ج3 - ف74

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الثاني

 

74- (إلى يافا. عِظَة في بيت إسحاق)

 

08 / 07 / 1945

 

هَرَعَت مدينة يافا بِرمَّتها للقاء يسوع، ومعهم الورود البرّيّة مِن سفوح الجبل وبواكير محاصيلها، هذا بالإضافة إلى ابتسامة الأطفال ومباركات سكّانها. وحتّى قبل أن يضع يسوع رِجله في البلدة، فقد أُحيط بكلّ أولئك الناس الطيّبين الذين، إذ أَعلَمَهم يهوذا الاسخريوطيّ ويوحنّا اللذان أُرسِلا في المقدّمة، هَرَعوا ومعهم كلّ ما وَجَدوه كأفضل ما لديهم لإكرام الـمُخلِّص، وبشكل خاصّ معهم حُبّهم.

 

لا يتوقّف يسوع عن البركة بالحركة والكلمة، مُبارَكَة كلّ أولئك الناس، كباراً وصغاراً، الذين يكتَظُّون حوله، مُقَبِّلين ثيابه ويديه، واضِعين الأطفال الرضّع بين ذراعيه ليباركهم بقبلة. وأوَّل مَن فَعَلَت ذلك هي سارة التي وَضَعَت له على صدره ذاك الحُبّ الرائع ذا العشرة أشهر الذي هو هوشع.

 

الحُبّ يعرقل المسير بقدر ما هو جَارِف. إنّه كالموجة التي تَرفَع. أظنُّ يسوع، في مسيره، محمولاً بالأحرى على تلك الموجة أكثر منه على قدميه، وحتماً فإنّ قلبه قد سَما عالياً في الصفاء وبالفرح الذي يمنحه إيّاه هذا الحبّ، ويتألّق وجهه بلحظات بهجته الأكثر حيويّة، فرح الإنسان-الله. فليس هو الوجه القدير في أوان المعجزة بالنظرة المغناطيسيّة، وليس هو الوجه العظيم في اللحظات التي يُعبِّر فيها عن اتّحاده المتواصِل بأبيه، وكذلك هو ليس ذاك الوجه الصارم الذي يَظهَر فيه عندما يتصدّى لخطيئة. فكلّ تلك الوجوه تتألّق بِنور مختلف عن وجهه الحاليّ الذي يَسطَع بنور انفراج أناه الكامل، المقتَحَمَة مِن كلّ جهة والمرغَمَة على مراقبة أقلّ حركاتها أو كلامها أو كلام غيرها على الدوام، وهي مُغَلَّفة بمكائد العالم الذي، مثل العنكبوت المؤذي، يُلقِي بأبنائه الشيطانيّين حول الفراشة، الإنسان-الله الإلهيّ، على أمل شلّ طيرانها وسجن روحها لكيلا تُخلِّص العالم؛ إسكات كَلِمَتها لكيلا تُثقِّف جهالات الأرض الـمُطبِقة والأثيمة؛ وربط يديه ككاهن أزليّ لكيلا تُقَدِّسا الناس الذين أفسَدَهم الشيطان والجسد؛ وتغشي عينيه لكيلا، بكمال نظرته، وهو المحبّة والمغفرة، هو الحبّ وهو روعة كلّ صمود ظافر، صمود ليس مِن شيطان حقيقيّ، يجذب القلوب إليه.

 

آه! أليس الأمر كذلك على الدوام فيما يخصّ أعداء المسيح تجاه المسيح؟ وأيضاً عِلم البِدَع، وكذلك أيضاً الحقد والشهوة، وأيضاً أعداء الإنسانيّة الذين هُم مِن الإنسانيّة ذاتها، مثل أغصان مسمومة في شجرة صالحة، أفلا يَفعَلون كلّ هذا لإهلاك الإنسانيّة، وهُم الذين يكرهونها أكثر مِن كرههم للمسيح، لأنّهم يَكرَهونها فعليّاً بحرمانها مِن فرحها، وذلك بردّها عن المسيحيّة، بينما لا يستطيعون انتزاع شيء مِن يسوع، لأنّه الله وهُم غبار؟

 

