ج3 - ف64

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الثاني

 

64- (يسوع يُعَلِّم "أبانا")

 

28 / 06 / 1945

 

يَخرُج يسوع مع أَتباعه مِن بيت قريب مِن الأسوار. أظُنّه في منطقة بيزيتا، ذلك أنّه، للخروج مِن الأسوار، ينبغي أيضاً المرور بجانب بيت يوسف القريب مِن الباب الذي سَمِعتُهم يُطلِقون عليه اسم "باب هيرودس". المدينة شبه خاوية، في الليلة الساكنة تحت ضوء القمر. أُدرِك أنّ الفصح يتمّ في أحد بيوت لِعازر. ليس في بيت العلّية. على العكس، فإنّ الأوّل في الشمال، بينما الآخر فإلى الجنوب مِن أورشليم.

 

على عَتَبَة البيت، يسوع، بِظُرفِه اللّطيف، يُودِّع يوحنّا الذي مِن عين دور الذي يتركه لرعاية النساء، وهو يشكره لهذه الرعاية. يُقَبِّل مارغزيام الذي أتى كذلك إلى العَتَبَة، ثمّ يَبتَعِد عَبْر الباب المسمّى باب هيرودس.

 

«إلى أين نحن ذاهبون يا ربّ؟»

 

«تعالوا معي آخذكم إلى حيث نُكَلِّل الفصح بجوهرة نادرة ومرغوبة. لأجل ذلك أردتُ الانفراد بكم، أنتم رُسُلي! أشكركم يا أصدقائي على حبّكم الكبير لي. لو كنتم تستطيعون رؤية كم يعزّيني حبّكم الكبير ذاك، لكنتم تَظلُّون مُندَهِشين. انظروا: إنّني أسير وسط العوائق والخَيبات المتواصلة. خيبات لكم، أمّا أنا، فَكُونوا على يقين بأنّ لا خيبات لديَّ، لأنّ موهبة الجَّهل لَم تُعطَ لي... فحتّى لأجل ذلك أنصحكُم أن تتركوا القِيادة لي. إذا سَمَحتُ بهذا أو ذاك فلا تَجلبوا العوائق، وإذا لم أتدخّل لوضع حدّ لأمر ما، فلا تفكّروا بفعل ذلك أنتم. كلّ شيء في أوانه. ثِقوا بي فوق كلّ شيء.»

 

إنَّهم في الركن الشماليّ الشرقيّ مِن جدران السُّور. يَدُورون ويُحاذون جبل مورياح حتّى الموضع الذي يستطيعون فيه اجتياز قدرون بواسطة جسر صغير.

 

«هل نحن ماضون إلى جَثْسَيْماني؟» يَسأَل يعقوب بن حلفى.

 

«لا، إلى أعلى مِن ذلك. إلى جبل الزيتون.»

 

«آه! سيكون بهيّاً!» يقول يوحنّا.

 

«كان سَيُسَرّ الصغير بذلك أيضاً.» يُتمتِم بطرس.

 

«آه! سوف يأتي مرّات كثيرة. لقد كان مُتعَباً، وهو وَلَد. وأنا أريد منحَكم ما هو عظيم، لأنّه قد آن الأوان كي تَنالوه.»

 

يَصعَدون وسط شجر الزيتون، تاركين جَثْسَيْماني إلى يمينهم، ويَرتَقون الجبل حتّى بلوغ القمّة حيث حفيف أوراق الزيتون.

 

