ج3 - ف44

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الأول

 

44- (في مجدلة. في بيت أُمّ بنيامين)

 

10 / 06 / 1945

 

المعجزة اجتُرحَت منذ فترة قريبة، ذلك أنّ الرُّسُل يتحدّثون عنها، ويُعلِّق عليها بعض السكان كذلك، مُشيرين بالبَنان إلى المعلّم الذي يمضي، وبشكل حازم، إلى محيط المدينة، صوب حيّ الفقراء.

 

يقف قرب بيت صغير يَخرُج منه صبيّ تتبعه أُمّه. «أيّتها المرأة، هل تسمحين بدخولي حديقتكِ والمكوث فيها قليلاً، ريثما تخفّ حدّة حرّ الشمس؟»

 

«ادخل يا سيّدي، حتّى إلى المطبخ لو شئتَ. وسأجلب لكَ الماء وما تقتات به.»

 

«لا تُتعِبي نفسكِ، يكفيني المكوث بسكون في هذه الحديقة.»

 

ولكنّ المرأة تريد أن تُقدِّم له الماء ممزوجاً بِلَستُ أدري ماذا، وبعد ذلك تَدور في الحديقة كما لو كانت تريد أن تتكلّم، ولكنّها لا تجرؤ. تعتني بخضارها، وما ذلك إلّا ضرب مِن التَّصَنُّع. في الحقيقة هي مهتمّة بالمعلّم، والصبيّ يضايقها بإطلاق الصيحات لدى استيلائه على فراشة أو حشرة أخرى، وذلك يمنعها مِن سماع ما يقوله يسوع. تفقد صبرها، فتَصفَع الصبيّ... الذي يَصرُخ بأكثر شدّة.

 

وفي تلك الأثناء، كان يسوع يردّ على الغيور الذي كان قد سَأَلَه: «هل تظنّ أنّ مريم قد تأثَّرَت بذلك؟» وأجابَ: «أكثر ممّا يبدو...» فيلتَفِت وينادي إليه الطفل الذي يركض ليرتمي في أحضانه باكياً.

 

تَصيح المرأة: «بنيامين! تعال هنا، لا تزعجه.»

 

ولكنّ يسوع يقول: «دعيه، دعيه. سوف يكون لطيفاً ويدعكِ بسلام.» ثمّ يقول للطفل: «لا تبكِ، فأُمّكِ لم تُسئ إليكَ. لقد جَعَلَتكَ تُطيع فقط، وقد كانت تبغي جعلكَ تُطيع فقط. ولماذا كنتَ تُصيح بينما هي تَطلب الصمت؟ قد تكون تشعر بألم وصراخكَ يُزعِجها.»

 

والصبيّ، بحيويّة وصراحة الأطفال العفويّة التي تجلب اليأس للكبار، يقول: «لا، هي لا تشعر بألم، ولكنّها كانت تريد سماع ما تقول... لقد قالت لي ذلك. أمّا أنا، فقد كنتُ أبغي المجيء إليكَ، وقد كنتُ أتعمَّد إحداث الضوضاء بقصد أن تَنظر إليَّ.»

 

يضحك الجميع، وتصطَبِغ المرأة بِحُمرة شديدة.

 

لا تخجلي يا امرأة، تعالي هنا. هل كنتِ تريدين سماع كلامي؟ لماذا؟»

 

«لأنّكَ مَسيّا، وأنتَ لا يمكنكَ أن تكون إلّا مَسيّا، بالمعجزة التي اجتَرَحتَها... وقد كنتُ أستَمتِع بالاستماع إليكَ. فأنا لا أَخرُج مُطلقاً خارج مجدلة، لأنّ زوجي صعب، ولديَّ خمسة أطفال. الأصغر بينهم عمره أربعة أشهر... وأنتَ لا تأتي إلى هنا أبداً.»

 

«ها قد أتيتُ، وإلى بيتكِ، كما تَرَين.»

 

«ولأجل ذلك كنتُ أريد الاستماع إليكَ.»