نَعم، يَفعلونها. ولكنّ المسيح يَلتَجئ إلى القلوب المؤمنة الوفيّة، ومِن هناك يَنظُر، مِن هناك يتحدّث ويبارك الإنسانيّة، ثمّ... ثمّ يَهِب ذاته لتلك القلوب، وهي... وهي تلمس السماء وغبطتها، وهي ما تزال هنا على الأرض، إنّما تَضطَرِم، كي تَختَبِر في ذلك عذاباً لذيذاً للكيان كلّه. في الحواسّ والأعضاء، في الأحاسيس والأفكار والروح، أخيراً... فالدموع والابتسامات، الأَنَّات والأناشيد، الإنهاك وكذلك النشاط الحيويّ، هي رفاقنا، بل أكثر مِن رفاق، إنّها كياننا ذاته. بالفعل، فكما أنّ العِظام هي داخل الجسد، والأوردة والأعصاب تحت الأَدَمَة، وكلّ ذلك ليس سوى إنسان واحد، هكذا كلّ تلك الأشياء الـمُضطَرِمة، المولودة، ذلك أنّ يسوع قد وَهَبَنا ذاته، هي فينا، في إنسانيّتنا المسكينة. وما نكون نحن في تلك الأثناء التي لا يمكنها أن تدوم للأبد، ذلك أنّها لو كانت تدوم أكثر مِن لحظات قليلة، لَمُتنا محتَرِقين ومُحطَّمين؟ لَم نَعُد بشراً. لَم نَعُد حيوانات عاقلة تحيا على الأرض. إنّنا، إنّنا، آه! يا ربّ! دعني أقولها مَرّة، ليس بكبرياء، بل إنّما لأرتِّل أمجادكَ، لأنّ نظرتكَ تحرقني وتجعلني أهذي... حينئذ نكون سيرافيماً. وما يثير فيَّ الدهشة هو ألّا تَصدُر مِنّا شعلات وحرارة تؤثّر في الأشخاص والمادّة، كما يَحصَل في ظهورات الهالِكين. بالفعل، فلو أنّ نار جهنّم تشبه انعكاساً واحداً صادراً عن هالِك واحد، لكان باستطاعتها إشعال الحطب وإذابة المعادن، فما تكون بذلك نارك يا الله، يا مَن به كلّ شيء لا نهائيّ وكامل؟

 

لا يموت المرء مِن الترفّع الحَروري، فليس هو ما يُحرِقنا. ليست حرارة أمراض الجسد هي التي تفنينا. بل إنّما أنتَ حرارتنا أيّها الحُبّ! وبها نحترق، ونموت ونَفنى، منها وبها تتمزّق ألياف القلب الذي لا يمكنه تحمّل شيء بهذه العَظَمَة. ولكنّني أَسَأتُ التعبير، فالحبّ هذيان، إنّه شلّال يُحطِّم العوائق، وكلّ ما ليس هو حُبّ يَسقط مُحَطَّماً، الحبّ في النَّفْس جَزَع الأحاسيس الحقيقيّة، الحاضرة، إنّما لا يمكن لِيَد أن تُدوّنه بسرعة الروح في ترجمة إحساس القلب إلى فكرة. ليس صحيحاً أنّ المرء يموت، بل إنّه يحيا حياة مضاعَفة عشر مرات مِن خلال حياة مزدوجة، حياة إنسان وحياة طوباويّ: حياة الأرض وحياة السماء. يَلحَق المرء ويتجاوز. آه! إنّني على يقين بأنّها حياة بلا عيب، بلا انتقاص ولا حدود سِواكَ، أي حياة السعادة في السماء، بعد مرور هادئ مِن الجنّة الأرضيّة إلى الجنّة السماويّة ورحلة بين ذراعي الملائكة الـمُحِبّين، كما كان النوم العَذب والصُّعود العذب لمريم إلى السماء، بغية المجيء إليكَ، إليكَ!