يتوقّف يسوع ويقول: «لنأخذ لنا قسطاً مِن الراحة... يا أعزّائي، أيّها التلاميذ الأعزّاء جدّاً على قلبي، واستمراريّتي في المستقبل، تعالوا إلى جانبي. ذات يوم، بل ليس فقط في ذاك اليوم، قلتم لي: "عَلِّمنا أن نُصَلّي كما تُصَلّي أنتَ. عَلِّمنا، كما فَعَلَ يوحنّا مع أتباعه، كي نستطيع، نحن الرُّسُل، أن نُصَلّي بعبارات المعلّم ذاتها". ولقد أَجَبتُكم، ودائماً: "سأفعل ذلك يوم أَجِد فيكم الحدّ الأدنى مِن التهيئة الكافية، كي لا تكون الصلاة صيغة كلاميّة بشريّة تافهة، إنّما تكون حِواراً حقيقيّاً مع الآب". نحن الآن فيها. فلديكم ما يكفي للتمكّن مِن معرفة العبارات الملائمة لأن تُقال لله. وأريد أن أُعَلِّمكم إيّاها هذا المساء، في السلام والحبّ اللّذين هُما بيننا، وفي سلام وحُبّ الله مع الله. بالفعل، فلقد نَفَّذنا شريعة الفصح كإسرائيليّين حقيقيّين، والوصيّة الإلهيّة بمحبّة الله ومحبّة القريب. عانى أحدكم كثيراً هذه الأيّام، جَرّاء فِعل غير مُستَأهَل، ولقد عانى مِن الجهد الذي بَذَلَه مِن أجل قَمع الغَيظ الذي سَبَّبَه هذا الفعل. نعم، سمعان بن يونا، تعال هنا. لم تكن خَلجة واحدة مِن خَلجات قلبكَ النـزيه غير معروفة لديَّ. ولم يكن ألم لَم أُقاسمكه أنا، بل رفاقكَ وأنا...»

 

«أمّا أنتَ، ربّي، فلقد أُسيء إليكَ أكثر منّي! وهذا كان مصدر ألم إضافيّ لي... أَعظَم، لا بل أكثر حساسية... ومع ذلك ليس... أكثر... أكثر. هو ذا: كإنسان، فقد تألَّمتُ لاشمئزاز يهوذا مِن مشاركتي العيد. إنّما رؤيتي إيّاكَ حزيناً ومُستاء فقد سَبَّبَت لي ألماً مِن نوع آخر، وقد تضاعف ألمي بسببه... أنا... لا أبغي أن أتباهى وأجعل لنفسي قيمة باستخدامي عباراتكَ... إنّما ينبغي لي القول، وإذا كان ذلك مِن قَبيل الكبرياء، فَقُله لي، إنّني تألّمتُ بنفسي... وهذا يؤلم أكثر.»

 

«هذا ليس كبرياء، يا سمعان. لقد تألّمتَ روحيّاً لأنّ سمعان بن يونا، صيّاد الجليل، هو الآن في طريقه إلى التَّبدُّل إلى بطرس يسوع معلّم الروح، الذي بفضله كذلك يُصبِح تلاميذه حُكَماء وفاعِلين روحيّاً. ومِن أجل تَقَدُّمكَ في الحياة الروحيّة، لكي أجعلكم تتقَدَّمون، أريد، هذا المساء، أن أُعلِّمكم كيف تُصَلّون. كم تغيّرتم منذ الخلوة الانفراديّة!»

 

«جميعنا يا ربّ؟» يَسأَل برتلماوس الـمُتشكِّك قليلاً.

 

«أُدرِك ما الذي ترمي إليه... ولكنّني أتحدّث إليكم أنتم، الأحد عشر. وليس لآخرين...»

 

«ولكن ما به يهوذا بن سمعان، يا معلّم؟ لَم نَعُد نفهمه... كان يبدو وكأنّه تَبَدَّل كثيراً، والآن، مُذ غادَرنا البحيرة...» يقول أندراوس حزيناً.

 

«اصمت يا أخي. فمفتاح السرّ عندي! إنّه قد تَعَلَّق بعض الشيء ببعلزبول. ولقد ذَهَبَ للبحث عنه في كهف عين دور، كي يُدهِش الناس، و... لقد كان له ما أراد! وقد قالها المعلّم يومذاك... ففي جَمَلا دَخَلَ الشياطين في الخنازير، أمّا في عين دور، فالشياطين الخارجة مِن المسكين يوحنّا قد دَخَلَت فيه... فمفهوم أن... مفهوم... دعني أقولها يا معلّم! إنّها هنا في حَلقي، وإذا لَم أَقُلها فستبقى فيه وتُسَمّمني...»

 

«سمعان، كُن صالحاً!»

