ج10 - ف23

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء العاشر

 

23- (صعود يسوع إلى الآب)

 

24 / 04 / 1947

 

في الشرق، يكاد الفجر يشرع بالاحمرار. يسوع يتمشّى مع أُمّه على طول وهاد جَثْسَيْماني. ما مِن كلام، فقط نظرات محبّة فائقة الوصف. قد يكون الكلام كلّه قد قيل. أو ربّما لم يُقَل أبداً. إنّ نَفْسيهما قد تكلّمتا: نَفْس المسيح ونَفْس أُمّ المسيح. الآن هو تأمُّل محبّة، تأمُّل متبادل. تأمُّل عرفته الطبيعة النديّة، نور الصباح النقيّ، عرفته مخلوقات الله اللطيفة الّتي هي: الأعشاب، الزهور، الطيور، الفراشات. البشر غائبون.

 

أنا أشعر بانزعاج لوجودي في هذا الوداع. «يا ربّ، إنّني لستُ مستحِقّة لذلك!» هذه صرختي وسط الدموع ‏الّتي تنهمر مِن عينيّ، بينما أشاهد الساعة الأخيرة مِن الاتّحاد الأرضيّ بين الأُمّ وابنها، وأفكّر بأنّنا وصلنا إلى نهاية التعب ‏الـمُحِبّ، تعب يسوع، تعب مريم، وتعب الصغيرة المسكينة، الصغيرة غير المستحِقّة، الّتي أرادها يسوع لتشهد على كلّ الزمن ‏المسيحانيّ، والّتي تحمل اسم ماريا [فالتورتا]، إنّما الّتي يُحبّ يسوع أن يدعوها «يوحنّا الصغير» أو أيضاً «بنفسجة الصليب». نعم. ‏يوحنّا الصغير. صغير، لأنّني لا شيء. يوحنّا، لأنّني حقّاً الّتي أنعم الله عليها بنِعَم عظيمة، ولأنّني، في مقياس مُتناهٍ في الصِّغَر -إنّما ذلك هو كلّ ما أملك، وبإعطائي كلّ ما أملك، فأنا أعلم أنّني أُعطي بمقياس كامل يرضي يسوع، لأنّه الـ «كلّ شيء في اللاشيء الّذي لي- وفي المقياس المتناهي في الصغر أنا على مثال المحبوب، العظيم يوحنّا، أعطيتُ كلّ محبّتي ليسوع ومريم، متقاسمةً معهما دموعاً وابتسامات، تابعةً إيّاهما وأنا متضايقة لرؤيتهما مكروبَين، ولعدم قدرتي على حمايتهما مِن كراهية العالم لقاء بذل حياتي ذاتها، والآن أنا أرتعش مع ارتعاش قلبيهما للّذي ينتهي على الدوام...»

 

بنفسجة، نعم. بنفسجة سعت للبقاء مختبئة وسط العشب لئلاّ يتحاشاها يسوع، هو الّذي كان يحبّ كثيراً كلّ الأشياء المخلوقة، صنائع أبيه، كي يسحقني تحت قدمه الإلهيّة، لعلّي أموت ناشرة عطري الخفيف في محاولة لتلطيف احتكاك قدمه بالأرض الوعرة والقاسية. بنفسجة الصليب، نعم. ودمه ملأ كأسي حتّى جعلها تنحني وصولاً إلى الأرض…

 

آه! أيا محبوبي، الّذي ملأتَني أوّلاً مِن دمكَ، جاعلاً إيّاي أتأمّل قدميكَ الجريحتين، المسمّرتين على الخشبة «…وعند أسفل الصليب كان هناك نبتة بنفسج مُزهِرة، وقطرات مِن الدم الإلهيّ كانت تتساقط على نبتة البنفسج الـمُزهِرة تلك...»

 

ذكرى بعيدة، إنّما قريبة جدّاً وحاضرة! تحضيرٌ لما صرتُ عليه لاحقاً: الناطقة بلسانكَ الّتي هي الآن مبلّلة كلّياً بدمكَ، عرقكَ ودموعكَ، بدموع مريم أُمّكَ، إنّما الّتي تعرف أيضاً كلماتكَ، ابتساماتكَ، كلّ شيء، كلّ شيء يتعلّق بكَ، ولم تعد تبعثُ عطر بنفسج، بل عطركَ أنتَ وحدكَ، يا حُبّي الأوحد والوحيد، مِن ذاك العطر الإلهيّ الّذي سَكَّن ألمي مساء أمس، والّذي جاء إليّ، ناعماً مثل قُبلة، مُعزّياً مثل السماء ذاتها، وجعلني أنسى كلّ شيء كي أحيا فقط منكَ…

 

إنّ وعدكَ يكمن فيَّ. أعلم أنّني لن أفقدكَ. لقد وعدّتَني بذلك ووعدكَ صادق: وعد مِن الله. سوف أظلّ أمتلككَ، على الدوام. إلاّ إذا أذنبتُ بالكبرياء، بالكذب، بالعصيان، فعندها أفقدكَ، أنتَ قلتَ ذلك، إنّما أنتَ تعلم أنّني، مع نعمتكَ الّتي تدعم إرادتي، لا أريد أن أُخطئ، وآمل ألاّ أُخطئ، لأنّكَ سوف تعضدني. أنا لستُ سنديانة. أعلم ذلك. إنّني بنفسجة. قَصَبَة ضعيفة يمكن أن تلويها قدم عصفور صغير أو حتّى ثِقل خنفسة. لكنّكَ قوّتي، أيا ربّ، ومحبّتي لكَ هي جناحي.

 

لن أفقدكَ. لقد وعدّتَني بذلك. سوف تأتي مِن أجلي كُلّياً، لتمنح البهجة لبنفسجتكَ الـمُنازِعة. لكنّني لستُ أنانيّة يا ربّ. أنتَ تعلم ذلك. تعلم أنّني أودّ ألاّ أعاود رؤيتكَ، إنّما أن يراكَ آخرون بأعداد كبيرة، وأن يؤمنوا بكَ. بالنسبة لي، فقد سبق لكَ أن أعطيتَني الكثير، وأنا لستُ أهلاً لذلك. لقد أحببتَني حقّاً كما أنتَ وحدكَ تعرف أن تحبّ أبناءكَ المحبوبين.

