ج5 - ف64
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الثاني
64- (عشيّة السبت. /III/: في طرقات أورشليم)
02 / 02 / 1946
يَخرُجون مِن الهيكل الذي يعجّ بالجموع ليغوصوا في زحمة الطرقات حيث يجري الناس جميعاً منهَمِكين في التحضيرات الأخيرة للفصح، والمتأخّرون منهم يبحثون بقلق عن غرفة، عن ردهة، أيّ شيئ يجعلون منه علّيّة لذبيحة الحَمَل.
يَسهل في هذه الظروف التلاقي دون تعرّف الواحد على الآخر في ذلك الزحام المستمرّ الذي يَستَعرِض أمام العينين وجوهاً مِن كلّ الأعمار، مِن كلّ الأقاليم حيث يوجد إسرائيليّون، حيث دم إسرائيل النقي يَكتَسِب تشابهات مع أجناس أخرى، باختلاط الدماء أو لمجرّد التكيّف البيئيّ. فهكذا كان يُنظَر إلى العبرانيّين مِن النمط المصريّ؛ آخرون بشفاههم الغليظة، بأنوفهم الفطساء وزاويتهم الوجهيّة، يبدون ناجمين عن تهجين مع النوبيّين؛ آخرون بملامح مرسومة بدقّة، ناعمة، بأعضاء نحيلة، وعيون متألّقة، يفضحون انتماءهم إلى الجاليات اليونانيّة أو اختلاطات مع اليونان؛ بينما رجال أشدّاء ذوو قامة كبيرة، ووجوه بالأحرى هي مربّعة، يُعلِنون بوضوح أنّهم ليسوا غرباء عَن اللّاتين؛ وهناك كثيرون كذلك نسمّيهم نحن المعاصرين شركسيّين أو فُرْساً، مع ما يُذكِّر بالعيون المنغوليّة أو الهنديّة في الوجه الناصع البياض للبعض، والوجه الزيتونيّ للبعض الآخر. منظار جميل للنماذج المتغيّرة لوجوه وثياب! وقد تَعِبَت مِن ذلك العين، لدرجة أنّها انتَهَت إلى النَّظَر دون أن تَرَى. ولكنّ ما يُفلِت مِن الواحد يُلاحَظ مِن الآخر. يُفهَم مِن ذلك إذن أنّ ما يُفلِت مِن المعلّم، المستغرق في ذاته عندما يَدَعوه في سلام، دون سؤاله، يُلاحَظ مِن هذا أو ذاك مِن الذين معه. والرُّسُل، الأقرب إلى يسوع، يُشاوِرون إلى ما يَرَون ويتهامسون مُعلِّقين... ببشريّة صرف على الأشخاص الذين يُشاوِرون عليهم لبعضهم البعض.
أحد تلك التعليقات اللّاذعة على تلميذ سابق يمرّ متوتّراً، متظاهراً أنّه لم يرهم، يلحظه يسوع ويَسأَلهم: «عمَّن تقولون هذا الكلام؟»
«عن هذا الأخرق.» ويشير إليه يعقوب بن زَبْدي. «تظاهَرَ بأنّه لم يَرَنا، وليس الوحيد الذي تصرَّفَ هكذا. مع أنّه حينما كان يبحث عنكَ لتشفيه، حينذاك كان يعرف أن يراكَ! فليُصَب بالبثور الخبيثة!»
«يعقوب!! أبهذه المشاعر تمكث إلى جانبي وتتهيّأ لذبيحة الحَمَل؟ في الحقيقة أنتَ عديم الاتّزان أكثر منه. هو غادَرَ بكلّ صراحة عندما شَعَرَ أنّه لا يمكنه القيام بما كنتُ أقول. أنتَ، تبقى، ولكنّكَ لا تقوم بما أقول. أليس مِن الممكن أن تكون آثِماً أكثر منه؟»
يحمرّ يعقوب احتقاناً، وينسحب ذليلاً خلف رفاقه.
