ج9 - ف25
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.
الجزء التاسع
25- (ختم القبر والعودة إلى قاعة العشاء)
28 / 03 / 1945
يُطفئ يوسف الذي مِن الرّامة إحدى الشعلتين، يُلقي نظرة أخيرة ويتوجّه صوب مدخل القبر وهو يمسك عالياً الشعلة الباقية.
تنحني مريم ثانية كي تُقَبّل ابنها مِن فوق الأغطية. وهي تحاول السيطرة على ألمها كي تجعل منه شكلاً مِن أشكال الاحترام للجثمان الـمُطَيَّب الّذي لم يعد مِلكاً لها. ولكن لدى اقترابها مِن الوجه الموشّح، لا تتمالك نفسها، وتسقط مِن جديد في نوبة حزن شديد.
تُرفَع مِن هناك بعناء، وتُبعَد عن المضجع المأتميّ بمنتهى الصعوبة. ويعاد ترتيب الأقمشة المبعثرة، ويتمّ إبعاد الأُمّ المسكينة محمولة أكثر منها مُسنَدَة. فتبتعد وهي تدير وجهها إلى الوراء، كي ترى، ترى يسوعها الّذي يبقى وحيداً في ظلمة القبر.
يَخرجون إلى الحديقة الصامتة في نور المساء. ذلك أنّ الضياء النسبيّ الّذي عاد بعد مأساة الجلجلة، يبدأ في الخفوت بسبب الليل الهابط. وهناك، في بستان يوسف، الظلال أكثر تقدّماً عن أيّ مكان آخر، تحت أغصان شجر التفّاح السميكة الّتي ما تزال عارية مِن الأوراق وبالكاد مزيّنة ببراعم بيضاء ورديّة لأشجار التفّاح، المتأخّرة بغرابة عن أوانها، بينما في أماكن أخرى هي مكسوّة بالأزهار المتفتحة، بل أخصبت أيضاً ثماراً صغيرة.
يُدحرجون حجر القبر الثقيل إلى موضعه. فروع طويلة لشجرة ورد مشعّثة تتدلّى مِن أعلى المغارة تجاه الأرض، فتبدو وكأنّها تَطرق على الباب الحجريّ وتقول: «لماذا تُغلَق أمام أُمّ باكية؟» وتبدو وكأنّها تبكي هي كذلك قطرات دم، حيث أنّها تُسقِط بتلاتها الحمراء وتنشر تويجاتها، على مدى الحجر الداكن، وبراعمها المتزاحمة تطرق المدخل القاسي. ولكن سرعان ما سيُبلِّل باب القبر هذا دم آخر ودموع أخرى.
مريم الّتي يسندها يوحنّا حتّى ذلك الحين وتنتحب بهدوء إلى حدّ ما، تنفصل عن الرسول، وبصرخة، أظنّها جعلت حتّى ألياف النباتات ترتجف، تُلقي بنفسها على الباب، وتهاجم نتوءه لتزحزحه. تتسلّخ أصابعها وتتكسّر أظافرها دون أن تنجح في ذلك، حتّى إنّها تضغط برأسها على هذا النتوء الخشن. وهي في أَنَّاتها أشبه بلبوة تزأر مغشيّاً عليها على عتبة فخّ حُبِسَ صغارها فيه، مفعمة حناناً وشراسة بفعل محبّتها الأموميّة.
لم يعد بها شيء مِن عذراء الناصرة الوديعة، مِن المرأة الصابرة المعروفة بأنّها كذلك إلى ذلك الحين. إنّها الأُمّ فقط وببساطة هي الأُمّ المتعلّقة بولدها بكلّ أنسجة وكلّ أعصاب جسدها ومحبّتها. إنّها الأكثر «ولاية» بحق على هذا الجسد الّذي ولدته، الوالية الوحيدة بعد الله، ولا تريد أن تُنتَزع منها تلك الـمِلكيّة. إنّها «الـمَلِكة» الّتي تدافع عن تاجها: الابن، الابن، الابن.
كلّ التمرّد وكلّ التمرّدات الّتي خلال ثلاثة وثلاثين عاماً يمكن أن تعتمل في امرأة أخرى ضدّ ظلم العالم لطفلها، كلّ الضراوات المقدّسة والمشروعة الّتي يمكن أن تكون لدى أيّ أُمّ أخرى في الساعات الأخيرة هذه كي تَضرب وتَقتل بيديها وأسنانها قتلة وليدها، كلّ تلك الأشياء الّتي أخضَعَتها على الدوام حُبّاً بالجنس البشريّ، تثور الآن في قلبها، تغلي في دمائها، وبوداعتها حتّى في ألمها الّذي يجعلها تهذي، هي لا تلعن ولا تثور. ولكنّها تسأل فقط الحجر أن ينفتح، أن يسمح لها أن تدخل، لأنّ مكانها في الداخل، حيث هو. ولكنّها تطلب فقط مِن البشر، القساة في إشفاقهم، أن يطيعوها ويفتحوا.
