ج7 - ف215

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع / القسم الثاني

 

215- (أنا الراعي الصالح)

 

25 / 10 / 1946

 

يسوع، إذ دخل المدينة مِن باب هيرودس، يجتازها للتوجّه إلى [وادي] تريبيون وضاحية عوفل.

 

«هل نحن ماضون إلى الهيكل؟» يَسأَل الإسخريوطيّ.

 

«نعم.»

 

«خذ حذركَ في ما تفعل!» يقول كُثُر لتحذيره.

 

«لن أتوقّف إلاّ للوقت اللازم للصلاة.»

 

«سوف يحتجزونكَ.»

 

«لا. سندخل مِن أبواب الشمال ونخرج مِن أبواب الجنوب، ولن يكون لهم الوقت الكافي لتنظيم أنفسهم للإساءة إليَّ. أقلّه إن لم يكن خلفي على الدوام مَن يراقبني ويشي بي.»

 

لا أحد يردّ، ويسوع يتقدّم نحو الهيكل الّذي يظهر في أعلى رابيته، كنوع مِن الطيف في الضوء الأخضر المصفرّ لصباح شتائيّ معتم، حيث الشمس الّتي تشرق لا تعدو كونها ذكرى تتشبّث في البقاء حاضرة، محاولة فتح طريق لنفسها في كتلة السحاب الكثيفة. مجهود عبثيّ! روعة الفجر الفَرِحة تتحوّل إلى انعكاس شاحب لأصفر وهميّ لا ينتشر، بل هو مصطبغ بالرصاصيّ المعرّق بالأخضر. وتحت هذا النور يبدو رخام وذهب الهيكل شاحباً، حزيناً، أحسبه جنائزيّاً، كأطلال تبرز مِن نطاق موت.

 

يتفرّس فيه يسوع بينما هو يصعد صوب الأسوار، وينظر إلى وجوه العابرين الصباحيّين. أغلبهم أناس متواضعون: بستانيّون، رعاة مع حيوانات الجزارة، خُدّام أو مدبّرات منزل ذاهبات إلى السوق. جميع هؤلاء الناس يسيرون بصمت، متدثرين معاطفهم، منحنين قليلاً لتفادي هواء الصباح اللاسع. حتّى الوجوه تبدو أكثر شحوباً ممّا هي في العادة وجوه الناس مِن هذا القوم. إنّه النور الغريب الّذي يجعلها خضراء، أو لؤلؤيّ تقريباً، في إطار أقمشة المعاطف الملوّنة، حيث الأخضر والبنفسجيّ الزاهي والأصفر الغامق، والغير مناسبة بالتالي لإلقاء انعكاسات ورديّة على الوجوه. البعض يحيّون المعلّم، إنّما دونما توقّف؛ فليس هو الوقت الملائم. متسوّلون، غير جاهزين بعد لإطلاق صيحاتهم المثيرة للشفقة عند مفترق الطرقات أو تحت الأفاريز الّتي تغطّي الطرقات في كلّ خطوة. الوقت والفصل يوفّران ليسوع حرّيّة المضيّ دونما عائق.

 

ها هم عند السور: يدخلون. يذهبون إلى ردهة الإسرائيليّين. يُصلّون بينما يعلن صوت أبواق، أحسبها مِن فضّة بسبب رنّتها، عن أمر هامّ بالأكيد، تترجّع على الروابي، وبينما يفوح عطر بخور زكيّ الرائحة يحجب شمّ باقي الرواح الأقلّ استساغة الممكن شمّها على قمّة جبل موريا، أي الدائمة، أقول الرائحة الطبيعيّة للّحم المذبوح والمستهلك بالنار، الطحين المحروق، الزيت المشتعل، الموجودة دائماً هناك في الأعلى، بأقلّ أو أكثر قوّة، إنّما الحاضرة على الدوام بسبب المحرقات المستمرّة.

 

يذهبون في اتّجاه آخر ويصبحون مُلاحَظين مِن الأوائل الّذين يهرعون إلى الهيكل، الّذين ينتمون إليه، الباعة والصيارفة الّذين بدأوا بتهيئة موائدهم وحظائرهم. ولكنّهم قلّة قليلة، وكانت دهشتهم كبيرة لدرجة أنّهم لم يعرفوا كيف يتصرّفون. يتبادلون فيما بينهم كلمات الدهشة.

 

«لقد عاد!»

 

«لم يذهب إلى الجليل كما كان يقال.»

