ج1 - ف51
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الأول
51- (زيارة زكريّا)
08 / 05 / 1944
أرى غُرفة طويلة، حيث شاهدتُ لقاء المجوس مع يسوع وسجودهم له. أدركتُ أنّني في البيت الذي استضافهم، وحيث أقامَت العائلة المقدّسة. وأُشاهِد وصول زكريّا.
لم تكن أليصابات بصحبته. لقد هَرَعَت صاحبة المنزل خارجاً لاستقبال الضيف الذي وَصَل. وقادَته قُرب باب منخفض وقَرَعَت ثمّ انسَحَبَت بتحفُّظ. يَفتَح يوسف ويَهتف بتعجّب فرحاً لرؤيته زكريّا، يُدخِله إلى الغرفة الصغيرة الضيّقة وكأنّها دهليز: «مريم تُرضِع الصغير الآن، انتظر قليلاً، اجلس، حتماً أنتَ مُتعَب.» ويَجلس الضيف على السرير ويَجلس بقربه.
أَسمَع يوسف الذي يسأله عن أخبار يوحنّا، فيجيبه زكريّا: «إنّه يكبر شديداً مثل مهر. إلّا أنّه يعاني الآن مِن أسنانه، لهذا لم نشأ اصطحابه، فالطقس بارد جدّاً، وكذلك أليصابات لم تأت لأنّها لا تستطيع تركه دون رضاعة. إنّها متأسّفة ولكنّ الطقس قاس جدّاً!»
يُجيب يوسف: «بالفعل، الطقس بارد جدّاً.»
«الرجل الذي أرسلتُماه لي قال إنّكما لم تَجِدا لكما منزلاً أثناء الولادة. مَن يدري مِقدار ما عانيتُما.»
«نعم، في الحقيقة قد عانينا كثيراً. ولكنّنا كنّا خائفَين أكثر منّا متألّمَين. كنا خائفَين مِن أن يؤدّي ذلك إلى إيذاء الطفل... لقد اضطررنا إلى المكوث في مكاننا في الأيّام الأولى، لم يكن ينقصنا شيء، لأنّ الرُّعاة حَمَلوا البُشرى إلى أهل بيت لحم، وكثيرون منهم حَمَلوا لنا الهدايا. ولكنّ الذي كان ينقصنا هو بيت، غرفة في حالة جيّدة، وسرير... وكان يسوع يبكي كثيراً، خاصّة في الليل، بسبب الرياح التي تَدخُل مِن كلّ الجهات. كنتُ أُشعِل النار قليلاً، قليلاً جدّاً لأنّ الدخان كان يهيج السعال لدى الطفل، وكان البرد مستمرّاً. كان هناك حيوانان يَمنَحانه القليل جدّاً مِن الدفء، خاصّة مِن الجهة التي تَندَفِع منها الريح. لم يكن لدينا ماء ساخن لنغسله، ولا فوط (أقمطة) جافّة للتغيير له. آه! لقد عانى كثيراً! ومريم تألَّمَت لرؤيته يعاني، وأنا أيضاً كنتُ أُعاني... يمكنكَ أن تتخيّل مدى معاناتها وهي أُمّه. كانت تعطيه حليبها ودموعها، حليبها وحبّها... أمّا الآن فالحال هنا أفضل. كنتُ هيّأتُ مهداً مريحاً جدّاً، وكانت مريم قد وَضَعَت عليه فراشاً وثيراً. إلّا أنّه في الناصرة! آه! لو كان وُلِد هناك، لكان الوضع مختلفاً كثيراً!»
«ولكن كان ينبغي أن يُولَد المسيح في بيت لحم. فالأنبياء كانوا قد أَعلَنوا ذلك.»
لدى سماعهما يتكلّمان تَدخُل مريم. كانت ترتدي الصوف الأبيض بالكامل. فهي قد نَزَعَت الثياب الداكنة التي كانت ترتديها أثناء السفر وفي المغارة. وهي ترتدي الآن ثوباً أبيضاً بأكمله كما رأيتُها في مرّات أُخرى. كان رأسها عارياً وهي تحمل يسوع نائماً بين ذراعيها، وقد شبع مِن حليبها، وهو في أقمطته البيضاء.
