ج3 - ف7
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الأول
7- (عِبَر للرُّسُل. معجزة المرأة في سيخار)
26 / 04 / 1945
يسير يسوع في المقدّمة، وحيداً، يكاد يُلامِس سياجاً مِن الصبّار الذي إذ يهزأ مِن باقي النباتات العارية، يشعّ تحت الشمس بِأَكُفّه الضخمة المليئة بالأشواك وما تزال عليها بعض الثمار التي جَعَلَها الزمن حمراء قرميديّة، وعليها زهرة باكوريّة صفراء متّشحة بالأحمر تضحك.
خَلفه الرُّسُل يثرثرون فيما بينهم، ويبدو لي أنّهم لا يُثنون أبداً على المعلّم، وفجأة يلتــــــفت يســــــــوع ويقــــــول: «"إنّ الذي يَنظُر إلى الوِجهــــة التي تأتي منها الرياح لا يَبذُر أبداً، والذي يُمضِي وقته في النَّظر إلى الغيوم لا يَجني أبداً". مَثَل قديم، إنّما حَسبي هذا. وتَرَون أنّكم، حيث كنتم تخشون الرياح السيّئة ولا تريدون المكوث، قد وَجَدتُ أنا أرضــــــاً صـــــالحة وإمكانيــّــة بِذار. ورغم غيومكم -ولنقــــل بشكل عـــــابر، إنّه مِن غير الحَسَن أن تُظهِروها حيث تريد الرحمة أن تُظهِر شمسها- فأنا متأكّد مِن أنّني قد جَنَيتُ ثماراً.»
«ولكن، في هذه الأثناء، لم يَسأَلكَ أحد معجزة. إنّ إيمانهم بكَ لَغريب جدّاً!»
«أوتعتقد يا توما أنّ التِماس المعجزة وحده يَنِمّ عن الإيمان؟ إنّكَ تخدع نفسكَ. بل على العكس تماماً، فالذي يَطلب معجزة ليتمكّن مِن الإيمان يشهد بأنّه بغير المعجزة، البرهان الحسّيّ، لا يؤمن. على العكس، الذي يقول: "أنا أؤمن" لمجرّد كلمة مِن الغَير يُظهِر الإيمان الأعظم.»
«حتّى إنّ السامريّين إذن هُم أفضل منّا!»
«لستُ أقول هذا، إنّما في ظروف وَهنهم الروحيّ، فقد أَظهَروا أنّهم أكثر جَدارة على سماع الله مِن مؤمني فلسطين. وهذا ما سوف تُصادِفونه كثيراً في حياتكم، وأرجوكم، تذكّروا كذلك هذه الحادثة لتعرفوا كيف تُعدِّلون سلوككم دون تَـحَيُّز بخصوص النُّفوس التي سوف تُقبِل إلى الإيمان بالمسيح.»
«ومع ذلك، اغفر لي يا يسوع، إذا ما قُلتُ لكَ إنّه يبدو لي أنّ مع كلّ هذا الحقد الذي يُلاحِقكَ، فإنّ خَلقَ تُهَم جديدة يسيء إليكَ. لو كان أعضاء المجمع يَعلَمون أنّ لكَ...»
«ولكن قُلها ببساطة: "حُبّاً". فذاك هو الذي امتَلَكتُه، يا يعقوب، وما زلتُ. وأنتَ، يا مَن أنتَ ابن عمّي، يمكنكَ إدراك أنّه لا يمكنني امتلاك شيء آخر غير الحبّ. لقد أَظهَرتُ لكَ أنّ ليس لديّ سوى الحبّ، حتّى حِيال الذين كانوا يَنصبون لي العداء مِن بين الذين هُم مِن لحمي ودمي ومَن هُم مِن بلدي. وهل ينبغي لي ألّا أحمل الحبّ لأولئك الذين احتَرَموني وكَرَّموني دون معرفة بي؟ يمكن لأعضاء المجمع فِعل كلّ الشرّ الذي يريدون، إنّما لن يكون مَنظور الشرّ الآتي هو الذي سيُغلِق سُدود حبّي الموجود في كلّ مكان وبشكل فَعّال. وغير ذلك... حتّى ولو كنتُ أتصرّف بشكل مُغايِر... فلستُ أمنع المجمع في حقده مِن إيجاد دوافع للاتّهام.»
