ج7 - ف184

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع / القسم الأول

 

184- (في نوبة. المعجزة على الريح)

 

06 / 09 / 1946

 

إنّها بلدة مجمّعة، حسنة التنظيم إلى حدّ ما. السكّان في المنازل لأنّ هناك ريح قويّة. لكن عندما يأتي التلاميذ للإعلام عن وجود يسوع، فإذا بكلّ النسوة والأطفال والعجائز، الّذين اضطرّهم السنّ إلى ملازمة البلدة، يتجمّعون حول يسوع الّذي توقّف عند الساحة الرئيسيّة. إنّ البلدة، كونها على مرتَفَع، تتمتّع بالهواء والنور حتّى في نهار معتم، والنّظر يمتدّ منها إلى أورشليم جنوباً، وإلى راما شمالاً (أقول راما لأنّ ذلك مكتوب على شاخصة حجرية مع بيان عدد الأميال).

 

الناس متأثّرون جدّاً. فأن يَصيروا مَن يستضيفون الربّ، فذلك بالنسبة لهم أمر جديد ومؤثّر جدّاً! أحد العجائز، وهو شيخ بحقّ، يقول ذلك بالنيابة عن الجميع، والنّسوة يومئن بالموافقة.

 

وكونهم معتادين على أن يكونوا منسحقين بالعنجهيّة الكهنوتيّة والفرّيسيّة، فهم مترهّبون… لكنّ يسوع يُشعرهم بالراحة على الفور، حاملاً بين ذراعيه فتاة صغيرة تخطو أولى خطواتها، مداعباً العجوز، قائلاً: «ألم تروني قبلاً؟»

 

«مِن بعيد… أثناء المرور على الطريق… بعض الرجال في الهيكل. أمّا بالنسبة لنا، القريبين جدّاً مِن المدينة، فالأمر صعب جدّاً أن ننعم بما ينعم به الآخرون الآتون مِن البعيد.» يقول العجوز.

 

«الأمر هو دوماً هكذا، أيّها الأب. فما يبدو مُسَهّلاً للأمور، يجعلها صعبة، لأنّ الكلّ يعوّلون على فكرة أنّه سهل. إنّما الآن فإنّنا سنتعارف. عُد أدراجكَ، أيّها الأب. إنّ الخريف ينفخ رياحه، وهي غير مؤاتية للشيوخ»

 

«آه! لقد بقيتُ وحيداً! ما عاد لليوم قيمة بالنسبة لي...»

 

«ابنته تزوّجت إلى البعيد، وزوجته توفّيت في عيد الأنوار.» تشرح امرأة.

 

«يوحنّا، عليكَ ألّا تتكلّم هكذا، اليوم والرابّي معكَ. لقد رغبتَ بذلك كثيراً!» تقول له امرأة عجوز.

 

«ذلك صحيح. إنّما… إنّكَ المَسيّا، أليس كذلك؟»

 

«نعم، أيّها الأب.»

 

«إذن بماذا عساي أرغب بعد، الآن وقد رأيتُه وأرى تحقّق الوعد المقطوع لإبراهيم؟ إنّ رجلاً عجوزاً، قد كان هو العجوز آنذاك، وقد أَنشَدَ يوماً في الهيكل. أنا كنتُ حاضراً ذاك اليوم وكانت عزيزتي ليا تتطهّر مِن إنجابها الوحيد، وكنتُ قربها، وقبلنا كانت قد أتمّت الطقس واحدة كانت أكثر قليلاً مِن طفلة… -رجل عجوز قد أَنشَدَ فيما هو يُقبّل مولود تلك الصبيّة: "الآن، أيّها الربّ، أطلق عبدكَ بسلام، لأنّ عينيّ قد أبصرتا المخلّص". ذاك الرضيع كان أنتَ، إذن. آه! يا لسعادتي! أنا إذاك قد صلّيتُ إلى الرب قائلاً: "اجعل أن أموت أنا أيضاً بعدما أعرفه". الآن قد عرفتُكَ. إنّكَ هنا. يد ربّي موضوعة على رأسي. صوته كَلَّمَني. الأزليّ قد استجاب لي. وماذا أقول إن لم يكن كلام العجوز سمعان العَالِـم والبار؟ وأقوله: "أَطلِق يا رب عبدكَ بسلام، لأنّ عينيّ قد عرفتا مسيحكَ!"»

