ج3 - ف36
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الأول
36- (في أسفل الجبل. السبت بعد العِظة)
01 / 06 / 1945
يَبتَعِد يسوع قليلاً أثناء الليل، يَصعَد على الجبل، بحيث يَجعَله الفجر يبدو وكأنّه واقف على منحدر شديد. وبطرس الذي يراه يدلّ رفاقه عليه، ويَصعَدون إليه.
«يا معلّم، لماذا لم تأت معنا؟» يَسأَل البعض.
«كنتُ في حاجة إلى الصلاة.»
«ولكنّكَ في حاجة ماسّة إلى الاستراحة.»
«أصدقائي، أتاني صوت مِن السماء، أثناء الليل، يسألني الصلاة مِن أجل الصالحين والسيّئين، وأيضاً مِن أجل ذاتي.»
«لماذا؟ هل أنتَ في حاجة إليها؟»
«كالآخرين. إنّ غِذاء قُوَّتي هو الصلاة والفرح في إتمام مشيئة أبي. لقد أشار إليَّ أبي باسمين لشخصين، وبألم لي. وتلك الأمور الثلاثة تستوجِب الكثير مِن الصلاة.» يسوع حزين للغاية، ويَنظُر إلى أتباعه بعين تبدو مُتوسِّلة، وهي تطلب شيئاً، أو تَسأَل. يتّكئ على هذا أو ذاك، وأخيراً يتّكئ على يهوذا الاسخريوطيّ متوقّفاً عنده.
يُلاحِظ الرسول ذلك ويَسأَل: «لماذا تنظر إليَّ هكذا؟»
«لم أكن أراكَ. فلقد كانت عيني تتأمّل شيئاً آخر...»
«ماذا؟»
«طبيعة التلميذ. كلّ الخير والشرّ الذي يمكن لتلميذ أن يُسبِّبه لمعلّمه. كنتُ أُفكّر بالتلاميذ، بالأنبياء، بأولئك الذين ليوحنّا، وكنتُ أُفكّر بتلاميذي. وكنتُ أصلّي مِن أجل يوحنّا ومِن أجل التلاميذ ومِن أجل ذاتي...»
«إنّكَ حزين وتَعِب هذا الصباح، يا معلّم. بُحْ بغمّكَ للذين يحبّونكَ.» يُلحّ بالطلب يعقوب بن زَبْدي.
«نعم. قُل، وإذا كان هناك ما يمكنه أن يخفّف عنكَ، فسنفعله.» يقول يوضاس ابن عمّه.
يتحدّث بطرس مع برتلماوس وفليبّس، ولكنّني لا أُدرِك ماذا يقولون.
يُجيب يسوع: «كونوا صالحين. اجتَهِدوا في أن تكونوا صالحين وأوفياء. ذاك هو ما يعزّيني، ولا شيء آخر، يا بطرس. هل سَمِعتَ؟ دَع الشكوك جانباً. أَحِبّوني وأَحِبّوا بعضكم بعضاً. لا تَدَعوا الذين يبغضونني يَستَميلونكم. أَحِبّوا خاصّة إرادة الله.»
«هه! إذا كان كلّ شيء يأتي منها، فأخطاؤنا ذاتها تأتي منها!» يُعبِّر توما عن رأيه وكأنّه فيلسوف.
«هل تظنّ ذلك؟ ليس الأمر هكذا. إنّما هناك أناس كثيرون مُستَيقِظون ويَنظُرون هنا. لننـزل. ولنُكرِّس اليوم المقدّس بكلمة الله.»
يَهبطون بينما يتزايد عدد المستيقظين. الأطفال، مبتهجين كالحَسَاسِين، أَصبَحوا يُناغُون وهم يركضون ويقفزون وسط الحقول. يبلّلهم الندى، وتُسمَع بعض الصفعات متبوعة ببكاء. إنما بعدئذ يركض الأولاد إلى يسوع الذي يلاطفهم، معيداً إليهم الابتسامة، كما لو كان يعكس هذا السرور البريء في ذاته. طفلة صغيرة تريد أن تضع له في حزامه باقة زهر قَطَفَتها مِن الحقول، حيث «الثوب أجمل هكذا»، كما تقول، ويَدَعها يسوع تفعل، تاركاً الرُّسُل يُتمتِمون، وحتّى يسوع يقول لهم: «ولكن كونوا مسرورين لأنّهم يحبّونني! الندى يُزيل الغبار عن الورود، وحبّ الأطفال يَنـزَع الحزن مِن قلبي.»