 

«أين هو زوجكِ؟»

 

«في البحر يا معلم. فاليوم الذي لا يصطاد فيه لا نأكل. ليس لديَّ سوى هذه الحديقة الصغيرة. وهل تكفي لسبعة أشخاص؟ ومع ذلك فَزَكّا يحبّها كثيراً...»

 

«كوني صبورة أيّتها المرأة. فلكلّ امرئ صليبه.»

 

«آه! لا! فالوَقِحات ليس لديهنّ سوى المتعة. رأيتَ عملهنّ! اللهو والتسبّب بالألم. إنّهن لا يتعبن في تربية الأطفال والعمل. فهنّ لا يلتقطن البَثرات بالمعول، أو لا تتسلّخ أيديهن مِن جراء الغسيل. إنهنّ جميلات ونَضِرات. فلا يطالهنّ الحكم على حوّاء. هنّ بالحريّ إدانَتنا نحن، إذ... فالرجال... تفهمني.»

 

«أفهمكِ. ولكن اعلَمي أنهنّ كذلك لديهن صليب مريع. الأكثر روعاً. هو الصليب الذي لا يُرى. صليب الضمير الذي يدينهنّ، صليب العالم الذي يحتقرهنّ، دمهنّ الذي يرفضهنّ، وصليب الله الذي يلعنهنّ. فَثِقي بأنهنّ لسن سعيدات. لا يتعبن بالولادة والعمل، ولا يجرحن أيديهنّ أثناء العمل، ولكنهنّ يشعرن أنهنّ مُنكَسِرات أكثر، بالإضافة إلى الخَجَل. ولكنّ قلبهنّ ليس سوى جرح. لا تحسدي مظهرهنّ الجميل ونضارتهن وصفاءهنّ الظاهر، فما ذلك إلّا وِشاح مُلقى على أطلال طافِحة بتأنيب الضمير ولا يمنحهنّ السلام. لا تحسدي نومهنّ، أنتِ أيّتها الأُمّ النـزيهة التي تُفكّرين بأولادكِ الأبرياء... بالنسبة إليهنّ هو الكابوس الجاثِم على وسادتهنّ. وغداً، عندما يبلغن النـزاع الأخير أو إلى الشيخوخة، فالتبكيت والهَلَع نصيبهنّ.»

 

«صحيح... اغفر لي... هل تَسمَح ببقائي هنا؟»

 

«ابقي، فَسَنروي مَثَلاً جميلاً لبنيامين. والذين ليسوا أطفالاً فَسَيسندونه إلى أنفسهم وإلى مريم المجدليّة. اسمَعوا:

 

تَشُكّون بإمكانيّة عودة مريم إلى جادّة الصواب والخير. فما مِن إشارة منها تدلّ على أنّها ستقوم بتلك الخطوة. فهي وَقِحَة وصَفيقة ومُدرِكة لوضعها وسلطانها، وقد تَجَرَّأَت على تحدّي الناس والمجيء إلى عَتَبَة البيت حيث العَويل بسببها. ورَدَّت على اتّهام بطرس بالانفجار بالضحك. وهي تتمطّى بكبرياء أمام ناظري الذي يَدعوها. قد تكونون أردتم، مِن أجل حبّ لعازر وبالحبّ الذي لي، أن أُكلِّمها مباشرة وطويلاً، مُخضِعاً إيّاها بسلطاني، بإظهار قوّتي كمَسيّا مُخلِّص. لا، يجب ألّا يكون هذا. ولقد قُلتُ ذلك بخصوص خاطِئة أخرى. منذ بضعة أشهر. على النُّفوس أن تَصطَلِح مِن تلقاء ذاتها. فأنا أَمُرّ وأرمي البِذار، والبِذار يَعمَل في السرّ. وينبغي للنَّفْس أن تكون مُحتَرَمة في عملها. وإذا لم يتجذّر البِذار الأوّل، أَبذُر مرّة أخرى، وأخرى أيضاً... ولا أُقلِع عن ذلك إلّا حينما يكون لديَّ الدليل الأكيد بعدم جدوى البِذار. ونُصلّي. فالصلاة كالندى على التلعات، تحافظ عليها منعِشة وخَصيبة، ويمكن بذلك للبِذار أن يَنتَشِ. ألستِ تفعلين هكذا يا امرأة بخضاركِ؟

