وهيرودس... آه! قد تكون رغبة جديدة بالزنى مِن ذوي القُربى تَختَمِر في داخله!... وفي نهاية الرقصة قال هيرودس لسالومة متحمّساً: "أَجَدتِ في الرقص! أُقسِم أنّكِ تستحقّين مُكافأة. أُقسِم أنّني أمنحكِ إيّاها. أُقسِم أنّني سوف أعطيكِ كلّ ما يمكنكِ أن تطلبيه منّي. أُقسِم أمام الجميع. وكلمة الـمَلِك كلمة شرف حتّى بدون قَسَم. اطلبي إذن ما تشائين."
وسالومة، مُفتَعِلة الارتباك، البراءة والتواضع، ومُلتَحِفة بوشاحها، وبِعُبوس حييّ، بعد الكثير مِن الخلاعة، تقول: "اسمح لي أيّها العظيم أن أُفكِّر لحظة. سوف أنسَحِب ثمّ أعود، لأن منَّتَكَ قد جَعَلَتني أَضطَرِب"... وانسَحَبَت لتمضي فتلتقي أُمّها.
قالت لي سلمى إنّها دَخَلَت وهي تضحك وتقول: "أُمّي، لقد رَبِحتُ. أَعطِني الطَّبَق." وهيروديّا، مع صرخة انتصار أَمَرَت العبدة بتسليم ابنتها الطَّبَق الذي كانت قد احتَفَظَت به سـابقاً، قائلة: "اذهبي، وعودي بالرأس البغيض، وأنا سـوف أُلبِسكِ الجواهر والذهب". وتطيع سلمى مُرَوَّعة…
تَعود سالومة لِتَدخُل إلى القاعة وهي تَرقُص، وهي تَرقُص تَمضي لتجثو عند قدميّ الـمَلِك. تقول: "على هذا الطبق الذي بَعَثتَ به لأُمّي لِتُعبِّر عن حبّكَ لها ولي، أريد رأس يوحنّا. ثمّ سوف أرقُص أيضاً، لأنّ ذلك يرضيكَ كثيراً. سوف أرقص رقصة النَّصر لأنّني انتصرتُ! غلبتكَ أيّها الـمَلِك! لقد غلبتُ الحياة، وأنا سعيدة! "هذا ما قالَته وما ردَّدَه لنا أحد السُّقاة وهو صديق لنا.
واضطَرَب هيرودس، إذ أَصبَحَ بين المطرقة والسندان: أن يكون عند كلمته، أو أن يكون عادلاً. ولكنّه لم يَعرِف أن يكون عادلاً، فهو ظالم. وأشار إلى الجلّاد الذي كان خلف العرش الملكيّ، وهذا الأخير إذ أَخَذَ مِن يدي سالومة الطَّبَق الذي كانت قد أَحضَرَته، يَهبط مِن قاعة الوليمة إلى الغُرَف التي في الأسفل. يوحنّا وأنا رأيناه يَجتَاز البلاط... وبعد قليل سَمِعنا صَرخَة شَمعون: "قَتَلَة!" وثمّ رأيناه يعود لِيَمرّ والرأس على الطَّبَق... يوحنّا، سابقكَ كان قد مات...»
«شمعون، هل يمكنكَ أن تقول لي كيف مات؟» يَطلب يسوع بعد برهة.
«نعم. كان يصلّي... وكان قد قال لي قَبل ذلك: "بعد قليل سيعود الـمُرسَلان، والذين لا يؤمنون سوف يؤمنون. ولكن حينئذ تذكّر إذا لم أكن لدى عودتهما على قيد الحياة، كَمَن هو على حافة الموت، أقول لكَ أيضاً لكي تعود فتقول لهما: ’يسوع الناصريّ هو مَسيّا الحقيقيّ’". لقد كان يُفكِّر بكَ على الدوام... دَخَلَ الجلّاد. صَرَختُ بصوت عـال. رَفَعَ يوحنّا رأسه ورآه. نَهَضَ وقال: "لا يمكنكَ سوى انتزاع حياتي. ولكنّ الحقيقة التي تدوم هي أنّه لا يجوز فِعل الشرّ". وكان على وشك أن يقول لي شيئاً عندما لَوَّحَ الجلّاد بسيفه الثقيل، بينما كان يوحنّا واقفاً، وسَقَطَ الرأس عن الجذع مع سيل عارم مِن الدم الذي صَبَغَ جلد الماعز بالأحمر، وأَصبَحَ الوجه النحيل أبيض كالشمع حيث العينان بقيتا حيويتين، مفتوحتين ومتَّهِمَتين. سَقَطَ عند قدميَّ... وسَقَطتُ وجسـده معاً، وقد أُغمِيَ عليَّ مِن الألم... بعد ذلك... بعد ذلك... بعد أن مَزَّقَته هيروديّا، رُمِيَ الرأس للكلاب. ولكنّنا تلقّفناه بسرعة وألصَقناه بالجّذع في وشاح ثمين. في الليل أعدنا تشكيل الجَّسَد وأخرجناه خارج مَكرونة. وطيّبناه في غابة صغيرة مِن الأكاسيا قريبة عند بزوغ الشمس بمسـاعدة تلاميذ آخرين... ولكنّه أُخِذ مجدّداً ليُمَزَّق. لأنّها لا تَستطيع تحطيمه كما لا تستطيع أن تَغفر له... وعبيدها، خشية الحكم عليهم بالإعدام، كانوا أكثر وحشيّة مِن ابن آوى حتّى نَزَعوا ذلك الرأس. لو كنتَ هناك يا مَنَاين!...»