 

«ولكن أين كان متخفّياً، إن لم يكن أحد يجده في أيّ مكان؟»

 

«هو يريد تحدّيهم بحقّ.»

 

«يا له مِن أحمق!»

 

«يا له مِن قدّيس!» وهكذا دواليك بحسب منطق كلّ منهم.

 

أصبح يسوع خارج الهيكل ويهبط باتّجاه الطريق المؤدّية إلى عوفل، عندما عند تقاطع الدروب المؤدّية إلى صهيون، يلتقي بالمولود أعمى، الّذي شفاه منذ وقت قريب، وهو يسير بنشاط محمّلاً بسلال مليئة بالتفّاح العَطِر، يمرح مع شباب آخرين يحملون مثلما يحمل، يمضون في اتّجاه عكس اتّجاهه.

 

ربّما لم يكن الشاب ليتنبّه للّقاء، كونه يجهل وجه يسوع ووجوه الرُّسُل. ولكنّ يسوع لا يجهل وجه المبرأ بمعجزة، ويناديه. وسيدونيا الملقّب برتولماوس يلتفت وينظر، مستفسراً مَن يكون هذا الرجل الطويل القامة، المهيب رغم بساطة اللباس، الّذي يناديه باسمه وهو متوجّه صوب أحد الأزقّة.

 

«تعال هنا.» يأمر يسوع.

 

يدنو الشاب، دون أن يُنزِل حِمله، وينظر إلى يسوع بطرف العين، وظنّاً منه أنّه واحد يرغب في شراء التفاح، يقول له: «لقد باعها معلّمي، ولكن ما زال لديه بعد إذا كنتَ تريد منها. إنّها جميلة وجيّدة، وصلت أمس مِن بساتين شارون. وإن اشتريتَ منها الكثير تحصل على حسم كبير، ذلك أنّ...»

 

يرفع يسوع يده اليمنى مبتسماً ليُوقف طلاقة لسان الشاب، ويقول له: «لم أَدعُك لشراء التفاح، إنّما لأفرح وأُمجّد العليّ معكَ وقد أنعم عليكَ.»

 

«آه! نعم! أنا لا أكفّ عن فِعل ذلك، لأجل النور الّذي أراه وفي الوقت ذاته مِن أجل العمل الّذي أتمكّن مِن ممارسته، لمساعدة والدي ووالدتي أخيراً. لقد وجدتُ معلّماً صالحاً. هو ليس عبرانيّاً، ولكنّه صالح. لم يكن العبرانيون يرضون بي إذ... إذ إنّهم يعلمون أنّي طُردتُ مِن المجمع.» يقول الشاب وهو يضع السلال على الأرض.

 

«طردوكَ؟ لماذا؟ ماذا فعلتَ؟»

 

«أنا لا شيء. أؤكّد لكَ. الربّ هو مَن صنع. في السبت هو مَن جعلني ألتقي بذلك الرجل الّذي يقال بأنّه مَسيّا، وهو شفاني، كما ترى. ولأجل ذلك طردوني.»

 

«إذاً فالّذي شفاكَ لم يُسدِ لكَ خدمة جيّدة.» يقول يسوع ليختبره.

 

«لا تقل هذا يا رجل! هذا تجديف مِن قِبَلكَ! قبل كلّ شيء هو أظهر لي أنّ الله يحبّني، ومِن ثمّ منحني الرؤية... أنتَ لا تعرف ماذا يعني أنّكَ "ترى" لأنّكَ ترى على الدوام. ولكنّ أحداً لم يرَ مطلقاً! آه!... إنّه... هي الأشياء كلّها الّتي يمكن الحصول عليها مع النظر. أنا أقول لكَ أنّني عندما حصلت على النظر، هناك قرب سلوام، قد ضحكتُ وبكيتُ، إنّما مِن الفرح، إيه! بكيتُ كما لم أبكِ في بؤسي. ذلك أنّني أدركتُ حينذاك كم كان عظيماً وكم كان صالحاً العليّ. وثمّ أستطيع كسب معيشتي، وبعمل ملائم. وثمّ... -هذا ما أتمنّاه أكثر مِن أيّ شيء قد منحتني إيّاه المعجزة الّتي نلتُها- وثمّ آمل التمكّن مِن مقابلة الرجل الّذي يقال إنّه مَسيّا وتلميذه الّذي...»