 

أُفكّر كم كانت عذبةً رؤيتكَ "تحيا". كإنسان بين البشر. وأُفكّر بأنّني لن أعاود رؤيتكَ هكذا. إنّ كلّ شيء ‏قد شوهد وقيل.

 

وأنا أعلم أيضاً بأنّكَ لن تمحي مِن فكري أعمالكَ كإنسان بين البشر، وبأنّني لن أحتاج إلى كتب لأتذكّركَ كما كنتَ حقّاً: سوف يكون كافياً أن أنظر في داخلي، حيث كلّ حياتكَ مثبّتة بِسِمات لا تُمحى.

 

لقد كان ذلك عذباً، عذباً… الآن أنتَ تصعد... الأرض تفقدكَ. ماريا الصليب تفقدكَ، معلّماً ومُـخَلّصاً. سوف تبقى بالنسبة لها الله الفائق العذوبة، ولا دم بعد، بل عسلاً سماويّاً سوف تسكب في الكأس البنفسجيّة لبنفسجتكَ... إنّني أبكي... لقد كنتُ تلميذتكَ مع التلميذات الأخريات على دروب الجبل،الدروب الحراجيّة، أو الدروب القاحلة، السهليّة الترابيّة، عند البحيرة وقرب نهر موطنكَ الجميل. أنتَ الآن راحل ولن أرى بعد سوى في ذكرياتي بيت لحم والناصرة فوق هضابهما الخضراء المزدانة بأشجار الزيتون، وأريحا الملتهبة بالشمس مع حفيف نخيلها، وبيت عنيا الودودة، وعين جدي اللؤلؤة الضائعة في الصحارى، والسامرة الجميلة، وسهول شارون وابن عامر الخصبة، والهضبة الغريبة ما وراء ‏الأردن، وكابوس البحر الميّت، والمدن المشمسة على سواحل البحر المتوسّط، وأورشليم، مدينة ألمكَ، طرقاتها الصاعدة والنازلة، القناطر، الساحات، الضواحي، الآبار والخزّانات، التلال وحتّى وادي البُرص الحزين حيث انسكبت رحمتكَ بوفرة... ومنزل العلّية... والينبوع الباكي القريب... الجسر الصغير على قدرون، المكان الّذي عَرِقتَ فيه دماً... ساحة مقرّ القضاء… آه، لا! كلّ ألم لكَ موجود هنا. سوف يبقى على الدوام… سوف يتحتّم عليّ أن أفتّش بين كلّ الذكريات لأجدها، لكنّ صلاتكَ في جَثْسَيْماني، جَلْدكَ، صعودكَ إلى الجلجلة، نزاعكَ وموتكَ، ألم أُمّكَ، لا، لن أبحث عنها: إنّها دوماً حاضرة. ربّما سوف أنساها في الفردوس... ويبدو لي أمراً مستحيلاً إمكانيّة نسيانها حتّى هناك... إنّني أتذكّر كلّ شيء مِن تلك الساعات الـمُروِّعة. حتّى شكل الحجر الّذي سقطتَ عليه، حتّى بُرعم الوردة الحمراء الّذي كان يطرق على الحجر الّذي أغلق قبركَ، وكان يبدو مثل قطرة الدم على الغرانيت.

 

يا حُبّي الكلّي الألوهيّة، آلامكَ تحيا في فكري... وتُحطّم قلبي…

***

لقد بزغ الفجر تماماً. الشمس ارتفعت في الأفق، الرُّسُل يُسمِعون أصواتهم. إنّها إشارة ليسوع ومريم. يتوقّفان. يتبادلان النَّظر، الواحد قبالة الآخر، ومِن ثمّ يفتح يسوع ذراعيه ويضمّ أُمّه إلى صدره... آه! كان بحقّ إنساناً، ابناً لامرأة! لتصديق ذلك يكفي النظر إلى هذا الوداع! الحبّ يفيض مطراً مِن القبلات للأُمّ المحبوبة. الحُبّ يغطّي الابن المحبوب بالقبلات. يبدوان غير قادرين على الافتراق. وعندما يبدو بأنّهما يشرعان بذلك، يوحّدهما عناق آخر ثانيةً، ووسط القبلات يتبادلان كلمات بَرَكَة... آه! إنّه حقّاً ابن الإنسان الّذي ينفصل عن تلك الّتي ولدته! إنّها بحقّ الأُمّ الّتي تصرف ابنها في سبيل أن تعيده إلى الآب، عهد المحبّة للأُمّ كلّية الطهارة…

 

‏الله الّذي يُقبّل أُمّ الله!...

 

في النهاية، المرأة تركع كمخلوق عند قدميّ إلهها، الّذي هو مع ذلك ابنها، والابن، الّذي هو الله، يضع يديه على رأس الأُمّ العذراء، المحبوبة الأبديّة، ويباركها باسم الآب، الابن والروح القدس، ثم ينحني ويُنهِضها، طابعاً قُبلةً أخيرةً على جبينها، الأبيض مثل بتلة زنبقة تحت ذهب شعرها الّذي لا يزال فتيّاً جدّاً…

 

يمضيان مجدّداً نحو المنزل، وما مِن أحد، وهو يرى السلام الّذي يتقدّمان به الواحد إلى جانب الآخر، كان ليتصوّر موجة الحبّ تلك الّتي غمرتهما منذ قليل. إنّما كذلك كم هو شاسع الفرق بين هذا الوداع وحزن الوداعات الماضية، وعذاب وداع الأُمّ لابنها المقتول الّذي كان عليها أن تتركه وحيداً في القبر!...

 

ففي هذا الوداع، وعلى الرغم مِن أنّ العيون تلمع بالدموع الطبيعيّة لمن هو على وشك الانفصال عن محبوبه، إلاّ أن الشفتين تبتسمان بغبطة معرفة أنّ هذا المحبوب سوف يمضي إلى المسكن اللائق بمجده…

 

«يا ربّ! هناك، بين الجبل وبيت عنيا، يتواجد كلّ أولئك الّذين أخبرتَ أُمّكَ بأنّكَ تريد مباركتهم اليوم.» يقول بطرس.

 

«حسناً. الآن سنمضي إليهم. إنّما تعالوا أوّلاً. أريد أن أتقاسم معكم الخبز مرّة ثانية.»