 

«ألا تريد الانتظار لرؤية ملكوته؟» تقول امرأة.

 

«لا يا مريم. الاحتفالات ليست للعجائز. وأنا لا أعتقد بما تقوله الأغلبيّة. إنّني أذكر كلام سمعان… لقد أنبأ عن سيف في قلب تلك الصبيّة، إذ إنّ العالم لن يحبّ بأجمعه المخلّص… لقد قال بأنّ الهلاك أو القيامة سيأتيان لكثيرين على يده… وهناك إشَعياء… وهناك داود... لا. إنّني أُفَضّل الموت وانتظار نعمته مِن هناك… ومِن هناك انتظار ملكوته...»

 

«أيّها الأب، إنّكَ ترى بأكثر وضوحاً مِن الشّباب. إنّ ملكوتي هو ملكوت السماوات. إنّما بالنسبة إليكَ فمجيئي ليس هلاكاً، لأنّكَ تُحسِن اليقين بي. لنذهب إلى منزلكَ. إنّني أبقى معكَ» ويذهب، يقوده الرجل العجوز، إلى منزل صغير أبيض عند درب وسط البساتين الّتي تتجرّد مِن أوراقها الّتي تنتزعها الريح، ويدخل معه بطرس وابنا حلفى ويوحنّا. الآخرون يتوزّعون في المنازل الأخرى…

 

… ليعودوا بعد بعض الوقت ويزحموا المنزل الصغير، البستان، الشّرفة على السطح، حتّى صعود السّور الحجريّ الجافّ الّذي يفصل جانباً مِن البستان عن الطريق، وعلى شجرة جوز صلبة وعلى شجرة تفاح متينة، دونما اكتراث بالريح التي تشتدّ وتثير الغبار.

 

يريدون الاستماع إلى يسوع. ويسوع يتردّد لبعض الوقت، ثمّ يبدأ الكلام واقفاً عند عتبة المطبخ، بحيث ينتشر الصوت داخل المنزل وخارجه.

 

«إنّ مَلِكاً قادراً، كانت مملكته شاسعة جداً، أراد يوماً المجيء لزيارة رعاياه. وقد كان يسكن في قصر شامخ، والّذي كان، عَبر خدّامه وسُعاته، يرسل أوامره وعطاياه لرعاياه، الّذين كانوا هكذا يعلمون بوجوده، بالمحبة الّتي كان يكنّها لهم، بمقاصده، لكنّهم لم يكونوا يعرفونه شخصياً، لم يكونوا يعرفون صوته ومنطقه. باختصار، لقد كانوا يعلمون أنّه موجود وبأنّه سيّدهم، إنّما لا شيء أكثر. وكما يحصل غالباً، فبسبب هذا الواقع فإنّ الكثير مِن قوانينه ووصاياه كانت تُشَوّه، إمّا عن سوء نيّة، أو لعدم القدرة على فهمها، بحيث أنّ مصالح الرعايا ورغبات الـمَلِك، الّذي كان يريدهم سعداء، كانت تتعرّض للضرر. وكان يضطر لمعاقبتهم أحياناً وكان يتألّم لذلك أكثر منهم. ولم تُحدِث العقوبات أيّ تحسّن. فيقول عندئذ: "سأذهب أنا. أتحدّث إليهم مباشرة. أُعرّفهم بنفسي. سوف يحبّونني ويتبعونني بشكل أفضل وسيغدون سعداء". وغادَرَ مَسكنه الشامخ كي يأتي وسط شعبه.

