ج4 - ف91

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الأول

 

91- (النّازفة وابنة يائير)

 

11 / 08 / 1944

 

لقد تجلّت لي الرؤيا بينما كنتُ أصلّي، مُنهَكَة ومَهمومة، وبالتالي في أسوأ الحالات لأفكّر مِن تلقاء ذاتي بمثل تلك الأمور. إلّا أنّ الإنهاك الجسديّ والمعنويّ والهموم كلّها تلاشت مُذ ظَهَرَ يسوعي. وكتبتُ:

 

يسوع على طريق مشمسة وترابيّة تحاذي ضفاف البحيرة. يتوجّه إلى البلدة، يحيط به جمع غفير كانوا ينتظرونه بالتأكيد، ويتزاحمون حوله، رغم أنّ الرُّسُل يَدفَعونهم بأذرعهم وأكتافهم ليفسحوا له مجالاً للمرور، ويَرفَعون أصواتهم لِيَجعلوا الحشد يتركون له بعض المكان.

 

إلّا أنّ يسوع لا يهتمّ لهذا التَّدافُع. بل يَرفَع رأسه أعلى مِن الجمع الـمُحيطين به، ويَنظُر إليهم بابتسامة عذبة، بينما هُم يتزاحمون حوله. يردّ التحيّات، يُداعِب طفلاً يشقّ طريقاً له وسط كتلة الكبار، ويدنو منه، يَضَع يده على رؤوس الأطفال الذين ترفعهم أُمّهاتهم فوق رؤوس الناس لكي يلمسهم. كلّ ذلك وهو يسير ببطء وتَأَنّ، وسط كلّ تلك الضوضاء، وكلّ تلك التدافعات التي تُزعِج أيّاً سِواه.

 

صوت رجل يَصيح: «افسحوا مجالاً، افسحوا مجالاً.» إنّه صوت قَلِق، والمفروض أنّ الكثيرين يَعرفونه ويُجلّونه، كأنّه صوت رجل صاحب نفوذ، ذلك أنّ الجموع الذين يفسحون المجال بصعوبة بالغة، يَدَعون رجلاً في حوالي الخمسين مِن عمره يمرّ، وهو يرتدي ثوباً طويلاً فضفاضاً، وعلى رأسه شال أبيض، تتدلّى أهدابه على وجهه وعنقه.

 

عندما يَصِل قرب يسوع، يجثو عند قدميه ويقول: «آه! يا معلّم، لماذا أَطَلتَ الغياب كثيراً؟ لقد اشتدّ مرض ابنتي. ولا يمكن لأحد أن يُبرئها. أنتَ وحدكَ أملي وأمل أُمّها. تعال يا معلّم. لقد انتظرتكَ بِقَلَق لا نظير له. تعال، تعال حالاً. ابنتي الوحيدة توشك أن تموت...» ويبكي.

 

يَضَع يسوع يده على رأس الرجل الذي تَنهَمِر دموعه، على الرأس المنحني الذي يهزّه البكاء، ويجيبه: «لا تبكِ. آمِن. وستعيش ابنتكَ. فلنمضِ إليها. إنّهض! هيّا بنا!» يقول يسوع العبارتين الأخيرتين بلهجة الأمر. في البدء كان الـمُعزّي، والآن هو الأمر الـمُهيمِن الذي يتكلّم.

 

يُعاوِدون المسير. يسوع وإلى جانبه الأب الذي يبكي ويشدّ على يده. لَم يَقم بأكثر مِن ذلك، ولكن أيّة قوّة تعود إلى نَفْس عندما تَشعُر أنّها تُعامَل هكذا مِن قِبَل يسوع! قَبْل ذلك، كان يعقوب يحتلّ المكان الذي يحتلّه الأب الآن، ولكنّ يسوع جَعَلَه يُخلي المكان للأب المسكين. بطرس في الجانب الآخر، ويوحنّا إلى جانب بطرس يُحاوِل معه جَعلَ حاجِز في وجه الجمع، كما يفعل يعقوب ويهوذا في الجهة المقابلة إلى جانب الأب الذي يبكي. الرُّسُل الآخرون، قسم منهم أمام يسوع، والقسم الآخر خلفه. إنّما كان لا بدّ مِن آخرين! خاصّة الثلاثة الذين في الخلف، وأرى بينهم متّى، فإنّهم لا يتمكّنون مِن صدّ الحائط الحيّ. إنّما، حين يَصيحون أكثر، وقد أَصبَحوا على وشك أن يَشتموا جَمع المتطفّلين، يلتفت يسوع ويقول بلطف: «دَعوا هؤلاء الصغار، فَهُم لي!...»