 

يحيا المرء الحياة الحقيقيّة ومِن ثمّ نتواجد هنا، كما أفعل الآن، ويُدهَش المرء ويَخجَل مِن هكذا تَجاوُز ويقول: «ربّي، لستُ أهلاً لأشياء بهذا السموّ. سامحني يا ربّ.» ويَقرَع صدره لأنّه في ذُعر أن يكون قد سَقَطَ في الكبرياء، وبِذا يَجعَل حِجاباً أكثر كثافة يُسدَل على ذاك التألّق الذي، إذا لم يستمرّ في التأجّج في أوار أكثر مِن كامل، رحمة بحدودنا، فيتجمّع مع ذلك في مركز قلبنا، جاهزاً للاضطِرام بشدّة مِن أجل لحظة غِبطة جديدة يريدها الله. يُسدِل الستار على الحَرَم، حيث يُضرِم الله نيرانه وأنواره وحبّه... ويُعاوِد المسير مُنهَكاً، ورغم ذلك متجدّداً... ثَمِلاً مِن خمر قويّة ومُمتِعة، لا تجعل الفِكر يزبد، إنّما تَمنَع مِن إمالة النَّظَر والأفكار إلى كلّ ما ليس هو الربّ، أنتَ، يا يسوعي، الحَلَقَة التي تربط شقاءنا بالألوهة، وَسيط فدائنا مِن خطيئتنا، خالق الغِبطة لنفسنا، أنتَ الابن الذي، بيديكَ المجروحَتين، تضع أيدينا في أيدي الآب والروح الروحانيّ، لنكون فيكَ الآن ودائماً. آمين.

 

ولكن أين مَضَيتُ أنا، بينما يسوع يؤجِّجني، وهو يؤجِّج بِنَظرَة حبّه أهالي يافا؟ قد تكونون لاحظتُم أنّني لم أعُد أتكلّم، أو بالحري نادراً ما أَفعَل، عن نفسي. كَم مِن الأشياء يمكنني التحدّث عنها. ولكنّ التعب والوَهن الجسديّ اللذين يُرهِقانني، حالاً بعد الكتابات، والخفر (الاتِّضاع) الروحيّ الذي يجتاحني بشكل أقوى كلّما توغَّلتُ، كلّ ذلك يُرغِمني على الصمت. أمّا اليوم، فقد مَضَيتُ عالياً جدّاً، وكما تَعلَمون فإنّ جوّ السُّكَاكُ يَجعَل المرء يَفقد توازنه... لقد مَضَيتُ إلى أبعد من السُّكَاكُ كثيراً (والسُّكَاكُ هو الهواء بين السماء والأرض في الجزء الأعلى مِن الغلاف الجوي.)... لَم تَعُد لديَّ إمكانيّة ضبط النَّفْس... ثمّ، أنا أعتَقِد أنّنا لو صَمَتنا على الدوام، نحن الذين قد استولَت علينا دُوارات الحبّ تلك، ننتهي بالانفجار مثل قذائف، أو بالحَريّ مثل مَراجِل تجاوَزَت حرارتها الحدّ، وهي مُحكَمَة الإغلاق.

 

سامِحني يا أَبَتِ. والآن فلنُتابِع.

 

يَدخُل يسوع إلى يافا، يُؤخَذ إلى ساحة السُّوق ومنها إلى الكوخ الفقير، حيث عانى إسحاق مدّة ثلاثين سنة. يَشرَحون: «إنّنا نأتي هنا للتحدّث عنكَ والصلاة كما في كنيس، حقيقيّ للغاية، لأنّنا هنا بدأنا نعرفكَ، وهنا صلوات قدّيس جَعَلَتكَ تتذكَّرنا. ادخل. انظر كيف رَتَّبنا مكان إقامته.»

 

البيت الصغير، حتّى العام الـمُنصَرِم، كان يحوي ثلاث غرف: الأولى، حيث كان إسحاق يَستَجدي وهو عاجِز، الثانية غرفة المهملات، والثالثة مطبخ صغير يُفضي إلى الدار. وقد أَصبَحَت جميعها غرفة واحدة، وُضِعَت فيها مقاعد مِن أجل الاجتماعات. في الدار، في تخشيبة صغيرة، وُضِعَ أثاث إسحاق القليل، وكأنّه بقايا شيء ثمّين، وإجلال سكّان يافا جَعَلَ الدار أقلّ حزناً، فَزُرِعَت فيها نباتات متسلِّقة تغطّي الآن بورودها السياج الريفيّ، وتُشكِّل بداية تعريشة باتِّباعها حِبالاً تُشكِّل شَبَكَة فوق الدار، على مستوى السطح المرتفع قليلاً.

 

يُهنِّئهم يسوع ويقول: «يمكننا المكوث هنا. أرجوكم فقط إيواء النساء والصبيّ.»