يَصِل وسط الحجّاج، في الوقت ذاته، يسوع القادم مِن الجبل، ويوحنّا الكاتب القادم مِن بيته مع مجموعة مِن الخُدّام يَحمِلون سِلال الخبز، وآخرون يحملون الزيتون والجبن وحَمَلاً صغيراً مشويّاً للمعلّم. يُوضَع كلّ شيء عند قدميه. وهو يُنظِّم التوزيع، مُعطياً لكلّ واحد رغيف خبز مع قطعة جبن وقبضة زيتون، ولكنّه يعطي قِطعة مِن الحَمَل المشويّ لإحدى الأُمّهات التي تحمل على صدرها طفلاً يبتسم، وقد بَزَغَت أولى أسنانه. ويتصرّف هكذا مع اثنين أو ثلاثة هم في حاجة إلى التغذية بشكل خاصّ.
«ولكنّه لكَ يا معلّم»، يقول الكاتب.
«سوف آكل منه، لا يكن لديكَ شكّ. ولكن كما ترى... أن يستفيد البعض مِن صلاحكَ يجعله بالنسبة إليَّ أكثر لذّة.»
ينتهي التوزيع، ويَقضم الناس الخبز مع الاحتفاظ ببعضه لما بعد. كذلك يسوع يشرب القليل مِن الحليب الذي يصرّ الكاتب على سكبه له في فنجان ثمين مِن زجاجة مُقشَّشَة تُشبه الجرّة، يحملها أحد الخُدّام.
«الآن ينبغي أن تتكرّم عليَّ بمنحي فَرَح الاستماع إليكَ.» يقول الكاتب يوحنّا الذي يحيّيه هَرْماس باحترام واستفانوس بأكثر احتراماً.
«لن أرفض طلبكَ. تعال هنا.» ويبدأ يسوع الحديث.
«لقد جَمَعَتنا إرادة الله في هذا المكان، إذ إنّ المضي أبعد مِن ذلك، بعد المسافة التي قَطَعنَاها، يُشكّل خرقاً للوصايا وسبباً للشكّ. مِن البرّ هو تقدّيس الأعياد وتمجيد الربّ في أماكن الصلاة. ولكن الخليقة كلّها يمكنها أن تكون مكاناً للصلاة، إذا عرف الناس جعلها كذلك، برفع الروح صوب الآب. إنّ سفينة نوح كانت مكاناً للصلاة عندما كانت على الأمواج على غير هدى. وبطن الحوت كان مكان صلاة بالنسبة إلى يونان. وبيت فرعون كان مكاناً للصلاة، حينما عاش فيه يوسف. وكذلك خيمة هولوفرن بالنسبة إلى يهوديت العفيفة. ثُمّ أَلَم يكن مقدّساً جدّاً في عينيّ الربّ المكان الفاسد الذي كان دانيال النبيّ يعيش فيه عَبدَاً، مُقدَّساً بقداسة خادمه الذي كان يُقدِّس المكان، لدرجة استحقاق نبوءات المسيح السامية وسابق المسيح، مُفتاحيّ الأزمنة الحاليّة والأزمنة الأخيرة؟ فبالأحرى أن يكون مقدَّساً هذا المكان الذي، بألوانه وعطوره ونقاء هوائه وغِنى المحاصيل وجواهر الندى، يتحدّث عن الله الآب والخالق ويقول: "أنا أؤمن، ولتؤمنوا أنتم، لأنّنا شهود لله". فليكن إذن معبد هذا السبت، ولنقرأ في هذا المكان الصفحات الأزليّة على تويجات الزهور والسنابل المضاءة بمصباح السماء المقدّس.
