ج10 - ف21

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء العاشر

 

21- (الفصح الـمُكَمِّل)

 

23 / 04 / 1947

 

أَمْر يسوع قد نُفّذ حرفياً، هذه المرّة، وبيت عنيا مكتظّة بالتلاميذ. المروج، المسالك، البساتين، بساتين زيتون لعازر، كلّها مليئة، ولعدم كفاية تلك الأمكنة لاحتواء الكثير مِن الناس الّذين لا يريدون إلحاق الضرر بأملاك صديق يسوع، فإنّ كثيرين قد انتشروا أيضاً بين بساتين الزيتون الّتي تقود مِن بيت عنيا إلى أورشليم على طول دروب جبل الزيتون.

 

التلاميذ الأقدم هم أقرب إلى المنزل، آخرون بأعداد كبيرة أكثر بُعداً. وجوه معروفة قليلاً أو مجهولة تماماً. إنّما مَن يستطيع فعلاً التعرّف على الكثير مِن الوجوه وذِكر ‏أسمائها؟ أعتقد بأنّ هناك المئات. بين الحين والآخر، فيما أتذكّر، يُذكّرني وجه أو اسم بوجوه رأيتُها مِن بين الكثيرين الّذين استفادوا مِن إنعامات يسوع أو هو هداهم، ربّما في الساعات الأخيرة. إنّما تَذَكُّر الكثير مِن هذه الوجوه والأسماء والتعرّف إليها كلّها يفوق قدراتي. سيكون الأمر كما لو أنّني أدّعي أنّني تعرّفتُ على الّذين كانوا بين الحشود الّتي كانت تملأ شوارع أورشليم في أحد السَّعَفُ [الشعانين] أو في الجمعة الأليمة، أو الّتي كانت تغطّي الجلجلة ببساط مِن الوجوه، والّتي كانت في أغلبها مشحونة بالكراهية.

 

الرُّسُل يدخلون ويخرجون مِن منزل سمعان، يتجوّلون بين الحشود لإبقائهم هادئين أو للإجابة على أسئلتهم. كذلك لعازر ومكسيمين يساعدانهم. عند الأبواب/النوافذ للطابق العلويّ لمنزل سمعان تُرى كلّ وجوه النسوة التلميذات تظهر وتختفي: رؤوس بشعر رمادي، رؤوس بشعر بنّي، يتألّق بينها رأسا مريم أخت لعازر وأوريا الأشقران. بين الحين والآخر تخرج واحدة، لتنظر، ثمّ تنسحب. كلهنّ هناك، كلهنّ حقّاً، شابّات ومسنّات، حتّى اللواتي لم يأتين أبداً، مثل سارة الّتي مِن أَفِيقَ. على الشرفة يلعب الأولاد الّذين تجمعهم سارة، أحفاد حنّة الّتي مِن ميرون، مريم ومتّياس، الصغير متوشاليم، حفيد ناحوم، وقد كان مُشَوّهاً يوماً وهو الآن سعيد وسليم، وآخرون بعد. سرب طيور صغيرة سعيدة، يراقبهم مارغزيام وتلاميذ شبّان آخرون، مثل راعي عين نون وجايا الّذي مِن بيلّا. كذلك أرى بين الأطفال الصغير الّذي مِن صيدون، الّذي كان أعمى. مِن الواضح أنّ والده قد اصطحبه معه.

 

الشمس تبدأ بالغروب في روعة مفعمة صفاء.

 

بطرس يتشاور مع لعازر ومع رفاقه. «أعتقد أنّه سيكون حسناً صرف الناس. ما رأيكم؟ هو لن يأتي اليوم أيضاً. وكُثُر مِن هؤلاء عليهم تناول الفصح الـمُكَمِّل هذا المساء.» يقول بطرس.

 

«نعم. يُستحسن صرفهم. ربّما رأى الربّ أنّه مِن الجيّد ألاّ يأتي اليوم. فجماعة الهيكل قد اجتمعوا كلّهم في أورشليم. لستُ أعلم كيف سمعوا بأنّه كان يأتي و...» يقول لعازر.

 

«وإن يكن الأمر هكذا؟ فما الّذي يمكنهم أن يفعلوه له بعد الآن؟» يقول تدّاوس بحدّة.

