ج9 - ف21

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.

 

الجزء التاسع

 

21- (يوحنّا يمضي لاصطحاب الأُمّ)

 

07 / 04 / 1944 الجمعة العظيمة، الساعة 10:30

 

في هذه الساعة يقول لي مَن ينبّهني داخليّاً (محدّثي الداخليّ) أنّ يوحنّا قد ذهب إلى الأُمّ.

 

أرى المفضّل شاحباً أكثر ممّا كان عليه في دار قيافا مع بطرس. ربّما كان وميض النار هناك يعكس حرارته على الخدّين. الآن يبدو شديد النحول، فاقداً للدم كما بعد مرض شديد. يبرز وجهه مِن جلبابه الليلكيّ كوجه غريق مِن شدة الشحوب. عيناه أيضاً مظلمتان، شعره كالح ومشعّث، ذقنه الّتي نمت خلال تلك الساعات تلقي وشاحاً فاتحاً على وجنتيه وذقنه، فتُظهِره بشقرته الفاتحة أكثر شحوباً. لم يعد له مِن وداعة، مِن فرح يوحنّا، ولا أيضاً مِن يوحنّا الغاضب الّذي منذ قليل، في ثورة غيظه، تمالك نفسه بصعوبة في التعامل بقسوة مع يهوذا.

 

يَقرع باب البيت، وحيث أنّ أحد الّذين في الداخل، خشية أن يجد في مواجهته يهوذا مجدّداً، يَسأَل مَن الطارق، فيجيب: «هذا أنا يوحنّا.» فيُفتَح الباب ويدخل.

 

هو أيضاً يمضي في الحال إلى قاعة العشاء (العلّية) دون أن يردّ على صاحبة البيت الّتي تسأله: «ولكن ما الّذي يحدث في المدينة؟»

 

يَحبس نفسه داخلاً ويسقط على ركبتيه أمام الكرسي حيث كان يجلس يسوع ويبكي وهو يناديه بألم. يُقبّل المفرش حيث كان يسوع يضمّ يديه، يمسح بلطف الكأس الّذي كان بين أصابعه... ثمّ يقول: «آه! أيّها الله العليّ، ساعدني! ساعدني لأقول ذلك للأُمّ! لا أملك الشجاعة!.. مع ذلك عليّ أن أقوله لها. أنا مَن عليّ أن أقوله لأنّني بقيتُ وحيداً!»

 

ينهض ويفكّر. يلمس مرّة أخرى الكأس كي يستمدّ القوّة مِن هذا الشيء الّذي لمسه المعلّم. ينظر حوله... ويرى أيضاً في الركن المنشفة حيث وضعها يسوع والّتي استعملها في مسح يديه بعد غسل الأرجل، والأخرى الّتي ربطها على وسطه. يتناولهما، يطويهما، يلامسهما ويقبّلهما. يبقى حائراً، منتصباً وسط الغرفة الخالية. يقول: «لنمضِ!» ولكنّه لا يتّجه إلى الباب. بل على العكس يرجع إلى المائدة، يأخذ الكأس والخبز الّذي قَطَع منه يسوع جزءاً ليأخذ اللقمة ويعطيها مغموسة ليهوذا. يقبّلهما ويأخذهما مع المنشفتين ويضمّها إلى قلبه كالذخيرة. ويكرّر: «لنمضِ!» ويتنهّد. ويسير نحو السلّم الصغير ويصعد، ظهره مقوس، بخطوة متثاقلة متردّدة. يفتح ويخرج.

 

«يوحنّا، أتيتَ؟» وتظهر مريم ثانية على باب غرفتها، متّكئة على إطار الباب كما لو كانت غير قادرة على الوقوف وحدها.

 

يرفع يوحنّا رأسه وينظر إليها. يودّ أن يتكلّم ويفتح فمه، ولكنّه لا يقدر. تنساب دمعتان على وجنتيه. يحني رأسه خجلا مِن ضعفه.

 

«تعال هنا يا يوحنّا، لا تبكِ. ليس لكَ أن تبكي. أنتَ أحببتَه دائماً وكنتَ باعث فرح له. فليكن هذا عزاءكَ.»

 

تفتح هذه الكلمات سدود دموع يوحنا. فيبكي بشدّة وبنحيب جعل سيّدة المنـزل تأتي، ومريم المجدليّة وامرأة زَبْدي والأخريات…

 

«تعال إليّ يا يوحنّا.» وتترك مريم الإطار وتمسك بيدها التلميذ وتسحبه إلى داخل غرفتها كما لو كان طفلاً؛ وتغلق الباب بهدوء كي تبقى معه بمفردها.