 

«وماذا كنتَ ستفعل حينها؟»

 

«كنتُ لأمجّده هو وتلميذه. وكنتُ لأقول للمعلّم، المفروض أنّه آتٍ حقّاً مِن عند الله، أن يتّخذني خادماً له.»

 

«كيف؟ بسببه أنتَ محروم، وتعاني في الحصول على عمل، ويمكن أن تنال عقوبات أكثر، وتريد خدمته؟ ألا تعلم أنّ كلّ الّذين يتبعون الّذي شفاكَ مضطهَدون؟»

 

«إيه! أعلم ذلك! ولكنّه ابن الله، كما نقول فيما بيننا. رغم أن القاطنين في الأعلى (ويشير إلى الهيكل) لا يريدوننا أن نقول ذلك. وألا يستحقّ ترك كلّ شيء لخدمته؟»

 

«هل تؤمن إذاً بابن الله ووجوده في فلسطين؟»

 

«أؤمن به. ولكنّني أودُّ التعرّف عليه ليس فقط بالفِكر، إنّما بكلّ كياني. إذا كنتَ تعلم مَن يكون وأين هو موجود، قل لي، كي أذهب إليه وأراه وأؤمن به تماماً وأخدمه.»

 

«ها قد رأيتُه، وليس مِن الضروريّ الذهاب إليه. إنّ مَن تراه في هذه اللحظة وتتحدّث إليه هو ابن الله.»

 

لا يمكنني تأكيد ذلك بيقين، إنّما يبدو لي أنّ يسوع، أثناء قوله هذا، كان له كما يمكن أن يقال، تجلٍّ قصير، بأن أصبح جميلاً جدّاً وأقول متلألئاً. أقول بأنّه، كما مكافأة للمُتواضع الّذي يؤمن به، وتثبيته في إيمانه، فقد كان له، لزمن دوام البرق، أن كَشَفَ عن جماله المستقبليّ، أريد القول الجمال الّذي سيتّسم به بعد القيامة وسيحتفظ به في السماء، جمال خليقة بشريّة ممجّدة، جسد ممجّد وذائب في جمال الكمال غير المدرك الّذي يعود إليه. لحظة، أقول، مدّة برق. ولكنّ الركن شبه المعتم، حيث انسحبا للتحدّث، تحت إفريز الزقاق، يشعّ بشكل غريب بنور يتحرّر مِن يسوع الّذي، أُكرّر، يصبح جميلاً للغاية.

 

بعد ذلك يعود كلّ شيء كما كان قبلاً، ما عدا الشاب الّذي أضحى الآن على الأرض، وجهه في التراب، ويعبد قائلاً: «أؤمن يا ربّي، وإلهي!»

 

«إنهض. لقد أتيتُ إلى العالم لأجلب النور ومعرفة الله، واختبار الناس والحكم عليهم. وهذا الزمن الّذي هو لي هو زمن اختيار، وانتخاب وتمييز. لقد أتيتُ مِن أجل أنّ طاهري القلوب والنوايا، المتواضعين، الودعاء، محبّي البرّ، الرحمة، السلام، مِن أجل الباكين، والّذين يعرفون إعطاء الثروات المختلفة قيمتها الحقيقيّة ويفضّلون الروحيّة منها على المادّيّة، يجدون ما يصبو إليه روحهم، ومِن أجل الّذين كانوا عمياناً، لأنّ البشر قد رفعوا أسواراً سميكة لحجب النور، أي معرفة الله، ليروا بوضوح، ومِن أجل الّذين يعتقدون أنفسهم مبصرين ليصبحون عمياناً...»

 

«إذاً فأنتَ تكره قسماً كبيراً مِن الناس ولستَ صالحاً كما تدّعي. فلو كنتَ كذلك، لكنتَ تعمل على أنّ الجميع يبصرون بوضوح، وأنّ المبصرون لا يصبحون عمياناً.» يقاطع بعض الفرّيسيّين الواصلين مِن الطريق الرئيسيّة، والّذين يدنون مع آخرين، بحذر، مِن خلف الجماعة الرسوليّة.