بعد ضربها الحجر المقاوم وتلطيخه بدم يديها، تلتفت وتتّكئ، فاتحة ذراعيها، وحاضنة طرفي الحجر، رهيبة في جلال الأُمّ المتألّمة، تأمر: «افتحوا! ألا تريدون؟ إذاً، سأبقى هنا. إن لم أبق في الداخل؟ إذاً، فهنا في الخارج. هنا زادي ومضجعي. هنا مسكني. ليس لي أيّ منـزل آخر ولا أيّ هدف آخر. أنتم امضوا. ارجعوا إلى هذا العالم المريع. أنا سأبقى حيث لا جشع، ولا رائحة دم.»
«لا يمكنكِ ذلك يا امرأة!»
«لا يمكنكِ يا أُمّي!»
«لا يمكن يا مريم العزيزة!»
ويحاولون فصل يديها عن الحجر، مرعوبين مِن عينيها اللتين لم يعرفوهما بهذا الوميض الّذي يحيلهما قاسيتين وصلبتين، زجاجيّتين، فوسفوريّتين.
العنف ليس مِن شِيَمِ الودعاء، والبسطاء لا يعرفون الإصرار على الكبرياء... وفجأة تفقد مريم كلّ حدّة إرادتها والطابع الحسميّ لأمرها. تستعيد وداعة نظرات الحمامة المعذّبة، تفقد مهابة حركتها. تستعيد مجدّداً حركة توسّل، وتشبك يديها راجية: «آه! دعوني! باسم موتاكم، باسم الأحياء الّذين تحبّونهم، أشفقوا على أُمّ مسكينة!... اسمعوا... اسمعوا قلبي. إنّه في حاجة للسلام كي يفقد ذلك النبض العنيف. لقد شرع بالنبض هكذا في الأعلى، في موضع الصلب. كانت المطرقة تطرق طن، طن، طن... وكانت كلّ طرقة تجرح ولدي... ويترجّع صداها في عقلي وقلبي... ورأسي مليء بتلك الضربات، وقلبي يخفق بسرعة مثل تلك الطن، طن، طن، على يديّ، وقدميّ يسوعي، يسوعي الصغير... ولدي! ولدي!...»
يعود إليها مِن جديد العذاب كلّه، الّذي كان يبدو وكأنّه سكن بعد صلاتها إلى الآب، بجانب منضدة المسح. يبكي الجميع.
إنّني بحاجة إلى عدم سماع صرخات ولا ضربات. والعالم مليء بالأصوات والضوضاء. إنّ كلّ صوت يبدو لي: "الصيحة العظيمة" الّتي جَمَّدَت الدم في عروقي، وكلّ ضجيج يبدو لي صوت المطرقة على المسامير. أحتاج إلى عدم رؤية وجوه بشر. والعالم مليء بالوجوه... منذ اثنتي عشرة ساعة وأنا أرى وجوه قَتَلَة... يهوذا.. الجلاّدين... الكَهَنَة... اليهود... الكلّ، الكلّ قَتَلَة!... بعيداً! بعيداً... لا أريد أن أرى أحداً بعد... في كلّ إنسان ذئب وثعبان. أشعر بالاشمئزاز والخوف مِن البشر... دعوني هنا، تحت هذه الأشجار الساكنة، على هذا العشب الـمُزهِر... عمّا قليل ستظهر النجوم... وقد كانت دائماً صديقات له ولي... مساء أمس صاحبَتْنا في احتضارنا المنفرد... وهي تعرف الكثير... إنّها مِن الله... آه! الله! الله!...» تبكي وتركع. «السلام، يا إلهي! لم يبقَ لي سواكَ!»
«تعالي يا ابنتي! الله سيمنحكِ السلام. ولكن تعالي. غداً هو سبت الفصح. ولن نتمكّن مِن جلب الطعام لكِ...»
