ج4 - ف136
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الثاني
136- (أوّل تكثير للخبز)
07 / 09 / 1945
ما يزال المكان ذاته. فقط الشمس لم تَعُد تأتي مِن الشرق مُتسلّلة مِن خلال الدغل الذي يحدّ نهر الأردن في هذا المكان الموحش قرب المكان الذي تصـب فيه مياه البحيرة في مجرى النهر، ولكنّها تَصِل، مائِلة كذلك، مِن المغـرب، في الوقت الذي تَهبط فيه باحمرار مَهيب مخطِّطة السماء بآخر أشعتها. وتحت الإيراق الكثيف، النور مُخفّف كثيراً ويميل إلى صبغة المساء الوادعة. الطيور المنتشية مِن الشمس التي كانت لها طيلة اليوم، مِن الغذاء الوفير الذي حَصَلَت عليه مِن الأرياف المجاورة، تستسلم إلى حفلة صاخبة مِن رجرجة الأصوات والغناء على قمم الأشجار. يَهبط الليل مع فخامات النهار الأخيرة. يُشير الرُّسُل بذلك إلى يسوع الذي ما زال يُعلِّم بالأمّثال التي تواجِهه.
«يا معلّم، المساء الظَّليل والرطب يقترب، والمكان قَفر، بعيد عن البيوت والقرى. بعد قليل، لن يعود ممكناً هنا رؤية بعضنا ولا السير. القمر يتأخّر بالظهور. اصرف الجموع لِيَذهبوا إلى القرية كي يبتاعون لهم طعاماً ويبحثون عن مأوى.»
«لا ضرورة لأن يذهبوا. أعطوهم أنتم ليأكلوا. بإمكانهم النوم هنا كما ناموا أثناء انتظارهم لي.»
«لم يبق لدينا سِوى خمسة أرغفة وسمكتين، يا معلّم، وأنتَ تَعلَم ذلك.»
«إليَّ بها.»
«أندراوس، اذهب وهات الولد. فهو الذي يحتفظ بالصرّة. منذ قليل كان مع ابن الكاتب واثنين آخرين، منهمِكِين في صنع تيجان الورود ليلعبوا لعبة الـمَلِك.»
يَمضي أندراوس بهمّة، وكذلك يَشرَع يوحنّا وفليبّس في البحث وسط الجمع عن مارغزيام دائم الحركة. فيجدونه معاً، مع كِيس المعيشة وَرْباً على صدره، غصن طويل مفتول مِن ياسمين البَرّ يحيط برأسه، وحزام مِن ياسمين البَرّ يتدلّى منه، بمثابة السـيف، عصويّة المروج حيث المقبض هو العصوية ذاتها والنصل هو الساق. ومعه سبعة آخرون وهم مُزركَشون بشكل مماثل، ويُمثِّلون حاشية ابن الكاتب، وهو وَلَد نحيل جدّاً، ذو نظرة صارمة جدّاً لامرئ تألّم كثيراً، والذي إذ تزيَّنَ بالورود أكثر مِن الآخرين، يلعب دور الـمَلِك.
«تعال يا مارغزيام، المعلّم يطلبكَ!»
يُبقي مارغزيام رفاقه في مكانهم ويمضي مسرعاً، حتّى دون نَزع... تزييناته الورديّة، ولكنّ الآخرين يتبعونه كذلك، ويُصبِح يسوع بسرعة محاطاً بهالة مِن الأولاد المزيَّنين بالورود. يُلاطِفهم بينما يُخرِج مِن الحقيبة صرّة خبز، ووسط الخبزات توجد سمكتان كبيرتان مُغلَّفتان: كيلوا سمك أو أكثر قليلاً. إنّها لا تكفي حتّى للسـبعة عشر أو بالأحرى للثمانية عشر مع مَنَاين، جماعة يسوع. ويَدفَعون بها للمعلّم.
«حسناً. الآن أَحضِروا لي سِلالاً. سبعة عشر سَلّة، واحدة لكلّ فرد. مارغزيام سوف يُقدِّم الطعام للأولاد...» يُحدِّق يسوع بالكاتب الذي ما لَبِث إلى جانبه ويَسأَله: «أتريد، أنتَ كذلك، تقديم الطعام للجِّياع؟»
«يسرّني هذا، ولكنّني أنا كذلك ليس لديَّ منه شيء.»