 

يدخلون الغرفة حيث كانت النسوة قبل عشرة أيّام لعشاء اليوم الرابع عشر مِن الشهر الثاني. مريم ترافق يسوع وصولاً إلى هناك، ثمّ تنسحب. يبقى يسوع مع الأحد عشر.

 

على المائدة هناك بعض اللحم المشويّ، قطع جبن صغيرة وزيتون أسود صغير، جرّة خمر صغيرة وواحدة أكبر للماء، وأرغفة خبز عريضة. مائدة بسيطة، لم تُعَدّ لاحتفال فاخر، إنّما فقط مِن أجل ضرورة تناول الطعام.

 

يسوع يُقدّم ويَقسِم. إنّه في الوسط بين بطرس ويعقوب بن حلفى. هو الّذي دعاهما إلى هذين الموضعين. يوحنّا، يوضاس بن حلفى ويعقوب هم قبالته، وتوما، فيلبّس، متّى على جهة، أندراوس، برتلماوس والغيور على الجهة الأخرى. هكذا كلّهم يستطيعون رؤية يسوع... وجبة مختصرة، صامتة. الرُّسُل، الّذين وصلوا إلى اليوم الأخير مع يسوع، وعلى الرغم مِن أنّ الظهورات المتتالية، الجماعيّة والشخصيّة، بدءاً مِن القيامة، كانت كلّها مفعمة بالمحبّة، إلاّ أنّهم لم يفتقروا قط لذلك التحفّظ والإجلال الّلذين وَسَما لقاءاتهم مع يسوع القائِم مِن الموت.

 

الوجبة انتهت. يسوع يفتح ذراعيه فوق المائدة، وهو يقوم بحركته المعتادة عندما يواجه حدثاً مُـحَتَّماً ويقول: «ها هي الساعة قد حانت حيث عليَّ أن أغادركم كي أعود إلى أبي. أَنصِتوا إلى كلمات معلّمكم الأخيرة.

 

لا تبرحوا أورشليم خلال هذه الأيّام. لعازر، الّذي تكلّمتُ معه، أبدى استعداده مرّة أخرى لتحقيق رغبات معلّمه، ويترك منزل العشاء الأخير، كي يكون لكم مسكن تعقدون فيه اجتماعاتكم وتختلون للصلاة. ابقوا هناك داخلاً خلال هذه الأيام، وصلّوا باجتهاد لتتحضّروا لمجيء الروح القدس، الّذي سوف يكمّلكم لرسالتكم. تذكّروا بأنّني، وعلى الرغم مِن كوني الله، فقد أعددتُ نفسي بكفّارة قاسية لرسالتي التبشيريّة. سيكون إعدادكم أكثر سهولة وأقصر. لكنّني لا أُلزِمكم بأيّ شيء آخر. يكفيني فقط أن تصلّوا بمثابرة، في اتّحاد مع الاثنين والسبعين وتحت إشراف أُمّي، الّتي أئتمنكم عليها بحرص الابن. هي سوف تكون لكم أُمّاً ومعلّمة مَحبّة وحكمة كاملتين. كان بإمكاني إرسالكم إلى مكان آخر ‏لتعدّوا أنفسكم لاستقبال الروح القدس، إنّما على العكس أريدكم أن تبقوا هنا، لأنّه يتحتّم على أورشليم الـمُنكِرة أن تُدهَش لاستمرار المعجزات الإلهيّة، المعطاة في سبيل الردّ على إنكاراتها.

 

لاحقاً، سوف يجعلكم الروح القدس تُدرِكون ضرورة نشوء الكنيسة في هذه المدينة بالضبط، الّتي، مِن وجهة نظر بشريّة، هي أكثر مدينة لا تستحقّ امتلاكها. لكنّ أورشليم هي دوماً أورشليم، حتّى ولو غمرتها الخطيئة حتّى الجمام، وحتّى لو أنّ فيها قد تمّ قتل الله. لا شيء سوف يجديها نفعاً. إنّها مُدانة. إنّما، ليس كلّ سكّانها مدانين. ابقوا هنا مِن أجل أولئكَ القلّة مِن الأبرار الّذين يسكنونها، وابقوا هنا لأنّ هذه هي المدينة الـمَلَكيَّة ومدينة الهيكل، ولأنّه، كما تنبّأ الأنبياء، هنا، حيث مُسِحَ وهُلِّل للمسيح الـمَلِك، ورُفِعَ، هنا يجب أن يبدأ مُلكُه على العالم، وهنا أيضاً، حيث تلقّى المجمع مِن الله كتاب طلاق بسبب جرائمه الفظيعة للغاية، يجب أن ينشأ الهيكل الجديد الّذي سوف يأتي إليه الناس مِن كلّ الأمم. اقرأوا الأنبياء، فيها قد تمّ التنبّؤ بكلّ شيء. إنّ أُمّي أوّلاً، ثمّ الروح البارقليط، سوف يجعلانكم تفهمون كلمات الأنبياء لهذا الزمن. ابقوا هنا حتّى ترفضكم أورشليم كما رفضتني، وتكره كنيستي كما كرهتني، وهي تحضّ على مخطّطات لإبادتها. حينذاك احملوا كرسيّ تلك الكنيسة الّتي أحبّ إلى مكان آخر، لأنّها يجب ألاّ تفنى.

 

أنا أقول لكم: حتّى الجحيم لن تقوى عليها. إنّما، إن ضمن الله لكم حمايته، فلا تُجرِّبوا وتطالبوا السماء بكلّ شيء.

 

‏اذهبوا إلى أفرايم كما ذهب إليها معلّمكم، لأنّها لم تكن قد حانت الساعة بعد ليُقبَضَ عليه مِن قِبَل أعدائه. أقول لكم أفرايم كي أقول لكم أرض الأوثان والوثنيّين. إنّما لن تكون أفرايم فلسطين هي الّتي ‏عليكم اختيارها لتكون كرسيّ كنيستي. تذكّروا كم مرّة تكلّمتُ عن ذلك معكم، مجتمعين أو مع أحدكم على انفراد، متنبّئاً لكم بأنّكم قد تضطرّون للذهاب عبر طرق الأرض للوصول إلى قلبها وتثبيت كنيستي هناك. فمن قلب الإنسان ينتشر الدم إلى كلّ الأعضاء. ومِن قلب العالم يجب أن تنتشر المسيحيّة إلى كلّ الأرض.