 

«نعم يا معلّم... أؤكّد لكَ أنّني لن أقلّل أدبي معه. ولكنّني أقول وأفكّر بأنّ يهوذا، كونه فاسداً -ولقد أَدرَكنا ذلك جميعنا- فهو قريب، بعض الشيء، مِن الخنـزير... ومعلوم أنّ الشياطين يختارون، عن طِيب خاطر، الخنازير لتبديل إقامتهم... هو ذا قد قيل...»

 

«أوَتقول إنّ الأمر هكذا هو؟» يَسأَل يعقوب بن زَبْدي.

 

«وماذا تريد أن يكون غير ذلك؟ فما مِن سبب يدعو لأن يصبح هكذا عنيداً، مُتصلِّباً: وذلك هو أسوأ عمّا كان عليه في منطقة المياه الحلوة! وهناك، كان ممكناً القول إنّ المكان كان مصدر إثارة غضبه. إنّما الآن...»

 

«هناك سبب آخر يا سمعان...»

 

«قُلهُ يا معلّم. يسرّني تغيير رأيي برفيقي.»

 

«يهوذا غيور، وهو مُضطَرِب بسبب غيرته.»

 

«غيور؟ مِمَّن؟ فليس لديه امرأة، وحتّى ولو كانت لديه واحدة وكانت مع النساء، لا أظنّ أحداً منّا يُظهِر له أيّ احتقار، وهو تلميذ زميل لنا...»

 

«إنّه يغار منّي. فَكِّر: لقد تَبَدَّل يهوذا بعد عين دور وبعد مرج ابن عامر. أي بعد أن رأى أنّني أهتمّ بيوحنّا وبيَعْبيص. إنّما الآن، وبما أنّ يوحنّا، ويوحنّا بشكل خاصّ، سيَبتَعِد، فيتركني ليبقى مع إسحاق، فسترى أنّه سوف يعود طيّباً ومرحاً.»

 

«إيه... حسناً! لن تقول لي إنّ به مسّاً مِن شيطان صغير. وخاصّة... لا، سأقولها! وخاصّة لن تقول لي إنّه أَصبَحَ الأفضل، في الأشهر الأخيرة تلك. فأنا أيضاً كنتُ أغار العام الماضي... لم أكن أريد أحداً غيرنا، نحن الستّة، الستّة الأوائل، هل تذكر؟ أمّا الآن، الآن... دعني، لمرّة واحدة، أجعل الله يَشهَد على فِكري، الآن أقول إنّني سعيد لرؤيتي عدد التلاميذ يزداد حولكَ. آه! ليتني أحصل على كلّ الناس لأجلبهم إليكَ، وكلّ الوسائل للتمكّن مِن إعالة كلّ المحتاجين، لكيلا يبقى البؤس عائقاً أمام أيّ إنسان، يمنعه مِن الوصول إليكَ. الله يرى إن كنتُ أقول الحقّ. ولكن لماذا أنا هكذا الآن؟ لأنّني استسلمتُ لكَ لِتُغيِّرني. هو... لم يتغيّر. على العكس... يا معلّم... لقد استَحوَذَ عليه شيطان صغير...»

 

«لا تقل ذلك ولا تُفكّر به. صَلِّ لكي يُشفَى. فالغِيرة مرض...»

 

«إلى جانبكَ يمكن الشفاء، حينما يُراد ذلك. آه! سأتحمّله مِن أجلكَ... ولكن يا له مِن عَمَل!...»

 

«لأجل ذلك مَنَحتُكَ المكافأة: الصبيّ. والآن أُعَلِّمكَ أن تُصَلّي...»

 

«آه! نعم يا أخي.» يقول يوضاس تدّاوس «فلنتحدّث عن ذلك... ولا نتذكّرنّ ممّن يشاركني الاسم إلّا حاجته. ولكن يبدو لي أنّه حَصَل الآن على عقابه. فهو ليس معنا في هذه الساعة!»

 

«اسمعوا. عندما تُصَلُّون قولوا هكذا: "أبانا الذي في السماوات، ليتقدّس اسمكَ، ليأتِ ملكوتكَ على الأرض كما هو في السماء، ولتكن مشيئتكَ على الأرض كما هي في السماء. ارزقنا خبزاً كفاف يومنا، واعفِنا ممّا علينا كما أَعفَينا نحن غيرنا ممّا لنا عليه. ولا تُدخِلنا1 في التجربة، لكن نَجِّنا مِن الشرير".»

