َج5 - ف28

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الأول

 

28- (عند قبر هِلّيل في جيسكالا)

 

24 / 11 / 1945

 

مِن بلدة ميرون، يَسلك يسوع وتلاميذه طريقاً تتوجّه إلى الشمال الغربي، هي أيضاً جبليّة وسط الغابات والمراعي، ويستمرّ بالصعود. قد يكونون انتهوا مِن تكريم القبور، إذ إنّني أسمعهم يتحدّثون عن ذلك فيما بينهم.

 

في هذه الأثناء، يهوذا هو بالضبط مَن يسير في المقدّمة مع يسوع. يُستدلّ مِن الكلام أنّهم تلقّوا الهبات ووزَّعوها في ميرون، ويقدّم يهوذا تقريراً بالهِبات التي تلقّاها والتي مُنِحَت. وينهي بقوله: «والآن، هذه هي تقدمتي. لقد أقسمتُ هذه الليلة أن أعطيكَ إيّاها مِن أجل المساكين، على سبيل التكفير. هي ليست بِذِي بال، لكنّني لا أملك الكثير مِن المال. ولقد أقنعتُ والدتي أن تُرسِل لي مِن وقت لآخر مع أصدقاء كثيرين. عندما كنتُ أغادر البيت في المرّات السابقة، كان ذلك وبحوزتي الكثير مِن المال. إنّما هذه المرّة، فقد كان لزاماً عليَّ أن أمضي عَبرَ الجبال، وحدي أو مع توما فقط، ولم آخذ معي سوى ما يكفيني لهذه الرحلة. وجدتُ أنّ هذا أفضل. فقط... سيكون لزاماً عليَّ أن أطلب منكَ الإذن وأترككَ لبضعة ساعات أذهب خلالها عند أصدقائي. لقد رتّبتُ كلّ شيء... يا معلّم، هل أنا مَن سأحتفظ بالمال دائماً؟ هل ما زلتُ أنا؟ هل ما زلتَ تثق بي؟»

 

«يا يهوذا، أنتَ تقول كلّ شيء مِن ذاتكَ. ولستُ أدري لأيّ سبب تفعل ذلك. اعلَم أنّ شيئاً لم يتبدّل بالنسبة إليَّ... إذ آمُل أنّكَ، بهذه الطريقة، تحصل على فرصة أن تتبدّل وتعود التلميذ الذي كنتَ، وأن تصبح البارّ والمهتدي الذي أُصلّي وأتألّم مِن أجله.»

 

«أنتَ على حقّ، يا معلّم. ولكن بمساعدتكَ سأصبحه حتماً. فيما عدا ذلك... هي أخطاء الشباب. هي أمور لا أهميّة لها. على النقيض مِن ذلك، هي تفيد في إمكانيّة تفهُّم ما يُشابِهها لشفائه.»

 

«يا يهوذا، إنّ منطقكَ لغريب حقّاً! وعليَّ أن أقول أكثر. لم يُسمَع عن طبيب قطّ أنّه رضي بملء إرادته أن يُصاب بالمرض ليقول بعد ذلك: "الآن أصبحتُ أعرف معالجة المصابين بهذا المرض بشكل أفضل". حتّى إنّني، أنا، عاجز عن ذلك!»

 

«مَن قال هذا يا معلّم؟»

 

«أنتَ. لأنّني أنا لا أقترف الخطايا، إذن فأنا لا أعرف أن أُبرئ الخطأة.»

 

«أنتَ هو أنتَ. إنّما نحن لا يمكننا أن نكون أنتَ، ونحن في حاجة إلى التجربة لإجادة التصرّف...»

 

«إنّها فكرتكَ القديمة، هي ذاتها منذ عشرين شهراً. مع خلاف أنّكَ آنذاك كنتَ تقول إنّه "عليَّ أن أرتكب الخطيئة لأصبح جديراً بالفِداء". في الحقيقة، إنّني لمندهش مِن أنّكَ لم تحاول إصلاح... "عيبي"، بحسب طريقتكَ في الحكم، "وتزويدي"... بتلك الإمكانيّة على فهم الخطأة.»