 

«إنّكَ تنسى أنّهم هم على الدوام. وقَولي هذا يتضمّن كلّ شيء. وإن ما عادوا يستطيعون إيذاءه أبداً، فيمكنهم إلحاق الكثير مِن الأذى بهؤلاء، الآتين للتعبّد له. والربّ لا يريد أن يتأذّى المؤمنون به. ومِن ثمّ! أتظنّ بأنّهم، وقد أعمتهم خطيئتهم وتفكيرهم غير القابل للتبدّل على الدوام، ليس لديهم، وسط تباين الأفكار الشديد الّذي في رؤوسهم، أيضاً ذاك الفِكر بأنّ الربّ قد قام، أو بالأحرى أنّه لم يمت أبداً وأنّه خرج مِن هناك مثل واحد يستيقظ مِن تلقاء نفسه أو بالتواطؤ مع كثيرين؟ أنتم لا تعلمون أيّ تشابك أفكار همجيّ، أيّ تشوّش، أيّة زوبعة مِن الافتراضات فيهم. لقد قَدَّموها لأنفسهم كي لا يعترفوا بالحقيقة. يمكن حقّاً القول إنّ شركاء الأمس منقسمون، اليوم، لذات السبب الّذي سبق أن أبقاهم متّحدين. والبعض يلبثون مغرّرين بأفكارهم. أترون؟ البعض لم يعودوا بين التلاميذ...» يقول لعازر.

 

«ودعهم يذهبون! لقد جاء آخرون أفضل منهم. وبالتأكيد، بين أولئك الّذين رحلوا يتوجّب البحث عن الّذين أعلموا السنهدرين بأنّ الربّ سيكون هنا في اليوم الرابع عشر مِن الشهر الثاني. وبعد وشايتهم لم تعد لديهم الشجاعة كي يأتوا. بعيداً! بعيداً عن هنا! يوجد ما يكفي مِن الخونة!» يقول برتلماوس.

 

«سوف يكون لدينا منهم دوماً، يا صديقي! الإنسان!... يتأثّر كثيراً بالانفعالات والضغوط. إنّما ليس علينا أن نخاف. الربّ قال بأنّه ليس علينا أن نخاف.» يقول الغيور.

 

«ونحن لسنا خائفين. لأيّام قليلة مضت كنّا لا نزال خائفين. أتذكرون؟ أنا، مِن جهتي، كنتُ أفكّر بخوف في عودتنا إلى هنا. الآن يبدو لي أنّني لم أعد أشعر بذلك الخوف. لكنّني لا أثق كثيراً بنفسي، وأنتم أيضاً عليكم ألاّ تثـقوا كثيراً بصخرتكم [بطرس يتكلّم]. فأنا سبق أن أظهرتُ مرة أنّني مصنوع مِن الفخّار [الصلصال] الّذي يتفتّت، بدلاً مِن أن أكون مِن الصوّان [الجرانيت] الصّلد. حسناً، لنصرف هؤلاء الناس. الأمر يعود لكَ يا لعازر.»

 

«لا يا سمعان بطرس، الأمر عائد لكَ. أنتَ الرئيس...» يقول لعازر برفق، مُطَوِّقاً عنق بطرس بذراعه، ودافعاً إيّاه نحو الدرج وجاعلاً إيّاه يصعد إلى الشرفة الّتي تحيط بمنزل سمعان.

 

بطرس يشير بأنّه سوف يتكلّم، والناس الأقرب يصمتون، وأولئك الأكثر بُعداً يهرعون. بطرس ينتظر إلى أن يقترب أكبر عدد إلى المكان، ومِن ثمّ يقول: «أيّها الرجال الّذين مِن جميع أنحاء إسرائيل، أَنصِتوا، إنّني أحثّكم على العودة إلى المدينة. الشمس بدأت هبوطها. اذهبوا إذاً. إذا أتى، فسوف نُعلِمكم بذلك بأيّ ثمن. ليكن الله معكم.»

 

ينسحب ليدخل إلى حجرة كثيرة التهوية، حيث تتواجد كلّ النسوة التلميذات الأكثر وفاءً وأيضاً النسوة الأُخريات اللواتي أحببن الربّ كمعلّم إنّما لم يتبعنه في أسفاره، متجمّعات حول العذراء المباركة. وبطرس يمضي ليجلس في زاوية، ناظراً إلى مريم الّتي تبتسم له.

 

الناس الموجودون خارجاً، ينقسمون على مهل إلى قسمين: قسم بقي، وقسم عاد إلى المدينة. أصوات راشدين ينادون الأطفال، أصوات الأطفال تجيبهم. ثمّ تنحسر الضوضاء.

 

«والآن.» يقول بطرس «سنذهب نحن أيضاً...»

 

«أبي، لكنّ الربّ قال إنّه يكون هنا!...»

 

«هيه! أعلم ذلك! إنّما، كما ترى، هو لم يأت. وهذا هو اليوم الّذي حدّده...»