 

نَهَضَ يسوع ليتلو الصلاة، واقتَدَى به الجميع مُتَنَبِّهين مُتَأَثِّرين.

 

لا ضرورة لشيء آخر يا أصدقائي. هذه الكلمات تحوي، كدائرة مِن ذَهَب، كلّ ما هو ضروريّ للإنسان، مِن أجل روحه ومِن أجل الجسد والدم. ومع ذلك اطلبوا كلّ ما فيه نفع لهذا أو أولئك. وإذا عَمِلتم ما تطلبونه، تنالون الحياة الأبديّة. إنّها صلاة كاملة، لدرجة أنّ موجات الهرطقة ومرّ العصور لن تمسّها. لَسْعة الشيطان سوف تَقسم المسيحيّة، وسوف تنفكّ أجزاء كثيرة مِن جسدي السرّيّ، وتنفصل لتُشكِّل خلايا في الرغبة الباطلة في أن تَجعَل مِن ذاتها جسداً كاملاً، كما سيكون جسد المسيح السرّيّ، أي الـمُتشكِّل مِن جميع المؤمنين المجتمعين في الكنيسة الرسوليّة التي ستدوم طالما الأرض باقية، الكنيسة الحقيقيّة الواحدة. ولكن تلك المجموعات الصغيرة المنفصلة، والمحرومة، بالنتيجة، مِن جميع النِّعم التي سأتركها للكنيسة الأُمّ، لتغذية أبنائي، باسم "الكنائس المسيحيّة"، بسبب عبادتها للمسيح، وفي قلب هفوتها، ستتذكّر على الدوام أنّها مِن المسيح أتت. وهي كذلك سوف تُصلّي هذه الصلاة العالميّة. تذكّروها. تأمّلوا بها على الدوام. طَبِّقوها على تصرّفاتكم. لا ضرورة لأيّ شيء آخر كي تتقدَّسوا. وإذا كان أحدكم بمفرده، في وسطٍ وثنيّ، دون كنائس، دونما كُتُب، فيكون له، بتأمّله هذه الصلاة، كلّ ما يمكن معرفته، وتكون في قلبه كنيسة مفتوحة لتلاوتها، فتكون له قاعدة حياة وتقديساً أكيداً.

 

"أبانا"

 

ادعوه أباً، إنّه أبو الكَلِمَة، إنّه أبو مَن تأنَّس. هكذا أريدكم أن تدعوه، لأنّكم، أنتم وأنا، واحد، إذا ما ثَبَتّم فيَّ. كان زمن، وَجَبَ فيه على الإنسان أن يجثو ليتنهّد وسط مخاوف الهلع: "الله"! ومَن لا يؤمن بي وبكلامي، فهو لَم يَزَل في هذا الخوف الذي يَشلّ... انظروا جيّداً إلى داخل الهيكل، فليس الله فقط، بل إنّما ذكرى الله كذلك، متخفّية في عيون المؤمنين، تحت وشاح ثلاثيّ. الانفصال بالمسافة، والانفصال بالحُجُب، كلّ شيء قد اتُّخِذ وطُبِّق ليقول لِمَن يُصَلّي: "أنتَ وَحل وهو نور. أنتَ خَسيس وهو قدّوس. أنتَ عَبد وهو مَلِك".

 