 

«أنتَ تمزح يا معلّم، وهذا يُسعدني. فقد كنتَ حزيناً. وذلك كان يُسبّب لي الألم. ولئن كنتُ أنا الذي جعلتُكَ تمزح، فذلك ممّا يجعل سعادتي مضاعفة. إنّما أنا، لم أفكّر يوماً قط أن أجعل مِن نفسي مُعلّماً لكَ. فيما عدا ذلك، أنتَ ترى! لقد أصلحتُ طريقتي في التفكير، حتّى إنّني أقول إنّ هذه التجربة ضروريّة بالنسبة لنا فقط. بالنسبة لنا، نحن المساكين. فأنتَ ابن الله، أليس كذلك؟ فلديكَ الحكمة التي لا تحتاج إلى التجربة لتكون هكذا.»

 

«حسناً، فاعلَم أنّ البراءة حِكمة، بل هي حكمة تفوق المعرفة الدنيا والخَطِرة للخاطئ. وحيث الجَهل المقدّس للشرّ يحدّ مِن قُدرة قيادة الذات والآخرين، فإنّ عمل الملائكة يعوِّض، وهو لا يغيب أبداً مِن أمام القلب النقيّ. وثِق تماماً أنّ الملائكة، بطهارتهم الفائقة، يعرفون آنذاك التمييز بين الخير والشرّ، وقيادة الطاهر المكلّفين بحراسته على الطريق المستقيمة وصوب الأعمال المستقيمة. الخطيئة لا تنمّي الحكمة. هي ليست نوراً. لا تقود. أبداً. هي فساد. هي عَمَى، وتشوُّش. بحيث إن مَن يرتكبها يعرف طعمها، ولكنّه يفقد أهليّة التعرّف على كثير مِن الأمور الروحيّة الأخرى، ويفقد ملاك الله الذي يقود، روح الترتيب والحبّ، ولكنّه يحصل على ملاك الشيطان ليقوده في فوضى عارمة بسبب الحقد النَّهِم الذي ينهش تلك الأرواح الشيطانيّة.»

 

«و... اسمع يا معلّم. إذا ما أراد أحدهم أن يحصل مِن جديد على قيادة الملاك، فهل تكفي الندامة أم إنّ سمّ الخطيئة يدوم كذلك بعد أن يتوب وينال الغفران؟... أتعلم؟ إذا ما عَاقَرَ أحدهم الخَمرة، مثلاً، فحتّى ولو أقسم على عدم العودة إلى السُّكر، ومع القَسَم إرادة حقيقيّة على الفِعل، يَشعُر دائماً بميل إلى الشُّرب. ويتألّم مِن ذلك...»

 

«بالتأكيد، يتألّم. لهذا السبب، علينا ألّا نكون أبداً عبيداً لما هو شرّ. فالألم ليس خطيئة. بل هو التكفير عن الخطيئة. كما أنّ المدمن على الشَّراب التائب لا يخطئ، ولكنّه يحصل على الاستحقاقات إذا ما قاوَمَ ميله بشكل بطوليّ ولم يَعُد يشرب الخمر، كذلك الذي يخطئ ثمّ يتوب ويقاوم كلّ الميول، يحصل على الاستحقاقات ولا يُحرم مِن المعونة فائقة الطبيعة أثناء هذه المقاومة. وأن يُجَرَّب المرء لا يعني أنّه أخطأ. على النقيض مِن ذلك، فهي المعركة التي تأتي بالنصر. وثِق كذلك، ليس لدى الله سِوى الرغبة بالمسامحة وبمساعدة الذي خُدِعَ، إنّما الذي يتوب فيما بعد...»

 

يَصمت يهوذا برهة... ثمّ يمسك بيد يسوع، ويُقبِّلها وهو منحن على اليد ويقول: «أمّا أنا، أمس مساء، قد تجاوزتُ الحدّ. لقد أهنتُكَ يا معلّم... قُلتُ لكَ إنّني في النهاية سأمقتُكَ... كَم عِبارة كُفر قد تفوهتُ بها! هل يمكن أن تُغفَر لي؟»

 

«إنّ أعظم خطيئة هي اليأس مِن الرحمة الإلهيّة... يا يهوذا، لقد قلتُها: "كلّ خطيئة تجاه ابن الإنسان سوف تُغفَر". فابن الإنسان إنّما أتى ليغفِر، ليُخلّص، ليشفي ويقود إلى السماء. لماذا تريد فقدان السماء؟ يهوذا! يا يهوذا! انظر إليَّ! اغسل نفسكَ في الحبّ الذي ينبعث مِن عينيَّ...»