 

يوحنّا لا يقاوم، ولكن حينما يحسّ بيد مريم المرتعشة على رأسه، يسقط على ركبتيه واضعاً الأشياء الّتي كان يضمّها إلى قلبه على الأرض، ووجهه إلى الأرض، ممسكاً طرف ثوب مريم على وجهه المتشنّج، يشهق: «سامحيني! سامحيني! أُمّي سامحيني!»

 

مريم، واقفة وقلقة، يد على قلبها والأخرى على امتداد جسمها، تقول له بصوت ممزّق: «ماذا عليّ أن أغفر لكَ يا ولدي المسكين؟ ماذا؟ لكَ أنت!»

 

يرفع يوحنّا وجهه، مُظهِراً إيّاه كما هو، دون أثر للكبرياء الرجوليّ: وجه ولد مسكين يبكي، ويصيح: «لأنّني هجرتُه! لأنّني هربتُ! لأنّني لم أدافع عنه! آه! معلّمي! أيا معلّمي! المغفرة! كان عليّ أن أموت قبل أن أترككَ! أُمّي، أُمّي، مَن يرفع عنّي الآن تأنيب الضمير هذا؟»

 

«اهدأ يا يوحنّا. هو يغفر لكَ، وقد غفر لكَ. إنّه لا يبالي أبداً بضعفكَ. فهو يحبّكَ.» تتكلّم مريم وهي تتوقّف بين جملها القصيرة، كما لو كانت تلهث، واضعة يداً فوق رأس يوحنّا والأخرى على قلبها المسكين الّذي جعله الضيق يخفق.

 

«ولكنّي لم أُحسِن فهمه ولا حتّى في مساء الأمس... ونمت بينما كان يطلب تعزية سهرنا. يسوعي تركتُه وحيداً! ثمّ هربتُ عندما جاء هذا الملعون مع قطّاع الطرق...»

 

«يوحنّا، لا تلعن. لا تكره يا يوحنّا. دع القضاء للآب. اسمع: أين هو الآن؟»

 

يسقط يوحنّا مِن جديد، وجهه إلى الأرض وهو يبكي بأكثر شدّة.

 

«أجب يا يوحنّا، أين ابني؟»

 

«أُمّي... أنا...أُمّي، هو.... أُمّي...»

 

«لقد دِين، أنا أعلم. أسألكَ: أين هو في هذه اللحظة.»

 

«لقد بذلتُ قصارى جهدي كي يراني... سعيتُ لدى ذوي السُّلطة للحصول على الرحمة، كي أجعله... كي أجعله يعاني أقلّ. لم يفعلوا به شرّاً كثيراً...»

 

«لا تكذب يا يوحنّا. ولا حتّى إشفاقاً على أُمّ. لن تنجح بذلك وسيكون عبثاً. أنا أعلم. منذ مساء الأمس وأنا أتابعه في آلامه. إنّكَ لا ترى ذلك. إنّما جسدي قد تمزق مِن جَلْده، على جبيني هي الأشواك، شعرتُ بالضربات... كلّ شيء. أمّا الآن... فلم أعد أرى. الآن أنا أجهل أين هو ابني المحكوم عليه بالصلب!... بالصلب!... بالصلب!... آه! إلهي، أعطني القوّة! يجب أن يراني. يجب ألاّ أشعر بألمي طالما هو يشعر بألمه. لاحقاً، عندما سينتهي كلّ شيء... اجعلني أموت أيا إلهي، حينذاك، إن شئتَ. الآن لا. مِن أجله هو لا. كي يراني. هيّا بنا يا يوحنّا. أين هو يسوع؟»

 

«رحل مِن منـزل بيلاطس. هذا الصياح، هو مِن الجمع الّذي يصيح حوله، وهو مقيّد على درجات دار الولاية، ينتظر الصليب أو هو يسير نحو الجلجلة.»

 

«يوحنّا، أخبر أُمّكَ، والنساء الأخريات. ولنذهب. خذ هذا الكأس، هذا الخبز، وهذه الأقمشة... ضعها هنا. ستكون تعزية لنا... فيما بعد... ولنذهب.»

 

يجمع يوحنّا الأغراض الّتي بقيت على الأرض ويخرج ليدعو النساء. ومريم تنتظره وهي تمرّر هذه الأقمشة على وجهها، كما كي تشعر مِن خلالها بلمسات يد ابنها؛ تُقبّل الكأس والخبز وتضع الكلّ على رفّ. تلتفّ بردائها الّذي تُنـزله على عينيها، فوق الوشاح الّذي يغطّي رأسها وتلفّه حول رقبتها. إنّها لا تبكي، بل ترتعش. ويبدو كأنّ الهواء غير كاف من فرط ما تلهث وفمها مفتوح. يرجع يوحنّا تتبعه النساء باكيات.