أمّا الآن!... فارتَفِعوا! اقتَرِبوا! أنا الكاهن الأزليّ. بإمكاني الأخذ بيدكم والقول لكم: "تعالوا". بإمكاني الإمساك بالستائر وفتحها، فاتحاً بذلك المكان المتعذَّر بلوغه، الـمُغلَق حتّى الآن. الـمُغلَق؟ لماذا؟ المغلق بسبب الخطيئة، نعم، إنّما الـمُغلَق أكثر بسبب فِكر البشر المنحطّ. لماذا هو مُغلَق إذا كان الله حُبّاً، إذا كان الله أباً؟ يمكنني، ينبغي لي، بل أريد أن أقودكم، لا إلى الغبار، بل إنّما إلى اللازورد؛ ليس إلى البعيد، بل إلى القريب جدّاً، ليس كعبيد، إنّما كأبناء، إلى قلب الله. "أيّها الأب! أيّها الآب!" قولوا هذه العبارة بحبّ حقيقيّ، فتكون صلاة مُحَبَّبة للربّ. "أيّها الأب! أبي!" يقولها الصغار لأبيهم. وهي أوّل كَلِمة ينطقون بها: "ماما، بابا"، وأنتم أولاد الله الصغار. لقد أنجَبتُكم مِن العجوز الذي كُنتُموه. ذلك العجوز قد حَطَّمتُهُ بحبّي، لأجعل الإنسان الجديد يُولَد، المسيحيّ. فَسَمّوا إذاً، بالاسم الذي يعرفه الصغار أولاً، الأب الكليّ قدسه الذي في السماوات.

 

"ليتقدّس اسمكَ".

 

آه! الاسم القدّوس، والعَذب أكثر مِن أيّ شيء آخر، الاسم الذي عَلَّمَتْكم رغبة الإثم أن تحجبوه تحت اسم آخر. لا، لم يعد "أدوناي"، ليس بعد الآن. بل هو الله. إنّه الإله الذي خَلَقَ البشريّة بِفَرط حُبّه. ولِتَدعُهُ باسمه بشريّة المستقبل بشفاه مُطَهَّرة بالحَمّام الذي أُهيّئه، مُحتَفِظة بإدراك ذاك غير الـمُدرَك، بملء الحكمة، وذلك عندما ستسمو البشريّة بأفضل بَنيها، ذائبة فيه، إلى الملكوت الذي أتيتُ لتأسيسه.

 

"ليأتِ ملكوتكَ على الأرض كما هو في السماء".

 

فلتَرغبوا بكلّ قواكم بهذا القدوم. فإذا ما أتى يَحلّ الفرح في الأرض. ملكوت الله في القلوب، في العائلات، بين السكّان وبين الأمم. تألَّموا، تَحَمَّلوا، ضَحّوا بأنفسكم مِن أجل هذا الملكوت. ولتكن الأرض، لدى كلّ امرئ، مرآة تعكس حياة السماوات. سيأتي، سيأتي كلّ ذلك ذات يوم. عُصور وعُصور مِن الدموع والدم، مِن الأهوال والاضطهادات، مِن الضباب الذي يَختَرِقه بَرق نور، ستتوهَّج بواسطة منارة كنيستي السرّيّة -إذا كانت مَركباً لم يغرق، فهي كذلك صخرة تتصدّى للأمواج، وتُبقي عالياً جدّاً النور، نوري، نور الله- كلّ ذلك يَسبق اللّحظة التي تحظى فيها الأرض بملكوت الله. سيكون آنذاك مثل تَوَهُّج النَّجم الذي بعد بلوغه كمال وجوده يتفتّت، زهرة، لا قياس لها، مِن الحدائق الأثيريّة، ليفوح منها، في خَفَقَان وَهَّاج، وجودها وحبّها عند قَدَميّ خالِقها. ولكنّ ذلك سيأتي. وبعدئذ سيكون ملكوت السماء الكامل والمغبوط.

 

"لتكن مشيئتكَ على الأرض كما هي في السماء".

 

إنّ تلاشي الإرادة الخاصّة لصالح إرادة آخر، لا يمكن أن تحصل إلّا حينما يَبلُغ المرء كمال الحبّ تجاه ذلك الآخر. وتلاشي الإرادة الخاصّة لصالح إرادة الله، لا يمكن أن تحصل إلّا حينما يَبلُغ المرء كمال الفضائل الإلهيّة لدرجة بطوليّة. في السماء، حيث كلّ شيء دُون عيب، تتمّ مشيئة الله. واعلَموا، بل اعرفوا، أنتم يا أبناء السماء، أن تَعمَلوا ما يتمّ عَمَلَه في السماء.

 

"ارزقنا خبزنا كفاف يومنا".