 

«نعم، وأخي قد أنهى بالفعل إعداد كلّ ما يلزمكم، وها هو هنا مرقس بن يونى الّذي يأتي كي يصطحبكم ويفتح البوّابة. إنّما آتي أنا أيضاً. كلّنا نأتي. لقد تدارك لعازر الأمر مِن أجل الجميع.» تقول مريم المجدليّة.

 

«وأين سنتناول العشاء مع كلّ هذا العدد مِن الناس؟»

 

«جَثْسَيْماني ستكون علّية. داخل المنزل، هناك الغرفة لأولئك الّذين قال عنهم يسوع. وفي الخارج، قرب المنزل، ستكون موائد الآخرين. هذا ما أراده.»

 

«مَن؟ لعازر؟»

 

«الربّ.»

 

«الربّ؟ لكنّ متى أتى؟»

 

«لقد أتى... وبماذا يهمّكَ اليوم؟ لقد أتى وتكلّم مع لعازر.»

 

«أعتقد بأنّه يأتي، وحتّى قد أتى لكلّ واحد منّا، ولو أنّ أحداً منّا لم يتحدّث عن ذلك، محتفظاً بتلك البهجة كما لو أنّها كانت لؤلؤته الأثمن، الّتي يخشى حتّى إظهارها، خائفاً مِن أن تفقد نورها الأجمل. أسرار الـمَلِك!» يقول برتلماوس، وينظر إلى مجموعة مِن التلميذات العذارى، اللواتي تحمرُّ وجوههنّ كما لو أنّ أشعة الشمس الغاربة قد سقطت عليهنّ. إنّما هي شعلة روحيّة لغبطة شديدة تلك الّتي تضيئهنّ. مريم، عذراء العذارى، في ثوبها الكتّانيّ الأبيض، زنبقة متسربلة بياضاً، تحني رأسها مبتسمة مِن دون أن تتكلّم. كم تشبه في هذه اللحظة عذراء البشارة الشابّة!

 

«بالتأكيد... هو لن يتركنا وحدنا، حتّى إن لم يظهر لنا بشكل مرئيّ. أقول إنّه هو مَن يضع في قلبي المسكين وعقلي المسكين أكثر بعد أفكاراً يقينيّة...» يعترف متّى.

 

الآخرون لا يتكلّمون... يتبادلون النظر بينما يلبسون أرديتهم، متفحّصين بعضهم بعضاً. إنّما التحفّظ ذاته الّذي بموجبه يغطّي البعض وجوههم أكثر ما يمكن، كي يُبقوا محجوبةً موجة الفرح الروحيّ الّتي تطفو على السطح عندما يفكّرون باللقاءات الإلهيّة السرّية، يدلّ على أنّهم الأكثر تفضيلاً.

 

«إنّما أَفصِحوا!» يقول الآخرون. «لا نشعر بالغيرة مِن ذلك! نحن لسنا متطفّلين كي نريد أن نعلم. لكنّنا سوف نتعزّى برجاء أنّنا لن نكون محرومين مِن رؤيته على الدوام! تذكّروا كلام رافائيل لطوبيّا: "حتماً مِن المستحسن الإبقاء على سرّ الـمَلِك مخفيّاً، مع ذلك مِن الـمُشَرِّف كشف صنائع الله ونشرها." ملاك الله على حقّ! احتفظوا لأنفسكم بسرّ الكلام الّذي أعطاكم الله إيّاه، إنّما اكشفوا عن محبّته المستمرّة لنا.»

 

يعقوب بن حلفى ينظر إلى مريم، كما كي يتلقّى استنارة منها، وحيث يدرك مِن ابتسامتها أنّها موافقة، يقول: «هذا صحيح. لقد رأيتُ الربّ.» لا أكثر مِن ذلك. وهو الوحيد الّذي يقول ذلك. الاثنان الآخران اللذان تَغطّيا جيّداً، أي يوحنّا وبطرس، لا يتفوّهان بكلمة.

 

يخرجون كلّهم وفي مجموعات، الأحد عشر في المقدّمة، ثمّ لعازر مع أختيه والتلميذات حول مريم، أخيراً الرُّعاة وكثير مِن التلاميذ الاثنين والسبعين. ينطلقون باتّجاه أورشليم عبر الطريق المرتفعة الّتي تقود إلى بستان الزيتون. الأطفال يتراكضون سعداء في المقدّمة وفي الخلف.