«ولكنّكَ، يا معلّم، تهدر وقتكَ في بلد وثنيّ بينما ينتظرونكَ في أمكنة كثيرة في إسرائيل. تقول إنّه ينبغي أن تكون كلّ ساعة مُكَرَّسة للربّ. أليست تلك الساعات هناك مهدورة؟»
«اليوم الـمُستَخدَم في جمع النّعاج الـمُشَتَّتة ليس مهدوراً. ليس مهدوراً يا فليبّس. لقد قيل: "الذي يحترم الشريعة يُقدِّم عطايا كثيرة... ولكنّ الذي يلجأ إلى الرحمة يُقدِّم تضحية". وقيل: "أَعطِهِ تعالى بما يتناسب مع عطاياه لكَ، وامنح بفرح حسب إمكاناتكَ". وهذا ما أقوم به أيّها الأصدقاء. وزمن التضحية ليس زمناً مهدوراً. إنّني أقوم بأفعال رحمة وأَستَخدِم وسائل تَلَقَّيتُها لدى تقدمة عملي لله. حافظوا إذن على هدوئكم. وعلاوة على ذلك... مَن منكم كان يطلب التماس معجزة ليَقتنع بأنّ أهالي سيخار يؤمنون بي؟ فذاك ما هو أدعى للاقتناع. فإنّ هذا الرجل الذي يتبعنا، بكلّ تأكيد، لديه دافع ما ليقوم بذلك. فلنتوقّف.»
بالفعل، يتقدّم رجل. يبدو حانياً تحت حِمل ثقيل يُوازِنه على كتفيه. يَرى الجماعة قد توقّفوا فيتوقّف هو كذلك.
«إنه يريد لنا الأذيّة. ولقد تَوقَّفَ لأنّه رأى أنّنا لاحظنا ذلك. آه يا للسامريّين! هل أنتَ متأكّد مِن ذلك يا بطرس؟»
«آه! قطعاً!»
«إذن ابقَ أنتَ هنا وسأذهب أنا للقائه.»
«لأجل ذلك، لا يا سيّدي. إذا ما ذَهَبتَ أنتَ إليه فسأذهب أنا أيضاً.»
«إذن، هيّا بنا.»
يتوجّه يسوع صوب الرجل. يُهرول بطرس إلى جانبه بفضول وعِداء معاً. وعندما يُصبِحان على مسافة أمتار قليلة يقول يسوع: «ماذا تريد أيّها الرجل؟ عمّن تبحث؟»
«عنكَ.»
«ولماذا لم تطلبني في المدينة؟»
«لم أكن أجرؤ... فلو كنتَ أقصيتَني أمام الجميع لكان أصابني الكثير مِن الألم والخجل.»
«كان بإمكانكَ مناداتي مُذ أَصبَحتُ منفرداً بأتباعي.»
«كنتُ آمل موافاتكَ حالما تصبح بمفردكَ مثل فوتينا. فلديَّ دافع كبير لأكون معكَ على انفراد...»
«ماذا تريد؟ وما الذي تحمله على منكبيكَ بكلّ هذا العناء؟»
«إنّها زوجتي، وقد استولى عليها روح نَجِس وجَعَلَ منها جسماً ميتاً وفِكراً منطفئاً. وإنّني مُضطرّ لإطعامها وإلباسها وحملها مثل طفل. لقد استولى عليها هكذا دون مرض... ويُطلِقون عليها "الممسوسة". إنّني أعاني مِن ذلك. فأتألّم وأتحمّل أعباء المصاريف. انظر.» يضع الرجل على الأرض حِمله جسداً هامداً وقد لَفَّه بمعطف كأنّه كيس، ويكشف عن وجه امرأة ما تزال شابّة يمكن الاعتقاد بأنّها ميتة لولا أنّها تتنفّس. فالعينان مغلقتان والفم شِبه مفتوح... ملامح شخص لَفَظَ أنفاسه الأخيرة.