«لا شيء! لا شيء! لا أريد طعاماً! أريد ولدي! أنا أشبع مِن ألمي، وأرتوي مِن دموعي... هنا... ألا تسمعون كم يبكي هذا البوم الصغير؟ إنّه يبكي معي، وعما قليل ستبكي العنادل. وغداً، في الشمس، ستبكي القبّرات، والدُخّلات وكلّ العصافير الّتي كان يحبّها، وستأتي اليمامات معي لتطرق على هذا الحجر ولتقول، ولتقول: "قُومِي يَا حَبِيبَتِي، يَا جَمِيلَتِي وَتَعَالَي. يَا حَمَامَتِي فِي مَحَاجِئِ الصَّخرِ، فِي سِتْرِ الـمَعَاقِلِ، أَرِينِي وَجهَكِ، أَسمِعِينِي صَوتَكِ". [نشيد الأنشاد 2/13-14] آه! ماذا أقول! هم أيضاً، هم أيضاً، القَتَلَة الماكرون، نادوني به، بكلمات نشيد الأناشيد! نعم، هلمّ يا بنات أورشليم، لترين ملككنّ بالتاج الّذي توّجه به وطنه في يوم عرسه مع الموت، يوم انتصاره كفادي.»
«انظري يا مريم! حرّاس الهيكل يصلون. هيّا بنا، كي لا يحتقروكِ.»
«الحرّاس؟ احتقارهم؟ لا. إنّهم جبناء، جبناء. ولو كنتُ أسير إليهم، رهيبة في ألمي، لكانوا يهربون مثل الشيطان أمام الله. ولكنّي أتذكّر أنّني مريم... ولن أضربهم بحسب ما أملك مِن الحقّ. سأبقى صالحة... ولن يروني حتّى. وإن رأوني وسألوني: "ماذا تريدين؟" سأقول لهم: "منّة أن أتنسّم الهواء الـمُطَيَّب الّذي يخرج مِن هذا الشقّ". سأقول: "باسم أُمّكم". والجميع لهم أُمّ... اللصّ الشَّفوق قالها أيضاً...»
«ولكنّ هؤلاء الأشخاص أكثر سوءاً مِن اللّصوص. وسيشتمونكِ.»
«آه!... هل مِن شتيمة لم أتعرّف إليها، بعد تلك الّتي لهذا اليوم؟»
إنّها المجدليّة الّتي تجد المبرّر القادر أن يُخضِع المتألّمة للطاعة. «أنتِ صالحة، قدّيسة أنتِ، ومؤمنة، وشُجاعة. ولكن نحن ماذا نكون؟... تَرَين! الأغلبيّة هربوا، والباقون يرتعشون. الشكّ الّذي فينا الآن، يتملّكنا. أنتِ هي الأُمّ. ليس لديكِ حقوق وواجبات تجاه ابنكِ فقط، بل لديكِ حقوق وواجبات تجاه ما هو عائد لابنكِ. ينبغي أن تعودي معنا، وسطنا، كي تجمعينا، كي تُسَكّني مِن روعنا، وتبثّي فينا إيمانكِ. لقد قلتِ ذلك، بعد عتابكِ الصائب لجبننا الغريزيّ ولنقص إيماننا: "سيكون مِن الأسهل له أن يقوم مِن الموت لو تخلّص مِن هذه اللّفائف غير النافعة". وأنا أقول لكِ: "لو أمكننا أن نتّحد في الإيمان بقيامته، فسيقوم سريعاً. سندعوه بمحبّتنا...» يا أُمّي، أُمّ مخلّصي، عودي معنا، أنتِ، حُبّ الله، كي تهبينا هذه المحبّة التي تمتلكينها! هل تريدين أن تضيع مِن جديد مريم المجدليّة المسكينة الّتي أنقذها هو بالكثير مِن الرحمة؟»
«لا، فأُعيَّر بهذا. أنتِ محقّة. عليَّ بالعودة... البحث عن الرُّسُل... التلاميذ... الأهل... الجميع... والقول... القول: آمنوا. القول: إنّه يسامحكم... لمن قلتُ هذا؟... آه! للاسخريوطيّ. يجب... نعم، يجب البحث عنه، حتّى هو... فهو أعظم خاطئ...» تُبقي مريم رأسها منحنياً على صدرها، ترتعش كما لو كانت مشمئزّة، ثمّ تقول: «يوحنّا، ستفتّش عنه وتأتي به إليّ. ينبغي لكَ أن تفعل هذا، وأنا ينبغي لي أن أقوم به. أبتِ، حتّى هذا فليكن مِن أجل خلاص البشريّة. هيّا بنا.»
تَنهض. ويَخرجون مِن الحديقة شبه المظلمة. وينظر إليهم الحرّاس وهم يخرجون دون أن يتدخّلوا.
الطريق، الترابيّة والمخرّبة بسبب أنهار البشر الّذين جابوها وضربوها بأرجلهم، بحجارتهم وعِصِيّهم، تنعطف حول موضع الصّلب كي تصل إلى الطريق الرئيسيّة الموازية للأسوار. هنا أيضاً آثار الحدث أكثر كثافة. تصرخ مريم مرّتين وتنحني كي تدرس التربة في نور سيّئ، إذ يُخَيَّل إليها أنّها ترى دماً وتظنّ أنّه دم يسوعها. ولكنّني أعتقد، أنّها ليست سوى قطع مِن قماش ممزّق في معمعة الهرب.