 

فجأة، في لحظة معينة، يَلتَفِت تاركاً يد الأب، ويتوقّف. لا يدير رأسه فقط، بل يلتفت بكلّيّته. يبدو أكثر عَظَمَة، إذ قد اتَّخَذَ وضعيّة مَلِك، وبِنَظرة أَضحَت صارِمة، فَاحِصة، يُمعِن النَّظَر في وجوه الجميع. عيناه تُرسِلان وَمَضات تنمّ عن قَسوة، بل هي تُعبِّر عن العَظَمَة، ويَسأَل: «مَن لَمَسَني؟»

 

لا أحد يجيب.

 

«أكرّر، مَن لَمَسَني؟» يُصرُّ يسوع.

 

فيجيبه التلاميذ: «يا معلّم، ألا ترى كيف تزحمكَ الجموع مِن كلّ صوب. الجميع يلمسونكَ رغم كلّ جهودنا.»

 

«أنا أسأل: مَن لَمَسَني بغية الحصول على معجزة. فلقد شعرتُ بأنّ قوّة خَرَجَت منّي، لأنّ قلباً طَلَبَها بإيمان. مَن هو هذا القلب؟»

 

ويَخفض يسوع بَصَرَه مرّتين أو ثلاثاً، بينما هو يتكلّم، صوب امرأة في حوالي الأربعين، ثيابها رثّة للغاية، وقد اجتاحتها التجاعيد، وهي تُحاوِل التخفّي وسط الجمع، التستّر وسط الحشد. فأحسَّت بحرارة عينيه، وأَدرَكَت إنّها لن تتمكّن مِن الهروب، فتعود لتتقدّم وترتمي عند قدميه، ويكاد رأسها يَغرَق في التراب، ويداها مُنبَسِطتان إلى الأمام، وهما لا تَجرؤان على لمس يسوع الآن.

 

«عفوكَ! أنا هي. لقد كنتُ مريضة. منذ اثنتي عشرة سنة وأنا مريضة! الجميع يَهربون منّي. زوجي هَجَرَني. لقد بَذَلتُ كلّ ما أملك كي لا أُعتَبر دَنِسَة، ولكي أعيش مثل بقيّة الناس. إنّما لم يستطع أحد شفائي. أترى يا معلّم؟ لقد أَصبَحتُ عجوزاً قبل الأوان. ولقد خارت قواي مع هذا النَّـزف الذي لا يَبرأ، ومعه سلامي. قيل لي إنّكَ صالح. والذي قال لي، شَفيتَه أنتَ مِن بَرَصه. وبما أنّه اختَبَر هروب الناس منه لسنوات، لَم يَشعُر بنفور منّي. لم أجرؤ على قول ذلك قبل الآن. عفوكَ! لقد فكّرتُ أنّني لو لمستُكَ أبرأ. ولكنّني لَم أُدنِّسكَ. بالكاد لَمَستُ طَرَف ثوبكَ الذي يُجرُّ على الأرض، بل على أوساخ الأرض... وأنا كذلك نفاية... ولكنّني شُفيتُ. فلتكن مباركاً! ما أن لَمَستُ ثوبكَ حتّى توقَّفَ مَرضي في الحال. ولقد عُدتُ ككلّ النساء. لن يتحاشاني الناس بعد الآن. وسيكون بإمكان زوجي وأولادي وأهلي المكوث معي، وسأتمكّن مِن ملاطفتهم. سأكون نافعة في بيتي. شكراً لكَ يا يسوع، أيّها المعلّم الصالح. فلتكن مباركاً للأبد!»

