ج3 - ف21
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الأول
21- (شِفاء حفيد الفرّيسيّ إيلي الذي مِن كفرناحوم)
11 / 05 / 1945
يسوع على وشك الوصول إلى كفرناحوم بالـمَركَب. الوقت يشارف على الغروب، والبحيرة ما هي إلّا سطوع الأصفر-أحمر. وبينما يحاوِلون إرساء الـمَركَبين، يقول يوحنّا: «أنا أمضي في الحال إلى الينبوع وأجلب لكَ الماء لتشرب.»
«المياه هنا لذيذة.» يقول أندراوس.
«نعم، إنّها لذيذة، وحبّكَ أنتَ يجعلها لديَّ أفضل أيضاً.»
«سآخذ السمك إلى المنـزل، وستهيّئه النساء للعشاء. وبعدها هل تتحدّث إلينا وإليهنّ؟»
«نعم يا بطرس.»
«الآن أَصبَحَ لعودتنا إلى البيت طعم أحلى. فقد كنّا نبدو سابقاً كالبدو الرحّل. أمّا الآن، مع النساء، فهناك ترتيب أكثر وحبّ أكثر. ثمّ! إنّ رؤيتي أُمّكَ تزيل عنّي التعب فوراً، لستُ أدري...»
يبتسم يسوع ويَصمت.
يَجنَح المركب إلى الرمل. ويقفز يوحنّا وأندراوس إلى الماء وهما بالثياب الداخليّة القصيرة، وبمساعدة الأولاد يَجلبون المركب إلى الضفة، ويضعون الدَّفّ الذي يُستَخدم كجسر. يهبط يسوع أوّلاً، وينتظر وصول الـمَركَب الثاني إلى الضفّة لينضمّ إلى كلّ أتباعه. ثمّ، وبخطوات وَئيدة، يمضون إلى الينبوع. ينبوع طبيعيّ. إنّه نبع يجري خارج المدينة، ينصبّ ماؤه في حوض حجريّ، بارداً، غزيراً وفضّيّاً. وكأنّه، لشدّة صفائه، يدعوكَ لشرب هذا الماء. ويوحنّا الذي سَبَقَهم حاملاً الجرّة، يعود الآن ويقدّمها ليسوع الذي يشرب بجرعات طويلة.
«كم كنتَ عطشاناً يا معلّمي! وأنا كالأبله لم أكن أدّخر الماء.»
«لا يهمّ يا يوحنّا، قُضي الأمر الآن.» ويلاطفه.
كانوا على وشك العودة عندما رأوا سمعان بطرس مُقبِلاً بكلّ ما أُوتِيَ مِن سرعة، وهو الذي كان قد ذَهَبَ إلى البيت ليحمل السمك. «يا معلّم! يا معلّم!» يصيح وهو يلهث مُنهَكاً. «البلدة في هِياج لأنّ حفيد الفرّيسيّ إيلي يحتضر بسبب لسعة أفعى، وهو وحيد. وكان قد ذَهَبَ مع جده، خلافاً لإرادة أُمّه، إلى بستان الزيتون الذي لهم. كان إيلي يراقب الأعمال بينما كان الولد يلعب عند أسفل إحدى أشجار الزيتون القديمة، وأدخَلَ يده في حفرة، آمَلاً بالحصول على سحلية، ولكنّ أفعى كانت بانتظاره. والعجوز يبدو كالمجنون. أما أُمّ الصبيّ، التي بالمناسبة تكره الجدّ، فتتّهمه بالإجرام والقتل. والولد يبرد بين الحين والحين. إنّهم كأهل لم يتحابّوا! وبالتأكيد لا يمكن لجوّ عائليّ أن يكون أكثر سوءاً مِن ذاك!»
«ما أسوأ البغضاء بين الأهل في العائلة الواحدة!»
«يا معلّم، يا معلّم، أقول بأنّ الأفاعي لم تحبّ الأفعى، إيلي. وقد قَتَلَت الأفعى الصغيرة. إنّني آسف لكونه رآني وناداني مِن الخلف: "هل المعلّم هنا؟" وأنا آسَف مِن أجل الطفل. لقد كان طفلاً جميلاً، وليس خطأه أنّه حفيد فرّيسيّ.»
