ج4 - ف156

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الثاني

 

156- (في بصرى)

 

01 / 10 / 1945

 

إنْ يكن بسبب الفصل، أو يكن بسبب انغلاقها ضمن دروبها الصغيرة، فإنّ بصرى تبدو في الصباح مُغشّاة بالضباب وقَذِرة جدّاً. الرُّسُل، بعد عودتهم مِن السوق الذي اشتروا منه بعض الحاجيّات، يتحدّثون فيما بينهم. ذلك أنّ الصناعة الفندقيّة لتلك الحقبة، وفي تلك البقاع، ترجع إلى ما قبل التاريخ، لدرجة أنّ على كلّ فرد أن يهتمّ بإعاشة نفسه. يُفهم مِن ذلك أنّ أصحاب الفنادق لا يريدون الخسارة. يكتفون بطهي ما يجلبه لهم الزبائن الذين يأملون ألّا يأخذوا منه حصّتهم، أَضِف إلى ذلك أنّهم يشترون لزبائنهم أو يبيعونهم الإعاشة التي يحفظونها كمؤونة، ممارِسين، بالمناسبة، مهنة القصّابين (الجزّارين) على الحِملان المسكينة الـمُعدَّة للشيّ.

 

عمليّة الشراء هذه مِن صاحب الفندق لا تروق لبطرس، فتنشَب مشادّة كلاميّة بين الرَّسول وصاحب الفندق -وجه يكاد يكون لقاطع طريق- الذي لا يقصّر في شتم الرَّسول، ناعتاً إيّاه "بالجليليّ"، بينما يُجيبه ذاك، مُشيراً إلى صغير خنـزير ذَبَحَه صاحب الفندق لصالح زبون عابر: «أنا جليليّ، أمّا أنتَ فوثنيّ خنـزير. لو كنتُ المعلّم لما بقيتُ في فندقكَ النّتن ساعة واحدة. لصّ و... (يستخدم عبارة أخرى... لم أدوّنها).»

 

من ذلك أستنتج أنّ بين الجليليّين وأهل بصرى سوء علاقة، إقليميّة ودينيّة، حسبما كان الحال في إسرائيل، أو بالأحرى في فلسطين.

 

يَعلو صُراخ صاحب الفندق: «لو لم تكن مع الناصريّ، ولو لم أكن أفضل مِن فرّيسيّيكم الـمُقرِفين الذين يكرهونه بدون سبب، لكنتُ غسلتُ وجهكَ بدم الخنـزير. وهكذا تضطرّ إلى ترك المكان والذهاب للاغتسال. ولكنّني احترمه هو، فسلطانه مؤكَّد. وأقول لكَ إنّكم مع كلّ تبجّحاتكم فأنتم خَطَأَة. نحن أفضل منكم. نحن لا ننصب فخاخاً، نحن لسنا خونة. أمّا أنتم، واه! سُلالة الخونة الظالمين والمجرمين الذين لا تحترمون القدّيسين القليلين الذين معكم.»

 

«أتدعونا بالخونة؟ نحن؟ آه! أيّتها السماء فلتمسكي يدي...» بطرس غاضب لدرجة أنّه على وشك استعمال يديه، بينما أخوه ويعقوب يمسكان به، ويتدخّل سمعان الغيور ومتّى.

 

أمّا ما هو أهم مِن تدخّلهم في إخماد ثورة الغضب، كان صوت يسوع الذي يَظهَر عند أحد الأبواب ويقول: «سمعان، اصمت الآن. وأنتَ كذلك أيّها الرجل.»

 

«سيّدي، إنّ صاحب الفندق هذا قد شتمني وأهانني أوّلاً.»

 

«أيّها الناصريّ، بل هو مَن أهانني أوّلاً.»

 

أنا، هو. هو وأنا. يتبادلان الاتّهام على التوالي. أمّا يسوع فيتقدّم جادّاً وهادئاً.

 

«أنتما الاثنان على خطأ. وأنتَ، يا سمعان، أكثر منه. ذلك أنّكَ تَعرِف مَذهَب الحبّ والغفران والوداعة والصبر والأُخوّة. ولكي لا تُساء معاملتك كجليليّ، عليكَ فرض احترامكَ كقدّيس. وأنتَ، أيّها الرجل، إذا كنتَ ترى نفسكَ أفضل مِن الآخرين، فبارِك الله على ذلك، وكُن أهلاً لأن تصبح دائماً أفضل. وبشكل خاصّ، لا تُلطّخ نفسكَ باتّهامات باطلة. رُسُلي ليسوا خَوَنة ولا ناصِبي شِراك.»