 

يَنظُر إليها يسوع بِصَلاح لا متناهي الجُّود. يبتسم ويقول لها: «اذهبي بسلام يا ابنتي. إيمانكِ خَلَّصَكِ. فلتكوني مُبرَأة بشكل نهائيّ. كوني صالحة وسعيدة. اذهبي.»

 

وبينما كان لا يزال يتكلّم، يَصِل رجل، أظنُّه خادماً. يتوجّه إلى الأب الذي ظلّ كلّ ذلك الوقت في وضعيّة احترام وإجلال، إنّما مضطرب وكأنّه على جَمر. «لقد ماتت ابنتكَ، فلا داعي لأن تُكلِّف المعلّم أكثر. لقد لَفَظَت أنفاسها، والنساء الآن يَندبن. الأُمّ تقول لكَ ذلك وترجوكَ أن تأتي في الحال.»

 

يُطلِق الأب زَفرة. يَرفَع يده إلى جبهته ويَضغَطها، كما يَضغَط على عينيه، وكأنّه تلقّى ضربة.

 

يسوع الذي يبدو وكأنّه لم يرَ ولم يسمع شيئاً، بل وكأنّ جلّ اهتمامه مُنصَبّ على سماع المرأة وإجابَتها، يلتفت ويضع يده على كتفي الأب المسكين المنحني: «أيّها الرجل، قلتُ لكَ "آمِن". أُكرّر: "آمِن". لا تخف. ابنتكَ ستحيا. هيّا بنا إليها.» ويسير وهو يضمّ إليه الرجل المتلاشي. يقف الجمع أمام هذا الألم وتلك النِّعمة التي حَصَلَت، هَلِعِين، يتباعدون، يَدَعون يسوع وأتباعه يمرّون بحرّيّة، ثمّ يتبعون النِّعمة التي تمرّ مثل مجرّة السفينة.

 

يَفعَلون ذلك لحوالي المائة متر أو أكثر -لا أجيد الحساب- ويَختَرِقون مركز البلدة باطّراد. هناك جَمهرة أمام منـزل يبدو جميلاً، ويُعلِّقون على الحَدَث، مُجيبين بِصراخ حادّ على صرخات أكثر حدّة، متأتّية مِن البوّابة المفتوحة. إنّها صرخات حادّة، تتردّد على مستوى ثابت، ويبدو أنّها تُدار مِن قِبَل صوت أكثر حدّة، يرتفع بمفرده، وتَردّ عليه مجموعة أصوات أضعَف، ثمّ جوقة أخرى أكثر عدداً. إنّها مَناحة تَجعَل المرء يتأثّر.

 

يَأمُر يسوع أتباعه بالبقاء عند المدخل، ويأخذ معه بطرس ويوحنّا ويعقوب فقط. يَدخُل معهم البيت، وهو يشدّ على الدوام على يد الأب الباكي. يبدو وكأنّه يريد، مِن خلال هذا الشدّ على يده، أن يؤكّد له أنّه هنا كي يجعله سعيداً. تُضاعِف النائِحات نواحهنّ، لدى رؤيتهنّ ربّ البيت مع المعلّم. إنّهنّ يضربن كفّاً بكفّ، ويُحرّكن الطبول ويجعلن المثلثات تطنّ، وعلى هذه المرافقة يتركَّز النَّدب.

 

يقول يسوع: «اصمتوا. لا تبكوا، فالفتاة لم تمت، إنّها نائمة.»

 

تُطلِق النساء صيحات أقوى، وتتدحرج بعضهنّ على الأرض، ويَخمشن أنفسهنّ، ويقتلعن شعرهنّ، (أو بالحري يتظاهرن هكذا) لِيُظهِرن بإنّها ماتت حقّاً. يَهزّ الموسيقيّون والأصدقاء رؤوسهم أمام أوهام يسوع. حتماً هُم يَعتَقِدون أنّه يتوهّم. أمّا هو فإنّه يُكرِّر: «اصمتوا!» بقوّة، لدرجة أنّ الضوضاء، وإن لم تتوقّف تماماً، فقد أَضحَت دَندَنة، ويتقدّم.