 

في الوقت الحاضر، كنيستي شبيهة بمخلوق حُبِلَ به للتوّ، إنّما لا يزال يتكوّن في الرحم. أورشليم هي رحمها، وفي داخلها قلبها الّذي لا يزال صغيراً، وحوله يتجمّع الأعضاء قليلو العدد للكنيسة الوليدة، وهو يمنح هذه الأعضاء دفقات دمه الضئيلة. إنّما، ما أن تحلّ الساعة المحدّدة مِن الله، ‏حتّى يلفظ الرحم الجافي ذلك المخلوق الّذي تكوّن في جوفه، فيرحل إلى أرض جديدة، وسوف ينمو هناك ليصبح جسداً عظيماً يمتدّ على كلّ الأرض، ونبضات قلب الكنيسة وقد أصبح قويّاً سوف تنتشر في كلّ أنحاء الجسد العظيم. نبضات قلب الكنيسة، المعتقة مِن كلّ رباط مع الهيكل، الأبديّة والظافرة على أنقاض الهيكل الهالك والـمُدمَّر، الّتي تحيا في قلب العالم، لتقول للعبرانيّين والوثنيّين إنّ الله وحده ينتصر ويشاء ما يشاء، وإنّه لا كراهية البشر، ولا جحافل الأوثان بإمكانها إيقاف مشيئته.

 

لكنّ ذلك سيأتي لاحقاً، وفي ذلك الوقت سوف تعلمون ما ينبغي فِعله. روح الله سيقودكم. لا تخافوا.

 

‏في الوقت الحاضر اعقدوا في أورشليم الجمع الأوّل للمؤمنين. ثمّ جموع أخرى ستُشَكّل كلّما زاد عددهم. الحقّ أقول لكم إنّ سكّان مملكتي سوف يزدادون سريعاً مثل بذور نُثِرَت في أرض ممتازة. شعبي سينتشر في كلّ أصقاع الأرض.

 

‏قال الربّ للسيّد: "لأنّكَ قمتَ بذلك ولم توفّر نفسكَ مِن أجلي، سوف أبارككَ وأُكثّر نسلكَ مثل نجوم السماء ومثل حبّات رمل شاطئ البحر. إنّ نسلكَ سوف يملك باب أعدائه، وبذريتكَ سوف تتبارك كلّ أمم الأرض." بركة هو اسمي، ‏علامتي وشريعتي، حيث يُعترَف بها أسياداً.

 

الروح القدس، الـمُقَدِّس، ‏على وشك المجيء، وسوف تمتلئون منه. اعملوا على أن تكونوا أنقياء مثل كلّ شيء عليه أن يدنو مِن الربّ. أنا أيضاً ربّ مثله. لكنّني لبستُ ثوباً فوق ألوهيّتي لأتمكّن مِن أن أكون بينكم، وليس فقط لأُعَلّمكم وأفتديكم بأعضاء ذلك الثوب ودمه، بل أيضاً لأحمل قدس الأقداس بين البشر، دون أن يكون غير ملائم أن يتمكّن كلّ إنسان، حتّى لو كان نجساً، مِن إلقاء نظره على الّذي تخاف طغمات السيرافيم النَّظَر إليه.

 

‏لكنّ الروح القدس سوف يأتي دونما حجاب جسديّ، وسوف يستقرّ عليكم ويحلّ فيكم مع عطاياه السبع ويرشدكم.

 

إنّ إرشاد الله هو أمر سامٍ للغاية بحيث يجب أن تعدّوا أنفسكم له بإرادة بطوليّة لابتغاء كمال يجعلكم تشبهون أباكم ويسوعكم، وتشبهون يسوعكم في علاقاته بالآب والروح القدس. بالتالي محبّة كاملة وطهارة كاملة للتمكّن من إدراك المحبّة واستقبالها على عرش قلبكم.

 

اغرقوا في دوّامة التأمّل. اجهدوا لنسيان أنّكم بشر، واجهدوا كي تستحيلوا سيرافيماً. القوا بأنفسكم في أتون، في لهب التأمّل. إنّ تأمّل الله يشبه شرارة تنبثق مِن اصطدام الحديد بالحجر ويُنتِج ناراً ونوراً. تطهير هي النار الّتي تستنفذ الأشياء المعتمة وغير الطاهرة وتحيلها إلى شعلة مُنيرة ونقيّة.

 

لن تمتلكوا ملكوت الله فيكم إن لم تمتلكوا المحبّة، لأنّ ملكوت الله هو المحبّة، ويَظهَر مع المحبّة، بالمحبّة ينشأ في قلوبكم، وسط سطوع نور هائل، يخترق ويُخصِب، يزيل الجهل، يمنح الحكمة، يلتهم الإنسان ويخلق الإله، ابن الله، أخي، مَلِك العرش الّذي أعدّه الله لأولئك الّذين يَهِبون أنفسهم لله في سبيل أن يمتلكوا الله، الله، الله، فقط الله. إذاً كونوا أنقياء وقدّيسين بفضل التضرّع الحارّ الّذي يقدّس الإنسان لأنّه يغطّسه في نار الله الّتي هي المحبّة.

 

عليكم أن تكونوا قدّيسين. ليس بالمعنى النسبيّ الّذي لهذه الكلمة حتّى الآن، بل بالمعنى المطلق الّذي أنا منحتُه إيّاها، مُقدّماً لكم قداسة الربّ مثالاً ومقياساً، أي القداسة الكاملة. نحن ندعوا الهيكل مُقدَّساً، وندعوا موضع المذبح مُقدَّساً، وندعوا المكان المحجوب حيث يُحفَظ تابوت العهد والغطاء [كرسيّ الرحمة] بقدس الأقداس. إنّما الحقّ أقول لكم أنّ أولئك الّذين يمتلكون النعمة ويحيون بالقداسة حبّاً بالربّ هم أقدس مِن قدس الأقداس، لأنّ الله لا ينزل عليهم فقط، كما ينزل على كرسيّ الرحمة الّذي في الهيكل لإعطاء أوامره، لكنّه يسكن فيهم ليمنحهم محبّته.

 

أتذكرون كلماتي في العشاء الأخير؟ لقد وعدتُكم آنذاك بالروح القدس. ها هو على وشك المجيء ليعمّدكم، ليس بالماء، مثلما عمّدكم يوحنا ليعدّكم لي، بل بالنار لإعدادكم لخدمة الربّ، كما هو يريد ذلك منكم. ها هو يكون هنا، خلال أيّام قليلة. وبعد مجيئه فإنّ قدراتكم سوف تزداد بلا حدود، وستكونون قادرين على فهم كلمات مَلِككم، والقيام بالأعمال الّتي قال لكم أن تعملوها لنشر ملكوته على الأرض.»