 

«بناتي، اصمتن! ساعدنني كي لا أبكي! هيّا بنا.» وتتّكئ على يوحنّا الّذي يقودها ويسندها كما لو كانت عمياء.

 

تتوقّف الرؤيا هكذا. إنّها الساعة الثانية عشرة والنصف، أي الساعة الحادية عشرة والنصف حسب الساعة الشمسيّة.

***

(النص أدناه كان مدرجاً في نسخة 1985، وهو لم يعد موجوداً في النسخة الإيطالية ولا في النسخة الإنكليزية الحالية، فقد تمّ إدراجه في دفاتر 1944 تاريخ 7 نيسان [أبريل])

 

…بعد ذلك، مِن الساعة ١٣ إلى ١٦ (التوقيت الشمسي) بقيتُ خائرة، لستُ غافية بل في إعياء شديد حتّى لم أكن قادرة على الكلام ولا الحركة ولا فتح العينين. كان بإمكاني فقط أن أتألّم، ودون أن أرى شيئاً رغم أنّني في ألمي كنتُ أتأمّل في نزاع يسوع. وفجأة، في الساعة ١٦، بينما كنتُ أفكّر في يديه المسمّرتين، رأيتُ موت يسوع. شيئاً واحداً فقط: الموت. إدارة الرأس مِن الشمال إلى اليمين في تشنّج أخير، نَفْث آخر زفرة عميقة، تحريك الفم في محاولة نطق كلمة تحوّلت، بسبب استحالة نطقها، إلى أنين عميق انتهى بشهقة بسبب الموت الّذي يكتم الصوت، والبقاء هكذا، بعينين مغمضتين وفم نصف مفتوح، للحظة برأس مستقيم، متصلّب على العنق كما مِن تشنّج اختلاجيّ داخليّ، ثمّ وهو يهوي إلى الأمام ولكن إلى اليمين. لا شيء آخر.

 

بعدها استعدتُ شيئاً مِن القوّة، إنّما قليلاً جدّاً حتّى الساعة ١٩ (توقيت شمسي)، وثمّ مِن جديد رحتُ في غفوة رهيبة حتّى بعد منتصف الليل. لم أجد أيّة سلوى مِن رؤيا. أنا وحيدة، أنا كذلك مثل مريم بعد الدفن. لا رؤى ولا كلام، وأتألّم لذلك للغاية. لتعزيتي قليلاً، أخذتُ أصف يسوع كما كنتُ قد رأيتُه مساء أمس، عندما توضّح لي وداع مريم قبل العشاء.

 

كان يسوع جاثياً عند قدميّ مريم يعانق خصرها مسنداً رأسه على ركبتيها ثمّ رافعاً إيّاه بالتعاقب لينظر إليها. النور مِن مصباح مثلّث الرؤوس، موضوع على زاوية المائدة بالقرب مِن كرسيّ مريم، وينير بمجمله وجه يسوعي. على عكس الأُمّ الّتي بقيت في الظلّ لأنّ النور كان خلفها، أمّا يسوع فقد كان مناراً جيّداً.

 

كنتُ تائهة في تأمّل وجهه وأنا ألاحظ أدقّ التفاصيل. وأكرّر ذلك ثانية. الشعر مفروق وسط الرأس ويَسقط خصلاً طويلة على الكتفين، مموّج بطول شبر، وينتهي بحلقات حقيقيّة. لامعاً، ناعماً، مصفّفاً، بلون أشقر فاقع، منتهية أطرافه خاصّة بلون نحاسيّ واضح. جبهة مرتفعة جدّاً، جميلة للغاية، ملساء، الصدغان غائران قليلاً عليهما عروق زرقاء تلقي ظلاًّ نيليّاً خفيفاً يشفّ مِن تحت الجلد الناصع البياض، مِن هذا البياض الخاصّ ببعض الأشخاص ذوي الشعر الأشقر المحمرّ: هو بياض حليبيّ يميل قليلاً إلى اللون العاجيّ إنّما مع مسحة زرقاء، وجلد رهيف جدّاً كأنّه تويج الكاميليا البيضاء، دقيق تشفّ عنه العروق الدقيقة، وحسّاس لدرجة إظهار كلّ انفعال سواء كان شحوباً شديداً أو احمراراً زاهياً.