 

مرقس يشير إلى ممرّ يتحاشى حقل الجليليّين والمناطق المزدحمة، ويقود مباشرة إلى السور الجديد لبستان الزيتون. يفتح، يجعلهم يمرّون، يُغلِق. الكثير مِن التلاميذ يثرثرون في ما بينهم، وأحدهم يذهب ليسأل الرُّسُل، وخصوصاً يوحنّا. لكنّهم يشيرون بالانتظار، فليس الوقت هو المناسب لتلبيتهم، والكلّ يلبثون هادئين.

 

يا له مِن سلام في بستان الزيتون الشاسع، الّذي لا يزال يُقَبّل في أقسامه العليا آخر شعاع للشمس، في حين هناك ظلّ في أقسامه الأكثر انخفاضاً! رفيفٌ لريح خفيف بين الأوراق الخضراء الفضيّة، وتغريد مَرِح لطيور تحيّي النهار الآفِل.

 

ها هو المسكن الصغير للحارس. على الشرفة، الّتي تقوم مقام سقف، جعل لعازر يقام سرادق خيام، والشرفة استحالت عُلّية أثيرية للتلاميذ الّذين لم يتمكّنوا مِن تناول الفصح في الشهر الفائت. في الأسفل، في الفناء النظيف، موائد أخرى. داخل البيت، في أفضل غرفة، مائدة النسوة التلميذات.

 

تُجلَب الحِملان المشويّة، الخس، الفطير والصلصة الـحمراء إلى الموائد المختلفة لأولئك الّذين لم يحتفلوا بالفصح، كما توضع الكؤوس الطقسيّة على الموائد. إنّما ما مِن كأس على مائدة النسوة، إنّما أكواب بمقدار عدد الجالسات. يُفهَم أنّ النسوة كنّ معفيّات مِن هذا الجانب مِن الاحتفال. هناك الحَمَل على موائد أولئك الّذين سبق أن تناولوا الفصح في أوانه، إنّما مِن دون الفطير والخسّ مع الصلصة الحمراء. لعازر ومكسيمين يُشرِفان على كلّ خدمة. لعازر ينحني فوق بطرس ليقول له شيئاً ما يجعل الرسول يهزّ رأسه بعنف في رفض قاطع.

 

«ومع ذلك... الأمر عائد لكَ.» يقول فيلبّس الّذي هو إلى جانبه.

 

لكنّ بطرس يشير إلى يعقوب بن حلفى: «هذا الأمر عائد لذاك.»

 

وفيما هما يتناقشان هكذا، إذ بالربّ يظهر عند أوّل الفناء الصغير ويحيّي: «السلام لكم.»

 

كلّهم ينهضون والجلبة تُنبّه النسوة لما يجري. إنّهن على وشك الخروج، لكنّ يسوع يدخل إلى المنزل محيّياً إيّاهنّ أيضاً.

 

مريم تقول: «بنيّ!» وتجله بأكثر عمقاً مِن الجميع، مُعَلِّمةً إيّاهم بتلك الحركة أنّ يسوع، رغم إمكانيّة أن يكون صديقاً وقريباً وحتّى ابناً، هو دوماً الله، ويجب أن يُجلّ كإله، يجب أن يُجلّ دائماً، بروح متعبّدة، حتّى ولو أنّ محبّته لنا كاملة إلى درجة دفعه إلى أن يمنح نفسه، بثقة تامّة، كأخ وعريس لنا.

 

«السلام لكِ يا أُمّي. اجلسن، تناولن الطعام. سأصعد إلى فوق حيث مارغزيام بانتظار مكافأته.»

 

يعود للخروج ليصعد السلّم وينادي بصوتٍ عالٍ: «سمعان بطرس ويعقوب بن حلفى، أَقبِلا.»

 

الاثنان اللذان دعاهما يصعدان خلفه، ويسوع يجلس إلى مائدة الوسط حيث يجلس مارغزيام، ويقول للرسولين: «سوف تفعلان ما سأقوله لكما.» ويقول لمتّياس الّذي يجلس إلى رأس المائدة: «ابدأ الوليمة الفصحيّة.»

 

هذا المساء، يسوع يُجلِس مارغزيام إلى جانبه، في المكان حيث كان يوحنّا في المرّة الماضية. بطرس ويعقوب خلف الربّ، بانتظار أوامره.

 

يبدأ الاحتفال بالفصح ‏بطقس العشاء الفصحيّ ذاته: الترانيم، الطَلَبات، تَقدِمات الخمر. لا أدري إذا كان الأمر نفسه يتمّ على الموائد الأخرى. إنّني أحدّق في مكان تواجد يسوع، إلاّ إذا دفعتني مشيئته للنظر إلى أمر آخر، وأنا أنسى كلّ شيء لأتأمّل ربّي، الّذي يُقدّم الآن أفضل لُقمات حَمَله -يضعها في صحنه، لكنّه لا يأكلها، وكذلك لا يتناول خسّاً ولا صلصة، ولا يشرب مِن الكأس-  والآن يقدّم اللقمات الأفضل لمارغزيام المغتبط تماماً.