 

الآن اسمَعوا مَثَل عمل الله في القلوب لتأسيس ملكوته، إذ إن كل قلب هو ملكوت لله مصغَّر على الأرض. وفيما بعد، بعد الموت بالتحديد، تتجمّع كلّ تلك الممالك الصغيرة في مملكة واحدة، في ملكوت السماوات، وهو ملكوت بغير حدود ومقدّس وأبديّ.

 

ملكوت الله في القلوب، أَنشَأَه الزَّارع الإلهيّ. فيأتي إلى حقله -حيث الإنسان يخصّ الله، لأنّه مِلك له في الأصل- ويَنثُر فيه بذوره. ثمّ يمضي إلى حقول أخرى، إلى قلوب أخرى. النهار يعقب الليل، والليل يعقب النهار. النهار يجلب الشمس والأمطار: في هذه الحال هو إشعاع الحبّ الإلهيّ وفيض الحكمة الإلهيّة التي تتحدّث إلى الروح. والليل يجلب النجوم والصمت والريح: في حالنا، هي استدعاء الله المضيء، والصمت للروح، لإفساح المجال أمام النَّفْس للخلوة والتأمّل.

 

في غمرة ذلك التَّتابُع لتأثيرات العناية الإلهيّة التي لا تُدرَك، والقادرة، تَنتَفِخ البذور وتتفتّح وتَضرب جذوراً وتُعَمِّقها، وتَدفَع الوريقات الأولى إلى الخارج، وتنمو. كلّ ذلك دون مساعدة الإنسان. أمّا الأرض فتُنتِج العشب الناجم عن البذور تلقائيّاً، ثمّ يصبح العشب قويّاً ويحمل السنابل التي ترتَفِع، ثمّ تَنتَصِب السنابل وتنتفخ وتتصلّب وتصبح شقراء قاسية وكاملة في تَشَكُّل الحبوب. وعندما تُصبِح يانعة تماماً، يعود الزَّارع ليُعمِل الـمِنجَل لأنّ أوان بلوغ ذلك الزَّرع الكامل قد آن. لا يمكنها النموّ أكثر، وآن أوان حصادها.

 

في القلوب، تعمل كلمتي العمل ذاته، أتحدّث عن القلوب التي تتقبّل البِذار، ولكنّ العمل بطيء. يجب تحاشي إفساد كلّ شيء بتداخلات في غير أوانها. كم هو قاس على البِذرة الصغيرة أن تتفتّح وتُعَمِّق جذورها في الأرض! كذلك هذا العمل صعب هو بالنسبة إلى القلب القاسي والبدائيّ. ينبغي له أن يتفتّح، أن يدع ذاته يُنقَب وأن يتقبّل أموراً جديدة، وأن يعاني في تغذيتها، وأن يبدو مُختَلِفاً لأنّه أُلبِس أشياء متواضعة ومفيدة، وليس أشياء جذّابة وفخمة وغير مفيدة، وإزهاراً مُفرِطاً كان يكسوه سابقاً. ينبغي له أن يُسرَّ بالعمل بتواضُع، دون اجتذاب الإعجاب لتحقيق الفِكرة الإلهيّة بشكل مفيد. ينبغي له تنشيط كلّ قدراته للنموّ وتشكيل السنبلة. ينبغي له أن يمتلئ بالحَبّ ليصبح قمحاً. وعندما، بعد الانتصار على الاحترام البشريّ المضني كثيراً، كثيراً، بعد الإنهاك والألم للتكيّف مع ثوبه الجديد، ها هو ذا يُرغَم على التعرّي لتلقّي تشذيب رهيب. إعطاء كلّ شيء لامتلاك كلّ شيء. البقاء عارياً ليَلبَس ثوب القدّيسين في السماء. فحياة الخاطئ الذي يصبح قدّيساً هي المعركة الأطول والأكثر بطولة، والأكثر مجداً. أقولها لكم.