السيل الصغير الّذي يجري على طول الطريق، يهمس بلطف في هذا الصمت المطبق الّذي يطغى على كلّ شيء. تبدو المدينة وكأنّها مهجورة حيث لا يتأتّى منها سوى الصمت. ها هو الجسر الصغير الّذي يقود إلى درب الصلب الشاقّ، وفي قبالته، ها هو باب القضاء. قبل الاختفاء خلفه، تلتفت مريم إلى الوراء لتنظر إلى قمّة الجلجلة... وتسكب دموعاً حزينة. ثمّ تقول: «هيّا بنا. قودوني. لا أريد رؤية أورشليم، شوارعها، وسكّانها.»
«نعم، نعم، ولكن فلنسرع. سيقفلون الأبواب، أترين؟ وحراستهم مشدّدة. روما تخشى الاضطرابات.»
«إنّها محقّة. أورشليم هي جُحر نمور! سِبط قتلة! رهط قاطعي طرق. ليس فقط للخيرات المادّية، بل أيضاً للحياة الّتي يمدّ إليها هؤلاء الغاصبون مخالبهم الخاطفة. منذ اثنتين وثلاثين سنة وهم ينصبون الفخاخ لحياة ابني... كان حَمَلاً ورديّاً يرضع، حَمَلاً صغيراً ذا شعر ذهبيّ أجعد... كان بالكاد يعرف أن يقول "ماما"، ويخطو أولى خطواته ويضحك بأسنانه القليلة بين شفتيه المرجانيّتين الفاتحتين، حينما أتوا ليذبحوه... يقولون الآن إنّه كان يجدّف، ودَنَّس السبت، ودفع للعصيان، وطمع في العرش، وخطئ مع النساء... ولكن ماذا كان يفعل حينذاك؟ أيّ تجديف كان ينطق به وهو بالكاد يعرف أن ينادي أُمّه؟ ما الّذي كان يمكن للبريء الأبديّ أن يُدَنِّس مِن الشريعة، وهو آنذاك كان ما يزال صغير البشر البريء؟ أيّ عصيان كان يمكنه أن يثير وهو الّذي لم يكن يعرف فِعل نزوة واحدة؟ وأيّ عرش كان يطمع به؟ هو الّذي كان عرشه على الأرض وفي السماء، ولم يكن يطلب شيئاً آخر. في السماء كان له حضن الآب، وعلى الأرض حضني. أبداً لم تكن له نظرة حسّية، وأنتنّ، الجميلات والشابات، يمكنكنّ قول ذلك. ولكن حينذاك، حينذاك... كانت تنحصر حواسّه بطلب الدفء والغذاء، كان مفعماً بالمحبّة، نعم، لثديي الدافئ كي يضع عليه وجهه الصغير وينام، لصدري الّذي منه تسيل المحبّة حليباً... آه! يا ولدي!... وكانوا يريدونكَ ميتاً! هذا ما كانوا يريدون انتزاعه منكَ: الحياة! كنـزكَ الوحيد. أن ينتزعوا مِن الأُمّ الابن، والابن مِن الأُمّ، ليجعلونا أكثر مَن في الكون تعاسة وحزناً. لماذا انتزاع الحياة مِن الحيّ؟ لماذا انتحال الحقّ في انتزاع هذا الشيء الّذي هو الحياة: خير الزهرة والحيوان، خير الإنسان؟ يسوعي لم يكن يطلب منكم شيئاً. لم يطلب نقوداً، ولا حليّاً، ولا منازل. كان له منزل صغير ومقدّس، وتركه حبّاً بكم، أنتم البشر-الضباع. ذاك الّذي يحظى به حتّى صغير الحيوان، تخلّى عنه مِن أجلكم، ومضى فقيراً ووحيداً، يجوب العالم بلا حتّى المضجع الّذي كان قد صنعه له البارّ، بلا حتّى الخبز الّذي كانت تعدّه له أُمّه، وكان ينام حيثما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ويأكل كيفما تيسّر له. في منازل الناس الشرفاء كأيّ ابن إنسان، أو على مضجع مِن أعشاب الحقول، تسهر عليه النجوم. يجلس إلى مائدة أو يتقاسم مع عصافير الله حبّات القمح أو ثمار الأشواك البرّية. لم يكن يطلب منكم شيئاً، على العكس كان يعطيكم. كان يريد الحياة فقط كي يمنحكم الحياة بكلمته. وأنتم، وأنتِ يا أورشليم، جرّدتموه مِن الحياة. هل شبعتِ وتمتّعتِ بدمه وجسده؟ أم إنّ ذلك لم يكفكِ بعد؟ وأنتِ، الضبع، بعد أن كنتِ مصّاص دماء وعُقاباً، تريدين أن تقتاتي بجثته، ولم تشبعي بعد من العار والعذابات، أتريدين بعد أن تنكبّي عليه وتتمتّعي بتحقير جثّته والنظر مِن جديد إلى تشنّجاته، رعشاته، شهقاته، اختلاجاته، فيَّ أنا، في أُمّ مَن قتلتموه؟ هل وصلنا؟ لماذا تتوقّفون؟ هذا الرجل، ماذا يريد مِن يوسف؟ ماذا يقول؟»
بالفعل أحد العابرين النادرين أوقف يوسف، وفي صمت المدينة الخالية المطبق أمكن سماع كلامهما جيّداً.