 

«وهل ستعيد آنذاك بناء مملكة إسرائيل، بعد مجيء الروح القدس؟» يسألون مقاطعينه.

 

«لن تكون هناك بعد مملكة لإسرائيل، بل مملكتي. وسوف تكتمل في الوقت الّذي قاله أبي. ليس لكم معرفة الأزمنة والأوقات الّتي أبقاها الآب في سلطانه لذاته. إنّما أنتم، في انتظار ذلك، سوف تتلقوّن فضيلة الروح القدس الّذي سيحلّ عليكم، وسوف تكونون لي شهوداً في أورشليم، في اليهوديّة، وفي السامرة، وحتّى أقاصي الأرض، عاقدين المجامع حيثما يكون هناك أناس مجتمعون باسمي، مُعَمِّدين الناس باسم الآب فائق القداسة، والابن، والروح القدس، ‏كما قلتُ لكم، كي ما يحظوا بالنعمة ويحيوا في الربّ، مُبشِّرين الخلائق كلّها بالإنجيل. مُعلِّمين ما علّمتُكم إيّاه، فاعلين ما أمرتُكم بفعله.

 

‏وسأكون معكم كلّ الأيّام حتّى انتهاء العالم.

 

وأريد أيضاً هذا: أن يترأّس أخي يعقوب مجمع أورشليم.

 

‏بطرس، بصفته رأس كلّ الكنيسة، عليه غالباً القيام بأسفار رسوليّة، لأنّ كلّ المستَجِدّين سوف يرغبون في أن يعرفوا الحَبْر الأعظم والرئيس الأعلى للكنيسة. فعظيماً سيكون نفوذ أخي على مؤمني هذه الكنيسة الأولى. البشر هم دائماً بشر ويرون كبشر. سوف يبدو لهم يعقوب استمراراً لي، فقط لأنّه أخي. الحقّ أقول لكم إنّه أعظم مِن ذلك، ويشبه المسيح بحكمته أكثر منه بقرابته. إنّما الأمر هو هكذا. إنّ البشر، الّذين لم يكونوا يبحثون عنّي فيما كنتُ بينهم، سوف يبحثوا عنّي الآن في مَن هو قريبي. وأنتَ، بعدئذ، يا سمعان بطرس، تكون معدّاً لأمجاد أخرى...»

 

«أمجاد لا أستحقّها يا ربّ. لقد قلتُ لكَ ذلك حين ظهرتَ لي، وأقول لكَ ذلك أيضاً الآن في حضور الجميع. أنتَ صالح، صالح على نحو إلهيّ، علاوة على كونكَ حكيماً، وقد حكمتَ عليّ بعدل، أنا الّذي أنكرتُكَ في هذه المدينة، أنّني لستُ مناسباً لأكون رئيسها الروحيّ. أنتَ تريد أن تجنّبني الكثير مِن الاحتقارات الـمُحِقّة...» يقول بطرس.

 

«كلّنا كنّا سواء يا سمعان، إلاّ اثنين. أنا أيضاً، هربتُ. ليس لذلك السبب، بل للأسباب الّتي أفصح عنها، لقد خصّصني الربّ لهذه الرتبة، لكنّكَ رئيسي يا سمعان بن يونا، وأنا أعترف بكَ كذلك، وأقدّم لكَ الطاعة بحضور الربّ وكلّ الرفاق. سوف أقدّم لكَ ما بوسعي لمساعدتكَ في مهمّتكَ، إنّما، أرجوكَ، أَعطِني أوامركَ، لأنّكَ الرئيس وأنا مرؤوسكَ. حين ذَكَّرني الربّ بمحادثة بعيدة، حنيتُ رأسي لأقول: "ليكن ما تشاء." وهذا ما سأقوله لكَ، لأنّه حالما يفارقنا الربّ، ستكون أنتَ ممثّله على الأرض. وسوف نحبّ بعضنا، مساعدين بعضنا بعضاً في الخدمة الكهنوتيّة.» يقول يعقوب وهو ينحني مِن مكانه تكريماً لبطرس.

 

«نعم، تحابّوا فيما بينكم، مساعدين بعضكم بعضاً، لأنّ تلك هي الوصيّة الجديدة والعلامة على أنّكم تنتمون حقّاً للمسيح.

 

لا تضطّربوا لأيّ سبب. إنّ الله معكم. بإمكانكم فِعل ما أريده منكم. فأنا لا أفرض عليكم أموراً لا تستطيعون فِعلها، لأنّني لا أريد هلاككم، بل بالأحرى مجدكم.

 

ها أنا ذاهب كي أُعِدّ مكاناً لكم بجانب عرشي. البثوا متّحدين بي وبالآب في المحبّة. اغفروا للعالم الّذي يكرهكم. ادعوا الّذين يأتون إليكم أو الّذين هم معكم أبناء وإخوةً حبّاً بي.

 

كونوا في سلام عالمين بأنّني حاضر دائماً لمساعدتكم في حمل صليبكم. سأكون معكم في متاعب خدمتكم وفي ساعة الاضطهادات، ولن تهلكوا، لن تتهاووا حتّى لو أن ذلك سيتبدّى لأولئك الّذين يرون بعيون العالم. ستكونون مثقلين، محزونين، متعبين، معذّبين، ‏لكنّ فرحي سيكون فيكم، لأنّني سأساعدكم في كلّ شيء. الحقّ أقول لكم إنّه حين يكون الحبّ صديقكم، ستدركون أنّ كلّ ما عانيتموه وعشتموه حبّاً بي يغدو خفيفاً، حتّى لو كان عذاب العالم الثقيل. إنّ ذلك أنّ الّذي يكسو بالمحبّة كلّ أفعاله، الطوعيّة أو المفروضة عليه، فإنّ نير الحياة والعالم سوف يستحيل له نيراً معطى مِن الله، منّي. وأكرّر لكم أنّ حِملي سوف يكون متناسباً دوماً مع قواكم، وأن نيري خفيف، لأنّني أساعدكم على حمله.