«أعطِ حصّتي. أَسمَح لكَ بذلك.»
«ولكن... هل تنوي إشباع حوالي خمسة آلاف رجل بالإضافة إلى النساء والأولاد بهذه الخُبزات الخمس والسمكتين؟»
«بدون أيّ شك. لا تكن شَكَّاكاً. فَمَن يؤمن يَرَ المعجزة تتحقّق.»
«آه! إذن فإنّني أرغَب في توزيع الطعام أنا كذلك عَن طِيب خاطر!»
يعود الرُّسُل ومعهم قفف وسلال قليلة العمق وعريضة، أو عميقة وضيّقة. ويعود الكاتب بقفّة صغيرة نوعاً ما. ما يلفت الانتباه هو أنّ إيمانه أو عَوَزه للإيمان جعله يختارها وكأنّها الأكثر ملائمة.
«حسناً. ضعوا هذا كلّه هنا في الأمام واجعلوا الجموع تجلس بترتيب، في صفوف منتَظَمة قدر الإمكان.»
وأثناء تلك العملية، يَرفَع يسوع الخبزات وعليها السمكتان، يُقدِّمها لله ويصلّي ويُبارِك. والكاتب لا يشيح عنه النَّظر لحظة واحدة. ثمّ يَكسر يسوع الخبزات الخمس إلى ثماني عشرة قِطعة وكذلك السمكتين إلى ثماني عشرة قِطعة، يضع قِطعة سمك، قِطعة صغيرة في كلّ سلة، ويقسم قِطع الخبز إلى لُقَم صغيرة، كلّ قطعة إلى حوالي العشرين لُقمة ليس أكثر. ويضع كلّ قِطعة، بعد تجزئتها، في واحدة مِن السِّلال مع قِطعة السمك.
«والآن خُذوا وأعطوا كلّاً كفايته. امضوا. اذهب يا مارغزيام وأعط هذا لرفاقكَ.»
«آه! كم هي ثقيلة!» يقول مارغزيام وهو يَرفَع السَّـلة، ويَذهَب حالاً صوب أصدقائه الصغار. يسير وكأنّه يَحمل حِملاً ثقيلاً.
يَنظُر إليه الرُّسُل والتلاميذ ومَنَاين والكاتب وهو يذهب، غير عالمين بماذا يُفكّرون... ثمّ يأخذون السِّلال ويقول بعضهم لبعض وهم يَهزّون رؤوسهم: «الصبيّ يَمزَح! فهي ليست أثقل مِن السابق.» وكذلك يَنظُر الكاتب داخل السلّة ويَضَع يده لِيُنقِّب في أعماقها، لأنّه لم يَعُد هناك الكثير مِن الضوء، تحت الظُلّة حيث يسوع موجود، بينما في مكان أبعد قليلاً، في الفسحة، ما زال المكان مضيئاً إلى حدّ ما. ولكن مع ذلك، رُغم التحقّق، يَمضون صوب الناس ويبدؤون التوزيع. ويُعطون، يُعطون، يُعطون. ومِن وقت إلى آخر يَعودون مُندَهِشين مِن مواقع أبعد وأبعد، صوب يسوع الذي إذ يَسند ظهره إلى شجرة ويُصالِب ذراعيه، يبتسم بنعومة لذهولهم.
التوزيع طَويل ووافر... الوحيد الذي لا يُبدي الدَّهشة هو مارغزيام الذي يضحك، سعيداً لِملئه أيدي الكثيرين مِن الأطفال الفقراء بالخبز والسمك. وهو أوّل مَن عاد إلى يسوع قائلاً: «لقد أعطيتُ الكثير، الكثير، الكثير!... إذ إنّني أَعلَم ماذا يعني الجوع...» ويَرفَع وجهه الذي لَم يَعُد هزيلاً، بل هي فقط ذكرى تبدَّدَت الآن، فيشحب حينئذ وهو يُحملِق... ولكنّ يسوع يُلاطفه وتعود الابتسامة، مُشرِقة، إلى ذلك الوجه الطفوليّ الذي يَستَنِد مستسلماً على يسوع معلّمه وحاميه.