 

يلتفت يسوع وينظر إليهم. بالتأكيد لم يعد الآن في تجلّي الجمال الوديع. الآن! هو يسوع الصارم للغاية، الّذي يحدّق في مضطهِديه بنظرته الزفيريّة، ولم يعد في صوته صداح الفرح الذهبيّ، بل رنّة البرونز، وكصوت البرونز يصبح قاطعاً وصارماً في الوقت الّذي يردّ: «لستُ أنا مَن لا أريد أن يروا الحقيقة، أولئك الّذين يحاربونها الآن. ولكنّهم هم مَن يرفعون السواتر أمام حدقات أعينهم كي لا يروا، ويعمون أنفسهم بإرادتهم الحرّة. وقد أرسلني الآب ليحصل التفريق، فيُعرَف بحقّ مَن هم أبناء النور ومَن هم أبناء الظلام، مَن يريدون أن يروا ومَن يريدون أن يُعموا أنفسهم.»

 

«قد نكون نحن كذلك مِن هؤلاء العميان؟»

 

«لو كنتم كذلك وكنتم تحاولون أن تروا، فلن تكونوا مخطئين. إنّما بما أنّكم تقولون: "نحن نرى". وبعد ذلك لا تريدون أن تروا، فترتكبون خطيئة. وخطيئتكم قائمة لأنّكم لا تحاولون أن تروا طالما أنتم عميان.»

 

«وما الّذي ينبغي لنا رؤيته؟»

 

«الطريق، الحقّ، الحياة. إنّ المولود أعمى كما كان هذا، يمكنه دائماً أن يجد باب منزله بعصاه ويلجه لأنّه يعرفه. ولكن لو اقتيد إلى مكان آخر، فلا يمكنه الدخول مِن باب البيت الجديد، لأنّه لا يعرف مكانه ويصطدم بالجدران.

زمن الشريعة الجديدة قد أتى. كلّ شيء يتجدّد وينشأ عالم جديد، شعب جديد، ملكوت جديد. الآن الّذين مِن الزمن الماضي لا يعرفون ذلك. هم يعرفون زمنهم. إنّهم كالعميان وقد اقتيدوا إلى بلد جديد حيث بيت الآب الملوكيّ، الّذي لا يعرفون مواضعه.

لقد أتيتُ لأقودهم وأُدخلهم إليه ولكي يروا. ولكنّني أنا نفسي الباب الّذي منه يتمّ الولوج إلى البيت الأبويّ، إلى ملكوت الله، إلى النور، إلى الطريق والحقّ والحياة. كذلك أنا الآتي لأجمع القطيع الّذي مكث دون مُرشِد، ولاقتياده إلى الحظيرة الوحيدة: إلى حظيرة الآب. أنا أعرف باب الحظيرة ذلك أنّني أنا الباب والراعي في الوقت ذاته، وأدخل إليها وأخرج كيفما أريد ومتى أريد، وأدخلها بحرّيّة، ومِن الباب، ذلك أنّني أنا الراعي الحقّ.

عندما يأتي أحد ليعطي نعاج الله تعليمات أخرى، أو يحاول تضليلهم باقتيادهم إلى مقامات أخرى ودروب أخرى، فهذا ليس بالراعي الصالح، وهو راع مزيّف. وكذلك الّذي لا يدخل مِن باب الحظيرة، ولكنّه يحاول الدخول مِن مكان آخر قافزاً مِن فوق السور، فهذا ليس الراعي، بل هو سارق وقاتل يدخل بغية السرقة والقتل، كي لا يكون للحملان الّتي يأخذها صوت للشكوى فتلفت انتباه الحرّاس والراعي. وكذلك وسط نعاج قطيع إسرائيل، رعاة مزيّفون يحاولون التسلّل ليُخرجوهم مِن المراعي، بعيداً عن الراعي الحقيقيّ. ويدخلون إليها متأهّبين لخطفهم مِن القطيع بالعنف، وعند الضرورة فهم متأهّبون كذلك لقتلهم وضربهم بأساليب متعدّدة، لمنعهم مِن الكلام والقول للراعي عن حِيَل الرعاة المزيّفين، والهتاف نحو الله لحمايتهم مِن خصومهم وخصوم الراعي.