 

تَعلمون أنّ العالم لا يعرف أن يحبّ. إنّما مِن الآن فصاعداً أحبّوا العالم حبّاً فائقاً للطبيعة، لتُعلِّموه كيف يحبّ. وإذا ما قالوا لكم، إذ يرونكم مُضطَهَدين: "أهكذا يحبّكم ‏الله؟ بجعلكم تعانون، بإيلامكم؟ إذاً فإنّ الأمر لا يستحقّ عناء الانتماء إلى الله"، فأجيبوا: "الألم لا يأتي مِن الله. لكنَّ الله يسمح به، ونحن نعلم السبب ونفتخر بالحصول على النصيب الّذي حصل عليه يسوع المخلّص، ابن الله." أجيبوا: "نفخر بأنّنا سُمِّرنا على الصليب وبمتابعة آلام يسوعنا." أجيبوا بكلمات الحكمة: "الموت والألم دخلا إلى العالم بسبب حسد الشيطان، لكنّ الله ليس مُنشئ الموت والألم، وهو لا يُسَرّ بألم الأحياء. كلّ ما يأتي منه هو حياة وكلّه خلاصيّ." أجيبوا: "للآن نبدو مُضطَهَدين ومغلوبين، إنّما في يوم الله، تتبدّل المصائر: فنحن الأبرار، الـمُضطَهَدين على الأرض، سنصبح ممجّدين أمام أولئك الّذين عذّبونا واحتقرونا."

 

إنّما قولوا لهم أيضاً: "تعالوا إلينا! تعالوا إلى الحياة والسلام. ربّنا لا يريد هلاككم، بل خلاصكم. لذلك قدّم ابنه المحبوب، لتخلصوا كلّكم."

 

واغتبطوا لمشاركتي آلامي كي تستطيعوا بعدها مِن أن تكونوا معي في المجد.

 

"أنا سأكون مكافأتكم العظيمة للغاية"، هذا ما وعد به الربّ عبر إبراهيم لكلّ خدّامه المؤمنين. تعلمون كيفيّة الظفر بملكوت السماوات: بالقوّة، والمرء يصل إلى هناك عبر الكثير مِن الـمِحَن. إنّما الّذي يثابر كما ثابرتُ أنا فسيكون حيث أنا. لقد قلتُ لكم أيّ درب وأيّ باب يقودان إلى ملكوت السماوات، وأنا كنتُ أوّل السائرين عبره، وقد عدتُ إلى الآب مِن خلال هذا الباب. لو كان هناك طريق أخرى لكنتُ دللتُكم عليها، لأنّني أُشفِق على ضعفكم البشريّ. إنّما ليس هناك سبيل آخر... وقد دللتُكم عليهما، باعتبارهما الدرب الوحيد والباب الوحيد، وأقول لكم أيضاً، أكرّر لكم ما هو الدواء الّذي يمنح قوّة للمضيّ في هذا الدرب والدخول مِن هذا الباب. إنّه الحبّ. دائماً الحبّ. كلّ شيء يصبح ممكناً حين نملك الحبّ في داخلنا. والمحبّة الّتي تحبّكم سوف تمنحكم كلّ المحبّة، إذا طلبتم باسمي الكثير مِن المحبّة لتصبحوا أبطالاً في القداسة.

 

الآن لنتبادل قبلة الوداع أيا أصدقائي المحبوبين جدّاً.»

 

ينهض ليعانقهم. يقتدون به جميعهم. إنّما، وفيما يبتسم يسوع ابتسامة سلاميّة، ذات جمال إلهيّ حقّاً، فإنّهم يبكون، كلّهم مضطّربون، ويوحنّا، الّذي ارتمى على صدر يسوع، ويهتزّ بفعل الكثير مِن الشهقات الّتي تكاد تكسر عظام صدره مِن فرط ما هي عنيفة، يطلب باسم الجميع، وقد أدرك رغبتهم: «أعطنا على الأقل خبزكَ، كي يقوّينا في هذه الساعة!»

 

«ليكن كذلك!» يجيبه يسوع. يتناول رغيف خبز، يقسمه إلى قطع، بعد أن قدّمه وباركه، مردّداً الكلمات الطقسيّة. ويفعل الشيء نفسه بالخمر، مكرّراً بعدئذٍ: «اصنعوا هذا لذِكري.» مضيفاً: «وقد تركتُ لكم عهد محبّتي هذا لأكون وأبقى دائماً معكم إلى أن تكونوا معي في السماء.» يباركهم ويقول: «والآن هيّا بنا.»

 

يَخرجون مِن الغرفة، مِن المنزل…

 

يونا، مريم ومرقس هناك خارجاً، ويركعون عبادة ليسوع.

 

«ليمكث السلام معكم، وليكافئكم الربّ على كلّ ما منحتموني.» يقول يسوع، مباركاً إيّاهم بينما يمرّ بجانبهم.

 

مرقس ينهض قائلاً: «يا ربّ، إنّ بساتين الزيتون، على طول درب بيت عنيا مليئة بتلاميذ ينتظرونكَ.»

 

«اذهب وقل لهم أن يتوجّهوا إلى مخيّم الجليليّين.»

 

مرقس يندفع بعيداً بأقصى سرعة ساقيه الفتيّتين.

 

«لقد جاؤوا كلّهم إذن.» يقول الرُّسُل فيما بينهم.

 

في مكان أبعد قليلاً، أُمّ الربّ جالسة بين مارغزيام ومريم الّتي لحلفى. تنهض عندما تراه قادماً، لتعبده بكلّ دقّات قلبها كأُمّ ومؤمنة.

 

«تعالي يا أُمّي، وأنتِ أيضاً يا مريم...» يدعوهما يسوع وقد رآهما متوقّفتين، مسمّرتين بجلاله الّذي يتألّق كما في صباح القيامة.