«نعم، ليس خطأه...»
ويتوجّهون إلى البلدة حيث يَرَون مجموعة كبيرة مِن البشر يتوجّهون إليهم، يصرخون ويبكون، وعلى رأسهم العجوز إيلي.
«لقد وَجَدَنا، فلنعد على أعقابنا.»
«ولكن لماذا؟ إنّ هذا العجوز يتألّم.»
«هذا العجوز يبغضكَ. تذكّر ذلك. إنّه أحد الذين اتّهموكَ. إنّه مِن أوائل الذين في الهيكل وأكثرهم ضراوة.»
«إنّني أتذكّر أنّني الرحمة.»
يَهرَع العجوز إيلي إلى يسوع أشعث الشَّعر، مُضطَرِباً، غير مُرتّب الهندام، وذراعاه ممدودتان، ويرتمي على قدميه هاتفاً: «الرحمة! الرحمة! الغفران! لا تنتقم مِن الطفل بسبب قَسوتي. أنتَ وحدكَ مَن يمكنه إنقاذه! الله، أبوكَ، وهو مَن أَرسَلَكَ إلينا. أؤمن بكَ! أُوقِّركَ! وأحبّكَ! اغفر لي! لقد كنتُ ظالماً وكاذباً! ولكنّني عُوقِبتُ. فتلك الساعات وحدها كافية لتكون عقاباً لي. العَون! إنّه الطفل! الابن الوحيد لابني الذي مات! وهي تتّهمني بقتله.» ويبكي وهو يضرب رأسه بالأرض بِتَواتُر.
«هيّا بنا! لا تبكِ هكذا. أتودُّ الموت فلا تكترث لرؤية الصبيّ ينمو؟»
«إنّه يموت! يموت! وقد يكون الآن مات. اجعَلني أموت أنا أيضاً، فذلك أفضل لي مِن العيش في ذلك البيت الفارغ! آه! يا لتعاسة أيّامي الأخيرة!»
«هيّا انهض يا إيلي، وهَلمّ بنا...»
«أنتَ... هل صحيح أنّكَ ستأتي؟ ولكن هل تَعلَم مَن أكون؟»
«أحد التعساء. هيّا بنا.»
يَنهَض العجوز ويقول: «أَذهَبُ أمامكَ. ولكن أنتَ اركض، اركض، أَسرِع!» ويمضي مسرعاً بسبب اليأس الذي يَخِز قلبه.
«ولكن يا ربّ، أتظنّ أنّ ذلك يبدّله؟ آه! يا للمعجزة عديمة النَّفع! ولكن دع تلك الأفعى الصغيرة تموت! ويموت العجوز كذلك مِن الأسى و... هذا يُقلِّل واحداً مِن طريقكَ. لقد فَكَّرَ الله في هذا...»
«ولكن يا سمعان! في الحقيقة، إنّ الأفعى الآن هي أنتَ.» ويَنهَر يسوع بصرامة بطرس الذي يُطأطئ رأسه ويسير إلى الأمام.
قُربَ أكبر ساحة في كفرناحوم، بيت جميل تَجَمهَرَ الناس أمامه... يتوجّه يسوع إليه، ويُوشِك على الوصول حينما يَخرُج الرجل مِن الباب المفتوح على مصراعيه، تتبعه امرأة تضمّ بين ذراعيها طفلاً يحتضر. فالسمّ قد شَلَّ الأعضاء، والموت مُحَتَّم. وتتدلّى يده الجريحة مُظهِرَة أثر اللسعة عند الإبهام. وإيلي لا يفعل شيئاً سوى الهُتاف: «يسوع! يسوع!»
ويسوع، الذي تَحصره، بل تَهصره الجموع، مُشيرين إليه بكلّ تعابير الاستحالة، يتناول اليد الصغيرة، ويحملها إلى فمه. يمصّ الجرح ثم يَنفُخ على الوجه الشاحب ذي العينين شبه المغمضتين والزجاجيتين. وينتَصِب بعدئذ ليقول: «هو ذا الطفل يستفيق الآن، فلا تُخيفوه بكلّ هذه الوجوه الـمُضطَرِبة. يكفيه رُعباً مِن تذكّره الأفعى.»