يَنهَض زكريّا باحترام وينحني بإجلال، ثمّ يدنو ويَنظُر إلى يسوع مع أسمى علائم الاحترام. إنّه ينحني ليس لرؤيته بشكل أفضل، إنّما لكي يُعَبِّر عن ولائه. تُقَدِّمه مريم له ويأخذه زكريا بِسِمات عبادة كثيرة، حتّى لَيبدو وكأنّه يَحمل بيت القربان المقدّس. إنّه بالحقيقة يحمل القربان بين ذراعيه، القربان الـمُقَدَّم الذي ستتمّ التضحية به عندما سيُمنَح للناس غذاء حبّ وفِداء.
يُعيد زكريّا يسوع لمريم، ويَجلسون جميعاً ويُعيد زكريّا ذِكر السبب الذي مِن أجله لم تأتِ أليصابات، وكم هي متأثرة لذلك. «لقد هيَّأَت خلال الأشهر الأخيرة غيارات لابنكِ المبارك، وقد حَمَلتُها لكِ. إنّها في العربة تحت.»
يَنهَض، يَخرُج، ثمّ يعود حاملاً صرّة كبيرة وأخرى صغيرة، يساعده يوسف في فتح الصرة الكبيرة والأُخرى، ويُخرِج هداياه منهما: غطاء صوف ناعماً منسوجاً يدويّاً، بياضات وثياباً صغيرة. ومِن الصرّة الثانية يُخرِج عسلاً وطحيناً أبيض ناصعاً وزبدة وتفّاحاً لمريم وفطائر عَجَنَتها وخَبَزَتها أليصابات، وأشياء أخرى كثيرة تنمّ عن عاطفة أمومة مِن النسيبة العارِفة للجميل تجاه الأُمّ الفتيّة.
«ستقول لأليصابات إنّني ممتنّة لها كثيراً وأنا ممتنّة لكَ كذلك... كنتُ سأُسَرّ كثيراً برؤيتها، ولكنّني أُقَدِّر ظروفها. وكذلك كنتُ أرغَب كثيراً رؤية يوحنّا الصغير...»
«سَتَريانه في الربيع، سوف نأتي لنراكم.»
فيقول يوسف: «الناصرة بعيدة جداً.»
«الناصرة؟ ولكن عليكم البقاء هنا. يجب أن ينمو المَسيّا في بيت لحم. إنّها مدينة داود، والباري تعالى جَعَلَه يأتي بواسطة إرادة قيصر ليُولَد في أرض داود، أرض يهوذا المقدّسة. فلماذا تأخذانه إلى الناصرة؟ وأنتما تعلَمَان كيف يُعامِل اليهود الناصريّين. يجب أن يكون هذا الطفل في المستقبل مخلّص شعبه، كما يجب ألّا تَحتَقِر العاصمة مَلِكها لأنّه يَخرُج مِن منطقة يَحتَقِرها. وأنتما تَعرِفان مثلي كم السنهدرين شديد الحساسيّة، وكم أبناء الطبقات الرئيسيّة الثلاث مُتحَذلِقون... وثمّ، هنا ستكونون قريبين منّي فأستطيع مساعدتكم قليلاً، وأتمكّن مِن وَضع كلّ ما أملك، ليس فقط ماديّاً، بل إنما كلّ المميّزات المعنويّة التي لي، في خدمة هذا المولود الجديد. وعندما يُصبِح في سنّ الإدراك سأكون سعيداً بأن أكون معلّماً له مثل ابني لأنال الحقّ، عندما أَكبُر، بأن يباركني. يجب أن نُفكّر في عَظَمَة مصيره، وأنّه لهذا السبب يجب أن يُقَدَّم للعالم بكلّ الامتيازات التي تجعَله يسيطر على الموقف بسهولة. وهو، بكلّ تأكيد، سيمتلك الحكمة، إنّما الفائدة الوحيدة التي يَجنيها مِن كون أحد الكَهَنَة هو معلّمه، هي أنّ ذلك يجعله مقبولاً بسهولة لدى الفرّيسيّين المتطلِّبين والكَتَبَة. وهذا يُسهّل عليه رسالته.»