 

وأَحدَثَ مجيئه اندهاشاً عظيماً. الشعب تأثّر، اضطرب، البعض بابتهاج، البعض خوفاً، البعض سُخطاً، البعض ارتياباً، البعض بكراهية. والـمَلِك، الصَّبور، دونما أيّ كَلَل، أَخَذَ يدنو مِن الّذين يحبّونه، كما مِن الّذين يخشونه، وكذلك مِن الّذين يكرهونه. وأَخَذَ يشرح شريعته، يُنصِت إلى رعاياه، يَبذل لهم العطايا، يدعمهم، وانتهى المطاف بالكثيرين إلى محبّته، إلى الكفّ عن الهرب منه لأنّه عظيم جدّاً، البعض، وهم قلّة، كَفّوا كذلك عن الرّيبة والكراهية. وكانوا الأفضل. إنّما كُثُر قد ظلّوا كما كانوا، حيث لم تكن فيهم إرادة صالحة. لكنّ الـمَلِك، الّذي كان بغاية الحكمة، قد احتمل ذلك أيضاً، ملتجئاً إلى محبّة أولئك الأفضل كتعويض عن أتعابه.

 

إنّما ما الّذي حدث؟ الّذي حدث هو أنّه حتّى أولئك الأفضل لم يفهموه كلّهم. فقد كان آتياً مِن بعيد جدّاً! منطقه كان جديداً جدّاً! الأمور الّتي يريدها كانت مختلفة جدّاً عن تلك الّتي لرعاياه! ولم يكن مفهوماً مِن قِبَل الجميع… لا بل البعض قد سَبّبوا له الألم، ومع الألم سَبّبوا له الأذى، أو على الأقلّ أَوشَكوا على أن يسبّبوه له، لأنّهم أساؤوا فهمه. وعندما أدركوا أنّهم سَبّبوا له ألماً وضرراً، فَرّوا مِن حضرته مُحبَطين، وما عادوا أتوا إليه خوفاً مِن كلامه.

 

لكنّ الـمَلِك قرأ قلوبهم، وكلّ يوم كان يناديهم بمحبّته، مصلّياً للأزليّ أن يمنحه لقاءهم مجدّداً ليقول لهم: "لماذا تخشونني؟ صحيح أنّ سوء فهمكم قد سَبّب لي الألم، لكنّني رأيتُه مجرّداً مِن الخبث، كونه فقط نِتاج عدم مقدرة على فهم لغتي المختلفة جدّاً عن لغتكم. إنّ ما يؤلمني هو خوفكم. فذلك ينبئني بأنّكم لم تفهموني ليس فقط كمَلِك، وإنّما ولا حتّى كصديق. لماذا لا تأتون؟ عودوا إذن. إنّ ما لم يُفهِمكم إيّاه فرح محبّتي، أَوضَحَه لكم ألم تسبّبكم لي بالألم. آه! تعالوا، تعالوا، أيا أصدقائي. لا تُفاقِموا جهلكم بالبقاء بعيدين عنّي، غشاوتكم بالاختباء، مرارتكم بحرمان أنفسكم مِن محبّتي. أترون؟ كلانا نتعذب على السواء لانفصالنا. أنا أكثر منكم بعد. تعالوا إذن وامنحوني الفرح".

 

هذا ما كان يريد الـمَلِك قوله. وهذا كان كلامه. والله يتكلّم هكذا كذلك إلى مَن يرتكبون الخطايا. وهكذا يتكلّم المخلّص إلى أولئك الّذين يمكن أن يكونوا قد خطئوا.