«أصبح معلوماً دخولكَ منـزل بيلاطس. إنّكَ مُدَنِّس للشريعة. سوف تحاسب على ذلك. الفصح محرَّم عليكَ! أنتَ نَجِس.»
«وأنتَ أيضاً يا حِلقِيّا. لقد لمستَني وأنا مغطّى كلّياً بدم المسيح وبِعَرَقه وهو ميت!»
«آه! يا للهول! أَبعِد! أَبعِد! هذا الدم، أَبعِده!»
«لا تخف. لقد ترككَ ولعنكَ.»
«ولكن أنتَ ملعون كذلك. والآن، وأنتَ على وفاق مع بيلاطس، لا تظنّ أنّكَ ستختلس الجثمان. لقد أخذنا الاحتياطات كي تتوقّف اللعبة.»
اقترب نيقوديموس بتمهّل بينما توقّفت النساء مع يوحنّا، متّكئات على أحد الأبواب المقفلة.
«لقد رأينا.» يجيب يوسف. «جبناء! تخافون حتّى مِن ميت! ولكنّني سأفعل ما يحلو لي في بستاني وقبري.»
«سنرى.»
«سنرى. وسأستعين ببيلاطس.»
«نعم، فأنتَ تفسق مع روما الآن.»
يتقدّم نيقوديموس: «أن يكون المرء مع روما أفضل مِن كونه مع الشيطان، مثلكم، يا قَتَلَة الله! عدا عن ذلك، قل لي: كيف استعدتَ شجاعتكَ؟ منذ برهة كنتَ تفرّ، كالفريسة المرتعدة. هل زال هذا عنكَ؟ وما حدث لكَ، ألم يعد يكفيكَ؟ ألم يحترق أحد منازلكَ؟ ارتعش! العقاب لم ينتهِ. بل على العكس، هو آتٍ. سيهدّدكَ مثل نيميسيس الوثنيّين [ألعاب تجري في وهدة زيوس]. ولا الحرّاس ولا الأختام سيمنعون المنتقِم مِن القيام والضرب.»
«ملعون!» يهرب حِلقِيّا ويمضي ليصدم النساء. يُدرِك ويشتم مريم بفظاعة.
يوحنّا لا يتفوّه بشيء، بل يثب عليه مندفعاً مثل الفهد ويطرحه أرضاً. يضغط عليه بركبتيه ويضع يديه حول عنقه ويقول له: «اطلب منها المغفرة وإلاّ سأخنقكَ أيّها الشيطان.» ولم يتركه إلاّ حينما يقول وهو تحت الضغط ويكاد يختنق بيديّ يوحنّا: «آسف.»
ولكنّ صيحته جذبت الدوريّة. «قف هناك! ماذا يحدث؟ فِتَن أخرى؟ توقّفوا جميعاً وإلا ستُضرَبون. مَن أنتم؟»
«يوسف الذي مِن الرّامة ونيقوديموس، المصرَّح لهما مِن الوالي بدفن الناصريّ المقتول، ونحن عائدان مِن قبره مع أُمّه والابن والأهل والأصدقاء. وهذا، أهان الأُمّ فأرغمناه على طلب الصفح.»
«هذا فقط؟ كان يجب عليكم خنقه. هيّا. أيّها الجنود اقبضوا على هذا الرجل. ماذا يريد أيضاً مصّاصو الدماء هؤلاء؟ حتّى قلب الأُمّهات؟ سلام، أيّها اليهود!»
«يا للهول! لم يعودوا بشراً... يوحنّا، كن طيّباً معهم. انظر إلى ذكرى يسوعكَ ويسوعي. لقد كان يكرز بالغفران.»
«أنتِ على حقّ يا أُمّي. ولكنّهم مجرمون ويُفقدونني صوابي. يُدَنِّسون المقدَّسات: يهينونكِ ولا يمكنني السماح بذلك.»