«ذلك أنّ رؤيتهم يتصرّفون هكذا يُسبِّب الإساءة، يا معلّم!» يقول يوحنّا لمساعدة أخيه الذي تلقّى الملامات. «فحُبّنا يثور لرؤية قلّة حُبّهم...»
«نعم. ولكن هل تعتقدون أنّكم تقودونهم إلى الحبّ بتصرّفكم هكذا؟ فقلّة الأدب، والكلمات الشرّيرة، والإهانات لم تَقُد أبداً إلى حيث ينبغي أن يُقاد غَريم أو أيّ امرئ يختلف معنا بالتفكير. بل هو اللُّطف، هو الصبر، هي المحبّة والمثابرة رغم كلّ حالات الرفض، التي تنتهي بالحصول على النتيجة. أفهم قلبكم الذي يتألّم لعدم رؤيتي محبوباً، وأشارككم شعوركم. ولكنّني أودُّ أن أَعرِفكم، أن أراكم فائقي الطبيعة في تصرّفاتكم وفي وسائلكم كي تجعلوني محبوباً. هيّا، تعال هنا يا يعقوب. ليس لأجل إذلالكَ تكلّمتُ أنا. فلنتفاهم، ولنتحابب، أقلّه فيما بيننا، يا أصدقائي... فهناك الكثير مِن عدم الفهم والألم الحاصل لابن الإنسان!»
يعقوب، إذ استعاد هدوءه، يعود إلى جانبه.
يسيرون برهة بصمت، ثمّ ينفجر توما في صرخة تعجّب مدوّية: «مع ذلك إنّه حقّاً لشيء مُخجِل!»
«ماذا؟» يَسأَل يسوع.
«ولكن وضاعة عدد كبير كهذا! يا معلّم، ألا ترى كَم مِن الناس يتظاهرون بعدم معرفتكَ؟»
«وما الضير؟ هل طريقة تصرّفهم تُغيّر حرفاً واحداً ممّا كُتب عنّي؟ لا. ليس ما يتغيّر سوى ما يمكن أن يُكتب عنهم. إذ كان يمكن أن يُقال عنهم في الكُتُب الأزليّة: "التلاميذ الأخيار"؛ بينما سوف يُكتَب: "الذين لم يكونوا صالحين، الذين لم ينفعهم مجيء مَسيّا في شيء". كلمة مريعة، أتعلمون؟ أكثر مِن قول: "آدم، مع حوّاء، قد أخطأ". لأنّني، أنا، أستطيع محو تلك الخطيئة. إنّما لا يمكنني محو إنكار الكلمة الـمُخلِّص... فلنستدر مِن هذه الجهة. أنا، سوف أتوقّف مع الإخوة، مع سمعان بطرس ويعقوب في ضاحية عوفل. يهوذا بن سمعان سوف يمكث هنا. ولكنّ سمعان الغيور ويوحنّا وتوما فسوف يمضون إلى جَثْسَيْماني لأخذ الحقائب...»
«نعم، هكذا لن يلتهم يونا حَمَله بانحراف» يقول بطرس الذي ما يزال غاضباً. يضحك الآخرون…
«حسناً، حسناً! لا تندهش إذا كان خائفاً. فغداً قد تكون أنتَ.»
«أنا، يا معلّم؟ إنّه لأسهل على بحر الجليل أن يتحوّل إلى خمر مِن أن أخاف أنا.» يؤكّد بطرس.
«ومع ذلك... ذاك المساء... آه! سمعان! لم تكن تبدو شجاعاً جدّاً على سلّم قصر خُوزي.» يقول يهوذا الاسخريوطيّ ساخراً دون كثير تهكّم إنّما... باستهزاء بعض الشيء ليلسع بطرس.
«هذا لأنّني... كنتُ أخشى على المعلّم مِن كوني مضطرباً، أنا! وليس لشيء آخر.»