 

وهكذا يُكلّم مَلِك إسرائيل رعاياه. الـمَلِك الحقيقيّ لإسرائيل، الّذي يريد أن يجلب رعاياه مِن مملكة الأرض الصغيرة إلى ملكوت السموات العظيم. لا يمكن أن يدخله مَن لا يتبعون الـمَلِك، أولئك الّذين لا يتعلّمون إدراك كلامه وفِكره. إنّما كيف نتعلّم إذا ما كنّا نهرب مِن المعلّم عند أوّل خطأ منّا؟

 

لا يَدَعَنّ أحد نفسه يُحبَط إذا ما خطئ وتاب، إذا ما خطئ واعترف بخطيئته. فليأتِ إلى الينبوع الّذي يمحو الخطايا ويمنح النور والحكمة، وليرتوِ ممّن يتحرّق أن يهب ذاته، والّذي أتى مِن السماء كي يمنح ذاته للبشر».

 

يسوع يصمت. وحدها الريح تُسمِع صوتها الّذي يتعاظم باضطراد. إنّها تهيج كثيراً عند قمّة التلة حيث نوبة لدرجة أنّ الأشجار تُصدِر صريراً مخيفاً.

 

الناس مرغمون على العودة إلى منازلهم، لكن عندما يبتعدون ويعود يسوع إلى المنزل مغلقاً الباب، فإنّ متّياس، يتبعه مَنَاين وتيمون، يخرج مِن وراء الجدار الواطئ ويدخل إلى الحديقة قارعاً الباب المقفل.

 

يسوع بذاته يأتي ليفتح. «يا معلّم، ها هما!...»، يقول متّياس مشيراً إلى الاثنين، الّلذين لَبِثا خَجِلَين عند طرف الحديقة، ولا يجرؤان على رفع وجهيهما لينظرا إلى يسوع.

 

«مَنَاين! تيمون! يا صديقيَّ!»، يقول يسوع خارجاً إلى الحديقة ومعيداً إغلاق الباب، كي يشير إلى مَن هم في الداخل بألّا يخرجوا بدافع الفضول. ويمضي صوب الاثنين، بذراعين مفتوحين، المفتوحين للمعانقة.

 

يرفع الاثنان وجهيهما، متأثّرين بالمحبّة الّتي ترتعش في صوت المعلّم، يريان الوجه والعينين، المفعمة كلّياً بالمحبة، فيسقط خوفهما، يهرعان إلى الأمام صائحين صيحة مبحوحة بفعل البكاء: «يا معلّم!»، ويخرّان عند قدميه معانقين كاحليه، مقبّلين القدمين الحافيتيين، مبلّلين إيّاهما بالدموع.

 

«صديقَيّ! ليس هناك. هنا فوق القلب. لقد انتظرتكما كثيراً! وفهمتُ كثيراً! هيّا!» ويسعى لإنهاضهما.

 

«المغفرة! آه! المغفرة!... لا تمنعها عنّا يا معلّم. لقد عانينا كثيراً!».

 

«أَعلَم. إنّما لو جئتما قبلاً، لكنتُ قلتُ لكما قبلاً: "أحبّكما."»

 

«تحبّنا؟ يا معلّم؟! كما قبلاً؟!» يقول أوّلاً تيمون رافعاً وجهاً متسائلاً.

 

«أكثر مِن ذِي قبل، لأنّكما الآن قد شفيتما مِن كلّ ما هو بشريّ في محبّتكما تجاهي.»

 

«حقّاً! آه! يا معلّمي!» ومَنَاين يهبّ واقفاً ولا يعود يقاوم. يرتمي على صدر يسوع وتيمون يقتدي به…

 

«أتريان كيف أنّ الحال هو على ما يرام هنا؟ أليس هنا أفضل مِن قصر ملكيّ بائس؟ حيث تحظيان بي أكثر، وأَقدَر، عذباً، غنياً بكنوز لا نهاية لها، بالتنعّم بي مخلّصاً، فادياً، مَلِكاً روحياً، صديقاً مُحبّاً؟»

 

«هذا صحيح! هذا صحيح! آه! لقد أغوونا! وكان يبدو لنا بأنّهم يجلّوكَ، وبأنّ تفكيرهم كان صائباً!»