 

يسوع في البداية قد أومأ لبطرس كي ينحني ويُنصِت إليه، وبطرس، بعدما أنصتَ إليه، قال بصوتٍ عالٍ: «في هذه اللحظة قدّم الربّ الكأس مِن أجلنا كلّنا بصفته أباً ورئيساً لعائلته.»

 

الآن يومئ مجدّداً لبطرس، الّذي يعاود الإنصات إليه ومِن ثمّ يستقيم ليقول: «وفي هذه اللحظة ائتزر الربّ كي يطهّرنا ويعلّمنا ما علينا فِعله لتناول الذبيحة الإفخارستيّة باستحقاق.»

 

العشاء يتواصل حتّى، بإيماءة أخرى يقول بطرس مجدّداً: «في هذه اللحظة، أخذ الربّ الخبز والخمر، قَدَّمهما، وباركهما وهو يصلّي، وبعد تقسيمهما إلى أجزاء، وَزَّعها علينا قائلاً: "هذا هو جسدي وهذا هو دمي للعهد الجديد الأبديّ، الّذي يُراق عنكم وعن كثيرين لمغفرة الخطايا".»

 

يسوع يقف. إنّه جليل جدّاً‏. يأمر بطرس ويعقوب بأخذ رغيف خبز وتقسيمه إلى لقمات صغيرة، وبملء كأس خمراً، الكأس الأكبر على الموائد. يُطيعان ويُمسِكان بالخبز والخمر أمامه، ويسوع يبسط يديه فوقهما ويصلّي مِن دون حركة أخرى سوى نشوة نظرته…

 

«وَزِّعا أجزاء الخبز وقَدِّما الكأس الأخويّة. كلّ مرّة تفعلون ذلك، سوف تفعلونه لذكري.»

 

الرسولان يطيعان، مفعميَن إجلالاً…

 

و‏فيما يجري توزيع القربان، ينزل يسوع إلى النسوة. أعتقد، لكنّني لا أرى ذلك لأنّني لم أدخل إلى حيث يتواجدن، بأنّ يسوع يُناوِل القربان المقدّس لأُمّه بيديه. إنّه اعتقادي. لستُ أعلم إذا ما كان هذا يوافق الحقيقة، إنّما لم أدرك سبباً آخر يجعله يذهب إلى هناك إن لم يكن للقيام بذلك.

 

ثمّ يعود إلى الشرفة. لا يعاود الجلوس. العشاء يصل إلى نهايته.

 

يسأل: «هل تمّ استنفاذ كلّ شيء؟»

 

«لقد تمّ استنفاذ كلّ شيء يا ربّ.»

 

«هذا ما فعلتُه أنا على الصليب. انهضوا. لنصلي.»

 

يبسط ذراعيه كما لو أنّه على الصليب، ويُنشِد صلاة الأبانا.

 

لا أدري لماذا أبكي. أظنّها المرّة الأخيرة الّتي أسمعه يتلوها... وكما أنّ ما مِن رسّام أو نحّات سيتمكّن أبداً مِن إعطائنا الصورة الحقيقيّة ليسوع، فكذلك ما مِن أحدٍ أبداً، مهما كان قدّيساً، يمكنه أن يتلوا الأبانا بهذه الرجوليّة وهذه الوداعة بآن واحد. سأحمل دائماً حنيناً عظيماً إلى تلاوات الأبانا تلك كما سمعتُها مِن يسوع، الّتي هي حِوار حقيقيّ للنَّفْس مع آب السماوات المحبوب والمعبود بشكل مطلق، هي صيحة تكريم، طاعة، إيمان، خضوع، تواضع، رحمة، رغبة، ثقة... كلّ شيء!

 

«امضوا! ولتحلّ نعمة الربّ فيكم جميعكم وليصحبكم سلامه.» يقول يسوع وهو يمضي. ويختفي في اتّقاد نور يفوق كثيراً ضياء القمر المكتمل والّذي يعلو البستان الساكن، ونور المصابيح الموضوعة على الموائد.

 

صمت مُطبِق. دموع على الوجوه، عِبادة في القلوب... وما مِن شيء آخر.

 

الليل ساهر ويَعرِف، مع الملائكة، خفقات قلوب هؤلاء الـمُبارَكين.