«إنّهم مجرمون، نعم. ويعرفون أنّهم كذلك. انظر كم هي خالية الشوارع وكيف أنّ القلّة الباقية ينسحبون خلسة. إنّ المجرمين خائفون بعد الجريمة. يروّعني أن أراهم يفرّون هكذا، يدخلون منازلهم، يعتزلون خوفاً. أراهم جميعاً مذنبين بقتل الله. انظري هناك يا مريم، ذاك العجوز. إنّه على حافة القبر، ومع ذلك، الآن في النور المتسرّب مِن الباب الّذي فُتِح وينيره، يخيَّل لي أنّني رأيتُه في رتل المتَّهِمين ليسوعي، هناك، على موضع الصّلب... كان يناديه باللصّ... يسوعي لصّ!.. وهذا الشاب، الّذي هو أكبر قليلاً مِن طفل، كان يشتمه شتائم فظيعة وهو يطلب دمه عليه... آه! التَّعِس!... وذاك الرجل؟ ذو العضلات المفتولة والقويّ، ألم يكن ليكفّ عن ضربه؟ آه! لا أريد أن أرى! انظروا: على وجوههم تنطبع وجوه نفوسهم، ولم تعد لهم وجوه بشريّة بل شيطانيّة... كانوا شجعاناً في مواجهة ابن الإنسان الـمُقيَّد، المصلوب... والآن يهربون، يختبئون، يحبسون أنفسهم. يخافون. ممّن؟ مِن ميت. بالنسبة لهم هو ليس سوى ميت، فهم ينكرون أنّه الله. إذاً مِن أيّ شيء يخافون؟ عمّن يغلقون أبوابهم؟ عن الندم. العقاب. لا فائدة: الندم فيكم وسيلاحقكم إلى الأبد. العقاب ليس بشريّاً. ولا تجدي معه المزاليج والهراوات، الأبواب والقضبان. هو يهبط مِن السماء، مِن الله، المنتقم للذبيح الّذي له، ويخترق الأبواب والأسوار، ويَسِمكم بشعلته السماويّة، يَسِمكم مِن أجل العقاب فائق الطبيعة الّذي ينتظركم. العالم سيُقبِل إلى المسيح، إلى ابن الله وابني، سيُقبِل إلى الّذي طعنتموه، أمّا أنتم فستكونون الموسومين إلى الأبد، قايين الله، موسومين كخزي للجنس البشريّ. أنا، المولودة مِن نسلكم، أنا أُمّ الجميع، ينبغي لي القول إنّكم كنتم لي، أنا ابنتكم، أكثر مِن أزواج الأُمّ الأشرار، وفي عداد أولادي الّذين بلا حدود، فإنّكم الّذين تفرضون عليّ أعظم تعب كي أتقبّلكم، لأنّكم مُلَوّثون بالجريمة تجاه ابني، ولا تتوبون قائلين: "كنتَ مَسيّا. نحن نتعرفّ عليكَ ونعبدكَ". ها هي دوريّة رومانيّة أخرى. لم تعد المحبّة على الأرض. لم يعد السلام بين البشر. والكراهية والحرب في هياج مثل تلك المشاعل المدخّنة. الحاكمون يخافون مِن الحشود الجامحة. يعرفون بالخبرة أنّ هذا الحيوان الّذي يُدعى الإنسان، حينما يتذوّق طعم الدم، يصبح شَرِهاً للمجزرة... ولكن لا تخافوا منهم. إنّهم ليسوا أسوداً حقيقيّة ولا فهوداً حقيقيّة، هم ضباع في غاية الجبن. يَنقَضّون على حَمَل بلا حول ولا قوّة، ولكنّهم يخشون الأسد المسلّح بالرماح وبالسلطة. لا تخافوا أبناء آوى الزاحفة هؤلاء. سيدفعهم خطوكم الحديديّ إلى الهرب، ووميض رماحكم يجعلهم أكثر وداعة مِن الأرانب. هذه الرماح! إحداها فتحت قلب ابني! أيّ رمح منها؟ أراها فأشعر بسهم في القلب... ومع ذلك أودّ لو تكون كلّها بين هذه الأيدي المرتعشة كي أرى أيّ واحد منها ما يزال عليه آثار الدم وأقول: "هذا هو! أعطنيه، أيّها الجنديّ! أَعطِه لأُمّ كتذكار لأُمّكَ البعيدة، وسأصلّي مِن أجلها ومِن أجلكَ". ولن يرفض لي ذلك أيّ جنديّ منهم، ذلك أنّهم، كرجال حرب، كانوا الأفضل لدى احتضار الابن والأُمّ. آه! لماذا لم أفكّر في هذا هناك بالأعلى؟ كنتُ كمن ضُرِبَت على الرأس. كانت تلك الضربات قد أرهقتني... آه! يا لها مِن ضربات! مَن يتيح لي ألاّ أسمعها هنا، في رأسي المسكين؟ الرمح... كم أريده!...»