 

يَدخُل غرفة صغيرة، فيها تمدَّدَت على السرير فتاة صغيرة مائتة. إنّها نحيلة، شاحبة، ممدّدة وهي ترتدي ثوبها، شَعرها مرتّب وممشّط بعناية. الأُمّ، في جهته اليمنى، تبكي قرب السرير الصغير وتقبّل يد المائتة الصغيرة. ويسوع... كم هو جميل في تلك اللحظة، كما قَلَّما رأيتُهُ! يتقدّم بسرعة، ولسرعته يبدو وكأنّه يتزلّج على الأرض، طائراً باتجاه ذلك السرير الصغير.

 

يَبقَى الرُّسُل الثلاثة عند الباب الذي يُغلِقونه في وجه الفضوليّين. يَقِف الأب عند أسفل السرير. ويَذهَب يسوع إلى يسار السرير، يمدّ يده اليسرى، يُمسك بها يد المائتة الصغيرة المستسلمة. لقد شاهَدتُ جيّداً. اليد اليسرى ليسوع واليد اليسرى للفتاة الصغيرة. يرفع ذراعه الأيمن، رافعاً اليد المفتوحة إلى مستوى الكتفين، ثمّ يَخفضهما، كَمَن يُقسِم أو يَأمُر. يقول: «أيّتها الصبية، لكِ أقول قومي!»

 

تَمضي بُرهة، يبقى فيها الجميع حائِرين، ما عدا يسوع والمائتة. يُطاوِل الرُّسُل رِقابهم لِيَروا جيّداً. يَنظُر الأب والأُمّ إلى ابنتهما وعيونهما حزينة. بُرهَة، ويَرتَفِع صدر المائتة الصغيرة بشهيق. ويعود لون خفيف إلى وجهها الشاحب فيخفي صبغة الموت الداكنة. وترتسم ابتسامة على الشَّفَتَين الشاحِبَتين، حتّى قبل أن تُفتَح العينان؛ كما لو أنّ الصبيّة تَحلم حُلماً جميلاً. ما يزال يسوع يُمسِك بيدها. تَفتَح الصبيّة عينيها على مهل، تَنظُر حولها كما لو كانت تستيقظ مِن النوم لِتَوّها. أوّل شيء تراه هو وجه يسوع الذي يَرمُقها بعينيه الرائعتين، ويبتسم لها بطيبة تشجّعها، وتبتسم له.

 

«قُومي.» يُكرِّرها يسوع، مُبعِداً لوازم الجنازة المنتشرة على السرير وقربه (الزهور، والأغطية، و... الخ) يُساعِدها في النُّـزول، وفي خطواتها الأولى فيما يزال ممسكاً بيدها.

 

«أعطوها الآن لتأكل.» يَأمُرهم «لقد شُفِيَت، لقد أعادها الله إليكم، فاشكروه، ولا تُخبِروا أحداً بما جرى. أنتم تَعلَمون ما الذي جرى لها، لقد آمنتُم واستأهَلتُم المعجزة، الآخرون لَم يُؤمِنوا، فَمِن غير الـمُجدي محاولة إقناعهم. فالله لا يتجلّى لِمَن يُنكِرون المعجزة. وأنتِ أيّتها الصبيّة، كوني صالحة. وداعاً‍! السلام لهذا البيت.» ويَخرُج مُغلِقاً الباب خلفه.

 

وتتوقّف الرؤيا.

 

أقول لكم إنّ الحَدَثَين اللذين أفرحاني بشكل خاصّ كانا حيث يسوع يبحث بين الحشد عَمَّن لَمَسَه، إنّما بشكل خاصّ عندما كان واقفاً قرب الصبيّة الميتة، يُمسِك بيدها ويَأمُرها بالنهوض. السلام والأمان وَلَجَا إلى أعماقي. مستحيل على مَن يمتلك الرحمة مثله، وهو قادر، ألّا يَرحَمنا ولا يَنتَصِر على الألم الذي يُميتنا.

 

لا يُعلِّق يسوع الآن، كما لا يقول أيّ شيء عن الأمّور الأخرى. يَراني شِبه ميتة، ولا يَرى مِن الـمُناسِب أن أكون أفضل هذا المساء. فليَكُن حسب ما يشاء هو. إنّني الآن سعيدة بما فيه الكفاية لحصولي على رؤياه.