 

«ولكن، ألا أوحي لكَ بالاشمئزاز؟»

 

«بَلى... ولكنّ الحبّ أعظم مِن الاشمئزاز. يا يهوذا، يا أيّها الأبرص المسكين، أكبر أبرص في إسرائيل، تعال واطلب الصحّة مِن الذي يمكنه أن يمنحكَ إيّاها...»

 

«امنحني إيّاها يا معلّم.»

 

«لا، ليس هكذا. ليس لديكَ توبة حقيقيّة وإرادة صلبة. وذلك لا يعدو كونه محاولة لبقيّة حبّ لي، لدعوتكَ القديمة. ليس سِوى فورة لتوبة صَرف إنسانيّة. وهذا كلّه ليس سيّئاً، بل على العكس، هو الخطوة الأولى نحو الخير. اعتنِ به، اجعله ينمو، طَعِّمه على الفائق الطبيعة، واجعل منه حبّاً حقيقيّاً لي، عودة حقيقيّة إلى ما كنتَ عليه حينما أتيتَ إليَّ، هذا على الأقلّ! واجعل مِن ذلك، لا خفقاناً عابراً، انفعاليّاً، نزعة عاطفيّة غير فعّالة، بل شعوراً حقيقيّاً وفعّالاً للانجذاب نحو الخير. يهوذا، أنا أنتظر. أنا أجيد الانتظار. أنا أصلّي. وأنا، في هذا الانتظار، أحلّ محلّ ملاككَ المتقزّز. رحمتي وصبري وحبّي الكاملة بأجمعها تفوق ما هي للملائكة، ويمكنها البقاء إلى جانبكَ وسط النتانات الكريهة لما يتخمّر في قلبكَ، لمساعدتكَ...»

 

يهوذا متأثّر بحقّ، بِلا تَصنُّع. شفتاه ترتجفان وصوته متهدّج بسبب تأثّره، وهو شاحب ويَسأَل: «ولكن، هل تعرف حقّاً ماذا فعلتُ؟»

 

«كل ما فعلتَ، يا يهوذا. هل تريد أن أقول لكَ، أم تُفضِّل أن أُوفِّر عليكَ هذا الإذلال؟»

 

«ولكن... لا يمكنني الوثوق، هاك...»

 

إذن، فلنعد إلى الوراء، ولنقل الحقيقة لعديم الإيمان. أنتَ، هذا الصباح، كذبتَ مرّات عديدة. إن بخصوص المال وإن بخصوص كيفيّة تمضيتكَ الليلة. فأنتَ، أمس مساء، بالفجور حاولت خنق كلّ المشاعر الأخرى، كلّ كراهية، كلّ تبكيت للضمير، أنتَ...»

 

«كفى! كفى! بحقّ المحبّة، لا تُكمِل! وإلّا فسوف أهرب مِن حضرتكَ.»

 

«بل على العكس، عليكَ أن تجثو أمامي لتطلب منّي الغفران.»

 

«نعم، نعم، المغفرة! المغفرة يا معلّم! ساعدني! فهذا أقوى منّي! كلّ شيء أقوى منّي.»

 

«ما عدا الحبّ الذي ينبغي أن يكون لديكَ تجاه يسوع... إنّما تعال هنا كي تتغلّب على التجربة، ولكي أحرّركَ منها.» ويأخذه بين ذراعيه ساكباً دموعاً صامتة على رأس يهوذا الأسمر.

 

الآخرون المتأخّرون بضعة أمتار، يتوقّفون بحذر ويُعلِّقون:

 

«هل تَرَون؟! قد تكون لدى يهوذا هموم بحقّ.»

 

«وقد انفَتَحَ هذا الصباح على المعلّم.»