 

‏لكنّ يسوع لا يريد أن يثقلها بجلاله هذا، ويسأل مريم الّتي لحلفى بلطف: «هل أنتِ وحدكِ؟»

 

«الأخريات... الأخريات هنّ في الأمام... مع الرُّعاة و... مع لعازر وكلّ عائلته... لكنّهم تركونا هنا، نحن لأنّ… آه! يا يسوع! يا يسوع! يا يسوع!... كيف لي ألاّ أعود أراك، يا يسوع المبارك، إلهي، أنا الّتي أحببتُكَ حتّى قبل أن تولد، أنا الّتي بكيتُ كثيراً بسببكَ حين لم أكن أعلم أين كنتَ بعد المذبحة... أنا الّتي نلتُ شمسي في ابتسامتكَ عندما عدتَ، وكلّ، كلّ خيري؟ كم مِن خير! كم مِن خير أعطيتَني!... الآن أصبحتُ حقّاً بائسة، أرملة، وحيدة!... طالما كنتَ هنا، كان كلّ شيء متوافراً!... كنتُ أعتقد بأنّني استنفذتُ كلّ الألم ذلك المساء... لكنّ الألم نفسه، كلّ ألم ذلك اليوم قد بَلَّدَ عقلي و... نعم، قد كان أقلّ وطأة ممّا هو عليه الآن... ومِن ثمّ… ‏كان ينبغي أن تقوم. كان يبدو لي أنّني لا أؤمن بذلك، إنّما الآن ألاحظ بأنّني كنتُ أؤمن به، لأنّني لم أكن أشعر بما أشعر به الآن...» تبكي وتلهث مِن فرط ما تخنقها دموعها.

 

«يا مريم الطيّبة، أنتِ جَزِعة مثل طفل صغير يعتقد بأنّ أُمّه لا تحبّه وتخلّت عنه، لأنّها ذهبت إلى المدينة لتشتري له هدايا سوف تجعله سعيداً، والّتي ستعود إليه قريباً لتغمره بالمداعبات والهدايا. ألستُ أفعل الشيء نفسه معكِ؟ ألستُ ذاهباً لأعدّ لكِ الفرح؟ ألستُ ذاهباً لأعود وأقول لكِ: "تعالي، يا قريبتي وتلميذتي المحبوبة، أُمّ تلميذَيَّ المحبوبَين؟" ألا أتركُ لكِ محبّتي؟ ألست أهبكِ محبّتي يا مريم؟ تعلمين إن كنتُ أحبّكِ! لا تبكي هكذا، بل اغتبطي، لأنّكِ لن تريني مُحتقَراً ومُنهَكاً مجدّداً، لن تريني بعد ملاحقاً، وغنيّ فقط مِن حبّ قلّة مِن الناس. ومع محبّتي أترك لكِ أُمّي. يوحنّا سيكون لها ابناً، أمّا أنتِ فكوني أُختاً طيّبة لها، كما دوماً. أترين؟ أُمّي لا تبكي. هي تعلم أنّه إن كان الحنين إليّ سيكون بمثابة الـمِبرَد الّذي سيستنفذ قلبها، فالانتظار سيكون دائماً قصيراً بالمقارنة مع الفرح العظيم لاتّحاد أبديّ، وتعلم أيضاً أنّ فراقنا هذا لن يكون مُطلَقاً إلى حدّ يدفعها إلى القول: "لم يعد لديّ ابن." تلك كانت صرخة ألم يوم الألم. أمّا الآن فيشدو في قلبها الرجاء: "أعلم أنّ ابني يصعد إلى الآب، لكنّه لن يتركني مِن دون حبّه الروحيّ." هكذا آمني أنتِ، والجميع... ها هم الآخرون والأخريات. ها هم رُعاتي.»

 

وجوه لعازر وأختيه وسط كلّ خدّام بيت عنيا، وجه يُوَنّا شبيه بوردة تحت حجاب مِن المطر، ووجها إليز ونيقي، اللذان قد حفرهما الزمن بالفعل -والآن تتعمّق فيهما التجاعيد بسبب الحزن، ذلك أنّه الحزن على المخلوق، بالرغم مِن أنّ النَّفْس تُهلِّل بفعل انتصار الربّ- وجه أنستاسيا، الوجوه الزنبقية لبواكير العذارى، والوجه الزاهد لإسحاق، والوجه الـمُلهَم لمتّياس، والوجه الرجوليّ لمَنَاين، والوجهان الصارمان ليوسف ‏ونيقوديموس... وجوه، وجوه، وجوه…

 

يسوع يدعو إليه الرُّعاة، لعازر، يوسف، نيقوديموس، مَنَاين، مكسيمين والآخرين مِن التلاميذ الاثنين والسبعين. لكنّه يُبقي الرُّعاة خاصّة قربه ليقول لهم: «هنا. أنتم قرب الربّ الّذي جاء مِن السماء، مُنحنين فوق تلاشيه، أنتم قُرب الربّ الّذي يعود إلى السماء، مع أرواحكم المبتهجة بتمجيده. لقد استحقّيتم هذا المقام، لأنّكم أحسنتم الإيمان رغم كلّ الظروف غير المؤاتية، وأحسنتم التألّم في سبيل إيمانكم. أشكركم على محبّتكم الوفيّة. أشكركم جميعاً. أنتَ يا لعازر صديقي، أنتَ يا يوسف وأنتَ يا نيقوديموس، المفعمين إشفاقاً على المسيح عندما كان مِن الممكن أن يشكّل خطراً كبيراً. أنتَ يا مَنَاين، الّذي أحسنتَ ازدراء الجمائل الدنيئة لكائن نَجِس مِن أجل السير في دربي. أنتَ يا استفانوس، الزهرة المكلّلة بالبرّ، الّذي تركتَ الناقص مِن أجل الكامل، والّذي سوف تكلّل بإكليل لا تعرفه بعد، إنّما ستعلنه لكَ الملائكة. أنتَ يا يوحنّا، الّذي خلال فترة قصيرة مِن الزمن صرتَ أخاً بالحضن الأكثر طهارة، والّذي أقبلت إلى النور أكثر منه إلى النَّظَر [انظر ج5-ف55]. أنتَ يا نيقولاوس [الذي مِن أنطاكية]، الّذي باهتدائكَ عرفتَ أن تواسيني مِن ألم أبناء هذه الأمّة. وأنتنّ، أيّتها التلميذات الطيّبات والشجاعات، في وداعتكنّ، أكثر مِن يهوديت. وأنتَ يا مارغزيام، يا ولدي، مِن الآن فصاعِداً اتّخذ اسم مارسيال، لذكرى الطفل الرومانيّ الّذي قُتِلَ على الطريق وأُلقي عند بوابة لعازر مع رسالة تحدٍّ كُتِبَ فيها: "والآن قُل للجليليّ أنّ يقيمكَ، إذا كان هو المسيح وقام مِن الموت"، إنّه آخِر الأبرياء الّذين فقدوا حياتهم في فلسطين ليخدموني وإن كان ذلك دون إدراك، وباكورة أبرياء كلّ أمّة، الّذين، بمجيئهم إلى المسيح، فسوف يكونون مكروهين ومُبادِين قبل الأوان، مثل أزرار زهور مُقتَلَعة مِن ساقها قبل أن تتفتّح. وهذا الاسم، أيا مارسيال، يُريكَ مصيركَ الـمُقبِل: كُن رسولاً في البلدان البربريّة واجذبها إلى ربّكَ، كما جذبت محبّتي الفتى الرومانيّ إلى السماء. الجميع، الجميع مباركون منّي في هذا الوداع، سائلاً الآب مكافأة أولئك الّذين واسوا الرحلة المؤلمة لابن الإنسان. مباركة الإنسانيّة في جزئها المختار الموجود بين اليهود كما بين الوثنيّين، والّذي ظهر عبر المحبّة الّتي شعر بها حيالي.