 

«هل أنتَ متأكّد، أيّها الناصريّ؟ فلماذا، إذن، أتى أولئك الأربعة يسألونني إن كنتَ قد أتيتَ، ومع مَن كنتَ، وأشياء أُخرى كثيرة؟»

 

«ماذا؟ ماذا؟ مَن؟ أين هُم؟» ويُحيط به الرُّسل ناسين أنّهم يقتربون مِن رجل ملطّخ بدم خنـزير، وهو الذي كان سابقاً يُرعِبهم ويجعلهم يَقِفون بعيدين عنه.

 

«أنتم امضوا إلى أعمالكم. أمّا أنتَ، يا ميزاس، فابقَ.»

 

يمضي الرُّسُل إلى الغرفة التي خَرَجَ منها يسوع، ولم يبقَ في الدار سوى يسوع وصاحب الفندق، الواحد في مواجهة الآخر. وعلى بُعد خطوات مِن يسوع، يقف التاجر يُراقِب الحَدَث مندهشاً.

 

«أَجِب بصراحة، أيّها الرجل. وعفواً منكَ إذا ما جَعَلَ الدم أحد تلاميذي يغضب. مَن هُم هؤلاء الأربعة؟ وماذا قالوا؟»

 

«مَن يكونون، لا أعرف بالضبط. إنّما بكلّ تأكيد هُم كَتَبَة وفرّيسيّون مِن الطرف الآخر. مَن أتى بهم إلى هنا، لستُ أعلَم. لم أَرَهُم قط سابقاً. ولكنّهم على اطّلاع جيّد بكلّ ما يخصّكَ. إنّهم يعرفون مِن أين تأتي، إلى أين تذهب، وبرفقة مَن أنتَ. ولكنّهم كانوا يريدونني أن أؤكّد لهم. لا. لو فعلتُ أكون آثمّاً. وأنا أُجيد مهنتي. أنا، لا أعرف أحداً، لا أرى شيئاً، لا أعرف شيئاً. بالنسبة للآخرين طبعاً. ذلك أنّني أعرف كلّ شيء. إنّما لماذا عليَّ أن أقول ما أعرفه للآخرين، خاصّة لأولئك الـمُرائين؟ هل أنا فاسق؟ نعم. فأنا، بالمناسبة، أؤدّي خدمة للّصوص. تعرف ذلك تمام المعرفة... ولكنّني لا أعرف السرقة، ولا سلبكَ حرّيتكَ وشرفكَ وحياتكَ. أمّا هُم -لا يكون اسمي بعد فرا بن طولومي إن لم يكن ما أقوله حقيقيّاً- هُم يلاحقونكَ لِيُلحِقوا بكَ الأذى. مَن يُرسِلهم؟ قد يكون أحدهم مِن بيريا أو مِن المدن العشر؟ وقد يكون مِن طراخونيطس [اللَّجاة] أو جولانيطس [الجولان] أو حورانيطس [حوران]؟ لا. فنحن إمّا لا نعرفكَ، وإمّا، إذا كنّا نعرفكَ، فإنّنا نحترمكَ كَبارّ، ولو لم نكن نؤمن بكَ كقدّيس. مَن إذن أَرسَلَهم؟ شخص ما مِن طرفكَ، وقد يكون أحد أصدقائكَ، ذلك أنّهم يعرفون الشيء الكثير...»

 

«الاستعلام عن قافلتي أمر سهل...» يقول ميزاس.

 

«لا، أيّها التاجر، ليس عنكَ، بل عن الآخرين الذين مع يسوع. أنا لا أعرف، ولا أريد أن أعرف. أنا لا أرى، ولا أريد أن أرى. ومع ذلك أقول لكَ: إذا كنتَ تعرف نفسكَ مذنباً، فعليكَ أن تعالج الأمر. وإذا كنتَ تَعلَم أنّ هناك مَن يخونكَ، فعليكَ الاحتراس.»