«حسناً! حسناً! فلنأمل ألاّ... نخاف أبداً كي لا نبدو دون المستوى، هه!» يُجيب يهوذا الاسخريوطيّ وهو يُربّت باليد على كتفه، أَشبَه بنصير وسيّئ... في أحيان أُخرى، أسلوبه هذا كان سيسفر عن ردّة فعل. ولكنّ بطرس، منذ الليلة السابقة، هو... معجب بيهوذا ويتحمّل منه كلّ شيء.
يقول يسوع: «فليذهب فليبّس ونثنائيل، مع أندراوس ومتّى، إلى قصر لعازر ليقولوا إنّنا على وشك الوصول.»
يَفتَرِق هؤلاء عن الآخرين الذين يتابعون السير مع يسوع. التلاميذ، عدا استفانوس وإسحاق، يَمضون مع الرُّسُل الـمُرسَلين إلى القصر. في ضاحية عوفل، افتراق جديد. الـمُرسَلون إلى جَثْسَيْماني يمضون إليها مسرعين مع إسحاق. استفانوس يبقى مع يسوع، ابنا حلفى وبطرس ويعقوب والاسخريوطيّ، كي لا يظلّوا واقفين على مفترق الطرق، يتقدّمون ببطء في ذات اتّجاه الذين يمضون إلى جَثْسَيْماني. يسلكون تماماً الطريق المختصرة ذاتها التي سَلَكَها يسوع ليلة الخميس المقدّس وسط الذين يعذّبونه. الآن، حوالي الظُّهر، الطريق خاوية. ساحة صغيرة، فيها ينبوع ماء مظلَّل بشجرة تين تفتح أوراقها بحنان فوق مرآة مِن المياه الساكنة، على بُعد خطوات.
«هوذا صموئيل الذي لأناليا» يقول يعقوب بن حلفى الذي يعرفه جيّداً. أَوشَكَ الشاب على ولوج البيت مع الحَمَل... حاملاً كذلك موادّ غذائيّة أخرى.
«إنّه مهتمّ بوليمة الفصح مِن أجل قريبه كذلك.» يقول يوضاس بن حلفى.
«ولكن هل استقرَّ هنا الآن؟ ألم يكن قد رَحَلَ؟» يقول بطرس.
«نعم، لقد استقرَّ هنا. يقال إنّه يُعاشِر ابنة كِلْيوباس، الحَذَّاء (صانع الأحذية). إنّها ميسورة الحال...»
«آه! لماذا يقول إذن إنّ أناليا قد هَجَرَته؟» يَسأَل الاسخريوطيّ.
«إنّه كذب!»
«الإنسان» يقول يسوع ليهوذا الاسخريوطيّ «يستخدمه بسهولة. وهو لا يدري أنّه بتصرّفه هكذا، يضع نفسه على طريق الشرّ. بمجرّد الخطوة الأولى، خطوة واحدة، حتّى لا يعود يستطيع التخلّص... إنّه دَبِق... إنّه متاهة... إنّه فخّ. فخّ لا يمكن الصعود منه...»
«خسارة! كان الرجل يبدو طيّباً للغاية، العام الماضي!» يقول يعقوب بن زَبْدي.
«نعم. أنا، كنتُ أظنُّه سيقتدي بزوجته واهباً نفسه بالكامل لكَ ليُشكِّلا معاً زوجاً ملائكيّاً في خدمتكَ. كنتُ سأحلف على ذلك...!» يقول بطرس.
«عزيزي سمعان! لا تحلف أبداً على مستقبل إنسان. فلا شيء أكثر منه تقلّباً. فلا يمكن لأيّ عنصر، كان موجود أثناء القَسَم، أن يُشكِّل ضمانة تأكيد. فهناك مجرمون يصبحون قدّيسين، وهناك أبرار، أو أناس يبدون كذلك، يُصبِحون مجرمين.» يُجيبه يسوع.
في هذه الأثناء، بعد أن دَخَلَ صموئيل إلى البيت، عاد فخرج قاصداً الينبوع لجلب الماء النقيّ... وهكذا يَرَى يسوع. ينظر إليه باحتقار ظاهر، وبالتأكيد يرميه بإهانة، ولكنّها قيلت بالعبرية فلم أفهمها.
