ج7 - ف198

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع / القسم الأول

 

198- (يسوع يشدّد عزم رُسُله)

 

25 / 09 / 1946

 

إنّ مخاضة بيت عَبرة قد تمّ اجتيازها للتوّ. مِن خلال النهر الأزرق والمليء كفاية بالماء، وقد غذّته روافد ممتلئة بمياه أمطار الخريف، تُرى الضفّة الأخرى، تلك الشرقيّة، مع أناس كُثُر يَشوّرون. على الضفّة الغربيّة، حيث يتواجد يسوع وجماعته، لا يوجد سوى راعٍ وقطيعه الّذي يرعى عشب الضفّة الأخضر.

 

بطرس يرتمي على بقايا جدار موجود هناك، حتّى مِن دون أن يجفّف ساقيه الرطبتين بفعل اجتياز المخاضة. فصحيح أنّهم يستخدمون القوارب في هذا الفصل، إنّما كي لا تَعلَق في هذا الموضع ذي المياه الضحلة، يستخدمونها في الجزء الأكثر عمقاً، متوقّفين لإنزال العابرين ما أن تحتكّ الدعامة السفليّة بالأعشاب المغمورة. وهكذا يتعيّن السير بضع خطوات في الماء عند إنزال الركّاب.

 

«ما بكَ؟ أتشعر بسوء؟» يَسأَلون.

 

«لا. إنّما ما عدتُ أحتمل ذلك بعد. كلّ تلك الشدّة على جبل نيبو، وقبل ذلك في حشبون، وقبلها في أورشليم، وقبلاً في كفرناحوم، وبعد جبل نيبو في كالّيروة، والآن في بيت عَبرة... آه!» يضع رأسه بين يديه ويبكي.

 

«لا تضعف، يا سمعان. لا تجعلني أفتقد كذلك لشجاعتكَ، شجاعتكم!» يقول له يسوع فيما يدنو منه ويضع يده على الثوب الرماديّ الثقيل الّذي يكسو الرّسول.

 

«لا أستطيع، لا أستطيع أن أرى! لا أستطيع أن أراكَ هكذا تُساء معاملتكَ! لو كنتَ تتركني أتصرّف... لربّما استطعتُ. إنّما هكذا… أن أُرغِم نفسي على التمالك... وأن أشاهد إهاناتهم، معاناتكَ، مثل طفل لا حول له ولا قوّة... آه! إنّ ذلك يحطّم كلّ داخلي، وأغدو خرقة… إنّما انظروا إن كان ممكناً رؤيته هكذا! كأنّه شخص مريض، شخص يموت مِن الحمّى… كأنّه مذنب مُلاحَق، لا يجد أين يتوقّف كي يتناول لقمة خبز، ليشرب رشفة، ليبحث عن حجر يسند إليه رأسه! ضبع نيبو ذاك! حيّات كالّيروة تلك! ذاك المختلّ الّذي لا يزال هناك! (ويشير إلى الضفّة الأخرى). الّذي هو شيطان أقلّ منه ذاك الّذي مِن كالّيروة، مع أنّكَ تقول أنّ وحده الثاني مُسَيطَر عليه مِن قبل بعلزبول! إنّني أخاف الممسوسين، أعتقد بأنّه إذا ما استولى عليهم الشيطان هكذا، فلا بدّ أنّهم كانوا أشراراً جدّاً. لكن… الإنسان يمكن أن يسقط مِن دون أن تكون له الإرادة المطلقة لذلك. في حين أنّ هؤلاء، الذين مِن دون أن يكونوا ممسوسين، يفعلون ما يفعلونه، بكلّ حرّيّة فكرهم!... آه! لن تتغلّب عليهم أبداً، بما أنّكَ لا تريد معاقبتهم؟ وهم… سوف يتغلّبون عليكَ...» ودموع الرّسول الوفيّ، الّتي كانت قد جفّت قليلاً تحت نار السُّخط، تعود بقوّة…

 