«يمكن أن نفتش عنه يا مريم. يبدو لي أنّ قائد المئة صالح معنا. وأعتقد أنّه لن يرفض. سأذهب غداً.»
«نعم، نعم يا يوحنّا. أنا فقيرة، لا أملك إلاّ القليل مِن المال، ولكنّني مستعدّة للتخلّي عن آخر فلس مقابل الحصول على هذا الحديد... آه! كيف أمكنني ألّا أطلبه منه حينذاك؟»
«مريم يا عزيزتي، لا أحد منّا كان يعلم بأمر هذا الجرح... عندما رأيتِه، كان الجنود بعيدين.»
«حقّاً... لقد أضناني الألم. والملابس؟ لا شيء منها لديّ! سأبذل دمي كي أحصل عليها...» وتسكب مريم مِن جديد دموعاً حزينة.
وتصل هكذا إلى الشارع حيث العلّية، في الوقت المناسب، فقد كانت منهكة وتجرّ نفسها حقّاً مثل عجوز منهارة. وهي تقول ذلك.
«تشجّعي! ها قد وصلنا.»
«وصلنا؟ أهو قصير لهذه الدرجة الدرب الّذي بدا لي هذا الصباح طويلاً؟ هذا الصباح؟ أكان ذلك هذا الصباح؟ ليس أكثر؟ كم مِن الساعات أم كم مِن العصور مضت منذ أن ولجتُ مساء الأمس وخرجتُ هذا الصباح؟ هل حقّاً أنا، الأُمّ ذات الخمسين سنة، أَمْ امرأة المئة سنة، امرأة الزمن الطويل، غنيّة بالعصور على منكبيّ المنحنيين وعلى رأسي الشائب؟ يبدو لي وكأنّي عشتُ كلّ آلام العالم وهي كلّها على منكبيّ اللتين ناءتا تحت الثقل. صليب غير ماديّ، إنّما الثقيل للغاية! مِن الحجارة. قد يكون أثقل مِن صليب يسوعي. ذلك أنّني أحمل صليبي وصليبه مع ذكرى تمزّقه الفظيع وحقيقة تمزّقي. فلندخل، إذ لا بدّ لنا مِن الدخول. ولكنّه ليس مواساة. بل هو تنامي الألم. مِن هذا الباب دخل ابني لتناول وجبته الأخيرة. ومنه خرج كي يمضي للقاء الموت. وكان عليه وضع قدمه حيث وضع الخائن قدمه لدى خروجه لاستدعاء الّذين سيقبضون على البريء. وأمام هذا الباب رأيتُ يهوذا... رأيتُ يهوذا! ولم ألعنه. ولكنّي كلّمتُه كأُمّ معذَّبة، معذّبة مِن أجل الابن الصالح والابن الشرّير... رأيتُ يهوذا! الشيطان هو من رأيتُه فيه! أنا الّتي وضعتُ دائماً لوسيفوروس تحت عقبي، وإذ لم أنظر سوى إلى الله، لم أخفض نظري أبداً على الشيطان، قد تعرّفتُ إلى وجهه وأنا أنظر إلى الخائن. تكلّمتُ مع الشيطان... وهرب لأنّه لا يتحمّل صوتي. هل تركه الآن؟ بحيث يمكنني التحدّث إلى هذا الميت، والحَبَل به، أنا الأُمّ، مِن جديد مع دم الله، كي ألده للنعمة؟ أَقسِم لي يا يوحنّا أنّكَ ستبحث عنه ولن تكون عنيفاً معه. أنا لستُ هكذا، مع أنّي أنا الّتي لها الحقّ في ذلك... آه! دعوني أدخل هذه الغرفة حيث تناول يسوع وجبته الأخيرة، وحيث بسلام قال صوت ولدي كلامه الأخير!»
«نعم، سندخل. ولكن الآن، انظري، تعالي هنا، حيث كنّا بالأمس. استريحي. حيّي يوسف ونيقوديموس اللذين يمضيان.»
«أحيّيهما، نعم. آه! أحيّيهما، أشكرهما، أباركهما!»
«ولكن تعالي، تعالي. ستفعلين هذا على مهل.»
«لا. هنا. يوسف... آه! لم أعرف أحداً بهذا الاسم لم يحبّني...»
مريم الّتي لحلفى تنفجر بالبكاء.