أنا الراعي الصالح ونعاجي تعرفني، كما ويعرفني على الدوام مَن هم بوّابو الحظيرة الحقيقيّة. هم عرفوني وعرفوا اسمي وقد ذَكَروه ليكون معلوماً في إسرائيل، وقد وصفوني وأعدّوا سُبُلي، وعندما أصبح صوتي مسموعاً، ها هو الأخير فيهم قد فتح لي الباب، قائلاً للقطيع الّذي كان ينتظر الراعي الحقيقيّ، للقطيع المجتمع حول عصاه: "هاكم! هذا هو الّذي قلتُ عنه بأنّه يأتي بعدي، وهو الّذي يسبقني لأنّه كان موجوداً قبلي، وأنا لم أكن أعرفه. ولكن لأجل ذلك، كي تكونوا جاهزين لاستقباله، أنا أتيتُ لأعمّد بالماء، إلى أن يظهر هو في إسرائيل". والنعاج الصالحة سمعت صوتي، وعندما ناديتُها بأسمائها، هرعت لآخُذها معي، كما يفعل الراعي الصالح الّذي تعرف النعاج صوته وتتبعه أينما ذهب. وعندما يُخرِجها جميعها، يسير أمامها، وهي تتبعه لأنّها تحبّ صوت الراعي، بينما هي لا تتبع الغريب، بل على العكس هي تهرب بعيداً عنه، لأنّها لا تعرفه وتخاف منه. أنا كذلك أسير أمام نعاجي لأدلّها على الدرب، ولكي أواجه أوّلاً الأخطار وأشير إليها للقطيع الّذي أريد أن أقوده إلى مكان آمن في ملكوتي.»

 

«أفلا تعود إسرائيل ملكوت الله؟»

 

«إسرائيل هي المكان الّذي منه يرتفع شعب الله إلى أورشليم الحقيقيّة وملكوت الله.»

 

«ومَسيّا الموعود إذاً؟ هذا المَسيّا الّذي تدّعي أنّكَ هو، أفلا ينبغي له إذاً أن يجعل إسرائيل منتصرة، مُمجَّدة، سيّدة العالم، مُخضِعاً لصولجانها كلّ الشعوب ومنتقماً، آه! منتقماً بشراسة مِن كلّ الّذين أخضعوها منذ أن كانت شعباً؟ لا شيء مِن هذا صحيح إذاً؟ هل تنكر الأنبياء؟ هل تعتبر رابّيينا أغبياء؟ أنتَ...»

 

«ملكوت مَسيّا ليس مِن هذا العالم. إنّه ملكوت الله، المؤسّس على المحبّة. لا شيء آخر. مَسيّا ليس مَلِكاً لشعوب وجيوش، بل هو مَلِك النُّفوس. مِن الشعب المختار يأتي مَسيّا، مِن أصل ملكيّ، وبالأخصّ مِن الله الّذي ولده وأرسله. فَمِن شعب إسرائيل بدأ تأسيس ملكوت الله، نَشْر شريعة المحبّة، إعلان البشرى الحسنة الّتي تكلّم عنها النبيّ. ولكنّ مَسيّا سيكون مَلِك العالم، مَلِك الملوك، ولن يكون لملكوته نهايات ولا حدود، لا في الزمن، ولا في المدى. افتحوا عيونكم واقبلوا الحقيقة.»

 

«لم نفهم شيئاً مِن هذيانكَ. فأنتَ تقول كلاماً لا معنى له. تكلّم وأجب دون أمثلة. هل أنتَ مَسيّا، نعم أم لا؟»

 

«أولم تفهموا بعد؟ مِن أجل ذلك قلتُ لكم إنّني الباب والراعي. إلى الآن، لم يستطع أحد الدخول إلى ملكوت الله لأنّه كان مسدوداً ودون منفذ، إنّما الآن أنا جئتُ، وجُعِل باب للدخول.»

 

«آه! آخرون قالوا بأنّهم كانوا مَسيّا، وقد عرفناهم فيما بعد لصوصاً ومتمرّدين، وقد عاقبت العدالة البشريّة تمرّدهم. مَن يؤكّد لنا أنّكَ لستَ مثلهم؟ لقد تَعِبنا مِن المعاناة وجعل الشعب يعاني مِن قسوة روما، بسبب كاذبين يَدَّعون أنّهم ملوك ويَحضّون الشعب على الثورة!»

 

«لا. عبارتكم ليست دقيقة. أنتم لا تريدون المعاناة، هذا صحيح. إنّما أن يعاني الشعب، فلا يهمّكم. هذا صحيح تماماً، إنّكم تضيفون إلى قسوة المسيطرين قسوتكم أنتم، بظلمكم لعامّة الشعب بضرائب مبالغ فيها وبأمور أخرى كثيرة. مَن يؤكّد لكم أنّني لستُ قاطع طريق؟ أعمالي. فلستُ أنا مَن يجعل يد روما ثقيلة، بل على العكس، بما أنّ الذي يحصل معي أنّني أجعلها خفيفة أكثر بنصحي المسيطرين بالإنسانيّة والّذين تحت السيطرة بالصبر. أقلّه هذا.»