 

أمّا يسوع فإنّي أراه دائم الشحوب وقد لوّحته الشمس قليلاً نتيجة تنقّلاته في أوقات مختلفة في فلسطين. مريم، على العكس، أكثر بياضاً لأنّها عاشت منعزلة أكثر في البيت وبياضها أكثر ورديّة. بياض يسوع عاجيّ بظلال زرقاء. أنفه طويل مستقيم، مقوس بخفّة بالقرب مِن العينين، أنف رقيق وجميل التكوين غاية الجمال. العينان عميقتان، غاية في الجمال، لهما لون وَصَفْتُه كثيراً بلون الياقوت الأزرق الداكن جدّاً. الأهداب والحاجبان كثيفة، إنّما ليس كثيراً، طويلة، جميلة، مشرقة، كستنائيّة داكنة بومضة ذهبيّة في نهاية كلّ شعرة. أمّا شعر مريم فعلى العكس، فهو كستنائي فاتح جدّاً، وأدقّ وأقلّ كثافة. ربما تبدو هكذا لأنّها فاتحة أكثر حتّى إنّها تكاد تكون شقراء. فم يسوع متَّسق، يميل إلى الصغر، دقيق الرسم يشبه كثيراً فم أُمّه، الشفتان بضخامة مناسبة، ليستا مِن الرفع حتّى تبدوا ملتويتين ولا هما بارزتان كثيراً. في الوسط هما مدورتان لهما انحناءة جميلة؛ نهايتاهما تتلاشيان فتظهران أقلّ صغراً ممّا هو عليه الفم الجميل للغاية، لهما لون أحمر سليم ينفتح على صفّ مِن الأسنان المنتظمة، القويّة، أسنان مائلة إلى الطول وناصعة البياض. أسنان مريم على العكس، صغيرة ولكن منتظمة ومتساوية.

 

الخدّان نحيلان، ولكنّهما ليسا هزيلين. متطاولان وقليلا البيضاويّة ولكنّهما غاية في الجمال، الوجنتان ليستا ناتئتين كثيراً ولا شديدتيّ الانحدار. اللحية كثيفة على الذقن وتنقسم إلى طرفين مجعّدين، تحيط بالفم، دون أن تغطّيه، حتّى تستقرّ عند الشفة السفلى وتصعد أقصر فأقصر تجاه الخدّين حيث تصبح في أعلى زاوية الفم غاية في القصر فتقتصر على إضفاء ظلّ يذكّر بغبار النحاس على شحوب الوجنتين. حيث هي كثيفة، فلها لون النحاس الداكن: شُقرة حمراء داكنة. وكذلك الشاربان ليسا كثيريّ الكثافة وهما قصيران، بحيث يكادان يغطّيان الشفة العلويّة بين الأنف والشفتين ويتوقّفان عند ركنيّ الفم. الأذنان صغيرتان، حسنتا التكوين مسندتان على الرأس وغير متباعدتين.

 

حبّي له صار أعمق ومفعماً تعاطفاً مع آلامه وأنا أراه بهذا الجمال، بينما أفكّر كم رأيتُه مشوّهاً عندما ظهر لي مرّات عديدة مساء أمس أثناء آلامه أو بعدها. وحينما كنتُ أراه ينحني وهو يضع رأسه على صدر مريم، كالطفل المحتاج إلى الملاطفة، كنتُ أتساءل مرّة أخرى كيف استطاع الناس أن يثوروا ضدّه، وهو الوديع والطيّب في جميع أفعاله مستميلاً القلوب لمجرّد مظهره. كنتُ أرى يديه الجميلتين الطويلتين الشاحبتين تعانقان ردفي مريم، حزام مريم، ذراعيّ مريم، وكنتُ أقول لنفسي: «عمّا قليل سيُثقبان بالمسامير!» وكنتُ أتألّم. وكان ألمي واضحاً حتّى لمن هم الأقلّ ملاحظة.

 

تقتُ إليكَ اليوم كثيراً، يا أبي، إذ كان يبدو لي أنّ قلبي ينفجر أو يرتخي بالتناوب، ويبدو لي كأنّي منذ أجيال لم ألاقِ يسوع. لحسن الحظ أنّها الساعة الثانية مِن صباح السبت وساعة المناولة تقترب. ولكنّني وحيدة. يسوع صامت، ومريم صامتة، ويوحنّا صامت. وكنتُ آمل فيه على الأقلّ، لا شيء. صمت مطبق وظلمة مطلقة. حقّاً إنّه الغمّ…