يعود الرُّسُل والتلاميذ رويداً رويداً، وقد جَعَلَهم الذُّهول بُكماً. وفي النهاية يَصِل الكاتب الذي لا ينبس ببنت شفة. ولكنّه يقوم بحركة هي أكثر مِن خِطاب: يجثو ويُقبِّل أهداب ثوب يسوع.
«خذوا حصّتكم وأعطوني حصّتي. ولنأكل الطعام الذي مِن الله.»
بالفعل يأكلون خبزاً وسمكاً، كلّ حسب شهيّته... في هذه الأثناء، الناس، وقد شَبِعوا، يتبادلون انطباعاتهم. حتّى أولئك الذين هُم حول يسوع يتهيّبون مِن الحديث وهُم يَنظُرون إلى مارغزيام الذي، حين ينتهي مِن أكل سمكته، يَمزَح مع الأولاد الآخرين.
«يا معلّم.» يَسأَل الكاتب، «لماذا أَحَسَّ الولد مباشرة بالوزن، ونحن لا؟ حتّى إنّني نقَّبتُ في الداخل. ولم يكن في السَّلة سوى تلك اللُّقمات القليلة مِن الخبز وقطعة السمك الوحيدة. بَدَأتُ بالإحساس بالوزن وأنا ذاهب إلى الجمع، ولكن لو كان الوزن يُعادِل الكمّيّة التي أُعطِيَت لاستوجَبَ زَوج مِن البِغال لحملها، وكذلك السَّلة ما كانت استوعَبَت، بل كان يلزم عربة كاملة مُحمَّلة بالطعام. في البداية، كنتُ أَمضي ببطء... ثمّ شَرَعتُ أُعطي، أُعطي، ولكي لا أكون ظالماً، عُدتُ إلى الأوائل لأقوم بالتوزيع مجدّداً لأنّني أعطيتُ القليل للأوائل. ومع ذلك، كان هناك ما يكفي.»
«أنا كذلك أَحسَستُ أنّ السلة كانت تُصبِح ثقيلة بينما كنتُ أتقدّم، ومباشرة أَعطَيتُ بسخاء لأنّني أدركتُ أنّكَ صنعتَ معجزة.» يقول يوحنّا.
«أنا، على العكس، توقَّفتُ وجلست لِأَسكب الحِمل على ثوبي وأتأكّد... حينئذ شاهدتُ خبزاً وخبزاً، ومضيتُ.» يقول مَنَاين.
«أنا، قد أحصيتُهم كي لا أبدو دون المستوى. كانت هناك خمسون قطعة خبز صغيرة. قلتُ لنفسي: "سوف أُعطيها لخمسـين شخصاً ومِن ثمّ أعود". وأَحصَيتُ. ولكنّني حينما وصلتُ إلى الخمسين، كان لا يزال الوزن ذاته. نظرتُ إلى داخل السلة. كان ما يزال فيها الكثير. فتابعتُ وأعطيتُ بالمئات. ولكن مع هذا لم ينقص أبداً.» يقول برتلماوس.
«أنا أَعلَم أنّني لم أكن أؤمن. أخذتُ بين يديّ لقمات الخبز وتلك القطعة الصغيرة مِن السمك وكنتُ أنظُر إليها قائلاً: "ماذا تنفع هذه؟ أراد يسوع أن يمزح!..." وكنتُ أنظُر إليها، أنظُر إليها، مُختبئاً خلف شجرة، متأمّلاً ويائساً مِن رؤيتها تنمو وتزداد. ولكنّها ما تزال كما هي. كنتُ مُزمِعاً أن أعود عندما مرَّ متّى وقال لي: "أترى كم هي جميلة؟". "ماذا؟" قلتُ له. "ولكن الخبز والسمكات!...". "هل أنتَ مجنون؟ إنّني ما زلتُ أرى قِطَعاً مِن الخبز". "اذهب ووزِّعها بإيمان وسوف تَرَى". رميتُ في السلة بضع اللقمات تلك وذهبتُ بتكتّم... وثمّ... سامحني يا يسوع، فأنا خاطئ!» يقول توما.
«لا بل أنتَ روح مِن العالم. وتُفكِّر مِثل الناس الذين مِن العالم.»
«أنا كذلك، يا سيّد، إذن.» يقول الاسخريوطيّ. «لدرجة أنّني فكَّرتُ بإعطاء قطعة نقود مع كلّ قطعة خبز وأنا أُفكِّر: "سيأكلون في مكان آخر". كنتُ أتأمّل في مساعدتكَ لِتَظهَر بأفضل وجه. ماذا أكون إذن؟ أَمِثل توما أم أكثر؟»
«أكثر كثيراً مِن توما، فأنتَ "عالِم".»