 

أناس كُثُر -حيث مِن الآن فصاعداً كُثُر قد تجمّعوا، ويتزايدون باضطراد لدرجة حصول زحمة سير في الشارع الكبير، وبالتالي يحتشد الناس جميعاً في الزقاق، تحت القناطر الّتي ترتدّ منها الأصوات- يوافقون يسوع قائلين: «حسناً هو ما قيل عن الضرائب، صحيح! هو ينصحنا بالخضوع وينصح الرومان بالرحمة.»

 

الفرّيسيّون، كما دائماً، يستشيطون غضباً مِن استحسان الجمع ويصبحون لاذعين أكثر في لهجتهم الّتي يتوجّهون بها إلى المسيح: «أجب، دون كثير كلام، وأثبت أنّكَ مَسيّا.»

 

«الحقّ الحقّ أقول لكم إنّني أنا هو. إنّي أنا، أنا وحدي باب حظيرة السماوات. والّذي لا يمرّ مِن خلالي لا يمكنه الدخول. بالتأكيد، كان هناك مسحاء مزيّفون وسوف يكون أيضاً. إنّما مَسيّا الوحيد والحقيقيّ هو أنا. كم هم الّذين أتوا حتّى هنا يَدَّعون ذلك، ولم يكونوا كذلك، ولكنّهم كانوا فقط سارقين وقطّاع طرق. وليس فقط أولئك الّذين كان قليل مِن الناس من الذهنيّة ذاتها يدعونهم مَسيّا، إنّما كذلك آخرون بعد، الذين وإن لم يَدَّعوا هذا الاسم، يَفرضون عبادة لم تُعطَ حتّى لمَسيّا الحقيقيّ. مَن له أذنان للسماع فليسمع. إنّما لاحِظوا: النعاج لم تسمع لا المسحاء المزيَّفين ولا الرعاة والمعلّمين المزيَّفين، ذلك أنّ روحهم كان يشعر بزيف صوتهم الّذي كان يحاول الظهور بالوداعة وكان يتّسم بالفظاظة. فقط الكِباش هي الّتي تبعتهم ليكونوا رفاقهم بالإثم. كِباش متوحّشون، جموحون، لم يريدوا الدخول إلى حظيرة الله، تحت صولجان الـمَلِك الحقيقيّ والراعي. لأن هذا هو الآن حاضر في إسرائيل. ومَلِك الملوك أصبح راعي القطيع، بينما في السابق مَن كان راعي القطيع أصبح مَلِكاً، وهذا وذاك يتحدّران مِن أصل واحد، مِن الّذي لإشَعياء، كما قيل في الوعود والنبوءات. الرعاة المزيَّفون لم يتكلّموا بصراحة ولا شدّدوا العزم. لقد شتّتوا وعذّبوا القطيع أو تركوه للذئاب، أو قتلوه للإفادة منه ببيعه لتأمين الحياة، أو حرموه مِن المراعي ليبنوا عليها بيوت الملذّات والخمائل مِن أجل الأصنام.

هل تعلمون ما تكون الذئاب؟ إنّها الميول الرديئة، الرذائل الّتي عَلَّمها الرعاة المزيّفون أنفسهم للقطيع، بممارستهم إيّاها أوّلاً. وهل تعلمون ما تكون خمائل الأصنام؟ إنّها الأنانيّات الذاتيّة الّتي يحرق الناس أمامها البخور. الأمران الآخران ليسا بحاجة للشرح، ذلك أنّ معاني الكلمات واضح جدّاً. إنّما أن يتصرّف الرعاة المزيّفون هكذا، أمر منطقيّ هو. فهم ليسوا سوى لصوص يأتون للسرقة، للقتل وإبادة النعاج، لاقتيادها خارج الحظيرة إلى المراعي المزيّفة، أو اقتيادها إلى الحظائر المزيّفة الّتي لا تعدو كونها سوى مسالخ. ولكنّ تلك الّتي تأتي إليَّ تكون في أمان، ويمكنها الخروج للذهاب إلى مراعيَّ أو العودة للمجيء إلى استراحاتي، وتصبح قويّة وسمينة بعصارات مِن القداسة والصحّة. فأنا قد أتيتُ مِن أجل ذلك: كي تكون الحياة والحياة بوفرة، حياة سلام وفرح، لشعبي، نعاجي، الّتي ما تزال إلى الآن هزيلة وحزينة. تلك هي جلّ إرادتي، إنني قد أتيتُ لأعطي حياتي، كي تحظى نعاجي بالحياة الرحبة والوافرة كما أبناء لله.