 

«يا للأبله! أنا، كنتُ فعلتُ ذلك في الحال.»

 

«إنّها أمور شاقّة.»

 

«آه! بالطبع ليس بخصوص سوء سلوك والدته! فهي امرأة قدّيسة! فما الذي يشقيه إذن؟»

 

«ربّما أعماله ليست على ما يرام...»

 

«ولكن لا! إنّه يَصرف ويَهِب ممّا لديه بسخاء.»

 

«حسناً! إنّها أعماله! المهمّ أن يكون على وفاق مع المعلّم، ويبدو أنّه كذلك. إنّهما يتحدّثان منذ وقت طويل وبسلام. والآن هما يتعانقان... عظيم.»

 

«نعم، إذ إنّه رجل قادر ولديه الكثير مِن المعارف. فَحَسَن أن يكون على وِفاق ويُسْر معنا، وخاصّة مع المعلّم.»

 

«لقد قال يسوع في حبرون إنّ قبور الأبرار هي أمكنة عجائبيّة، أو شيء مِن هذا القبيل... وفي هذه النواحي، يوجد منها الكثير. قد تكون تلك التي في ميرون قد أجرَت المعجزة على اضطراب يهوذا.»

 

«آه! إذاً فسوف ينتهي به الأمر إلى أن يصبح قدّيساً الآن عند قبر هِلّيل. أليست هذه جيسكالا؟»

 

«بلى يا برتلماوس.»

 

«ومع ذلك، فالعام الماضي لم نمرّ مِن هنا...»

 

«على ما أظنّ! كنّا أتينا مِن الناحية الأخرى!»

 

يلتفت يسوع ويناديهم. يَجرون فَرِحين.

 

«تعالوا. المدينة قريبة. علينا اجتيازها لنجد قبر هِلّيل. فلنفعل ذلك جماعة» يقول يسوع بدون أيّ تفسير آخر، بينما يُحدِّق الأحد عشر بفضول به وبيهوذا. ولكن وإن يكن هذا الأخير يبدو هادئ الخاطر، إنّما بتواضع، إلّا أنّ وجه يسوع ليس مشعّاً. إنّه مَهيب ولكنّه صارم.

 

يَلِجون جيسكالا، المدينة الجميلة والكبيرة والمنتظمة. يُفتَرض وجود مركز رابّيني مزدهر، إذ إنّني أرى علماء شريعة كثيرين ضمن جماعات هنا وهناك، وإلى جانبهم تلاميذ يُنصِتون إلى دروسهم. مرور الرُّسُل وخاصّة المعلّم مميّز جدّاً، وعدد كبير من الناس يلحق بهم. البعض يهزأ، والبعض الآخر ينادي يهوذا الاسخريوطيّ. أمّا هو فإلى جانب المعلّم ولا يلتفت أبداً. يَخرُجون مِن المدينة ويَمضون صوب البيت المجاور لقبر هِلّيل.

 

«يا للوقاحة!»

 

«إنّه متهوّر وصفيق!»

 

«إنّه يستفزّنا!»

 

«مُنتَهِك الحُرُمات!»

 

«قُل له ذلك يا عوزيل.»

 

«أنا لا أتلوّث. قُل له أنتَ يا شاول، فأنتَ ما تزال تلميذاً.»

 

«لا. فلنقل ذلك ليهوذا. اذهب واستدعه.»

 

الشاب المدعو شاول، وهو هزيل وشاحب، ويكاد لا يعدو كونه عينين وفماً، يمضي للقاء يهوذا ويقول له: «تعال. الرابّيون يطلبونكَ.»

 

«لن آتي. سأبقى حيث أنا. دعني وشأني.»

 

يعود الشاب ليُبلغ معلّميه.

 

في تلك الأثناء، يسوع المحاط بأتباعه، يصلّي بخشوع أمام ضريح هِلّيل المبني مِن الحجر الأبيض.

 

يدنو الرابّيون ببطء، كالأفاعي الصامتة، ويُراقِبون. واثنان منهم، مُسنّان ملتحيان، يشدّان ثوب يهوذا الذي، إذ كانوا يُصلّون، لم يَجِد مِن رفاقه مَن يحميه.