«لو كنتُ هناك... إنّما ذاك الرأس هو لعنتها... فلا شيء يُنقِص مِن مجد السابق حتّى ولو كان الجسد غير كامل. أليس كذلك يا معلّم؟»
«هذا صحيح. حتّى ولو خَرَّبته الكلاب، فإنّ مجده لن يتغيّر.»
«وكلمته لم تتغيّر، يا معلّم. فعيناه رغم كونهما مجروحتين، ممزَّقتين، ما تزالان تقولان: "هذا غير جائز لكَ". ولكنّنا فقدناه.» يقول متّياس.
«والآن نحن لكَ، لأنّ هذا ما قاله هو، وقد قال كذلك إنّكَ على عِلم بذلك.»
«نعم. منذ شهور وأنتم لي. كيف أتيتم؟»
سيراً على الأقدام وعلى مراحل. الدرب طويل وشـاقّ، تحت الشمس الـمُحرِقة والرمل الملتَهِب، وهو مُلتَهِب أكثر بسبب الألم. إنّنا نسير منذ عشرين يوماً...»
«الآن سوف تستريحون.»
يَسأَل مَنَاين: «قولوا: ألم يستغرب هيرودس لغيابي؟»
«بلى. في البدء كان قَلِقاً، ثمّ غاضباً، إنّما بعد زوال غَضبه قال: "ولينقص حَاكِم". هذا ما نَقَلَه لنا الساقي صديقنا.»
يقول يسوع: «ولينقص حَاكِم! لديه الله كحَاكِم وديّان، وهذا يكفيه. تعالوا إلى حيث ننام. إنّكم مُتعَبون ومُعفَّرون بالغبار، سوف تَجِدون ثياباً وأحذية لرفاقكم. خُذوها، بَدِّلوا ثيابكم. فما هو للواحد هو للجميع. أنتَ، متّياس، بما أنّكَ طويل فيمكنكَ أخذ ملابسي. ثمّ سوف نتدبّر الأمر. في السهرة، بما أنّها ليلة السبت، سوف يأتي رُسُلي. الأسبوع القادم يأتي إسحاق مع تلاميذه، ثمّ يأتي بنيامين ودانيال، وبعد عيد المظال يأتي إيليّا ويوسف ولاوي كذلك. لقد حان الوقت لينضم الآخرون إلى الإثني عشر. اذهبوا الآن لترتاحوا.»
يُرافِقهم مَنَاين وثمّ يعود. يبقى يسوع مع مَنَاين. يَجلِس مُستَغرِقاً في التفكير، حزيناً بشكل جليّ، رأسه منحن على يده، والـمِرفق مُستَنِد إلى الركبة ليسنده. يَجلس مَنَاين قُرب الطاولة لا يتحرّك. ولكنّه مكفهرّ. وجهه عاصفة.
بَعد مرور فترة طويلة، يَرفَع يسوع رأسه، ويَنظُر إليه ويَسأَل: «وأنتَ؟ ماذا ستفعل الآن؟»
«ما زلتُ لا أدري... فكرة بقائي في مكرونة تلاشَت. ولكنّني ما زلتُ أودُّ البقاء قريباً مِن البلاط، لأعلَم... وهكذا أتمكَّن مِن حمايتكَ.»
«الأفضل لكَ أن تتبعني دون تأجيل. ولكنّني لا أجبركَ. سوف تأتي حينما يَفنى مَنَاين العتيق، ذَرّة بعد ذَرّة.»
«أودُّ كذلك لو أنزع رأس تلك المرأة. فهي ليست أهلاً لأن تحمله...»
يهشّ يسوع بابتسامة شاحبة ويقول بصراحة: «ثمّ... لم تَمُت بعد عن الثروات البشريّة، ومع ذلك فأنتَ عزيز على قلبي. أَعلَم أنّي لن أفقدكَ، حتّى ولو انتظرتُ. أَعرِف أن أنتظر...»
«يا معلّم، أودُّ لو أمنحكَ أريحيتي لأواسيكَ... لأنّكَ تتألّم. أنا أرى ذلك.»
«صحيح. أتألّم. كثيراً! كثيراً!...»
«أَمِن أجل يوحنّا فقط؟ لا أظنّ. فأنتَ تَعلَم أنّه في سلام.»
«أَعلَم أنّه في سلام وأُحِسّ به قريباً منّي جدّاً.»
«وإذن؟»
«وإذن!... مَنَاين، الفَجر ماذا يَسبق؟»
«النهار، يا معلّم. لماذا تَسأَل؟»
«لأن موت يوحنّا يَسبق النهار الذي سأكون فيه الفادي. وكلّ ما فيَّ مِن بَشَريّ يَرتَعِد لهذه الفكرة... مَنَاين، إنّي ذاهب إلى الرابية. ابق أنتَ لاستقبال القادمين، ولإعانة الذين قد وَصَلوا. ابق حتّى عودتي. ثمّ... افعل ما تريد. وداعاً.»
ويُغادِر يسوع الغرفة. يَهبط السلّم بهدوء، يجتاز الحديقة، ومِن الخلف يَسلك درباً وسط الحدائق الـمُهمَلة وبساتين الزيتون والتفّاح والكرمة والتين. ويَصعَد سَفح رابية صغيرة يَغيب فيها عن ناظِري.