يستعجل الاسخريوطيّ إلى الأمام، ويمسكه مِن ذراعه ويهزّه كما تُهَزّ شجرة لإسقاط ثمارها اليانعة: «أهكذا تُكلِّم المعلّم، أيّها الخاطئ؟ إلى الأرض، على ركبتيكَ! في الحال. اطلب العفو منه، أيّها اللسان الـمُدنَّس بأوساخ خنـزير! أرضاً! أو قطّعتُكَ إرباً!» إنّه مُريع في غضبه المفاجئ، يهوذا الجميل! وجهه يتبدّل ويخيف. وعبثاً يحاول يسوع تهدئته. وطالما لا يرى الـمُجدِّف راكعاً على الأرض الموحلة المحيطة بالينبوع، لا يُخفّف الضغط.
«عفواً» يقولها بين أسنانه ذلك البائس الذي يُفتَرَض أنّه يتألّم مِن أصابع يهوذا، ولكنّه يقولها بشكل سيّئ. فقط لأنّه مُجبَر على ذلك.
يُجيب يسوع: «أنا لا أحقد. أمّا أنتَ، فبلى، رغم الذي تقوله. فلا جدوى مِن الكلمة إن لم تكن ترافقها حركة مِن القلب. وأنتَ، في قلبكَ، ما زلتَ تُجدِّف عليَّ. وخطيئتكَ مضاعفة. بالفعل، أنتَ تلومني وتكرهني، لسبب، تعرف أنتَ، في عمق ضميركَ، أنّه غير صحيح، لأنّكَ أنتَ وحدكَ الـمُقصِّر في واجبكَ، وليست أناليا ولا أنا. إلاّ أنّني أسامحكَ على كلّ شيء. اذهب، وتصرّف بالشكل الذي يجعلكَ تعود نزيهاً ومرضياً لله. دعه يا يهوذا.»
«أنا أمضي. ولكنّني أكرهكَ! لقد انتزعتَ منّي أناليا، أنا أكرهكَ...»
«ومع ذلك أنتَ تتسلّى مع ربيكا، ابنة الحَذَّاء (صانع الأحذية). وأيضاً كنتَ تتسلّى معها مُذ كانت أناليا زوجتكَ، حيث لم تكن تُفكِّر، وهي مريضة، إلاّ بكَ...»
«كنتُ أرملاً... كنتُ أُفكِّر أنّني أصبحتُ كذلك... وكنتُ أبحث عن زوجة... الآن أعود إلى ربيكا لأنّ... لأنّ... أناليا لا تريدني.» يلتمس العذر صموئيل الذي يرى أنّ ألاعيبه قد كُشفَت.
ويُنهي يهوذا الاسخريوطيّ القول: «...وكذلك لأنّ ربيكا ثريّة جدّاً، ودميمة مِثل حذاء مهترئ... وعجوز كما نعل ضائع على أحد الدروب... ولكنّها ثريّة، آه! ثريّة...» ويضحك، ساخراً، بينما الآخر يفرّ.
«كيف تَعلَم ذلك؟» يَسأَل بطرس.
«آه!... مِن السهل معرفة أين الفتيات للزواج وأين المال!»
«حسناً! هل نمضي عَبْر هذا الدرب، يا معلّم؟ فهذه الساحة فرن حقيقيّ. وهناك ظلّ وهواء.» يتوسّل بطرس الذي يتصبّبه العرق.
يَمضون ببطء، في انتظار عودة الآخرين. الدرب قَفر.
تَخرُج امرأة مِن أحد الأبواب وتأتي لتجثو باكية عند قدميّ يسوع.