 

«ولكن، خلاصة القول، ماذا تريدون؟» يَسأَل بهدوء إنّما بسخط. «ألا يمكن للمرء حتّى أن يصلّي؟»

 

«كلمة واحدة وندعكَ بسلام.»

 

يَلتَفِت سمعان الغيور وتدّاوس ويُسكتان التمتمة. يبتعد يهوذا خطوتين أو ثلاث ويَسأَل: «ماذا تريدون؟»

 

لَم أَسمَع ماذا هَمَسَ الأكبر سنّاً في أذنه. ولكنّني أرى جيّداً ردّة فعل يهوذا الذي يبتعد بسرعة قائلاً: «لا. دعوني وشأني، أيّتها النُّفوس المسمومة. أنا لا أعرفكم، ولم أعد أريد أن أعرفكم.»

 

ويَنطَلِق دويّ ضحكة ساخرة مِن مجموعة الرابّيين وتَحذير: «انتبه لما تفعل، أيّها الولد الأبله!»

 

«انتبهوا أنتم لأنفسكم! امضوا! اذهبوا كذلك وقولوا هذا للآخرين. لكلّ الآخرين. هل فهمتم؟ توجّهوا إلى مَن يبدو مناسباً لكم، وليس إليَّ، أيّها الأبالسة!» ويتركهم مُعلِّقين.

 

تَكلَّمَ بقوّة، حتّى إنّ الرُّسُل التفتوا مذهولين. أمّا يسوع، فلا. حتّى ولا إلى الضحك الساخر والوعد. «سوف نلتقي مجدّداً، يا يهوذا بن سمعان! سوف نلتقي مجدّداً!» الذي يترجّع صداه في الصمت الذي يلفّهم. يعود يهوذا إلى مكانه، بل إنّه يأخذ مكان أندراوس الذي كان قد انتَقَلَ إلى قُرب يسوع، كما ليحميه ويدافع عنه، يُمسك بهدب معطف يسوع بين يديه.

 

ويتحوّل الغضب ضدّ يسوع. يتقدّمون، مهدِّدين، ويَصيحون: «ماذا تفعل هنا، أنتَ، يا ملعون إسرائيل؟ اخرج مِن هنا! لا تجعل عظام البارّ، التي لستَ أهلاً للاقتراب منها، ترتجف. سوف نقول هذا لغَمَالائيل، ونجعلكَ تنال عقابكَ.»

 

يلتفت يسوع وينظر إليهم، الواحد تلو الآخر.

 

«لماذا تنظر إلينا هكذا، أيّها الممسوس؟»

 

«لأتعرّف جيّداً على وجوهكم وقلوبكم. ذلك أنّ ليس فقط تلميذي مَن سوف يراكم مجدّداً، إنّما أنا كذلك، وأودُّ أن أتعرّف عليكم جيّداً لأتمكن آنذاك مِن التعرّف عليكم بسرعة.»

 

«حسناً: هل رأيتَنا؟ هيّا اذهب. فلو كان غَمَالائيل هنا، لما سَمَحَ بذلك.»

 

«لقد أتيتُ إلى هنا، العام الماضي، برفقته...»

 

«هذا ليس صحيحاً، أنتَ كاذب!»

 

«اسألوه، وبما أنّه رجل نزيه، فسيقول لكم بلى. فأنا أُحِبّ وأُجِلّ هِلّيل، وأحترم وأُقدِّر غَمَالائيل. إنّهما إنسانان يتجلّى فيهما أصل الإنسان، بسبب استقامتهما وحكمتهما، مما يُذكِّر أنّ الإنسان خُلِق على صورة الله.»

 

«ونحن لا؟» يُقاطعه الممسوسون مِن الشيطان.

 

«فيكم، حُجِبَت بسبب الأنانيّة والحقد.»

 

«اسمعوه! في بيت غير بيته يتكلّم هكذا ويهيننا! اخرج مِن هنا! اخرج مِن هنا يا مُفسِد أفضل مَن في إسرائيل! أو سنستخدم الحجارة. فهنا لا توجد روما لتحميكَ، يا أيّها المرتبط بالعدوّ الوثنيّ...»