تَنظُر مريم إلى يوسف، وكذلك يوسف يَنظُر إلى مريم. ومِن فوق رأس الطفل البريء الذي ينام متورّد الخدّين ولا يلوي على شيء، كان تَبادُل الأسئلة الصامت. وهذه الأسئلة كانت مطبوعة بالحزن، فمريم تُفكّر ببيتها الصغير ويوسف يُفكّر بعمله. وهنا يجب البدء مِن الصفر في بناء كلّ شيء في مكان كانوا فيه منذ أيّام مجهولين. وهنا لا يوجد أيّ شيء مِن الحاجيّات العزيزة والثمينة التي بَقِيَت هناك، والتي صُنِعَت بكثير مِن الحبّ للصغير.
ثمّ تقول مريم: «ولكن كيف العمل؟ فلقد تَرَكْنا كلّ شيء هناك. يوسف قد عَمِل كثيراً مِن أجل يسوعي دون أن يُوفِّر جهداً أو مالاً. لقد كان يعمَل مِن أجله ليلاً ليعمَل في النهار مِن أجل الآخرين ليكسب ما يشتري به مِن الخشب أحلاه ومِن الصوف أنعمه ومِن الكتان أنصعه بياضاً ليُهيّئ ما يليق بيسوعي. وكذلك رمَّمَ وقام بأعمال البناء ليُضفي على البيت ترتيباً جديداً بحيث تتّسع غرفتي للمهد الذي سيبقى حتّى يكبر يسوع فتتّسع فيما بعد للسرير، ذلك أنّ يسوع سيبقى معي إلى أن يتجاوز سنّ الفتوّة.»
«بإمكان يوسف أن يمضي فيَجلب كلّ ما تركتموه.»
«وأين سنضعه؟ أنتَ تَعلَم يا زكريّا أنّنا فقراء ولسنا نملك سوى البيت والشغل، وكلاهما يُساعِداننا في كسب ما نُسَيِّر به أمور معيشتنا دون أن نجوع. وهنا قد نجد عملاً... ولكن يَجدر بنا أن نُفكّر بالمنزل. فهذه المرأة الطيّبة لا يمكنها أن تستضيفنا كلّ العُمر؛ وأنا لا يمكنني أن أفرض على يوسف تضحيات أكثر مِن تلك التي رَضِيَ أن يتحمّلها حتّى الآن مِن أجلي.»
«آه! أنا! بالنسـبة لي لا يهمّ. فأنا أُفكّر فقط في ألم مريم، في معاناتها لعدم تمكُّنها مِن العيش في بيتها...»
وتَرقرَقَت دمعتان كبيرتان في عيني مريم.
«أظنّ أنّ هذا البيت، مِن المفروض أن يكون عزيزاً على قلبها للغاية، كالفردوس، بسبب المعجزة التي تمّت فيه... إنّني قليل الكلام ولكنّني أُدرِك الكثير! وإن لم يكن هذا فلن يشغل بالي أيّ أمر لأنّني قويّ البنية وفتيّ وقادر على عمل ضعف ما كنتُ أعملُه وأتدبّر كلّ الأمور. هذا إذا لم تكن مريم تتألّم كثيراً... وإذا قلتَ إنّ التصرّف بهذا الشكل هو الجيد والسليم... فبالنسبة لي... ها أنذا. وسأعمل ما يبدو لكَ الأصحّ. يكفيني أن يكون الأكثر نفعاً ليسوع.»
«إنّ هذا سيَخدم مصلحته بالتأكيد. فَكِّرا فيه وسَتَجِدان الدواعي.»
تَعتَرِض مريم قائلة: «ويُقال كذلك إنّ مَسيّا سيُدعى ناصريّاً...»
«هذا صحيح، ولكن على الأقلّ، طالما لم يَبلغ بعد سنّ الرشد، فَدَعوه يكبر في اليهوديّة. فلقد قال النبيّ: "وأنتِ يا بيت لحم أفراتة، ستكونين الأعظم، لأنّه منكِ يَخرُج المخلّص". ولم يتحدّث عن الناصرة. قد تكون هذه التسمية قد أُطلِقَت عليه لستُ أدري لأيّ سبب. ولكنّ موطنه هو هذا.»
«أنتَ قلتَ أيّها الكاهِن، ونحن... نحن... بِأَلَم نَسمَع كلامكَ... ونعطيكَ الحقّ. ولكن يا له مِن ألم!... متى سأرى ذلك البيت الذي فيه أصبحتُ أُمّاً؟» وتبكي مريم بهدوء. وقد أدركتُ مدى غَمّها. آه! نعم لقد أدركتُه!
وبالنسبة لي تنتهي الرؤيا عند بكاء مريم.