«ما بكِ؟»
«يا معلّم... هل تطهَّرتَ؟»
«نعم. لماذا تسألين؟»
«لأنّني كنتُ أريد أن أقول لكَ... إنّما لا يمكنكَ الاقتراب منه. فهو ليس سوى فساد... الطبيب يقول إنّه مُصاب بعدوى. بعد الفصح سوف أستدعي الكاهن... و... سيستقبله وادي هنّوم. لا تقل إنّني مذنبة. فأنا، لم أكن أَعلَم... لقد عَمِل لأشهر عديدة في يافا، وقد عاد في هذه الحال، قائلاً إنّه قد جُرِح. استخدمتُ المراهم والغسولات بإضافة التوابل... ولكنّ ذلك لم يفد في شيء. استشرتُ عطّاراً. فأعطاني مساحيق للدم... أبعدتُ الأولاد... عزلتُ سريره... ذلك أنّني... كنتُ قد بدأتُ أُدرِك. لقد استفحل المرض. استدعيتُ الطبيب. قال لي: "يا امرأة، أنتِ تعرفين واجبكِ، وأنا أعرف واجبي. إنّها قروح فُجور. افصليه عنكِ. أنا، سوف أعزله عن الشعب، وكاهن إسرائيل. كان يجدر به أن يُفكِّر عندما كان يخطئ إلى الله، إليكَ وإلى نفسه. والآن فليُكفِّر." وقد توسَّلتُ صمته إلى ما بعد الفطير. ولكن ليتكَ ترحم الخاطئ، وأنا التي ما زلتُ أحبّه، والأولاد الخمسة الأبرياء...»
«ماذا تريدين منّي أن أفعل؟ ألا تظنّين أنه قد أخطأ ومِن العدل أن يُكفِّر؟»
«بلى، يا سيّد! ولكنّكَ الرحمة الحيّة!» وفي صوتها يتبدّى كلّ الإيمان الذي تقدر عليه امرأة، كذلك في نظرتها، وفي مظهرها كامرأة جاثية، مادّة ذراعيها صوب الـمُخلِّص.
«وهو، ما الذي في قلبه؟»
«الإحباط... ماذا تريد أن يكون لديه غير ذلك، يا ربّ؟»
«يكفي شعور بالندم فائق الطبيعة، بالعدالة، لنيل الرحمة!...»
«بالعدالة؟»
«نعم، بالقول: "لقد أخطأتُ. وخطيئتي تستحقّ ذلك وأكثر أيضاً، ولكنّني أطلب مِن الذين أسأت إليهم الرحمة".»
«مِن جهتي، أنا منحتُها له. أنتَ، الله، امنحها له. لا يمكنني أن أقول لكَ ادخل. ترى أنّني لا ألمسك كذلك... إنّما، إن شئتَ، فسأناديه، وسأجعله يتكلّم مِن أعلى الشُّرفة.»
«نعم.»
المرأة، رأسها في مدخل البيت، تنادي بصوت عال: «يعقوب! يعقوب! اصعد إلى السطح. اظهر. لا تخف.»
خلال لحظة، يَظهَر الرجل عند جدار الشُّرفة المنخفض: وجه مصفرّ، متورّم، لفافة على عنقه، وأخرى على يده... أطلال رجل قد فَسد... ينظر بعينين مائيّتين لمريض بأمراض دنيئة. يَسأَل: «مَن يريدني؟»
«يعقوب، الـمُخلِّص هنا!...» ولا تزيد المرأة على ذلك كلمة، ولكنّها تبدو وكأنّها تريد تنويم المريض مغناطيسيّاً، ونقل فكرها إليه…
أمّا الرجل، فإن يكن قد أحسّ بفكر زوجته، أو كان بحركة آنيّة منه، يمدّ ذراعيه ويقول: «آه! حَرِّرني! أؤمن بكَ! مُريع هو الموت هكذا!»