 

«آه! يا معلّمنا! سوف نأتي معكَ إلى هنا، وسَتُحَدِّثنا، أَمّا أنتَ وأتباعكَ، فإنّكم ضيوفنا. امنَحنا بركة استقبالكَ وخُدّام الله. الشيء الوحيد الذي يُنغِّص علينا هو عدم وجود بيوت كثيرة...»

 

يُوافِق يسوع ويَخرُج مِن البيت الصغير لِيَمضي إلى بيت سارة التي لا تتنازل لأحد عن حقّها في دعوة يسوع وأتباعه إلى العشاء…

 

...يتحدّث يسوع في بيت إسحاق. يَشغَل الناس الغرفة والدار ويتجمهرون في الساحة. ويسوع، كي يَسمَعه الجميع، يقف في وسط الغرفة بشكل يَسمَع فيه صوته مَن في الدار كما مَن في الساحة.

 

يُفتَرض أنّه يُعالِج موضوعاً أوحاه إليه سؤال طُرِحَ عليه أو حَدَث ما. يقول: «...ولكن لا تَشُكّوا كما يقول إرميا، سوف يَرَونَ بالاختبار كم هو مؤلم ومُرّ الابتعاد عن الربّ. بخصوص بعض الجرائم، أيّها الأصدقاء، فلا نطرون ولا بور يمكنهما إزالة الوصمة. حتّى نار جهنّم لا يمكنها إزالة تلك الإشارة. إنّها لا تُمحَى.

 

هنا أيضاً يجب ملاحظة صوابيّة كلمة إرميا. فعظماء إسرائيل يَبدون في الحقيقة كالحمير المتوحّشة التي يتحدّث عنها النبيّ. مُتعوِّدين على ذلك في صحراء قلوبهم لأنّه، ثِقوا تماماً، طالما المرء مع الله، حتّى ولو كان فقيراً مثل أيّوب، حتّى ولو كان وحيداً، وحتّى ولو كان عرياناً، فهو ليس وحيداً أبداً، وليس فقيراً أبداً ولا عرياناً أبداً، وهو ليس صحراء مطلقاً. بل إنّما هُم قد طَرَدوا الله مِن قلوبهم، وهكذا يَتواجَدون في صحراء قاحِلة. مِثل الحمير المتوحِّشة، يَشمّون في الهواء رائحة الذكور الذين، كما في وَضعنا، وحسب ميولهم، يَدَّعون السلطة، المال، غير مُبالين بالفجور، بكلّ ما في الكلمة مِن معنى، ويَتبعون تلك الرائحة حتّى الجريمة. نعم، يَتبَعونها، ويَتبَعونها أكثر. لا يَدرون أنّه ليست أقدامهم هي العريانة، إنّما قلبهم المعرّض لسهام الله الذي سينتقم مِن جرائمهم. كَم سيكونون حينذاك مُرتَبِكين، الـمَلِك والأمراء، الكَهَنَة والكَتَبَة الذين في الحقيقة قد تَحَدَّثوا ويتحدَّثون للعَدَم، أو الأسوأ منه، للخطيئة ويقولوا لها: "أنتِ لي الأب. أنتِ مَن أنجَبتِني."

 

الحقّ الحقّ أقول لكم، بسبب غضبه، كَسَرَ موسى لوحَيّ الوصايا على مرأى مِن الشعب عابِد الأصنام. ثمّ عاد إلى الجبل وصلّى وتعبَّدَ ونالَ نِعمة. لقد مَرَّت على ذلك دهور، ولكنّه لَم يُزَل ولَن يَزول، بل على العكس، فإنّ عبادة الأصنام تتعاظم في قلب البشر مثل الخميرة الموضوعة في العجين.