 

«كُفّا عن التفكير بالأمر. لقد انقضى. إنّه ينتمي إلى الماضي. دَعَا الزمن، الّذي يجري بسرعة كما الإعصار الّذي يضربنا، يحمله بعيداً، يبدّده للأبد… إنّما لندخل إلى المنزل. مِن غير الممكن البقاء هنا...»

 

إنّه بالفعل إعصار حقيقيّ ما يتقدّم مِن الشمال صوب البلدة، أغصان تتحطّم، قرميد يتطاير، بعض أسوار غير متينة لشرفات تسقط بصخب. شجرة الجوز وشجرة التفّاح تتلوّيان كما لو أنّهما تريدان اقتلاع نفسيهما مِن الأرض.

 

يدخلون إلى المنزل، وينظر الرُّسُل الأربعة باندهاش إلى وجهيّ التلميذين اللذين لا يزالان مبلّلين بالدموع، بالتباين مع الابتسامة الّتي ترتسم على وجهيهما. لكنّهم لا يقولون شيئاً.

 

«إنّ كارثة ما تتحضّر.» يقول العجوز يوحنّا.

 

«نعم. لا أدري كيف سيتصرّف أولئك الّذين لا يزالون تحت الأكواخ...» يقول بطرس.

 

إنّ الريح شديدة إلى حدّ أنّ الشُّعلات الخافتة لمصباح ثلاثيّ الرؤوس، المضاء لإنارة الغرفة المغلقة، ترتعش بالرغم مِن أنّ الأبواب مقفلة.

 

ومع جلبة الريح، الّتي تشتدّ أكثر فأكثر وتقذف المنزل بالتراب والحطام، كما لو أنّ بَرَداً صغيراً يتساقط، تختلط بصرخات نسوة، تقترب أكثر فأكثر. إنّهنّ زوجات مذعورات، أُمّهات قلقات: «أزواجنا! أولادنا! إنّهم على الطريق. إنّنا خائفات. لقد انهار جدار منزل مهجور… يا ربّ! يا يسوع! الرحمة!»

 

يسوع ينهض واقفاً، بالكاد يتمكّن مِن فتح الباب الّذي تدفعه الريح بكلّ شدّتها. هنالك نسوة، منحنيات ليقاومن الريح -إعصار هواء حقيقيّ تحت سماء مخيفة- يتأوّهن باسطات أذرعهنّ.

 

«ادخلن. لا تخفن!» يقول يسوع. وينظر إلى السماء وإلى الأشجار الّتي هي على وشك أن تُقتَلَع.

 

«عُد إلى الداخل يا يسوع! ترى كيف تتحطّم الأغصان ويقع القرميد؟ ليس مِن الحكمة البقاء خارجاً.» يصيح يوضاس بن حلفى.

 

«مسكينة أشجار الزيتون! إنّه بَرَد. حيث يسقط لا يكون هناك قِطاف» يقول بطرس بأسلوب الحِكَم.

 

يسوع لا يعاود الدخول. لا بل يخرج كلّياً، وسط الإعصار الّذي يلوي ثوبه ويرفع شعره. يفتح ذراعيه، يصلّي، ومِن ثمّ يَأمر: «كفى! أشاء ذلك!» ويعاود الدخول إلى المنزل.

 

للريح هدير أخير ومِن ثمّ تتوقّف فجأة. إنّه لمدهش السكون الّذي يحلّ بعد كلّ هذه الجلبة. إنّ السكون عظيم لدرجة أنّ وجوهاً مدهوشة تبرز مِن المنازل. بقيت آثار الإعصار الهوائي: أوراق، أغصان متكسّرة، مِزَق ستائر. لكنّ كلّ شيء ساكن. السماء تستجيب للأرض، الّتي ما عادت مضطربة، مع تحوّل الغيوم مِن اللون الأسود لتصبح فاتحة، والّتي تتفرّق مِن دون إحداث أيّ ضرر، إنّما تترك مطراً خفيفاً يهطل، مستكملاً تنقية الجوّ الملوّث بالكثير مِن الغبار.