«مريع هو إخلال المرء بواجبه. ألم تكن تُفكِّر بها؟ ولا بأولادكَ؟»
«الرحمة، يا ربّ... لهم، ولي... عفوكَ! عفوكَ!» وينهار على الحائط الصغير باكياً، مُخرِجاً يديه المضمّدتين مع كلّ الذراع الذي يُكشف بسبب الأكمام المرتفعة، الملطّخة بالبثور القريبة، المتورّم، المنفّر... والرجل في هذه الوضعيّة، يبدو وكأنه دمية مخيفة، جثّة مرميّة هناك، وهي على وشك التفسّخ. منظره مؤلم ويبعث على الغثيان.
المرأة تبكي، وهي ما تزال جاثية على التراب. يبدو يسوع وكأنّه ينتظر كلمة أخرى…
أخيراً، يَنـزِل، وسط الدموع: «أنوح أمامكَ بندامة قلبي! عِدني على الأقل ألاّ يتضوّروا جوعاً... ثمّ... سوف أمضي مُذعِناً للتكفير. وأنتَ، خَلِّص نفسي، أيّها الـمُخلِّص المبارَك! هي على الأقلّ! هي على الأقلّ!»
«نعم. أبرئكَ. لأجل الأبرياء. لأمنحكَ إمكانيّة إظهار ذاتكَ مستقيماً. هل تفهم؟ تذكّر أنّ الـمُخلِّص شفاكَ. الله، بحسب طريقة تجاوبكَ مع هذه النعمة سيغفر لكَ خطاياكَ. وداعاً! سلام لكِ أيّتها المرأة.» ويمضي في شبه الجري للقاء القادمين مِن جَثْسَيْماني، دون حتّى أن يدع مجالاً لنداءات الرجل الذي أحسّ ورأى نفسه يُشفى لتوقفه، ولا لتلك التي لزوجته…
فلنسلك هذا الزقاق كي لا نمرّ مِن هنا مجدّداً.» يقول يسوع بعد اجتماعه بالآخرين.
يَسلكون زقاقاً بائساً، ضيّقاً لدرجة يصعب معها مرور اثنين معاً، وإذا ما مرّ حمار ببردعة، فليس أمامهم سوى الالتصاق بالجدار كالطابع البريديّ. إنّه الظلّ بسبب الأسطحة التي تكاد تتلامس، العزلة، الصمت والروائح المقزّزة. يمضون صفّاً واحداً كموكب رهبان على طول الزقاق البائس. ثمّ يجتمعون في ساحة صغيرة مليئة بالصبية.
«لماذا تحدّثتَ إلى ذاك الرجل هكذا؟ وأنتَ لا تفعل هذا أبداً...» يَسأَل بطرس بفضول.
«لأنّ الرجل سيصبح أحد أعدائي، وهذه الخطيئة المستقبليّة تُفاقِم خطاياه الحاليّة.»
«وشَفيتَه؟!» يَسأَل الجميع مندهشين.
«نعم. لأجل الصغار الأبرياء.»
«هوم! سيعاوده المرض مجدّداً...»
«لا. مِن أجل حياة الجسد، بعد الهَلَع والألم اللَّذين أصاباه، سوف ينتبه. لن يعاوده المرض.»
«ولكنّه سوف يُخطئ ضدّكَ، تقول؟ أنا كنتُ سأجعله يموت.»
«أنتَ خاطئ، يا سمعا بن يونا.»
«وأنتَ طيّب للغاية، يا يسوع الناصريّ.» يُعلِّق بطرس.
يتوارون في شارع رئيسيّ، ولا أعود أرى شيئاً.
ملاحظة شخصيّة.
أتعرّف على صموئيل كما أتعرّف على الرجل الذي شُفِيَ. فالذي شفي هو الذي، أثناء الآلام، قد رَشَقَ يسوع بحجر على رأسه. وأكثر منه أعرف امرأته، حزينة هي الآن كما آنذاك، والبيت الذي له باب يسهل التعرّف عليه، إذ يُولَج إليه بثلاث دَرَجات. وكذلك، تحت ستار الحقد الذي يُبدّله، أتعرّف في صموئيل على الشاب الذي قَتَلَ أُمّه بركلة مِن قدمه ليتمكّن مِن ضرب المعلّم بهراوة.