 

مباركة الأرض بنباتاتها وزهورها، وبثمارها الّتي اسعدتني وجَدَّدت قواي مرّات عديدة. مباركة الأرض بمياهها ودفئها، بسبب طيورها وحيواناتها الّتي تفوّقت على الإنسان مرّات كثيرة لتُشدّد عزيمة ابن الإنسان. مباركة أنتِ أيّتها الشمس، وأنتَ أيّها البحر، وأنتِ، أيّتها الجبال، التلال، والسهول. مباركة أنتِ أيّتها النجوم، الّتي كنتِ رفيقة لي في صلاتي الليليّة وفي الألم. وأنتَ أيّها القمر، الّذي أضأتَ لي لتوجّهني في سفري مُبشِّراً.

 

كوني كلّكِ مباركة أيا أيّتها المخلوقات، صنائع أبي، رفيقاتي في ساعاتي المميتة، صديقات الّذي غادر السماء ليُريح الإنسانيّة الـمُعذَّبة مِن مِـحَن الخطيئة الّتي تفصل عن الله. ومباركة أنتِ أيضاً، يا أدوات تعذيبي البريئة: الأشواك، المعادن، الأخشاب، الحبال المفتولة، لأنّكِ ساعدتني في إتمام مشيئة أبي!»

 

كم هو هادر صوت يسوع! إنّه ينتشر عبر الجوّ الحار والهادئ مثل دَويّ طرق على البرونز، إنّه يسري بموجات على بحر الوجوه الّتي تنظر إليه مِن كلّ الجهات. أقول إنّ هناك مئات الأشخاص يحيطون بيسوع الّذي يصعد نحو قمّة جبل الزيتون مع الأحبّ إليه. إنّما يسوع، وقد وصل قريباً مِن مخيّم الجليليّين، الخالي مِن الخيام في هذه الفترة بين العيدين، يأمر التلاميذ: «اجعلوا الناس يتوقّفون حيث هم، ومِن ثمّ اتبعوني.»

 

يصعد بعد، حتّى أعلى قمّة في الجبل، تلك الّتي هي أقرب إلى بيت عنيا، الّتي تشرف عليها مِن فوق أكثر مِنها على أورشليم. أُمّه، الرُّسُل، لعازر، الرُّعاة ومارغزيام متراصّون حوله. التلاميذ الآخرون أبعد قليلاً، في شكل نصف دائرة لإبقاء جمع المؤمنين إلى الوراء.

 

يسوع واقف على صخرة ضخمة، بارزة قليلاً، بيضاء وسط العشب الأخضر لفرجة بين الأشجار. الشمس تسطع عليه جاعلةً ثوبه ببياض الثلج، وجاعلة شعره يبرق كالذهب. عيناه تلمعان بنور إلهيّ.

 

‏يفتح ذراعيه في حركة عِناق. يبدو راغباً في أن يضمّ إلى صدره كلّ حشود الأرض، الّتي يراها روحه مُمثَّلةً في هذا الجمع.

 

صوته الّذي لا يُنسى ولا يمكن تقليده يُعطي الأمر الأخير: «اذهبوا! اذهبوا باسمي لتبشّروا الناس بالإنجيل حتّى أقاصي الأرض. ليكن الله معكم. لتُعزِّكم محبّته، ليرشدكم نوره، ليسكن سلامه فيكم إلى أن تبلغوا الحياة الأبديّة.»

 

يستحيل جمالاً. إنّه جميل! جميل كما وأكثر مما كان عليه على جبل طابور. كلّهم يسقطون على رُكَبهم ليجلّوه. وهو، فيما يرتفع عن الصخرة الّتي يقف عليها، يبحث مرّة أخرى عن وجه أُمّه، وابتسامته تصل إلى درجة مِن القدرة لن يستطيع أحد وصفها مطلقاً... إنّه وداعه الأخير لأُمّه. إنّه يرتفع، يرتفع... الشمس، الّتي هي الآن أكثر حرّية في تقبيله، الآن حيث ولا حتّى إيراق خفيف يعترض سير أشعّتها، تُغرِق بسطوعها الله-الإنسان، الّذي يصعد بجسده الكلّيّ القداسة إلى السماء، ويكشف عن جروحه الـمُمجَّدة الّتي تتألّق مثل ياقوت حيّ. والباقي ضحك نور لؤلؤيّ. إنّه حقّاً النور الّذي يكشف عن حقيقة ذاته، في هذه اللحظة الأخيرة كما في ليلة الميلاد. الخليقة ‏تتألّق بنور المسيح الّذي يرتفع. نورٌ يفوق نور الشمس. نورٌ فائق البشر ومغبوط. نورٌ ينزل مِن السماء لملاقاة النور الّذي يصعد…

 

‏ويسوع المسيح، كلمة الله، يختفي عن مرأى البشر في هذا المحيط مِن التألّق…

 

على الأرض، صوتان وحيدان يخرقان السكون التام للجمع المنخطف: صرخة مريم حين يختفي: «يسوع!» وبكاء إسحاق.

 

انذهال وَرِع يجعل الآخرين بكماً، ويلبثون هناك، كما لو أنّهم ينتظرون، إلى أنّ يظهر نوران ملائكيّان فائقا البساطة، في هيئة بشريّة، ليقولا الكلمات المدوّنة في الفصل الأول مِن أعمال الرُّسُل.