 

أَدرِكوا ممّا قُلتُه لكم إنّه صحيح أن أتصرّف مع مريم كما فعلتُ. هل يمكن أن أكون قد تصرّفتُ معكَ يا متّى بشكل مُغايِر؟»

 

«لا يا سيّدي.»

 

«وقُل لي الحقيقة: هل هو صبري الذي استمالكَ أكثر أم اتّهامات الفرّيسيّين اللّاذِعة؟»

 

«بل هو صبركَ، لدرجة أنّني ها هنا الآن. أمّا الفرّيسيّون، فباحتقارهم ولعناتهم، كانوا يجعلونني مُحتَقِراً لهم، وبالاحتقار كنتُ أتصرّف بأكثر سوءاً مما كنتُ قد فَعَلتُه حتّى ذلك الحين. هو ذا ما يحصل. نتصلّب أكثر عندما، في حال كوننا في الخطيئة، نرى أنفسنا نُعامَل كخاطئين. ولكن عندما، بَدَل الشتيمة، نتلقّى مُلاطَفة، فنبقى مشدوهين، ثمّ نبكي... وعندما نبكي يتفكّك دِرع الخطيئة ويَسقُط، ونبقى عُراة أمام الصَّلاح، ونتضرعّ إليه بكلّ قلوبنا أن يعيد إلباسنا مِن ذاته.»

 

«أَحسَنتَ قولاً. هل أعجبتكَ القصة يا بنيامين؟ نعم؟ وأُمّكَ أين هي؟»

 

ويجيب يعقوب بن حلفى: «لقد خَرَجَت عند نهاية الـمَثَل، ورَكَضَت مسرعة في تلك الطريق.»

 

«قد تكون ذَهَبَت إلى البحر لترى ما إذا كان زوجها قد وَصَلَ.» يقول توما.

 

«لا. بل هي ذَهَبَت إلى أُمّها العجوز لتأخذ إليها إخوتي. فأُمّي تأخذهم إليها لتتمكّن مِن العمل.» يقول الصبيّ الذي يتّكئ على ركبتيّ يسوع.

 

«وأنتَ أيّها الرجل الصغير تبقى هنا؟ يُفتَرَض أن تكون نَمّاماً رائعاً إذا بقيتَ وحيداً!» يُعلّق برتلماوس.

 

«إنّني الأكبر وأساعدها...»

 

«في اكتساب الجنّة، يا لها مِن امرأة مسكينة! كم هو عمركَ؟» يَسأَل بطرس.

 

«في غضون سنوات ثلاث أكون ابناً للشريعة.» يقول الصبيّ مُفتَخِراً.

 

«هل تعرف القراءة؟» يَسأَل تدّاوس.

 

«نعم... ولكنّني أقرأ ببطء، لأنّ... لأنّ المعلّم يَطردني خارجاً كلّ يوم تقريباً...»

 

«إنَّما لماذا يحدث ذلك.» يقول برتلماوس.

 

«لأنّ المعلّم عجوز ودميم، ودائماً هو يقول الأشياء ذاتها التي تبعث على النوم! فلو كان مِثله (ويشير إلى يسوع) لأصبحتُ متنبّهاً. هل تَضرُب أنتَ الذي ينام أو يلعب؟»

 

«أنا لا أضرب أحداً، ولكنّني أقول لتلاميذي: "كونوا مُتنبِّهين لصالحكم وحبّاً بي".» يجيب يسوع.

 

«نعم هكذا! حبّاً، نعم. وليس خوفاً.»

 

«إذا أصبحتَ مُجِدَّاً يحبّكَ المعلّم.»

 

«ألا تحبّ إلّا الجيّد؟ منذ لحظة قلتَ إنّكَ كنتَ صبوراً مع مَن لم يكن صالحاً...» لقد حُوصِر المنطق الطفوليّ.