«عزيزي بطرس، أتظنّ بأنّهم ليسوا ممسوسين؟ أتظنّ بأن المرء كي يكون كذلك، يجب أن يكون كما ذاك الذي مِن كالّيروة وآخرين كنّا قد التقيناهم؟ أتظنّ أنّ الـمَسّ يتبيّن فقط بالصراخ الفوضويّ، بالقفز، الضراوة، هَوَس العيش في أوكار، البكم، شلل الأطراف، تبلّد الفكر، بحيث أنّ الممسوس يتكلّم ويتصرّف بلا إدراك؟ لا. هناك أيضاً وَساوس، أو بالأحرى استحواذات، أكثر مَكراً وأكثر قُدرة، وهي الأخطر، لأنّها لا تعيق ولا تُضعِف الفكر كي تمنعه مِن فِعل أمور صالحة، إنّما تُطوّره، بالأحرى، تُنمّيه كي يكون قادراً على خدمة مَن يسيطر عليه. إنّ الله، حين يتملّك فِكراً، ويستخدمه كي يخدمه، فإنّه يبثّ فيه، وفي الساعات الّتي يكون فيها في خدمة الله، ذكاءً فائق الطبيعة، يزيد كثيراً الذكاء الطبيعي الّذي له. أتظنّون مثلاً أنّ إشَعياء، حزقيّال، دانيال والأنبياء الآخرين، لو كان عليهم قراءة وتفسير تلك النبوءات كما لو أنّ آخرين قد كتبوها، أما كانوا قد واجهوا الغموض العصيّ على الفهم الّذي يواجهه المعاصرون؟ ومع ذلك، أنا أقول لكم، لقد كانوا يدركونها تماماً فيما كانوا يتلقّونها.  أُنظر، يا سمعان. لنأخذ هذه الزهرة الّتي نبتت هنا عند قدميكَ. ماذا ترى في الظلّ المحيط بالكأس؟ لا شيء. ترى كأساً عميقة وفماً صغيراً ولا شيء آخر. الآن أنظر إليها فيما أقطفها وأحملها هنا تحت شعاع الشمس هذا. ماذا ترى؟»

 

«أرى مدقّات، أرى غبار طلع، وإكليلاً صغيراً مِن زغب يبدو كأهداب حول المدقّات، وشريطاً صغيراً مهدّباً كلّياً يزيّن بِدِقّة البتلة العريضة والاثنتين الأصغر منها… وأرى قطرة صغيرة مِن الندى في قعر الكأس… و… آه! ها إنّ ذبابة صغيرة قد نزلت إلى الداخل، كي تشرب، وعلقت في الزغب المهدّب وما عادت تستطيع الإفلات… ولكن إذاً! دعني أرى على نحو أفضل. آه! إنّ الزغب دَبِق، إنّه يُلصِق… لقد فهمتُ! إنّ الله جعله هكذا إمّا كي تتغذّى النبتة، أو كي تتغذّى العصافير بمجيئها لالتقاط الذباب الصغير، أو لتخليص الهواء منه… يا للروعة!»

 

«إنّما، مِن دون نور الشمس القويّ ما كنتَ لترى شيئاً.»

 

«إيه! لا!»

 

«الأمر هو ذاته بالنسبة للتملّك الإلهيّ. إنّ الخليقة، الّتي لا تضع مِن ذاتها سوى إرادتها الصالحة لمحبّة إلهها كلّياً، التوكّل على مشيئته، ممارسة الفضائل وكبح الشهوات، فإنّها تنغمس في الله، وفي النور الّذي هو الله، في الحكمة الّتي هي الله، وترى وتفهم كلّ شيء. وبعد ذلك، وقد انتهى الإجراء الحاسم، تسود الخليقةَ حالةٌ بحيث أنّ ما تلقّته يستحيل قاعدة حياة وتقديس، إنّما يعود مُعتِماً، أو بالأحرى، غَسَقيّاً، ما كان قد بدا في البدء بغاية الوضوح. إنّ الشيطان، المقلّد الدائم لله، يُحدِث تأثيراً مماثلاً لدى ممسوسي الروح -على الرغم مِن محدوديّته، لأنّ الله وحده هو لا محدود- لدى الّذين يستحوذ عليهم، الّذين سلّموا أنفسهم طوعاً له كي ينتصر، يمنحهم ذكاءً متفوّقاً، إنّما الـمُوَجَّه فقط للشرّ، للأذيّة، للإساءة لله والبشر. هكذا فالعمل الشيطانيّ، وقد وجد تواطؤات في النَّفْس، فهو يستمرّ، جاذباً بالتالي، تدريجيّاً، إلى المعرفة الكلّية للشرّ. هذه هي الاستحواذات الأسوأ. لا شيء منها يتبدّى في الظاهر، وبالتالي لا نهرب مِن هؤلاء الممسوسين. إنّما هي موجودة. كما قلتُ مرّات عدّة، فإنّ ابن الإنسان سيُضرَب مِن قبل ممسوسين على هذه الشاكلة.»

 

«إنّما ألا يستطيع الله ضرب جهنّم؟» يَسأَل فيلبّس.

 

«يستطيع. إنّه الأقوى.»