 

«ما مِن مذنب، أيّها الرجل، ولا مِن خيانة. فما مِن أمر سِوى كَون إسرائيل لا تُدرِك. ولكن كيف تعرَّفتَ عليَّ؟»

 

«مِن خلال صبيّ. كان شقيّاً ذاعَ صِيته في بصرى وأربيلا. هنا، لأنّه كان يأتي ويُمارِس آثامه، وهناك لأنّه كان يُلحق العار بأهله. وبعد ذلك اهتدى. وأَصبَحَ أَشرَف مِن بارّ. وقد مَرَّ الآن مع تلاميذكَ، فهو كذلك تلميذ، وهو ينتظركَ في أربيلا لِيُكرّمكَ مع أبيه وأُمّه. وهو يروي للجميع أنّكَ غَيَّرتَ قلبه بفضل صلاة أُمّه. فليبّس بن يعقوب. وإذا ما تقدَّسَت هذه المنطقة، فالفضل يعود له في تقديسها. وإذا كان في بصرى مَن يؤمن بكَ، فالفضل في ذلك يعود له.»

 

«أين هُم الكَتَبَة الذين أتوا هنا؟»

 

«لستُ أدري. لقد مضوا، لأنّني قلتُ لهم بأنّ لا مكان لهم هنا. كان لديَّ أمكنة، ولكنّني لم أكن أشاء أن يُقيم الأفاعي إلى جانب الحَمامة. إنّهم في المنطقة، بكلّ تأكيد. انتبه.»

 

«أشكركَ أيّها الرجل، ما اسمكَ؟»

 

«فرا. لقد قمتُ بواجبي، فتذكّرني.»

 

«نعم. وأنتَ تذكّر الله وسامح سمعاني. فإنّ الحبّ الكبير الذي يكنّه لي يعميه أحياناً.»

 

«ما مِن شرّ. لقد أسأتُ إليه أنا كذلك... ولكن ما يضير هو أن نشتم بعضنا. أنتَ لا تشتم أبداً...»

 

يتنهّد يسوع، ثمّ يقول: «هل تريد مساعدة الناصريّ؟»

 

«إذا استطعتُ...»

 

«أودُّ التحدّث مِن هذه الباحة...»

 

«سوف أدعُكَ تتكلّم. متى؟»

 

«بين الساعة السادسة والساعة التاسعة.»

 

«اذهب مطمئنّاً حيثما تشاء. ستعرف بصرى كلّها أنّكَ ستتحدّث. أنا سأتدبّر الأمر.»

 

«ليكافئكَ الله.» ويبتسم له يسوع ابتسامة بمثابة المكافأة. ثمّ يتوجّه إلى الغرفة التي كان فيها سابقاً.

 

يقول له اسكندر ميزاس: «يا معلّم، ابتسم لي أيضاً بهذه الطريقة... أنا أيضاً سوف أقول للسكّان أن يأتوا لسماع الصَّلاح يتحدّث. أعرف الكثيرين. وداعاً.»

 

«وليكافئكَ الله، أنتَ أيضاً.» ويبتسم له يسوع.

 

يَدخُل إلى الغرفة. النساء حول مريم، وجهها حزين، وتنهض مباشرة متوجّهة صوب ابنها. لا تتكلّم، ولكن كلّ ما فيها يَسأَل. يبتسم يسوع ويقول للجميع: «أنتم أحرار حتّى الساعة السادسة. فسوف أتحدّث هنا إلى الجموع. حتّى ذلك الحين امضوا، عدا سمعان بطرس ويوحنّا وهرمست. بَشِّروا بي وتَصدّقوا كثيراً.»

 

يَمضي الرُّسُل.

 

يدنو بطرس، على مهل، مِن يسوع القريب مِن النساء، ويَسأَل: «لماذا أنا لا؟»

 

«عندما يكون المرء حادّ الطَّبع، فإنّه يبقى في البيت. سمعان، سمعان! متى إذن سَتُمارِس المحبّة تجاه القريب؟ الآن هي شعلة متّقدة، إنّما فقط مِن أجلي، إنّها شفرة مستقيمة وحادة، إنّما فقط مِن أجلي. كُن وديعاً يا سمعان بن يونا.»