ذَكَرتُ لكم دانيال، وقلتُ لكم: "ليكن هذا المكان كنيسنا"، فهو يذكّرنا "بِبَاركِوا" البهيجة، التي رَدَّدَها الأطفال الثلاثة وسط لهيب الأتون: أيّتها السماوات والمياه، الندى والجليد، الصقيع والثلج، النيران والألوان، الأنوار والظلمات، الصواعق والسحب، الجبال والتلال، كلّ ما يَنبُت ويُفرِّخ، الطيور والسمك والحيوانات البرّية، مَجِّدي الربّ وبارِكيه مع البشر ذوي القلب المتواضع والقدّيس. هذا هو مُلخَّص النشيد المقدّس الذي يُلقِّن المتواضعين والقدّيسين الكثير. فيمكننا أن نصلّي ونستحقّ السماء في كلّ مكان. نستحقّها عندما نتمّم مشيئة الآب. وفي بداية هذا النهار قيلت لي ملاحظة مفادها: "إذا كان كلّ شيء يأتي مِن الإرادة الإلهيّة فأخطاء البشر آتية كذلك مِن تلك الإرادة". وهذا خطأ، بل خطأ شائع جدّاً. هل يمكن لأب أن يرضى بأن يصبح ابنه مُستَوجِباً الدينونة؟ لا يمكنه ذلك. ومع ذلك نرى ضمن العائلات بعض الأبناء يَستَوجِبون الدينونة، رغم أنّ لهم أباً بارّاً يرشدهم إلى الخير ليفعلوه، ويدلّهم على الشرّ ليهربوا منه. وما مِن إنسان مستقيم يدين هذا الأب بأنّه دَفَعَ ابنه إلى الشرّ.
الله هو الأب. والبشر هم الأبناء. يرشدهم الله إلى الخير ويقول: "ها إنّني أضعكَ في هذا الوَضع مِن أجل خيركَ"، أو أيضاً عندما يُسبِّب الخبيث وخُدّامه مِن البشر المآسي للناس، يقول الله: "هاكَ، في هذه الساعة العصيبة، تَصَرَّف هكذا، حينئذ يؤدّي ذلك الشرّ إلى جعلكَ تَكتَسِب خيراً أبديّاً". ينصحكم، ولكنّه لا يُرغِمكم. حينذاك، إذا ما فَضَّلَ أحدهم مخالفته، رغم معرفته أنّها إرادة الله، هل يمكن القول : إنّها إرادة الله؟ مستحيل.
أَحِبّوا إرادة الله. أَحِبّوها جيداً، أكثر مِن إرادتكم، واتَّبِعوها ضدّ إغراءات وسلطان قوى العالم والجسد والشيطان. فإنّ حتّى أولئك لهم إرادتهم، ولكن، الحقّ أقول لكم: الويل لِمَن يخضع لها. تَدعونَني "مَسيّا وَرَبّاً". تقولون إنّكم تحبّونني وتُهلِّلون لي. تتبعونني، وهذا يبدو لكم حبّاً. إنّما، الحقّ أقول لكم: لن يدخل جميعكم ملكوت السماوات، فحتّى بين أقدم وأَحدَث تلاميذي، هناك مَن لا يَدخُلونها، لأنّ الكثيرين يَفعَلون إرادتهم أو إرادة الجسد أو العالم أو الشيطان، إنّما ليس إرادة أبي.
ليس الذين يقولون لي: "يا ربّ! يا ربّ!" هم الذين يَدخُلون ملكوت السماوات، إنّما الذين يُتمّمون مشيئة أبي. أولئك فقط يَدخلون ملكوت الله. سيأتي يوم أُصبِح فيه، أنا الذي أُحَدِّثكم، دَيَّاناً، بعد أن كنتُ راعياً. فلا يَغُرَّنَّكم مظهري الحالي، فاليوم عصاي، كراعٍ، تجمع كلّ النُّفوس الـمُشتَّتَة، وهي ناعمة لتدعوكم إلى المجيء إلى مراعي الحقيقة. أمّا حينذاك، فَبَدَل العصا، سيكون صولجان الـمَلِك الديَّان، وسلطاني سيكون مختلفاً تماماً. فليس بلطف، بل بعدل لا يَرحَم، سأُفرّق حينذاك الخِراف التي تغذَّت على الحقيقة عن تلك التي كانت تَمزج بين الحقيقة والخطأ، أو التي تتغذّى فقط على الخطأ.