ينحني يسوع على البائسة الممدّدة على الأرض؛ يَنظر إليها، ويَنظر إلى الرجل: «أتؤمن بأنّني أستطيع؟ ولماذا تؤمن؟»
«لأنّكَ أنتَ المسيح.»
«ولكنّكَ لم تَرَ شيئاً يُثبِت ذلك.»
«لقد سَمِعتُ كلامكَ. وهذا يكفيني.»
«هل تسمعه يا بطرس؟ ماذا تقول عمّا ينبغي لي فِعله الآن أمام إيمان بهذا الكمال؟»
«ولكن... يا معلّم... أنتَ... أنا... ولكن بالنتيجة افعل أنتَ ذلك.» بطرس متضايق للغاية.
«نعم، أَفعَل. انظر أيّها الرجل.» ويَأخُذ يسوع بيد المرأة ويَأمُر: «اخرج منها. تلك هي إرادتي.»
والمرأة التي كانت حتّى ذلك الحين هامدة، تختلج بشكل مخيف، في البداية بصمت، وثمّ بصرخات وتَفَجُّعات تنتهي بصرخة هائلة تفتح أثناءها عينيها المغلقتين حتّى تلك اللحظة، وتَفرك عينيها كما لو أنّها تستفيق مِن كابوس، ثمّ تهدأ. وتَنظُر حولها مندهشة، متفحّصة في البدء وجه يسوع، ذلك المجهول الذي يبتسم لها... وتَنظُر إلى غُبار الطريق الذي كانت ممدّدة عليه، حُزمة عُشب نَبَتَت على قارعة الطريق تعلوها رؤوس بيضاء مُحمرّة لزهرات اللؤلؤ التي تبدو مثل اللآلئ وهي على وشك التَّفتُّح. تَنظُر إلى سياج الصبّار، إلى السماء شديدة الزُّرقة، ثمّ تُدير بَصَرَها وترى رَجُلَها... رَجُلَها الذي كان يَنظُر إليها بقلق ويُراقِب حركاتها كلّها بانتباه. تبتسم، ثمّ، بكامل الحريّة التي عادت إليها تنتَصِب وتَهرَع إلى صدر زوجها الذي يُلاطِفها ويُقبِّلها باكياً.
«كيف؟ هنا؟ لماذا؟ مَن يكون هذا الرجل؟»
«إنّه يسوع، مَسيّا، لقد كنتِ مريضة وشَفاكِ، قولي له إنّكِ تحبّينه كثيراً.»
«آه! نعم! شكراً... ولكن ما الذي أصابني؟ أولادي... سمعان... لستُ أتذكّر الماضي، ولكنّني أتذكّر أنّ لي أولاداً...»
يسوع يتكلّم: «يجب ألّا تتذكّري الماضي. تذكّري هذا اليوم على الدوام، وكوني صالحة. وداعاً. كونا صالِـحَين وسيكون الله معكما.» وينسحب يسوع بسرعة تتبعه بركات الاثنين.
عندما يَلحَق بالآخرين الذين ما يزالون مُستَنِدين إلى السياج، لا يُكلّمهم. ولكنّه يتوجّه إلى بطرس: «والآن، أنتَ يا مَن كنتَ متأكّداً أنّ هذا الرجل يريد بي السوء، ماذا تقول؟ سمعان، سمعان! كَم مِن الأمور ما زالت تنقصكَ لتصبح كاملاً! كَم مِن الأمور تنقصكَ! بغضّ النَّظر عن عِبادة الأوثان الواضحة، فجميعكم لديكم خطايا هؤلاء الناس وعلاوة عليها الكبرياء في أحكامكم. الآن فلنتناول طعامنا. لا يمكننا الوصول إلى حيث كُنتُ أبغي قبل الليل. سوف ننام في أحد الأَهراءات على القشّ إذا لم نجد مكاناً أفضل.»