 

«إنّني طيّب مع الجميع. ولكنّني أحبّ كثيراً كثيراً الذي يُصبِح صالحاً، ومعه أكون طيّباً كثيراً كثيراً.»

 

يُفكِّر الصبيّ، ثمّ يرفع رأسه ويَسأَل متّى: «ماذا فعلتَ أنتَ لتُصبِح صالحاً؟»

 

«لقد أحببتُه.»

 

يُفكِّر الصبيّ، ثمّ يَنظُر إلى الإثني عشر ويقول ليسوع: «هل هؤلاء جميعهم صالحون؟»

 

«بكلّ تأكيد هُم كذلك.»

 

«هل أنتَ متأكّد؟ فأنا أكون أحياناً عاقلاً، ولكن ذلك يكون عندما أريد ارتكاب الحَمَاقات الأعظَم.»

 

يضحك الجميع بِجَلَبَة. كذلك يضحك الرجل الصغير صاحب الصدق والصراحة. حتّى يسوع يضحك ويضمّه إلى صدره ويُقبِّله.

 

الوَلَد الذي أَصبَحَت علاقته جيّدة مع الجميع يريد أن يلعب، ويقول: «الآن أريد أن أقول لكَ مَن هو الصالح.» ويبدأ بالاختيار. يراقبهم جميعاً، ويذهب مباشرة إلى يوحنّا وأندراوس المتجاوِرَين ويقول: «أنتَ وأنتَ تعالَيا هنا.» ثمّ يختار اليعقوبَين ويَضُمّهما إلى الاثنين الأوَّلين. ثمّ يَأخُذ تدّاوس. يمكث كثيراً أمام الغيور وبرتلماوس وهو يُفكِّر، ثمّ يقول: «إنّكما عجوزان ولكنّكما صالحان.» ويضمّهما إلى الآخرين. ويُمعِن النَّظَر في بطرس الخاضع للامتحان وهو يَغمز غَمزات لاهية، ويجده صالحاً. وكذلك متّى يمرّ وكذا فليبّس. ويقول لتوما: «أنتَ تضحك كثيراً. بينما أنا رصين. ألا تَعلَم أنّ معلّمي يقول إنّ مَن يضحك على الدَّوام، تنقصه الخبرة فيما بعد؟» إنما بالنتيجة يمرّ توما كذلك إنّما بدرجة سيّئة، إلّا أنّه يُقبَل في الامتحان. ثمّ يعود الصبيّ إلى يسوع.

 

«هه! قُل إذن أيّها الصبيّ. بقيتُ أنا. وأنا لستُ شجرة، بل إنّني شاب وسيم، فلماذا لا تفحصني؟»

 

«أنتَ لا تُعجِبني. وأُمّي تقول إنّ الشيء الذي لا يُرضي ولا يُعجِب لا نلمسه، بل نتركه على الطاولة، وليأخذه الآخرون، ممّن يرتضي به. وتقول إنّه إذا ما قَدَّم لنا أحدهم شيئاً لا يعجبنا، فلا نقول: "هذا لا يعجبني". بل نقول: "شكراً لستُ جائعاً". وأنا لستُ جائعاً إليكَ.»

 

«ولكن كيف؟ انظر. إذا قلتَ إنّني صالح، أعطيكَ قطعة النقود هذه.»

 

«وماذا سأفعل بها؟ ماذا نشتري بكذبة؟ تقول أُمّي إنّ الدراهم التي نكسبها بالخداع تصبح قَشّاً. فذات مرّة، ثمناً لكذبة، حَصَلتُ مِن جدتي على عشرة دراخمات لأشتري بها لنفسي فطائر بالعسل، وأثناء الليل تَحَوَّلَت إلى قشّ. كنتُ قد وَضَعتُها في تلك الحفرة لآخذها في الصباح، ووجدتُ مكانها حفنة مِن القشّ.»

 

«ولكن لماذا لا تراني صالحاً؟ ما بي؟ هل رِجلي مَفلوقة؟ هل أنا قبيح؟»

 

«ولكنّكَ تُخيفني.»