 

عندما تُصبِحون في السماء، فلن تتغذّوا إلّا بالله. فتصبح الغبطة غذاءكم. إنّما هنا فأنتم تَظَلّون في حاجة إلى الخبز. وإنّكم أولاد الله الصغار، فَمِن قبيل الحقّ القول: "أبانا، أَعطِنا خبزاً". هل تَخشون ألّا يسمعكم؟ آه! لا! فَكِّروا: افتَرِضوا أنّ لأحدكم صديقاً، وانتَبَهَ أنّه ينقصه الخبز ليقدّمه إلى صديق آخر أو قريب أتاه في آخر السهرة. إنّه يَقصد صديقه، جاره، ويقول له: "يا صديقي اقرِضني ثلاثة أرغفة، فلقد جاءَني ضيف، وليس لديَّ ما يَفي بواجب الضيافة". فهل يمكنه الإجابة مِن داخل البيت: "لا تزعجني، فقد أقفَلتُ الأبواب وأوصَدتُ مَصاريعها، وأولادي ينامون إلى جانبي، فلا يمكنني النهوض لأعطيكَ ما تريد"؟ لا. فلو هو تَوَجَّه إلى صديق حقيقيّ، أو هو أَلَحَّ، فسينال طلبه. يناله حتّى ولو لم يكن قد تَوَجَّه إلى صديق صالح جدّاً. يناله بسبب لجاجَته، ذلك أنّ الذي تُطلَب منه تلك الخدمة، ولكي لا يستمرّ بإزعاجه، يُسرِع في إعطائه أكثر ممّا يريد.

 

أمّا أنتم، فحينما تُصلُّون للآب، فإنّكم لا تتوجّهون إلى صديق أرضيّ، ولكنّكم تتوجّهون إلى الصديق الكامل، الذي هو الآب السماوي. كذلك أقول لكم: "اسأَلوا تُعطَوا. اطلُبوا تَجِدوا. اقرَعوا يُفتَح لكم". بالفعل مَن يَسأَل يَنَل، مَن يَطلُب يَخلص إلى إيجاد ما يَطلُب، ومَن يَقرَع يُفتَح له. فَمَن مِن أبناء البشر إذا ما طَلَبَ مِن أبيه خبزاً يعطيه حجراً؟ أو إذا ما طَلَبَ سمكة يَجِد نفسه يُعطى حيّة؟ فالأب الذي يتصرّف هكذا مجرم هو تجاه أولاده. لقد قُلتُ ذلك سابقاً، وأكرّره لتشجيعكم في مشاعر الصَّلاح والثقة. إذن، فكما أنّ الذي يتحلّى بعقل رشيد لا يُعطِي عقرباً بدل البيضة، فكيف الله، بفائق عَظَمَة صلاحه لا يعطيكم ما تطلبونه؟ وبِما أنّه صالح، بينما أنتم فاسدون، قليلاً أو كثيراً، فاطلُبوا إذاً خبزكم من الآب بِحُبّ مُتواضِع وبَنويّ.

 

"اعفِنا ممّا علينا كما أعفَينا نحن غيرنا ممّا لنا عليه".

 

هناك الدُّيون المادّيّة والدُّيون الروحيّة. وأيضاً هناك الدُّيون المعنويّة. فالدراهم أو البضاعة التي اقتَرَضتُموها وعليكم رَدَّها، هي دَين مادّيّ. أمّا الاحترام الـمُطالَب به دون مبادلة، والحبّ الذي يراد ويُبتَغى ولكنّه لا يُعطى، فهو دَين معنويّ. أمّا الدَّين الروحيّ فهو طاعة الله الذي نَطلب منه الكثير، وحتّى ولو أعطيناه القليل جدّاً، والحبّ الذي يُفتَرَض أن نَكنّه له. ولكنّه يحبّنا، ويجب أن يكون محبوباً كما نحبّ أُمّاً أو زوجة أو ابناً نطلب منهم الكثير. فالأنانيّ يريد الأخذ ولا يعطي. ولكنّ الأنانيّ بعيد جدّاً عن السماء. علينا ديون تجاه الجميع. مِن الله إلى الأهل، ومِن الأهل إلى الصَّديق، ومِن الصَّديق إلى القريب، ومِن القريب إلى الخادِم والعَبد، ذلك أنّ الجميع مثلنا. والويل لِمَن لا يَغفر ويُسامح! فلن يُغفَر له. فالله، مِن قَبيل العدل، لا يمكنه إعفاء الإنسان ممّا له عليه، وهو الكلّيّ قدسه، إذا لم يَغفر الإنسان لمثيله.