 

«ولماذا لا يفعل ذلك كي يدافع عنكَ؟»

 

«إنّ أسباب الله سوف تُعرف في السماء، هيّا، لنمضِ. ولا تضطربوا.»

 

الرّاعي، الذي أنصت مِن دون أن يُظهِر ذلك، يَسأَل: «أَمِن مكان تذهب إليه؟ هل أنتَ مُنتَظر؟»

 

«لا، يا رجل. عليَّ الذهاب إلى ما بعد أريحا. إنّما لستُ مُنتَظَراً.»

 

«وهل أنت متُعب جدّاً، أيّها الرابّي؟»

 

«متعب، نعم. لم يُسمَح لنا باستضافة ولا بتوقّف منذ جبل نيبو.»

 

«إذن… كنتُ أريد أن أقول لكَ… إنّني قرب بيت حجلا القديمة… أبي أعمىً ولا يمكنني الذهاب بعيداً كي لا أتركه وحيداً لأشهر. لكنّ قلبي يعاني مِن ذلك وكذلك القطيع. إن كنتَ تشاء… أستضيفكَ. إنّه ليس بعيداً. إنّ العجوز يؤمن بكَ كثيراً. إنّ يوسف، ابن يوسف، تلميذكَ، يَعلَم ذلك.»

 

«هيّا بنا.»

 

الرجل لا يدعه يكرّر ذلك مرّتين، يجمع القطيع ويقوده صوب القرية، الّتي لا بدّ أن تكون إلى الشمال الغربي مِن الموضع الّذي هم فيه الآن. يسوع يتّخذ له مكاناً مع جماعته وراء القطيع.

 

«يا معلّم» يقول الإسخريوطيّ بعد برهة: «بالتأكيد ليس في بيت حجلا مَن قد يشتري هِبات ذاك الرّجل...»

 

«عندما نمضي إلى أريحا للذهاب إلى نيقي سنبيعها.»

 

«الأمر هو أنّ، هذا الرجل، فقير، ويجب التعويض عليه. لم يعد معي أيّ مال.»

 

«لدينا الكثير مِن المؤن، حتّى لمتسوّل ما. لا يتطلّب الأمر أكثر مِن ذلك في الوقت الحالي.»

 

«كما تشاء. إنّما كان مِن الأفضل لو أرسلتني قُدُماً. لكان بإمكاني...»

 

«ذلك ليس ضروريّاً.»

 

«يا معلّم، إنّ ذلك عدم ثقة! لماذا ما عدتَ ترسلنا كما قبلاً، اثنين اثنين؟»

 

«لأنّني أحبّكم وأفكّر بخيركم.»

 

«ليس حسناً إبقاؤنا مجهولين هكذا. سوف يعتقدون أنّنا... غير جديرين، عاجزين… ذات مرّة كنتَ تتركنا نذهب، كنّا نبشّر، كنا نجترح معجزات، كنّا معروفين...»

 

«هل تأسّف لأنّكَ لم تعد تفعل ذلك بعد؟ هل كان يناسبكَ الذهاب مِن دوني؟ أنتَ الوحيد الّذي يتشكّى مِن عدم الذهاب وحده… يا يهوذا!...»

 

«يا معلّم، أنتَ تعلم إذا ما كنتُ أحبّكَ!» يقول يهوذا واثقاً.

 

«أعلم ذلك. وكي لا تُفسَد روحك أُبقيكَ معي. إنّكَ بالفعل مَن يتقبّل ويوزّع، مَن يبيع أو يقايض مِن أجل الفقراء. هذا يكفي، وهو بالفعل كثير. لاحِظ رفاقكَ: ولا واحد يطلب ما تطلبه.»

 

«لكنّكَ منحتَ ذلك للتلاميذ… وهذا التمييز هو ظلم.»

 

«يهوذا، أنتَ الوحيد الّذي يقول لي إنّني ظالم… لكنّني أسامحكَ. اذهب إلى الأمام وأرسل إليَّ أندراوس.»

 

ويسوع يبطئ كي ينتظر أندراوس، ويكلّمه على انفراد. لا أعلم ما الّذي يقوله. أعلم أنّ أندراوس يبتسم ابتسامته الوديعة وينحني ليقبّل يديّ المعلّم، ومِن ثمّ يعود إلى الأمام.

 

يسوع يبقى وحده، خلف الجميع… ويتقدّم حاني الرأس، ماسحاً وجهه بطرف ردائه، كما لو أنّه يتعرّق. لكنّها دموع لا قطرات عرق تلك تسيل على خدّيه الهزيلين والشاحبين.