«لا تبكي... حتّى يوسف...فالحبّ هو الّذي كان يدفع ابنكِ إلى الخطأ. كان يريد أن يهبني سلاماً بشريّاً... ولكن اليوم!... رأيتِه... آه! كلّ مَن يُدعى يوسف طيّب هو مع مريم... يوسف، أشكركَ، وأنتَ أيضاً يا نيقوديموس... قلبي يركع تحت أقدامكما المتعبة مِن الطريق الطويلة الّتي قطعتموها مِن أجله... لآخر إجلال قدّمتموه له... ليس لي سوى قلبي أقدّمه لكما... وأقدّمه لكما، أنتما الصديقان الوفيّان لابني... و... واعذرا كلاماً قالته لكما في المقبرة أُمّ مطعونة الفؤاد...»
«آه! أيّتها القدّيسة! أنتِ اغفري!» يقول نيقوديموس.
«كُوني بخير الآن. استريحي في إيمانكِ. سنأتي غداً.» يضيف يوسف.
«نعم، سنأتي. نحن رهن إشارتكِ.»
«غداً هو السبت.» تعترض سيّدة المنـزل.
«السبت مات. سنأتي. وداعاً. فليكن الربّ معنا.» ويمضيان.
«تعالي يا مريم.»
«نعم يا أُمّي، تعالي.»
«لا، افتحوا. لقد وعدتموني بهذا بعد التحيات. افتحوا هذا الباب! لا يمكنكم إغلاقه في وجه أُمّ، أُمّ تسعى إلى تنفّس الهواء الّذي فيه رائحة نَفَس وجسد ابنها. ألا تعلمون أنّ هذا النَفَس وهذا الجسد، أنا الّذي أعطيتُهما له؟ أنا، أنا الّتي حملتُه تسعة أشهر، ولدتُه، أرضعتُه، أنشأتُه، اعتنيتُ به؟ هذا النَفَس هو نَفَسي! رائحة الجسد هذه هي رائحتي! رائحتي، وقد غدت أجمل بعد في يسوعي. دعوني أحسّ بها مرّة أخرى.»
«ولكن نعم، يا عزيزتي، غداً. اليوم أنتِ متعبة. مشتعلة بالحمى. لا تقدرين. حالكِ سيّئة.»
«نعم، حالي سيّئة. ذلك لأنّ في عينيّ منظر دمه وفي أنفي رائحة جسده المغطّى بالجروح. فلأنظر إلى المنضدة الّتي اتّكأ عليها حيّاً وسليماً، ولأحسّ بعطر جسده الغضّ. افتحوا! لا تدفنوه للمرّة الثالثة! لقد أخفيتموه عنّي تحت الطيوب واللفائف، ثمّ حجبتموه عنّي خلف الحجر. والآن لماذا، لماذا تأبون على أُمّ أن تجد مِن جديد آخر أثر له في أنفاسه الّتي تركها خلف هذا الباب؟ دعوني أدخل. سأبحث على الأرض، على المنضدة، على كرسيّه، عن آثار قدميه، يديه. وسأُقبّلها، سأُقبّلها حتّى تفنى شفتاي. سأفتّش، وأفتّش... قد أجد شعرة مِن رأسه الأشقر، شعرة ليست مغطّاة بالدم. هل تعرفون ما قيمة شعرة مِن ابن لدى أُمّه؟ أنتِ، يا مريم الّتي لكلوبا، أنتِ يا سالومة، أنتما أُمّان. وألا تدركان؟ يوحنّا؟ يوحنّا؟ اسمعني. أنا أُمّكَ: هو جعلني كذلك. هو! يجب أن تطيعني. افتح! أنا أحبّكَ يا يوحنّا. لقد أحببتُكَ دائماً لأنّكَ كنتَ تحبّه. وسأحبّكَ أكثر بعد. ولكن افتح. افتح، أقول لكَ! ألا تريد؟ لا تريد؟ آه! لم يعد لي ابن إذن!؟ يسوع لم يكن يرفض لي طلباً أبداً، لأنّه كان ابني. أنتَ ترفض. فأنتَ لستَ ابني. أنتَ لا تفهم ألمي... آه! يوحنّا، سامحني... سامحني... افتح... لا تبكِ... افتح... آه! يسوع!... يسوع!... اسمعني... فليصنع روحكَ معجزة! افتح لأمّكَ المسكينة هذا الباب الّذي لا يريد أحد أن يفتحه! يسوع! يسوع!»
تضمّ مريم قبضتيها وتطرق الباب المحكم الإغلاق. ألمها في ذروته. وتنتهي بأن تشحب وهي تهمس: «آه! يسوعي! أنا آتي! آتي!» وترتمي خائرة القوى بين أذرع النساء اللواتي يبكين، اللواتي يسندنها كي لا تسقط على عتبة هذا الباب، ويحملنها هكذا إلى الغرفة المواجهة.