 

«ولكن لماذا؟» يَسأَل الاسخريوطيّ وهو يدنو منه.

 

«لا أعرف. دعني وشأني. لا تلمسني وإلا خمشتُكَ.»

 

«يا له مِن مشاكس! إنّه مجنون.» ويضحك يهوذا ضحكة صفراء.

 

«أنا لستُ مجنوناً. بل أنتَ الشرّير.» ويحتمي بصدر يسوع الذي يداعبه بغير كلام.

 

ويتبادَل الرُّسُل المزاح والنّكات حول الحادثة التي ضايَقَت الاسخريوطيّ قليلاً. وفي أثناء ذلك تعود المرأة وبصحبتها اثنا عشر شخصاً، ثمّ يُقبِل آخرون أيضاً، وآخرون وآخرون كذلك. لقد أَصبَحوا حوالي الخمسين. ليسوا إلّا فقراء مساكين.

 

«هل ستتحدّث إليهم؟ حديثاً صغيراً على الأقلّ. هذه حماتي، وهؤلاء أولادي، وهذا الرجل هو زوجي. كلمة يا سيّدي.» وتتوسّل المرأة.

 

«لكي أشكركِ على استضافتكِ لنا، نعم سأتحدّث.»

 

تَدخُل المرأة إلى البيت، حيث يستدعيها طفل رضيع. وتجلس على العَتَبَة تُرضِعه.

 

«اسمعوا. هنا في حضني صبيّ تحدَّثَ بحكمة. فقد قال: "كلّ ما نحصل عليه بِخِداع يصبح قشّاً". وأُمّه هي التي عَلَّمَتهُ هذه الحقيقة.

 

وهذه ليست خُرافة، بل هي حقيقة أزليّة. ما نفعله بغير نزاهة لا ينجح أبداً. بالفعل فإنّ الكذب بالكلام والأفعال والدِّين، هو على الدوام دليل ارتباط بالشيطان، معلّم الكذب والنّفاق. لا تعتقدوا أنّ الأعمال التي تسمح بالحصول على ملكوت السماوات كثيرة الضجّة وصاخبة. إنهّا أعمال عاديّة وعامّة. ولكنّ فِعلها كان بهدف مِن الحبّ فائق الطبيعة. الحبّ هو بِذار النبات الذي، إذ ينمو فيكم، فإنّه يرتفع حتىّ السماء، وفي ظلّه تنمو بقيةّ الفضائل كلّها. فأُشبِّهُهُ بحبّة خردل صغيرة، كَم هي صغيرة! هي أصغر مِن سائر الحبوب التي يزرعها الإنسان. ومع ذلك انظروا إلى النبات عندما ينمو، كم يصبح قويّاً بإيراقاته الكثيفة، وكم يعطي مِن الثمار! فهذا ليس المائة بالمائة، إنّما المائة بالواحد. إنّها الحبّة الأصغر ولكنّها الأكثر نشاطاً. وكم مِن النَّفع تعطيكم!

 

الأمر ذاته بالنسبة إلى الحبّ. فإذا ضَمَّ صدركم بِذرة حبّ لإلهكم الكلّيّ القداسة ولقريبكم، وإذا كانت أفعالكم مُستوحاة مِن الحبّ، فلن تُخطِئوا بأيّ مِن الوصايا العشر. لن تكذبوا على الله بديانة مخادعة، هي عبارة عن شعائر لا روحانيّة فيها. ولن تكذبوا على القريب بتصرّفاتكم كأطفال جاحدين أو أزواج زُناة، أو حتّى مُتطلِّبين كثيراً، كتجّار قليلي النـزاهة غير مستقيمين؛ كاذبين في العلاقات، وقُساة تجاه مَن يناصبكم العَداء. انظروا في هذه الساعة مِن القَيظ، كَم مِن العصافير تلجأ إلى أوراق هذه الحديقة. وبعد قليل يصبح نبات الخردل ذاك، الذي ما زال صغيراً الآن، سيصبح مَجثَماً حقيقيّاً. وستقصده كلّ العصافير للاحتماء به وبظلّ تلك النباتات الكثيفة والمضيفة. وسيتعلّم صغار العصافير الطيران بأمان بين تلك الأغصان، جاعلين منها سلالم للصعود، وشِباكاً لتحاشي السقوط. هكذا هي الحال مع الحبّ، أساس ملكوت الله.