سيكون لي هذا الموقف مرّة أولى وثانية أيضاً. والويل لِمَن يَمثلون أمام الديّان ولا يكونون قد تطهَّروا مِن السمّ بين المرّة الأولى والثانية. الفئة الثالثة لن تتطهَّر، ولا يمكن لأيّة عقوبة أن تُطهِّرها. فهي لم تشأ سوى الخطأ، وستبقى في الخطأ. ومع ذلك، فحينذاك، يوجد بينهم منَ يقول وهو يئنّ: "ولكن كيف يا ربّ؟ ألم نتنبّأ باسمكَ، ألم نطرد الشياطين كذلك باسمكَ؟ وألم نفعل باسمكَ الخَوارِق الكثيرة؟"
وأنا، سوف أقول لهم حينئذ ، بجلاء تام: "نعم، لقد تجاسرتم على ارتداء اسمي، والظُّهور بما لستم عليه. لقد أردتم تمرير شيطانيّتكم بيسوع. ولكن ثمرة أعمالكم تدينكم. أين هُم الذين خَلَّصتموهم؟ أين تحقّقت نبوءاتكم؟ ماذا نَفَعت تعويذاتكم؟ ما هو الدافع لخوارقكم؟ آه! إنّ عدوّي ذو سلطان عظيم، ولكنّه ليس أعظم مِن سلطاني. لقد حَالَفَكم لتكون له غنيمة عظيمة للغاية، وبعملكم توسَّعَت دائرة أولئك الذين سَقَطَوا في الهرطقة. نعم، لقد صنعتم الخوارق، حتّى إنّها، في ظاهرها، أعظم مِن تلك التي لِخُدّام الله الحقيقيّين، الذين ليسوا مشعوذين يَبهرون الجموع، ولكنّهم، بتواضعهم وطاعتهم يُدهِشون الملائكة. هُم، خُدّامي الحقيقيّون، بتضحياتهم، لا يَخلقون أشباحاً، بل يطردونها مِن القلوب؛ هُم، خُدّامي الحقيقيّون، لا يفرضون أنفسهم على البشر، ولكنّهم يَدلّون نفوس البشر على الله. هُم، لا يفعلون غير إتمام مشيئة الآب، ويقودون الآخرين إلى إتمامها. كما الموجة تَدفَع الموجة السابقة وتَسحَب اللّاحِقة. إنّهم لا يَعتَلون عرشاً ليقولوا: "انظروا". هُم، خدّامي الحقيقيّون، يفعلون ما أقول، ولا يُفكّرون إلّا بفعله، وأعمالهم تحمل خاتم السلام الذي لا يُقارَن والوداعة والترتيب. هاكُم لماذا يمكنني أن أقول لكم: هكذا هُم خُدّامي؛ أنتم لستُ أعرفكم. اذهبوا بعيداً عني، أنتم جميعاً يا فاعِلي الـمُنكَر".
هذا ما سأقوله لكم. وسوف يكون كلاماً رهيباً. اعمَلوا على ألّا تستحقّوه، وتعالوا في الدرب الآمن، درب الطاعة، رغم كونه مُضنِياً، إلى مجد ملكوت السماوات. والآن تمتّعوا باستراحتكم ليوم السبت، وأنتم تمجّدون الله مِن كلّ قلبكم. وليكن السلام معكم.»
يُبارِك يسوع الجمع قبل أن يتشتّتوا بحثاً عن الظل، وهم يتحدّثون جماعات جماعات، مُردِّدين الكلام الذي سَمِعوه. وإلى جانب يسوع، يبقى الرُّسُل والكاتِب يوحنّا الذي لا يتكلّم، ولكنّه يتأمّل بعمق مُراقِباً تصرّفات يسوع.
واختُتِمَت حَلَقَة العِظَة على الجبل.