أنا الراعي الصالح. والراعي، عندما يكون صالحاً، يبذل حياته في الدفاع عن قطيعه ضدّ الذئاب واللصوص، بينما الأجير، الّذي لا يحبّ النعاج بل المال الّذي يكسبه مِن اقتيادها إلى المرعى، لا يهتمّ سوى بإنقاذ ذاته وما وَفَّره في صدره، وعندما يرى الذئب مقبلاً أو اللص، يهرب، ليعود فيما بعد لأخذ بعض النعاج الّتي تركها الذئب شبه ميتة، أو الّتي تاهت بسبب اللصّ، ويقتل الأولى منها لأكلها، أو يبيع الأخيرة وكأنّها ملكه لتضخيم مدّخراته، ويقول للمعلّم فيما بعد، بدموع كاذبة، أنّ نعجة واحدة لم تنجُ. ماذا يهمّ الأجير لو انقضّ الذئب وشتّت النعاج، واللصّ لو غزاها ليأخذها إلى الجزّار؟ أربّما قد سهر عليها بينما كانت تنمو وتَحَمَّل العناء ليجعلها قويّة؟ ولكنّ المعلّم، الّذي يعلم كم تكلّف النعجة، كم مِن ساعات التعب، كم مِن السهر، كم مِن التضحيات، فهذا يحبّها ويعتني بها هي التي ثروته. أمّا أنا فأكثر مِن معلّم. أنا مخلّص قطيعي وأعرف كم يكلّفني خلاص نَفْس واحدة، ولذلك فأنا مستعدّ لكلّ شيء لخلاص نَفْس واحدة. لقد عَهد بها لي أبي. لقد عُهِد لي بكلّ النُّفوس مع الأمر بخلاص العدد الكبير منها. وكلّما نجحتُ في انتزاعها مِن موت الروح، كلّما تمجّد أبي. ولأجل هذا أجاهد لتحريرها مِن كلّ أعدائها، أي مِن الأنا الّتي لها، مِن العالم، مِن الجسد، مِن الشيطان، ومِن خصومي الّذين ينازعوني عليهم ليُحزنوني. أنا أفعل هذا لأنّني أعلم فِكر أبي. وقد أرسلني أبي لأفعل هذا لأنّه يعلم مدى محبّتي له وللنُّفوس. وكذلك نعاج قطيعي تعرفني، أنا ومحبّتي، وتشعر أنّني مستعدّ لبذل حياتي كي أمنحهم الفرح.

ولي نعاج أخرى، لكنّها ليست مِن هذه الحظيرة. لذلك هي لا تعرف مَن أكون، وكثيرون يجهلون وجودي ومَن أنا. نعاج تبدو للكثيرين منكم أسوأ مِن الكِباش المتوحّشة وتحكمون بأنّهم غير مستحقّين أن يعرفوا الحقّ ويحصلوا على الحياة والملكوت. ومع ذلك فالأمر ليس كذلك. الآب يريدهم هم كذلك، وينبغي لي إذاً أن أُدْنيها، أجعلها تعرفني، أجعلها تتعرّف على البشرى الحسنة، وأن أقتادها إلى مراعيَّ، وأجمعها. وهي كذلك ستسمع صوتي، وينتهي بها المطاف بأن تحبّه. وستكون حظيرة واحدة لراعٍ واحد، وسينشأ ملكوت الله على الأرض، ويكون مهيّأ لأن ينتقل ويُستَقبَل في السماوات، تحت صولجاني وعلامتي واسمي الحقيقيّ.

اسمي الحقيقيّ! وحدي أنا أعرفه! إنّما حينما يكتمل عدد المختارين، ووسط تهاليل الابتهاج سيجلسون إلى الوليمة العظيمة لزفاف العريس والعروس، حينذاك سيكون اسمي معروفاً مِن قِبَل مختاريَّ، الّذين بالوفاء له سيكونون قد تقدّسوا، حتّى دون معرفة مدى وعمق معنى أن يُوسَموا باسمي، وأن يُكافَؤوا على محبّتهم له، ولا ما تكون المكافأة... هذا ما أريد أن أمنحه لنعاجي الأمينة، وهو ما يكون فرحي ذاته...»