 

أحِبّوا، وسيحبّونكم. أحِبّوا وستكونون رحماء. أحِبّوا ولن تكونوا قساة بتطلّبكم مِن الخاضعين لكم أكثر مما هو مسموح به. الحبّ والصدق شرط للحصول على السلام ومجد السماوات، وإلّا فكما قال بنيامين، كلّ أفعالكم التي تتمّ بالكذب على الحبّ وعلى الحقّ، ستتحوّل إلى قشّ لِقاع جهنّمكم. لا أقول لكم شيئاً آخر. أقول لكم فقط: احفَظوا جيّداً في نفوسكم وصيّة الحبّ، وكونوا أوفياء لله الحقّ، وللحقّ في كلّ كلمة وفِعل وشعور، إذ إنّ الحقّ هو ابن الله. عمل متواصِل مِن قبلكم لبلوغ الكمال مِثل الحبّة التي تنمو حتّى تبلغ كمالها. عَمَل بصمت وتواضُع وصَبر. كونوا أكيدين مِن أنّ الله يرى جهادكم ويكافئكم أكثر على أنانيّة تَغَلَّبتُم عليها، على كلمة نابية تحاشيتم قولها. فملكوت السماوات الذي سوف تحصلون عليه إذا ما عشتم باستقامة، يُبنى بالوقائع الصغيرة اليوميةّ. بالصلاح والاعتدال والصبر، بالقناعة بما لدينا مِن الرحمة المتبادلة، مع الحبّ، الحبّ، الحبّ.

 

كونوا صالحين. عيشوا بسلام، بعضكم مع بعض. لا تَنُمّوا ولا تَفْتَروا. ولا تدينوا. حينئذ سيكون الله معكم. سلامي أعطيكم كبركة وكشكر على إيمانكم بي.»

 

ثُمّ يلتفت يسوع إلى المرأة قائلاً: «ليبارككِ الله بشكل خاصّ لأنّكِ زوجة قدّيسة وأُمّ قدّيسة. ثابري على الفضيلة. وداعاً يا بنيامين. كُن دائم الحبّ للحقّ وكُن مطيعاً لأُمّكَ. البركة لكَ ولإخوتكَ ولكِ أيّتها الأُمّ.»

 

يتقدَّم رَجُل، مُضطَرِب ويتلعثَم: «لكن، لكن... إنّني متأثر لما تقوله عن زوجتي... لم أكن أَعلَم...»

 

«أيمكن ألّا يكون لكَ عينان وذكاء؟»

 

«بلى.»

 

«لماذا لا تستخدمهما؟ هل تريد أن أفتَحهُما؟»

 

«لقد فَعَلتَ يا سيّدي. لكنّني أحبّها كثيراً، هل تَعلَم؟ إنّه... الاعتياد... و... و...»

 

«وتظن أنّه مِن المسموح به لنا أن نتطلَّب كثيراً لأنّ الآخَر أفضل منّا... لا تَعُد تفعل ذلك. إنّكَ معرّض للخطر في مهنتكَ على الدوام، فلا تَخَف مِن العواصف إذا كان الله معكَ. ولكن إذا كان الظُّلم، فكن شديد الخوف. هل فهمتَ؟»

 

«أكثر ممّا تقول. ولكنّني سوف أعمل على طاعتكَ... لم أكن أَعلَم...» ويَنظُر إلى زوجته كما لو أنّه يراها للمرّة الأولى.

 

يُبارِك يسوع ويَخرُج إلى الطريق الصغيرة. ويُعاوِد المسير صوب القرية.

 

--- نهاية القسم الأول مِن الجزء الثالث ---