«ولكنّني مع ذلك فَكَّرتُ في الإحسان لأكون سماء! لقد كانت دراهمي الخاصة...»
«إحسان لذاتكَ ولكبريائكَ وليس لله. هذا الأخير لا حاجة له به، والإحسان لكبريائكَ خطيئة ولا أجر له.»
يَخفض يهوذا رأسه ويَصمت.
«أنا، مِن جِهَتي،» يقول سمعان الغيور «كنتُ أُفكِّر أنّ لقمة السمك تلك ولقمات الخبز، كان لزاماً عليَّ أن أُفتِّتها لتكفي. ولكنّني لم أكن لِأَشك بأنّها كانت ستكفي، إن للعدد وإن للقيمة الغذائية. فإنّ نقطة ماء واحدة منكَ يمكنها أن تكون مغذّية أكثر مِن وليمة.»
«وأنتم بماذا كنتم تُفكِّرون؟» يَسأَل بطرس أبناء عمّ يسوع.
«كنا نتذكّر قانا... ولم نكن لنشكّ.» يقول يوضاس بجدّيّة.
«وأنتَ يا أخي يعقوب، ألم تُفكِّر بغير هذا؟»
«لا. بل فكّرتُ أنّه سرّ. كما حَدَّثتني عنه... فهل هو كذلك أم إنّني مخطئ؟»
يبتسم يسوع: «نعم ولا. فإلى جانب حقيقة القُدرة الغذائيّة لنقطة الماء التي عَبَّر عنها سمعان، يجب إضافة فكرتكَ مِن أجل صورة بعيدة. إنّما ليس سِرّاً بعد.»
يَحتَفِظ الكاتب بكسرة بين أصابعه.
«ماذا تفعل بها؟»
«إنّها... تذكار.»
«أنا كذلك أحتَفِظ بها. سوف أَضَعها في عنق مارغزيام في جُرَيب.» يقول بطرس.
«أنا سوف أحملها إلى أُمّنا.» يقول يوحنّا.
«ونحن؟ لقد أكلنا كلّ شيء...» يقول الآخرون بِخَجَل.
«انهَضوا. دُوروا بالسلال مِن جديد واجمعوا الباقي. افرزوا الناس الأكثر فقراً عَن الآخرين، وإليَّ بهم هنا مع السلال. ثمّ أنتم، يا تلاميذي، اذهبوا جميعكم إلى الـمَراكِب وأبحِروا صوب سهل جنّسارت. سوف أَصرُف الناس بعد أن أقوم بالتوزيع على الأكثر فقراً وثُمّ ألحق بكم.»
يطيع الرُّسُل... ويعودون باثنتي عشرة قُفّة ممتلئة بما فَضل، ويلحق بهم ما يقارب الثلاثين مِن الـمُستَجدين أو الأشخاص البائسين للغاية.
«حسناً. اذهبوا.»
الرُّسُل وتلاميذ يوحنّا يُحيّون مَنَاين ويَمضون متأسّفين لتركهم يسوع. ولكنّهم يُطيعون. أمّا مَنَاين فقد انتَظَرَ أن تمضي الجموع في آخر ومضات النهار إلى القرى، أو تبحث عن مكان للنوم وسط القصب الطويل والجافّ لِيُودِّع يسوع. ثمّ يُودِّعه. وقَبله ذَهَبَ الكاتب، بل كان مِن بين الأوائل الذين مضوا، لأنّه تَبِع الرُّسُل مع ابنه الصغير.
وعندما يذهب الجميع أو ينامون، يَنهَض يسوع، يُبارِك النِّيام ويتوجّه صوب البحيرة بِخُطى وَئيدة، وسط شبه جزيرة تريشة المرتفعة بضعة أمتار، وكأنّها مقدّمة رابية في البحيرة. وعندما أَدرَكَ أَسفَلها، دون الدخول إلى المدينة، إنّما بمحاذاتها، يَصعَد إلى الأَكَمَة ويَجلس على صخرة، ليصلّي، في مواجهة الأفق وفي بياض القمر في الليلة الصافية.