 

يدير يسوع عينيه المنتشيتين اللامعتين بالدموع إلى الوجوه الملتفتة صوبه، وابتسامة ترتجف على شفتيه، ابتسامة مروحنة على وجه روحانيّ، لدرجة أنّ رعشة هزّت الجمع، الّذي تنبّه إلى حبور المسيح لرؤيا مبهجة، ورغبة مُحِبّة لأن يراها تتحقّق. يستعيد رباطة جأشه. يغمض عينيه للحظة ليخفي السرّ الّذي يراه روحه، والّذي يمكن للعين أن تخونه كثيراً. ويعاود الحديث:

 

«لأجل هذا يحبّني الآب، أيا شعبي، أيا قطيعي! لأنّني مِن أجلكَ، لأجل خيركَ الأبديّ، أبذل حياتي. وسأستعيدها فيما بعد. إنّما قبل ذلك سأبذلها لتكون لكَ الحياة ويكون لك مخلّصكَ لحياتكَ الخاصّة. وسأبذلها بحيث تتغذّى بها، مستبدلاً إيّاي مِن راع إلى مرعى ونبع يمنحان الطعام والشراب، ليس لمدة أربعين سنة مثل العبرانيّين في الصحراء، إنّما لكامل مدّة المنفى عبر صحارى الأرض. في الحقيقة، لا أحد ينتزع الحياة منّي. لا الّذين بحبّهم إيّاي مِن كلّ ذواتهم يستحقّون أن أُهلِك حياتي مِن أجلهم، ولا الّذين ينتزعونها بسبب حقد لا حدود له وخوف أبله. لا يمكن لأحد انتزاعها إن لم أكن أنا، مِن ذاتي، موافقاً على بذلها، وإن لم يكن الآب يسمح بذلك، وكلاهما نابع مِن نشوة مَحبّة للإنسانيّة الخاطئة. فأنا أبذلها مِن ذاتي، ولي السلطان لاستعادتها متى أشاء، إذ لا يمكن أن يتغلّب الموت على الحياة. لذلك منحني الآب هذا السلطان، حتّى إنّ الآب أمرني أن أفعل ذلك. وبحياتي، الممنوحة والمبذولة، ستصبح الشعوب شعباً واحداً: شعبي، الشعب السماويّ لأبناء الله، مُفرّقاً في الشعوب النعاج عن الكباش، ولكي تتبع النعاج راعيها في ملكوت الحياة الأبديّة.»

 

ويسوع، الّذي تكلّم إلى الآن بصوت مرتفع، يتوجّه بصوت منخفض إلى سيدونيا الملقّب برتولماوس، الّذي ما يزال إلى جانبه وسلال التفّاح الطيّب الرائحة عند قدميه، ويقول له: «أنتَ نسيتَ كلّ شيء مِن أجلي. الآن بالتأكيد سوف تُعاقَب وتفقد مكانكَ. أرأيتَ؟ أنا أجلب لكَ الألم على الدوام. مِن أجلي خسرتَ المجمع، والآن ستخسر معلّمكَ...»

 

«وما الّذي يهمّني مِن كلّ هذا هذا إن كنتُ أحظى بكَ؟ فأنتَ وحدكَ مَن لكَ قيمة بالنسبة إليَّ. وأترك كلّ شيء لأتبعكَ، إن كنتَ أنتَ تسمح لي بذلك. دعني فقط أحمل هذه الفاكهة لمشتريها ومِن ثمّ أنا لكَ.»

 

«لنذهب معاً. مِن ثمّ نذهب لأبيكَ، إذ لكَ أب وعليكَ إكرامه بطلبكَ بركته.»

 

«نعم يا رب، كلّ ما تريده. إنّما عَلّمني الكثير لأنّني لا أعرف شيئاً، لا شيء على الإطلاق، حتّى القراءة والكتابة لأنّني كنتُ أعمى.»

 

«لا تهتمّ. فإرادتكَ الصالحة ستكون لكَ المدرسة.»

 

ويبتعد ليعود إلى الشارع الرئيسيّ، بينما الجمع يعلّق، يناقش، حتّى يتشاجر، متعثّراً بين الآراء المتضاربة الّتي هي ذاتها على الدوام: هل يسوع الناصريّ مستحوذ عليه أم قدّيس هو؟ الناس، على اختلافهم، يتناقشون بينما يسوع يبتعد.