الاثنا عشر، بقلب مُفعَم بالشعور بالـمَلامة، يجلسون دون كلام ويتناولون الزَّاد.
شمس نهار هادئ تُنير القرية التي تنحدر بتموّجات خفيفة نحو أحد السهول.
بعد الانتهاء مِن الأكل، يتوقّفون بعض الوقت ريثما يَنهَض يسوع ويقول: «تعال أنتَ يا أندراوس وأنتَ يا سمعان. سوف أرى إذا ما كان هذا بيت صديق أم بيت عدوّ.» ويمضي بينما يظلّ الآخرون صامتين، إلى أن يقول يعقوب بن حلفى ليهوذا الاسخريوطيّ: «ولكنّ تلك القادمة أليست المرأة إيّاها التي مِن سيخار؟»
«بلى. إنّها هي. أعرفها مِن ثوبها. ماذا تريد؟»
«أن تتابع طريقها.» يُجيب بطرس باستياء.
«لا، إنّها تُحدّق بنا كثيراً، وهي تحمي عينيها بيدها.»
يُراقِبونها إلى أن تَدنو منهم وتَسأَلهم بِتَواضُع: «أين هو معلّمكم؟»
«تابعي طريقكِ، لماذا تسألين عنه؟»
«كنتُ في حاجة إليه...»
«إنّه لا يَضِلّ مع النساء.» يُجيب بطرس بجفاء.
«أعرف ذلك. مع النساء، لا. ولكنّني نَفْس امرأة تحتاج إليه.»
«دعها.» يَنصَح يعقوب بن حلفى. ويَردّ على فوتينا: «انتظري سيعود في الحال.»
تقف المرأة على زاوية الطريق، عند المنعطف وتبقى بلا حَراك ولا كلام، بينما يُهمِلها الجميع. ولكنّ يسوع يعود بسرعة، ويقول بطرس: «ها هو المعلّم، قولي له ماذا تريدين وبسرعة.»
لم تُجِبه المرأة، بل ذَهَبَت إلى قدميّ يسوع وانحنت إلى الأرض صامتة.
«فوتينا، ما الذي تريدينه منّي؟»
«عونكَ يا سيّدي. فإنّني ضعيفة للغاية ولا أريد أن أعود للخطيئة. لقد قُلتُ ذلك للرجل. إنّما الآن حيث لم أعد خاطئة، لم أعد أعرف شيئاً. فالخير أجهله. وماذا عليَّ أن أفعل؟ قُل لي أنتَ. فأنا لستُ سوى حَمأة. بينما قدمكَ تَطَأ الأرض لتذهب إلى النُّفوس. فلتطأ حَمأتي، ولكن فلتأتِ إلى نفسي بنصائحكَ.» وتبكي.
«باعتباركِ امرأة، وكونكِ بمفردكِ، فلا يمكنكِ أن تتبعيني. ولكن إذا كنتِ راغبة حقيقة بألاّ تعودي تخطئين وأن تعرفي عِلم عدم الخطأ، فعودي إلى بيتكِ بروح النّدامة وانتظري. سيأتي اليوم الذي فيه، كامرأة بين أُخرَيات، تُفتَدين كذلك، وستتمكّنين مِن أن تكوني قريبة مِن فاديكِ وتتعلّمي عِلم الخير. اذهبي ولا تخافي. كوني أمينة وفيّة لإرادتكِ الحاليّة بعدم اقتراف الخطيئة. الوداع.»
تُقبِّل المرأة التراب، تَنهَض مِن جديد وتبتعد وهي تسير إلى الخلف بضعة أمتار، ثمّ تمضي إلى سيخار.