 

"ولا تُدخِلنا1 في تجربة ولكن نَجِّنا مِن الشرّير".

 

الرَّجُل الذي لم يَجِد حاجة لأن يقاسمنا عشاء الفصح سَأَلَني منذ أقلّ مِن عام: "كيف ذلك؟ تَسأَل ألا تُجَرَّب، وتَطلب المعونة، أثناء التجربة، ضدّ التجربة ذاتها؟" وقد كُنّا اثنين، وَحدَنا... وأَجَبتُهُ. ومَرّة أخرى، كنّا أربعة، في مكان مُنعَزِل، وأَجَبتُ مِن جديد. ولكنّه لم يَكن بعد قد اقتَنَع، ذلك أنّ، في نَفْس مُعقَّدة، يجب أوّلاً فتح ثغرة، بتقويض قلعة اكتفائه بذاته الـمُنحَرِفة. ولهذا السبب، سأقولها مجدّداً، بل للمرّة العاشرة والمرّة المائة، حتّى يتمّ كلّ شيء.

 

ولكنّكم لستم مُتَدرِّعين بمذاهب تعيسة وميول أَتعَس، أرجو أن تُصَلّوا هكذا. صَلّوا بتواضع ليُجنِّبكم الله التجارب. آه! التواضُع! معرفة ما نحن عليه! دون انتقاص، إنّما معرفة الذات، والقول: "يمكنني التنازل حتّى ولو بدا لي أنّني لا أستطيع، لأنّني دَيّان ناقِص لنفسي. بالنتيجة، حَرِّرني يا أبي، إن أَمكَن مِن التجارب، بإبقائي قريباً جدّاً منكَ، كي لا يُسمَح للشيطان الخبيث بإيذائي". وتَذَكَّروا هذا، ليس الله مَن يَحمِل على فِعل الشرّ، إنّما هو الشرّير الذي يُجَرِّب. صَلّوا إلى الآب ليحفظ ضعفكم إلى الدرجة التي لا يمكن معها أن يَدخُل في تجربة مِن قِبَل الشيطان الخبيث.

 

قُلتُ يا أحِبّائي، هذا هو فصحي الثاني معكم. العام الماضي كَسَرنا الخبز فقط وتقاسَمنا الحَمَل. هذا العام، أُعطيكم الصَّلاة. ولديَّ عطايا أخرى لما يأتي مِن أعياد الفصح وأنا في وسطكم، حتّى إنّكم، حينما أمضي إلى حيث يريدني الآب، يَبقَى لديكم تذكار مِنّي، الحَمَل، في كلّ عيد للحَمَل الموسويّ.

 

انهَضوا. ولِنَمض. سنعود إلى المدينة عند الفجر، أو بالحريّ: غداً، أنتَ سمعان، وأنتَ يا أخي (ويشير إلى يوضاس) سَتَمضيان لإحضار النساء والوَلَد. وأنتَ يا سمعان بن يونا، وأنتم الآخرون، ستمكثون معي إلى أن يعودوا. بعد ذلك نمضي معاً إلى بيت عنيا.»

 

ويَنحَدِرون إلى جَثْسَيْماني حيث يَدخُلون إلى البيت للاستراحة.

----------

1- الجمعية العامة للمؤتمر الأسقفي الإيطالي في الدورة 72 بتاريخ (15 نوفمبر 2018) في بيانها الختامي: (رابط البيان)، وافقت على تعديل المقطع الأخير من صلاة الأبانا ليصبح: "لا تتركنا نتعرّض للتّجربة" (Non abbandonarci alla tentazione). بدلاً مِن: "لا تُدْخِلنا في تجربة" (Non ci indurre in tentazione). وقد صادق قداسة البابا فرنسيس على هذا التعديل ضمناً في المقابلة العامّة يوم (الأربعاء 1 مايو 2019‏). (رابط المقابلة).