 

«ما الّذي حدث؟»

 

«هل انتهى هذا؟»

 

«كان يبدو أنّها النهاية، والآن الطقس جميل؟»

 

أصوات تتساءل مِن منزل إلى منزل.

 

النسوة اللواتي لجأن إلى يسوع يهرعن خارجاً. «الربّ! الربّ معنا! لقد اجترح معجزة! لقد أوقف الريح! لقد شقّ الغيوم! هوشعنا! هوشعنا! التسبيح لابن داود. سلام! بركة! المسيح معنا! معنا المبارك! القدّوس! القدّوس! القدّوس! المسيح معنا! هلّلويا!»

 

البلدة تصبّ خارجاً كلّ سكّانها الأصليّين منهم والعَرَضيّين، أي الرُّسُل والتلاميذ، الّذين يهرعون كلّهم إلى المنزل الصغير حيث يسوع. الكلّ يريدون تقبيله، لمسه، تمجيده.

 

«سَبِّحوا الربّ العليّ. هو سيّد الريح والمياه. وإذا ما هو أَنصَتَ إلى ابنه، فذلك لمكافأة الإيمان والمحبّة الّتي لديكم تجاهه.»

 

يودّ أن يصرفهم. إنّما مَن يمكنه تهدئة بلدة في عيد، أثارتها معجزة واضحة؟ خصوصاً إذا كانت بلدة ملأى بالنسوة؟ جهود يسوع غير مجدية. إنّه يبتسم بصبر، فيما الشيخ الّذي استضافه يغسل بدموعه ويقبّل يده اليسرى.

 

ها هم أوائل الرجال الّذين قد عادوا مِن أورشليم لاهثين، خائفين. مرتعدين لا أدري مِن أيّة مصيبة. يَرَون الشعب في عيد. «ماذا هناك؟ ما الّذي حصل؟ إنّما ألم تضربكم عاصفة؟ مِن الجبل كانت تُرى البلدة وهي تختفي تحت سُحُب مِن الغبار. كنّا نظنّ أنّها انهارت. وهنا كلّ شيء سليم!»

 

«الربّ! الربّ! قد أتى في الوقت المناسب لإنقاذنا مِن الهلاك. وحده المنزل الملعون قد سقط. وبضع قرميدات وبعض الأغصان. وأنتم؟ ما الّذي جرى في أورشليم؟»

 

تتقاطع الأسئلة والإجابات. لكنّ الرجال يشقّون لهم طريقاً كي يذهبوا لإجلال المخلّص. وفقط بعدها يشرحون بأنّ الخوف قد أصاب المدينة بسبب العاصفة الّتي كانت تهدّد، وأنّ الكل كانوا يهربون مِن الأكواخ إلى المنازل، وأنّ أصحاب بساتين الزيتون كانوا يبكون محاصيلهم… حينما فجأة سكنت الريح، والسماء قد تطهّرت بقليل مِن المطر… والمدينة بأكملها كانت مندهشة. ولأنّ الخيال يعمل على الفور في بعض الحالات، فالرجال يَروُون بأنّه، وفيما كان الناس يهربون، فإنّ كُثُر ممّن كانوا في الهيكل في الأيّام الماضية، وقد رأوا أنّ جبل موريا كان الأكثر اجتياحاً مِن العواصف، إلى درجة أنّ طاولات الصيارفة قد انقلبت، وبعض الأضرار قد لحقت بمنزل الكاهن الأعظم، كانوا يقولون بأنّ ذلك كان عقاباً مِن الله للإهانات التي أُلحِقَت بمسيحه. وكلام، كلام، كلام… ثمّ وصل رجال، وتلوّنت رواياتهم أكثر. وفي بعض الأحيان تصبح رؤيويّة أكثر ممّا هي عليه في قراءات الجمعة العظيمة.