 

قَد يكون الآن، لكلّ إنسان، عِجْلُه الذهبيّ. فالأرض غابة أصنام، إذ إنّ كلّ قلب هو هيكل، ويَصعُب أن يكون الله فيه. فَمَن ليس لديه ميل فاسِد مُعيَّن، لديه آخر. مَن ليس لديه شهوة فاسدة، لديه أخرى تحمل اسماً آخر. مَن لا يفكّر بالذهب، تَراه لا يفكّر إلّا بمنـزلته، ومَن ليس شهوانيّاً، تَرى الأنانيّة تَستَحوِذ عليه. كَم "أنا" أَضحَت عجول ذَهَب لا تَمتَثِل لعبادة القلوب! لأجل ذلك، سوف يأتي اليوم الذي، إذ يُضرَبون فيه، يتوجَّهون بالنداء إلى الربّ، ويَستَمِعون إلى الإجابة: "تَوجَّه إلى آلهتكَ، فأنا لا أعرفكَ". أنا لا أعرفكَ! كلمة مُريعة، لو كان الله مَن يقولها لإنسان. إنّ الله قد خَلَقَ الجنس البشريّ، ويَعرف كلّ إنسان بمفرده. إذاً، إذا قال الله: "لستُ أعرفكَ" فهي الإشارة إلى أنّه، بكل قوّة إرادته، قد محا ذاك الإنسان مِن ذاكرته. لستُ أعرفكَ! هل الله صارم إلى الغاية لدى تَلَفُّظه بذاك القرار؟ لا. فإنّ الإنسان هو مَن صَرَخَ إلى السماء: "لستُ أعرفكِ أنا"، وَرَدَّت السماء على الإنسان: "لستُ أعرفكَ أنا" بأمانة كالصّدى…

 

وفَكِّروا: الإنسان مُجبَر على معرفة الله بحسب واجب ردّ الجميل، واحتراماً لذكائه الخاصّ.

 

عِرفاناً بالجميل: لقد خَلَقَ الله الإنسان، مانِحاً إيّاه موهبة الحياة فائقة الوصف، ومُعِدّاً إيّاه للموهبة التي تفوق فائقة الوصف، والتي هي النِّعمة. وهذه الأخيرة، إذا ما فُقِدَت نتيجة خطأ شخصيّ، فإنّ وَعدَاً عظيماً يتناهى إلى سَمع الإنسان: "سأعيد لكَ النِّعمة". إنّه الله الذي أُهين، وهو الذي يتحدّث إلى مَن أهانه كما لو أنّه، وهو الله، هو الـمُذنِب الـمُجبَر على إصلاح الخطأ. والله يفي بوعده. وها أنا ذا هنا لأعيد النِّعمة للإنسان. فالله لا يكتفي بالمواهب فائقة الطبيعة، ولكنّه يتواضَع بجوهره الروحيّ ليتدبّر أمر الاحتياجات الثقيلة للحم ودم الإنسان، ويَهِبه حرارة الشمس وارتواء الماء، والحبوب والأشجار مِن كلّ صنف والحيوانات مِن كلّ نوع. وهكذا يتلقّى الإنسان مِن الله كلّ ما يَلزَمه ليعيش. إنّه الـمُحسِن. فيجب ردّ جميله وإظهار ذلك له بالاجتهاد في معرفته.

 

احتراماً لفكره الذاتيّ: فالمجنون والأبله لا يَرُدَّان الجميل لِمَن يَعتنون بهما، لأنّهما لا يُدرِكان قيمة العنايات الحقيقيّة، وتجاه الذي يَغسلهما أو يُطعمهما، والذي يأخذهما أو يضعهما في السرير، والذي يَسهَر ليَجعَلهما يتحاشيان الأخطار، فليس لديهِما سوى الحقد، لأنّهما إذ يُماثِلان الحيوانات بسبب عاهتهما، فإنّهما يَعتَبِران العناية تعذيباً. فالإنسان الذي يُقصِّر في واجباته تجاه الله يُلحِق العار بنفسه، كونه عاقلاً. وحدهم البُلَهاء أو المجانين لا يمكنهم تمييز الأب مِن الغريب، الـمُحسِن مِن العدوّ. أمّا الإنسان الذكيّ فيعرف أباه والـمُحسِن إليه، ويُسَرّ بأن يعرفه أكثر على الدوام، حتّى في الأمور التي يَجهَلها لأنّها حَصَلَت قبل ولادته، أو إنّ أباه والـمُحسِن إليه قد جَعَلاه يستفيد منها. إذن، فهكذا ينبغي التصرّف مع الربّ، ليَظهَر المرء أنّه كائن ذكيّ، وليس برّياً متوحّشاً. إلّا أنّ هناك الكثيرين في إسرائيل يُشبِهون أولئك المجانين الذين لا يتعرّفون على أبيهم والـمُحسِن إليهم.