بالفعل، الطفل الذي بدأ وجهه يَصطَبِغ باللون الزهري، يفتح فاه ويتثاءب طويلاً. يفرك عينيه، ثمّ يفتحهما ليبقى مذهولاً لوجوده وسط هذا الكمّ الهائل مِن البشر، ثمّ يتذكّر، يُحاوِل الهرب قافزاً قفزة مفاجئة، حتّى كاد يقع لو لم يتلقّفه يسوع بين ذراعيه.
«حسناً! حسناً! ما الذي يخيفكَ؟ انظر إلى الشمس الجميلة، هو ذا بيتكَ، وهنا أُمّكَ وجدكَ.»
«والأفعى؟»
«اختَفَت. وأنا هنا.»
«أنتَ، نعم...» يُفكِّر الطفل طويلاً ثمّ يقول بصوته الساذج والبريء: «كان جدّي يطلب منّي أن أقول لكَ "ملعون". إنّما أنا لا أقول ذلك لأنّني أحبّكَ كثيراً، أنا.»
«أنا؟ قُلتُ هذا؟ الولد يَهذي. لا تصدّقه يا معلّم. لقد احترمتُكَ على الدوام.» فالخوف الذي اعتراه يَستَنهِض طبيعته القديمة.
«الكلمات لها وليس لها قيمة. وأنا أتقبَّلها حسب قيمتها. الوداع يا صغيري. الوداع يا امرأة. الوداع إيلي. أحِبّوا بعضكم كثيراً، وأحِبّوني إن استطعتم.» ويدير يسوع ظهره ويمضي إلى البيت حيث يقيم.
«يا معلّم، لماذا لم تجترِح معجزة مُدوّية؟ كان الأجدر بكَ أن تأمر السمّ فيَخرُج مِن الطفل. كان ينبغي أن تُظهِر نفسكَ بأنّكَ الله. وبَدَل هذا مصصتَ السمّ، كما كان سيفعل أوّل القادِمِين.» يهوذا الاسخريوطيّ غير راض تمام الرضا. كان يُريدها مُجَلجِلة، والآخرون كذلك يوافقونه الرأي. «كان ينبغي لكَ سحق ذلك العدوّ باستخدام سلطانكَ. لقد سَمِعتَ! وقد استعاد سُمَّهُ مباشرة...»
«السمّ لا يهمّ. ولكن فَكِّروا لو أنّني كنتُ قد تصرّفت كما كنتم تتمنّون رؤيتي أفعل، لكان قال إن بعلزبول يساندني. بينما بنفسه المحطَّمَة يمكنه أن يتقبّل قُدرتي كطبيب. وليس شيئاً آخر. فالمعجزة تقود أولئك الذين هم على تلك الطريق إلى الإيمان. ولكنّ الذين لا تَواضُع لديهم -فالإيمان يُبرهِن دوماً عن وجود التَّواضُع في النَّفْس- فالمعجزة تحملهم على التجديف. لذا يُفضَّل تحاشي ذلك الخطر باللجوء إلى تصرّفات هي في ظاهرها بشريّة. إنه بؤس الكافِرين، بؤسهم غير القابل للشفاء. فلا فضّة تجعله يتلاشى، ولا المعجزة تقودهم إلى الإيمان ولا إلى أن يكونوا صالحين. لا يهمّ. إنّني أتمّم واجبي. وهم يَتَّبِعون ميولهم السيّئة.»
«لماذا اجترحتَها إذن؟»
«لأنّني الصَّلاح. ولكي لا يتمكّن أحد مِن القول إنّني محبّ للانتقام مِن الأعداء ومُستَفِزّ لهم. أُكَدِّس على رأسهم الفحم المتأجّج. وهُم الذين يُقدِّمونه لي لأُكَدِّسه. كُن صالحاً يا يهوذا بن سمعان، حاوِل ألّا تتصرّف مثلهم! وهذا يكفي. هيّا بنا نذهب إلى أُمّي. سوف تُسَرُّ منّي لأنّني شَفَيتُ طفلاً.»