 

«أنتَ محقّ، يا سيّدي. فلقد أنَّبَتني الأُمّ، كما تعرف، دون التسبّب بالألم، ولكنّ عتابها وَلَجَ إلى أعماقي. والآن... عاتِبني أنتَ أيضاً، ولكن... لا تنظر إليَّ، بعد ذلك، بهذا المظهر الحزين.»

 

«كُن طيّباً. كُن طيّباً... سِنْتيخي، أودُّ التحدّث إليكِ على انفراد. اخرجي إلى الشُّرفة. تعالي، أنتِ أيضاً، يا أُمّي...»

 

وعلى الشُّرفة الريفيّة التي تغطّي جناحاً مِن البناء، في حرارة أشعّة الشمس، يتمشّى يسوع على مهل بين مريم واليونانيّة، ويقول: «غداً سنفترق لبعض الوقت. قُرب أربيلا، سوف تمضين، أنتنّ النساء، إلى بحر الجليل، بصحبة يوحنّا الذي مِن عين دور، وتُتابِعون معاً إلى الناصرة. ولكن، كيلا أرسلكنَّ بمفردكنّ مع رَجُل قليل الحِيلة، سأجعل أخويَّ وسمعان بطرس يرافقونكم. أُخمِّن أن تكون هذه الفرقة مَقيتة، ولكنّ الطاعة هي فضيلة البارّ. بما أنّكم تمرّون مِن الأراضي التي أُقيمَ عليها خُوزي مُراقِباً لصالح هيرودس، فسيكون ليُوَنّا مَوكب مُرافَقَة لبقيّة الطريق. حينذاك يعود ابنا حلفى وسمعان بطرس. لهذا طلبتُ الصعود إلى هنا. أريد أن أقول لكِ، يا سِنْتيخي، إنّني قرّرتُ أن تُقيمي في بيت أُمّي. وهي قد أَصبَحَت على عِلم بذلك. وسيكون معكِ مارغزيام ويوحنّا الذي مِن عين دور. كونوا على وِفاق، واطلبوا الحكمة دوماً بازدياد. أريدكِ أن تهتمّي كثيراً بيوحنّا المسكين. لا أقول ذلك لأُمّي، لأنّها لا تحتاج إلى نصائح. يمكنكِ الإدراك، والرأفة بيوحنّا، وهو يمكنه إفادتكِ كثيراً، فإنّه معلّم فَطِن. بعد ذلك سآتي، أنا. آه! قريباً! ونرى بعضنا كثيراً. أتمنّى أن أراكِ أكثر حكمة في الحقيقة على الدوام. أبارككِ يا سِنْتيخي، بشكل خاصّ. هذا هو وداعي لكِ لهذه المرّة. في الناصرة سوف تُصادِفين الحبّ والحقد مثل أيّ مكان آخر. إنّما في بيتي ستجدين السلام، دائماً.»

 

«سوف تَجهَلني الناصرة، وأَجهَلها. سأعيش وأنا أتغذّى على الحقّ، ولن يَعني لي العالم شيئاً، يا سيّدي.»

 

«حسناً. يمكنكِ الانصراف يا سِنْتيخي، والتزمي الصمت حالياً. أُمّي، إنّكِ على عِلم بكلّ شيء... أَعهَد إليكِ بأغلى جواهري. وبينما نحن في سلام، بيننا، يا أُمّي، اجبري قلب ابنكِ بملاطفاتكِ...»

 

«كَم مِن الكراهية، يا بني!»

 

«كَم مِن الحبّ!»

 

«كَم مِن المرارة، يا يسوع الحبيب!»

 

«كَم مِن اللُّطف والوداعة!»

 

«كم مِن سوء الفَهم، يا بنيّ!»

 

«كم مِن الفَهم، يا أُمّي!»

 

«آه! يا كنـزي، يا ابني المحبوب!»

 

«أُمّاه! يا فرح الله وفرحي! يا أُمّي!»

 

يتعانقان، وقد بَقِيا بعدئذ الواحد إلى جانب الآخر، على المقعد الحجريّ المحاذي لجدار الشُّرفة. يبقى يسوع هكذا مع أُمّه، مُعانِقاً وحافِظاً وعَطوفاً. رأسها على كتف ابنها، يداها في يده: في غِبطة عارمة... بعيداً جدّاً عن العالم... في حنايا أمواج الحُبّ والإخلاص...