 

ويتساءل إرميا: "هل يمكن للخادر (الفتاة العذراء) أن تَنسى حليّها وللزوجة أن تنسى حزامها؟" آه! نعم. فإنّ إسرائيل مزيج متآلِف مِن تلك الخادِرات المجنونات اللواتي ينسين حليّهنّ، وتلك الزوجات الوَقِحات اللواتي يَنسَين أحزمتهنّ، لِيَضعن بهارِج البَغايا؛ وتتزايد نسبتهم كلّما ارتقينا في السلّم الاجتماعيّ. ومع ذلك فَمَن كان مركزهم أرقى، عليهم يقع واجب إعطاء الـمَثَل للشعب. وعليهم تَنصَبّ ملامة الله مع غضبه ودموعه: "لماذا تحاول جعل نزاهة سلوككَ في البحث عن الحبّ ذا قيمة، أنتَ يا مَن، على العكس، تُعلِّم الانحراف، وأساليب تَصرُّفكَ وأهداب ثوبكَ تُذكِّر بدم المساكين الأبرياء؟"

 

أيّها الأصدقاء، المسافة خير وشرّ. فالابتعاد كثيراً عن الأماكن التي أتحدّث فيها بسهولة، شرّ، لأنّ ذلك يمنعكم مِن الاستماع إلى كلمة الحياة. تنتحبون لذلك. صحيح. ولكنّه خير لأنّه يُحافِظ على ابتعادكم عن الأماكن التي تُخَمَّر فيها الخطيئة ويَحتَدِم فيها الفساد، حيث تفحّ الحيّة المخادِعة لتؤثّر عليَّ بمضايقتي في عملي، وفي القلوب، بدسّ الشكوك والأكاذيب حول شخصي. ولكنّني أُفضِّل أن تكونوا بعيدين عن الـمُفسِدين. سوف أحسب حساب تثقيفكم. تَرَون أنّ الله قد تدبَّرَ أوّلاً أمر تعارُفنا، وإذن أن نتحابّ. كنتُ معروفاً بالنسبة إليكم قبل أن نرى بعضنا. هو إسحاق الذي أنبأكم عنّي. سأُرسِل كثيرين مثل إسحاق لِيُحدِّثوكم بكلامي. عَلاوة على ذلك اعلَموا أنّ الله يستطيع التحدّث في كلّ مكان، في خلوة، مع روح الإنسان، ويُرَقّيه بتعليمه.

 

لا تَخشوا مِن أن تتمكّن الوحدة مِن أن تقودكم إلى الخطأ. لا. إذا لم تريدوه فلن تكونوا غير أوفياء للربّ ولمسيحه. علاوة على ذلك، فليَعرف مَن لا يستطيع، في الحقيقة، البقاء بعيداً عن مَسيّا، أنّ مَسيّا يَفتَح له قلبه وذراعيه ويقول له: "تعال". تعالوا أنتم يا مَن تشاؤون المجيء. وابقوا أنتم يا مَن تريدون البقاء. وسواء شئتم المجيء أم شئتم البقاء، فبَشَّروا بالمسيح بحياة نزيهة. واكرزوا به بوقوفكم في وجه قلّة النـزاهة التي تُعشِّش في قلوب كثيرة، اكرزوا به بمعاكستكم تَهوُّر الناس الذين لا يُحصون، الذين لا يعرفون أن يظلّوا أوفياء، والذين يَنسون حليّ وأحزمة نفوسهم المدعوّة إلى عرس المسيح. لقد قلتم لي بفرح: "مذ أتيتَ، لَم يَعُد لدينا مرضى ولا أموات. فإنّ بركتكَ تحمينا". نعم، إنّ الصحّة شيء هامّ. ولكن اجعلوا مجيئي الحاليّ يمنحكم جميعاً صحّة الروح على الدوام وفي كلّ شيء. لذلك أبارككم وأمنحكم سلامي، لكم ولأولادكم ولحقولكم ولبيوتكم ومحاصيلكم ولقطعانكم وبساتينكم. استَخدِموها بقداسة، لا في أن تَحيوا مِن أجلها، إنّما في أن تَحيوا منها وأن تُعطوا الفائض للمحتاجين، مُشتَرين بذلك مِلء بركات الآب ومكاناً لكم في السماوات. امضوا أنتم، أمّا أنا فأبقى لأصلّي...»