 

«لماذا تكرهونني؟ لماذا تلاحقونني؟ بماذا أسأتُ إليكم؟ لقد صنعتُ معروفاً مع كثيرين منكم؛ وقد احترمتُ جميعكم. وإذن، لماذا أنتم قُساة معي؟» يسوع متواضِع، وَديع، حزين ومُحِبّ. هو يتوسّل الحبّ منهم.

 

يَعتَبِرون ذلك دلالة على ضعف منه وخوف ويُنكّدون عليه. يطير الحجر الأول ويلامس يعقوب بن زَبْدي الذي تبدر منه ردّة فعل سريعة فيُعيد الحجر إلى المهاجمين، بينما يتراصّ الجميع حول يسوع. ولكنّهم عشرة مقابل حوالي المائة. حجر آخر يجرح يد يسوع أثناء إصدار أمره إلى التلاميذ بعدم الردّ. ويسيل الدم مِن ظَهر يده التي تبدو وكأنّها جُرحَت بمسمار…

 

حينئذ يتوقّف يسوع عن الصلاة. ينتصب مهيمناً، ينظر إليهم، ويصعقهم بنظراته. ولكنّ حجراً آخر يدمي صدغ يعقوب بن حلفى. فيضطرّ يسوع إلى شلّ كلّ فِعل آخر بقدرته ليحمي رُسُله الذين يتلقّون وابل الحجارة دون أيّة ردّة فعل منهم طاعة له.

 

وعندما تسيطر إرادة يسوع على الجبناء -وهو يتمتّع بمهابة رهيبة- يقول لهم بصوت كالرعد: «أنا ذاهب. إنّما اعلموا أنّ هِلّيل يلعنكم بسبب ما تفعلونه. أنا ذاهب. ومع ذلك تذكّروا أنّ حتّى البحر الأحمر لم يوقف بني إسرائيل في مسيرتهم على الطريق التي خَطّها الله لهم. لقد انبسط كلّ شيء وأَصبَحَ طريقاً لله الذي كان مارّاً. والشيء نفسه بالنسبة إليَّ. وكما أنّ المصريين والعموريّين والكنعانيّين والشعوب الأخرى لم توقف مسيرة إسرائيل، كذلك أنتم، الأسوأ منهم، لن توقفوا مسيرتي ورسالتي. تذكّروا الترنيمة التي رُتِّلت أمام البئر الذي مَنَحَه الله: "تدفّق أيّها البئر، البئر الذي حَفَرَه الأمراء وهيَّأَه رؤساء الشعب بواسطة عصيّهم، مع مَن أعطى الشريعة". أنا هو هذا البئر! أنا هو! البئر الذي حَفَرَته في السماء جميع الصلوات وأفعال البرّ التي صنعها الأمراء الحقيقيّون ورؤساء الشعب المقدّس الذي لستم أنتم هو. لا، لستم أنتم هذا الشعب. وأبداً لم يأت مَسيّا مِن أجلكم، لأنّكم لا تستحقّونه. لأنّ مجيئه هو دماركم. لأنّ العليّ يعرف أفكار البشر كلّها، وهو يعرفها منذ الأزل، قبل أن يوجد قايين الذي تتحدّرون منه، وهابيل الذي أُشبِهه، قبل أن يوجد نوح، صورتي، وموسى الذي كان أوّل مَن استخدَمَ رَمزي، قبل أن يوجد بَلْعام الذي تنبّأ عن النجم، وإشَعياء وكلّ الأنبياء. والله يعرف أفكاركم وهو غاضب منها. ولقد غضب منها على الدوام، كما قد فرح على الدوام مِن الأبرار المستقيمين الذين كانوا السبب في إرسالي، والذين بحقّ، آه! نعم! بحقّ جعلوني أتنشّق أعماق السماء لأحمل الماء الحيّ إلى عطش الإنسان.أنا ينبوع الحياة الأبديّة. إلّا أنّكم ، أنتم، لا تريدون أن تشربوا. وسوف تموتون.»

 

ويَعبُر على مهل وسط الرابّيين المشلولين وتلاميذهم، ويُتابِع طريقه على مهل، وبمهابة، في صمت دهشة الناس والأشياء.